المدرسة... الثكنة والسجن


فئة :  مقالات

المدرسة... الثكنة والسجن

يقال: كلما فُتحت مدرسة يٌغلق سجن؛ أي إن هنالك علاقة ارتباط عكسية بين المدرسة والسجن؛ ولكن هذه العلاقة العكسية صار لها مقابل طردي: كلما فُتحت مدرسة يُفتح سجن، بالمعنيين، القاموسي والمجازي. تكاثرت المدارس في سوريا، وغيرها من البلدان المشابهة لها، وتكاثرت السجون والمعتقلات. تشير هذه العلاقة الطردية إلى تطور سلبي في تاريخ المدرسة السورية، ومن ثم، في تاريخ المجتمع السوري. فقد طرأت "جرائم" جديدة، تحتاج "مكافحتها" إلى سجون جديدة ومحاكم جديدة وأدوات جديدة، وكان على المدرسة أن تسهم في ذلك. نطلق على هذه الجرائم الجديدة اسم "جرائم الرأي والضمير"، في مقابل حرية الرأي والضمير. وزاد على ذلك أن المدرسة صارت مؤسسة انضباط كلي: جسدي ومعرفي وأيديولوجي وسياسي، شبيهة بالثكنه، لكي تنسجم مع بنية النظام السياسي التسلطي أو السلطاني المحدث، وتتحول إلى أداة من أدواته، مثلها في ذلك مثل مؤسسة "الجيش العقائدي". فليس عبثاً أن السلطة السورية حظرت أي نشاط "سياسي" لغير حزب البعث العربي الاشتراكي في المدارس والمعاهد والجامعات والثكنات، بموجب ميثاق "الجبهة الوطنية التقدمية"[1] (1972)، ثم عمدت إلى استيعاب كتلة الجسم الطلابي في منظمات رديفة للحزب، كطلائع البعث وشبيبة الثورة والاتحاد الوطني لطلبة سوريا.

السجون والثكنات الرمزية، أي المدارس والمعاهد والجامعات، بصفتها سجوناً للمعرفة والفكر والضمير، ومؤسسات سلطوية تتغيَّا الانضباط الجماعي الكلي المشار إليه، أخطر على حياة المجتمع المعني ومستقبله من السجون القانونية ومن المعتقلات غير القانونية أيضاً. والجرائم المعنوية، التي تقع على النفوس أو الأرواح، ولا تصفها القوانين، ولا تشملها، أخطر على المجتمع من الجرائم التي تصفها القوانين الجنائية. وإذا كانت المدارس والمعاهد والجامعات مرايا تعكس وجهاً من وجوه الحياة الاجتماعية والإنسانية الظاهرة لهذا المجتمع أو ذاك، فإن السجون القانونية والمعتقلات غير القانونية والثكنات أيضاً مرايا، تعكس وجهاً من وجوه الحياة الاجتماعية والإنسانية الباطنة أو الخافية (= المخفية)، التي يُظهر القضاء جانباً منها، ويُخفي جوانب أخرى، ولا سيما حين يكون القضاء مرتبطاً بالجريمة، لا بالقانون، ومتواطئاً مع المجرمين، لا منصفاً للضحايا.

فإذا كانت العلاقات الأبوية وعلاقات الشيوخ بمريديهم هي مما يؤسس قواعد السلطة، في جميع مستوياتها ومجالات ممارستها، في المجتمعات التقليدية والنظم السياسية الوسطوية والقديمة، يغدو السؤال ضرورياً عن نوع العلاقات التي تؤسس السلطة الشمولية، في مجتمعات محدَّثة من فوق ومن الخارج، كالمجتمع السوري، والمجتمعات التي تشبهه، وعن أثر النظام التعليمي والسلطة التعليمية في إنتاج هذه العلاقات وإعادة إنتاجها. نميل إلى وصف العلاقات المؤسِّسة للسلطة ومبادئ الحكم في سوريا بأنها علاقات تسلطية، لم يكن ممكناً أن تنشأ إلا في كنف مدرسة مؤدلجة أو عقائدية غنية عن المعرفة، وهي، أي العلاقات التسلطية، نسخة كلبية عن العلاقات الأبوية وعلاقات الشيوخ بمريديهم، علاقات منزوعة الرحمة ومنزوعة الضمير.

صار بوسعنا أن نتحدث عن "ضحايا التعليم"، مثلما نتحدث عن ضحايا السجون والمعتقلات، وعن ضحايا النزاعات والحروب الدائرة هنا وهناك، أعني المقاتلين والمقاتلات، لا القتلى والجرحى والقتيلات والجريحات والمعوقين والمعوقات فقط، فلهؤلاء، أي للمقاتلين والمقاتلات، ماضيهم المدرسي وتلقينهم الأيديولوجي أيضاً، ولذلك نعدهم ضحايا. لا نتحدث هنا على بطالة المتعلمين والمتعلمات، ولا سيما خريجي المعاهد والجامعات وخريجاتها ولا عن سياسات الإفقار والتهميش، بل عن أشخاص حولتهم المدارس إلى "كائنات توتاليتارية"، منزوعة الحرية والإرادة، أي منزوعة الإنسانية، وشائهة المعرفة والثقافة، وعديمة الأخلاق. يكفي أن نشير، في هذا الصدد، إلى تشكُّل جيش من المخبرين والمخبرات، قوامه الأساسي متعلمون ومتعلمات وخريجون وخريجات ومعلمون وأساتذة جامعيون ووزراء ومديرون وموظفون ... ومثلهم من النساء "المثقفات". هؤلاء ضحايا التعليم، الذي تسيطر عليه المؤسسة الأمنية المتغلغلة في المدارس والمعاهد والجامعات، وفي الفضاءات الاجتماعية والثقافية والسياسية، كلهم منضبطون ومنضبطات كلياً، وحرب على من لا يشبهونهم ومن لا يشبهونهن، حرب على الاختلاف باسم التشابه "الوطني" أو "القومي"، أي حرب على الحرية باسم المساواة، إذ ما زلنا نعتقد أن الاختلاف من أبرز أشكال الحرية، بل هو الحرية متعيِّنة.

سندعي أن بذور محنة السوريين، موالين كانوا أم معارضين، ومحنة السوريات بالطبع، زُرعت في المدارس والمعاهد والجامعات، مع تبعيث النظام التعليمي والسلطة التعليمية، أي مع أدلجة التعليم وأدلجة "التراث القومي" و"التاريخ القومي" وأدلجة المأثور الديني وتسييسها، بل تحزيبها جميعاً. حافظ الأسد، "الأب القائد" و"القائد الرمز"، كان ولا يزال هو نفسه علياً بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وأبا ذر الغفاري وخالداً بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي .. هو "بطل الحرب والسلام" و"رمز الأمة" و"المعلم الأول"، قبل سقراط، و"الطالب الأول" والمفكر الأول والرياضي الأول .. والمثل الأعلى لطلائع البعث وشبيبة الثورة وطلبة سوريا ومعلميها وأساتذتها .. هذا هو لب النظام التعليمي ومرجع السلطة التعليمية، منذ أكثر من أربعة عقود، لا العلم ولا الأدب والفن ولا الفلسفة [2].

لقد اندرجت المدرسة في التاريخ الحديث للجسد واقتصاده السياسي، وهما تاريخ واقتصاد سياسي ملتبسان ومزدوجان في تمفصلهما في الجسد – الذات، والجسد - الموضوع، الجسد الفاعل والجسد المنفعل. جسد السجين أو المعتقل وجسد العسكري أيضاً هو النموذج الذي يمكن أن نستدل منه على الجسد المنضبط، (أو على الجسد الاجتماعي المسيَّس)، حسب ميشيل فوكو. ويقابله جسد السجان، الذي يمارس على السجين سلطة الذات على موضوع، أي على جسد مشيَّأ أو ممكنن أو يعمل بطريقة المنعكس الشرطي، وقد انتزعت منه جميع خصائصه الإنسانية، وفي مقدمها الحرية والإرادة. فإن سلطة السجان الفظة على السجين (أو سلطة المحقق والجلاد) تقابلها في المجتمع عامة وفي المدرسة خاصة سلطة المعلم الشيخ والزعيم السياسي... وهذه سلطة ناعمة تمارس هيمنتها الناعمة، بتعبير بيير بورديو، على الجسد وروحه أو نفسه وعقله وضميره. إن رفع هذا الالتباس بين المعلم والشيخ والزعيم السياسي أو فك الروابط التاريخية التي جعلت كلاً منهم يمارس وظيفة الآخريْن شرط أولي لمدرسة تعلم الحرية والمسؤولية، وتعلم المواطنة والعدالة.

يقول مطاع صفدي في تقديمه لكتاب ميشيل فوكو "المراقبة والمعاقبة": "الجسد الانضباطي الذي سيحل محل الجسد المعذب في مرحلة الإصلاحات الدستورية والقانونية التي أعقبت الثورة الفرنسية يرمز إلى دخول المجتمع كله في شبكة الانضباط المعقلن لكل مؤسساته ونشاطاته. فالجسد الانضباطي ترميزه الكلياني هو المجمع الانضباطي المرادف للحداثوي ... المجتمع الانضباطي ليس مجرد تفريع لشبكات من السلطة تتنزل كلها من السلطة العليا الحاكمة، أي الدولة، بل يقوم على تنويع السلطات وتفريعها"[3]. المجتمع الانضباطي الذي نعاينه في سوريا وغيرها منتج حداثوي بالتأكيد، لكن انضباطيته متأتية كلها من السلطة العليا، بخلاف ما يذهب إليه فوكو وصفدي؛ إنه شكل مختلف من الانضباط، اعتنت حنة أرندت بتشريحه في كتابها "أسس التوتاليتارية"، ووصفه قبل ذلك جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984".

فعلى الرغم من أهمية تحليل فوكو وحفرياته لا يمكن الركون إلى إن الإصلاحات الدستورية والقانونية، التي أعقبت الثورة الفرنسية، مجرد إعادة رسم لخرائط القوة ومراكز التوجيه، لأن من شأن ذلك أن يختزل الحداثة، في هذا السياق، إلى "الانضباطية المعقلنة"، ويتجاهل كون التنظيم البيروقراطي مظهراً من مظاهر العقلانية الإيجابية ووجهاً من وجوهها، على نحو ما شخصها ماكس فيبر، وهو تشخيص لا يزال مناسباً، ما دام مقترناً بحكم القانون، لا بأي سلطة شخصية، دينية أو سياسية. الانضباطية الكلية، التي نعالجها هنا انضباطية غير قانونية وغير أخلاقية بالتلازم الضروري بين القانون والأخلاق. ومن المؤسف أن كثيرين من المثقفين والسياسيين العرب أصيبوا بنوع من فوكوية بدون فوكو، بازدرائهم للبيروقراطية وإدانتها، من مواقع يسارية وثورية، مثلما أصيبوا بماركسية من دون ماركس، مما جعل التحول الاجتماعي السياسي إلى التوتاليتارية، ومن ثم، إلى العدمية ممكناً ويسيراً.

إن عمليات التنظيم والضبط والتقنين أو القوننة هي دوماً عمليات تنظيم وضبط وتقنين لوضع قائم وفقاً لنسبة القوى المعطاة منظوراً إليها في ظرفيتها واعتباطها أو زئبقيتها ومورانها، تقوم بهذه العمليات سلطة / سلطات تتوخى الاستمرار بقدر ما تتوخى التوسع والسيطرة على الفضاء الاجتماعي برمته، ما يعني أن التنظيم والضبط محددين بطبيعة السلطة / السلطات، التي تنظِّم وتضبط، وأن آليات التنظيم والضبط تُفرض على الأجيال الناشئة، التي لا يستشيرها أحد، ولا تؤخذ أوضاعها الخاصة الجديدة في الحسبان (هنا تتجلى أهم مشكلات الشباب في أي مجتمع، نعني مشكلة إخضاعهم لأحكام تفرض عليهم من الخارج، من خارج ذواتهم، ومن الأعلى، وقوانين لم يشاركوا في وضعها، ولم يستشاروا فيها، بما في ذلك الدستور العام، وليس لهم الحق في مراجعتها، وهذا مما يدفعهم دفعاً إلى عصيانها والخروج عليها). السلطة بطبيعتها محافظة، تتوجس من الجديد، الذي يمكن أن يهدد ديمومتها أو يحد من انتشارها، حتى عندما تصف نفسها بالتقدمية والثورية وما شئتم، لذلك تسارع إلى احتواء الجديد وإخضاعه لشروطها، وأهم وسيلتين ناجعتين لذلك هما التربية والتعليم. هنا يمكن أن نضع أيدينا على حالة خاصة من التوتر المستمر والتعارض الدائم بين السلطة والشباب إناثاً وذكوراً، ولا سيما الإناث منهم[4]. هذه الحالة الخاصة هي التي تفسر أو تساعد في تفسير ثورات الشباب، من فرنسا (1968) إلى بلدان الربيع العربي (2011) مروراً بالصين وغيرها. السلطة من هذه الزاوية محاولة حجر عبثية على المستقبل، فما بالكم عندما تكون شمولية ومستبدة؟

نريد أن نخلص من هذا النقاش (المتطرف) إلى أن المعتقل والسجن والثكنة، في سوريا وغيرها، تعكس صورة الحياة السياسية، وأن المدرسة الصائرة سجناً للمعرفة والفكر والضمير وشيئاً يشبه الثكنة تعكس صورة الحياة الثقافية والأخلاقية.


[1] ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا.

[2] راجع/ي، ليزا وادين، السيطرة الغامضة، السياسة، الخطاب والرموز في سورية المعاصرة، ترجمة نجيب الغضبان، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2010، ص 37 وما بعدها.

[3] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ولاادة السجن، ترجمة علي مقلد، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1990، ص 35

[4] هذان التوتر والتعارض ليسا من قبيل صراع الأجيال، كما يحلو لبعضهم أن يصفوه.