المسيحية، الدين الأكثر تأثيرًا وانتشارًا في العالم
فئة : مقالات
تعتبر المسيحية اليوم أكثر الأديان انتشارًا، إذ يتبعها حوالي ألفين وأربعمائة مليون، يشكلون الأغلبية السكانية في 126 بلدًا في العالم، وترتبط التسمية بالمسيح عيسى ابن مريم، واعتبر المسيحيون أنفسهم أتباع دين مختلف عن اليهودية، وإن ظهر المسيح في بيئة يهودية وكان ينظر إليه على أنّه يهودي مجدد في نظر أتباعه ومرتد في نظر اليهود، وفي إنجيل يوحنا أنّ المسيح طلب شربة ماء من سامرية كانت تنشل الماء من بئر يعقوب الذي يعتقد السامريون أنّهم ورثوه عن يعقوب، فتعجبت السامرية كيف يشرب يهودي من ماء السامريين؟ ذلك أنّ انشقاقًا كبيرًا حدث في بني إسرائيل في القرن السادس قبل الميلاد بين اليهود (نسبة إل يهودا ابن يعقوب) والسامريين، ومازال هذا الانقسام قائمًا حتى اليوم، ويبدو واضحًا أنّ الخلاف بين اليهود والسامريين وصل إلى مرحلة مقاطعة الطعام والشراب بين بعضهم بعضًا، وكان ينظر إلى المسيح كونه من ذرية الملك داود بأنّه "ملك اليهود" وفي إنجيل لوقا "ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" ويؤمن اليهود بالمسيح القادم ولكنهم لم يصدقوا المسيح بأنّه هو المنتظر، وما زالوا ينتظرون المسيح المنقذ.
ويسمى المسيحيون في القرآن "النصارى" ولعلها من النصرة، وربما تكون تسمية يعود جذرها إلى "نذر" الآرامية والعربية، في حين يعتقد باحثون أنّ "النصارى" هي طائفة مسيحية انقرضت.
وبحسب الأستاذ نقولا زيادة في كتابه "المسيحية والعرب" قفد اعتبر المسيحيون أنفسهم ديانة جامعة عامة مختلفة عن اليهودية، وقد تخلّت هذه الجماعة عن الطقوس اليهودية، ويعتبر بولس الرسول أهم مُنظّر لها، وكان المسيحيون في القدس يعتبرون فرقة يهودية جديدة، وقد كان اليهود ينتظرون المسيح المنتظر، ولكنهم اعتبروا المسيح والمسيحيين خوارج على الدين اليهودي. وأمّا في أنطاكية البعيدة عن اليهود، فقد كانوا يعتبرون ديناً جديداً، وهناك أطلقت عليهم تسمية المسيحية.
وبمجيء عام 100 ميلادي كانت المسيحية قد انتشرت وثبتت أقدامها في جميع أنحاء بلاد الشام ومصر وجزر المتوسط، وقد كانت أسرع انتشاراً في المدن السورية خارج فلسطين، بسبب التأثير اليهودي، ونشأت كنائس مسيحية في أنطاكية وأرمينيا وأوديسا (الرها أو أورفا)، وكان انتشارها في المدن أكثر من الريف، وكانت لغتها السريانية واليونانية (حسب السكان والمدن) واللاتينية في إيطاليا وأوروبا، وصار لها بطاركة وكنائس مركزية في روما والقسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية، واعتبرت هذه المراكز بطريركيات، وأمّا القدس، فاعتبرت بطريركية خامسة سنة 451م، ويلي البطريرك أساقفة، ثم شمامسة ومساعدون..
كان أشدّ الناس عداوة للمسيحيين اليهود ثم اليونان الهيلينستيون والرومان بسبب اختلافهم الديني ورفضهم تقديم القرابين والطقوس السائدة، وقد كانوا يرونهم خطراً على النظام السياسي والاجتماعي للدولة، وكان أول اضطهاد رسمي للمسيحيين على يد الإمبراطور نيرون (57 - 68م)، ومن شهداء هذا الاضطهاد الرسولان بطرس وبولس، وزاد الاضطهاد عنفاً في عهد دومينان (81 - 96م)، ولكنّ بعض الأباطرة تسامح مع المسيحيين، مثل إسكندر سفيروس (222 - 235) وفيلبوس العربي ابن مدينة بصرى (244 – 249م)، وبلغ الاضطهاد أشدّه في عهد ديوقلتيان (284 - 305م) الذي قتل عدداً كبيراً من المسيحيين، ودمّر كنائسهم، ولكن قسطنطين اعتبر المسيحية في العام 313م أحد الأديان المعترف بها في الامبراطورية، ثم اعتبرها في عام 324 دينًا ذا مكانة خاصة، واعتبرت المسيحية في العام 380 الدين الرسمي للامبراطورية.
ولكنّ المسيحية واصلت انتشارها، ويردّ بعض الباحثين ذلك إلى حالة الضياع الروحي التي سادت، وفقدان الثقة بالأديان القديمة، وما أصاب الإمبراطورية من أزمة اقتصادية اجتماعية، وفي ظلّ ذلك جاءت المسيحية برأي جديد رفيع وإيمان عميق سماوي وأمل ورجاء في الحياة حاضرها وقادمها.
جاءت المسيحية ثورة روحية، واعتبرت الناس جميعاً سواء، بينما اقتصرت اليهودية على اليهود/ شعب الله المختار، ويؤمن المسيحيون بالكتاب المقدس، وهو يقسم إلى قسمين: العهد القديم، والعهد الجديد، ويتألف العهد الجديد الذي هو كتاب المسيحية من أربعة أناجيل، هي التي كتبها متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وقد دُوّنت الثلاثة الأولى بين سنتي 65 - 90م، ودُوّن الرابع بين سنتي 110 - 125م، ويضم العهد الجديد أيضًا أعمال الرسل وأخبار الأوائل ورسائل وُجّهت إلى المؤمنين في القرن الأول. لم يتمّ القبول بالعهد الجديد قانوناً للعمل والرأي المسيحي إلا في القرن الرابع الميلادي، وقد كتبت جميع الأناجيل باليونانية.
يعتقد اليهود والمسيحيون أنّ الكتاب المقدس بقسميه كتب بوحي وإلهام، وأنّه كتاب معصوم، وثابت إلى الأبد، وغير قابل للنقض، ويتكون العهد القدم من 46 سفرًا، يطلق عليها اليهود اسم "التناخ" ويتكون العهد الجديد من 27 كتابًا منها الأناجيل الأربعة، وتعتبر التوراة هي الأسفار الخمسة الأولى، وبعض الطوائف مثل السامريين لا يؤمنون إلا بها كتابًا مقدسًا.
وبحسب موسوعة بيكيبيديا فإنّ الكتاب المقدس هو أقدم كتاب لم ينقطع تداوله في العالم، وأول كتاب تمت طباعته، وأكثر كتاب يمتلك مخطوطات قديمة، والكتاب الأكثر قراءةً وتوزيعًا وترجمةً في تاريخ البشرية، وقد ترجم إلى حوالي ألفي لغة، وطبع منه آخر قرنين ستة مليارات نسخة، وأكثر كتاب صدرت عنه دراسات وكتب وأبحاث جانبية، وأكثر كتاب أوحى برسم لوحات أو مقطوعات موسيقية أو شعر أو أدب أو مسرحيات أو أفلام أو سواها من الآثار البشرية.
وتؤمن المسيحية بإله واحد، وفي الوصية العظمى على لسان يسوع المسيح كما في إنجيل مرقس "اسمع يا إسرائيل، الرّب إلهنا ربّ واحد، فأحبّ الرب إلهك، بكل قلبك، وبكل نفسك، وبكل فكرك، وبكل قوتك".
وينص الإيمان المسيحي كما صيغ في مجمع نيقية (325م) ويسمى أحيانًا قانون الإيمان النيقي: "نؤمن بإله واحد، الأب ضابط الكل، وخالق السماء والأرض، وكل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، إله من إله نور من نور. إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوي الأب في الجوهر، الذي على يده صار كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، وولد من مريم العذراء وصار إنسانًا، وصلب عوضنا في عهد بيلاطس البنطي، تألم ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس على يمين الله الأب، وأيضًا سيأتي بمجده العظيم، ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء، ونؤمن بالروح القدس.. الرب المحيي.. المنبثق من الأب، ومع الأب والابن.. يسجد له ويمجد، الناطق بالأنبياء، وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.. نقر ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وننتظر قيامة الموتى وحياة جديدة في العالم العتيد. آمين".
تنقسم المسيحية اليوم إلى ثلاث طوائف رئيسية: الأرثوذكسية، والكاثوليكية والبروتستنتية.
الكاثوليكية هي أكبر طوائف الدين المسيحي، ومركزها في مدينة الفاتيكان، مقر بابا الكاثوليك، يوجد أتباعها في كثير من دول العالم وخاصة في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية. والبروتستنتية هي ثاني أكبر مذاهب الدين المسيحي، ويتبعها حوالي 800 مليون مسيحي وتضم عددًا كبيرًا من المذاهب والكنائس مثل "الأنجليكانية، اللوثرية، الكنيسة المعمدانية، الكالفينية، الميثودية، الخمسينية، الأبرشانيون والمينونايت، سبتيون".
ويعتبر الأرثوذكسيون الشرقيون أنفسهم أصل المسيحية، وتعني الأرثوذكسية "الصراط المستقيم" ويتبعها حوالي خمسمائة مليون في روسيا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط وأثيوبيا..
تؤدي الكنيسة المسيحية وبخاصة في أميركا اللاتينية دورًا اجتماعيًّا ونضاليًّا، وتشارك المجتمعات مطالبها واحتياجاتها وتواجه معها السلطات والشركات الرأسمالية. وظهرت الكنيسة بسرعة وبوضوح محركًا للحركات السياسية في الحكم والمعارضة والإصلاح في بولندا ودول الاتحاد السوفياتي وفي أميركا اللاتينية وفي الولايات المتحدة أيضًا.
ويبدو التاريخ الأوروبي سلسلة من الحروب والصراعات والفوضى الناجمة عن الحروب والخلافات الدينية، عندما انشقت الكنيسة بين الكاثوليك والأرثوذكس، ثم بين الكاثوليك والبروتستانت، بالإضافة إلى الصراعات والتضحيات التي ارتبطت بسعي الإنسان الدائب للحرية والتقدم والفردانية.
وبقدر ما كانت التجربة قاسية ومليئة بالنماذج الموحشة والمظلمة فقد كانت أيضًا مفعمة بالتقدم الإنساني، فالحريات والعلوم والحضارة القائمة اليوم هي من محصلات أو نتائج هذا الكفاح والجدل مع الدين والكنيسة ودروهما وموقعهما في الحياة والسياسة.
وتلخص رواية شفرة دافنشي لمؤلفها دان براون - والتي بيع منها عشرات الملايين من النسخ ثم حولت إلى فيلم سينمائي لقي إقبالاً كبيرًا - قصة تفاعل الدين مع السياسة والفلسفة والثقافة والحياة العامة في الغرب وفي حياة الأوروبيين وشؤونهم على مدى ألفي سنة، فقد ظلت الكنيسة حاضرة في الصراع والتقدم والنضال والسلطة والحياة في صيغ متعددة ومعقدة.
كان البابا السابق يوحنا بولص الثاني رمزًا للحملة المناهضة للشيوعية في بلده بولندا ودول أوروبا الشرقية بعامة، ويشكل اليوم الحزب الديمقراطي المسيحي القوة السياسية الأولى في ألمانيا.
وكان كذلك لفترات طويلة في تاريخ ألمانيا الحديث، وفي البلقان كانت الكنيسة الكاثوليكية الصربية تقود الصراع والمجتمعات في الحرب الأهلية التي دارت بعد وفاة الرئيس اليوغسلافي السابق تيتو.
وفي جزيرة تيمور التي استقلت مؤخرًا عن إندونيسيا وكانت قبل ضمها لإندونيسيا مستعمرة برتغالية لمئات السنين، واعتنق في أثناء ذلك أغلبية سكانها المسيحية، يتسلم رجال الدين مهمات سياسية وقيادية.حتى إنّه يبدو أنّ الكنيسة هي الحزب السياسي الحاكم والأكثر أهمية وفاعلية، أو هي المرجعية العليا التي تتنافس الأحزاب السياسية على كسب تأييدها وثقتها.
فلم تكن المسيحية الكاثوليكية في تيمور دينًا فقط، ولكنّها محرك الصراع التيموري الإندونيسي، وكان الفاتيكان على الدوام رافضًا للحكم الإندونيسي للجزيرة ويدعم استقلالها مخالفًا العالم الغربي الذي ظل صامتًا إزاء هذا الوضع أكثر من ربع قرن.
وفي الولايات المتحدة ركزت الحملة الانتخابية للجمهوريين بشكل واضح على الدين، كما عبر الجمهوريون بصراحة عن معتقداتهم الدينية طارحين بذلك الديانة موضوعًا في الحملة الانتخابية الرئاسية على الرغم من أنّهم يجازفون بذلك بفقدان تعاطف بعض الناخبين.
وعندما سئل بوش الابن الذي ينتمي إلى الكنيسة الأنغليكانية عن اسم الفيلسوف والمفكر الذي كان تأثيره عليه كبيرًا، قال: إنّه يسوع المسيح، وقال إنّه بحث طوال حياته عن الخلاص، وأكد حرصه على "الاقتداء بيسوع" في حياته اليومية، وكانت الموضوعات الدينية والأخلاقية محورًا للبرامج والحملات الانتخابية.
وفي اليونان تظاهر أكثر من مائة ألف من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية احتجاجًا على قيام امرأة يونانية بإقامة مركز للديانة البوذية، وقد قضت محكمة سالونيك بسجنها لمدة شهرين. ففي اليونان لا يوجد فصل بين الدولة والكنيسة الأرثوذكسية، ولذلك يشترط في اليونان الحصول على إذن مسبق من وزارة التربية والأديان قبل فتح أي مركز للعبادة، ولا يتم التصريح بذلك لغير الأرثوذكس إلاّ بعد استشارة الكنيسة الأرثوذكسية، التي لا توافق عادة على ذلك.
وفي مقدونيا التي يشكل المسلمون حوالي 40% من سكانها تنشط مبادرات ومشروعات لتأكيد الطابع المسيحي وتنشيطه، وأقيم صليب عملاق يصل ارتفاعه إلى مائتي متر على قمة جبل فودنو، وأعيدت تسمية مستشفى مدينة أوهريد (ذات الأكثرية الإسلامية) باسم "القديس أرازمو"، وقدم إلى البرلمان مشروع قانون بإصدار عملة جديدة تحمل الصليب، وقدم مشروع قانون آخر يعطي الكنيسة الأرثوذكسية وصفًا مميزًا في الدولة.
وفي صربيا التي يشكل المسلمون 25% من سكانها تقود الكنيسة الأرثوذكسية تقريبًا الحياة السياسية وكانت المحرض على العمليات العنصرية ضد المسلمين والكروات الكاثوليك. وكان للكنسية أيضًا دور حاسم في تنحية ميلوسوفيتش الرئيس الصربي السابق وانتخاب فويسلاف كوستونيتشا في عام 2000، وذلك بسبب الخلاف الذي أنهى التحالف الذي كان قائمًا بين ميلوسوفيتش والكنيسة.
وحاول كوستونيتشا رد الجميل إلى الكنيسة بسبب تأييدها له في فرض سياسات وتشريعات قد تحول صربيا من دولة علمانية إلى أرثوذكسية تخضع لإرادة الكنيسة وسيطرتها، فيحرص الرئيس الصربي على زيارة الكنائس والمشاركة في الاحتفالات الدينية ومشاركة قادة الكنيسة إلى جانب الوزراء والمسؤولين في المهمات والاحتفالات الرسمية.
وأعيدت إلى الكنيسة الأملاك التي صودرت منها في العهد الشيوعي بقيادة تيتو، وأعيد التعليم الديني المسيحي إلى المدارس والجيش والسجون، وساعدت الحكومة في بناء مئات الكنائس إلى درجة أثارت حفيظة المسلمين في صربيا وفي البوسنة والهرسك، بل وأدت إلى انتقادات صربية أيضًا، مثل الفيلسوف الصربي نيناد جاكوفيتسش الذي قال إنّ صربيا تشهد قومية دينية غير ديمقراطية.
وأما في أميركا اللاتينية فتقوم الكنيسة بدور نضالي في مواجهة الاستبداد وسوء توزيع الموارد والفرص، فالساندينيون الماركسيون في نيكاراغوا على سبيل المثال يستلهمون تعاليم المسيحية ومبادئها في العدالة ومناصرة الفقراء والمستضعفين، ويعتبر القائد السانديني أورتيغا أنّ المسيح عليه السلام يمثل القائد الاجتماعي المتواضع والمنحاز للفقراء.
إنّ تجربة الكنيسة في كل من بولندا والبرازيل تعطي مؤشرات على إمكانيات وتحولات في دور الكنيسة توثق أهمية الدور التاريخي للكنيسة باعتبارها مؤسسة دولة لتصبح مؤسسة مجتمع.
وفي البرازيل تبنت الكنيسة هوية جديدة بوصفها "كنيسة الشعب"، وكان لذلك دور كبير في التحول الديمقراطي، ولكن هذه الهوية وجدت نفسها برأي خوسيه كازانوفا مؤلف كتاب الأديان العامة في العالم الحديث في صراع مع الواقع التعددي للمجتمع المدني البنيوي ومع واقع البنى المهنية النخبوية للمجتمع السياسي.
وقد بدأ الخلاف بين الدولة والكنيسة في البرازيل في القرن التاسع عشر بعدما كانت الكنيسة مؤسسة تابعة للدولة في البرازيل ومن قبل للتاج الإسباني، ولكن جرت تسوية هذه الخلافات وأعيدت الكنيسة إلى التضامن مع السلطة.
ولكن الحركات الاجتماعية التي نشأت في البرازيل وبخاصة بعد سياسات إهمال الريف وتجاهل الفقراء شملت الكنيسة لتشارك في برامج الإصلاح الزراعي والانحياز لخيار الفقراء مما جعلها توصف بأنّها "كنيسة الشعب" بل وتحول أساقفة الكنيسة إلى دعاة راديكاليين يهاجمون الأوضاع غير الإنسانية للفقراء والمزارعين، بل ويدعون علنًا إلى الاشتراكية ومناهضة الرأسمالية.
وساهمت الكنيسة في تشكيل الحركات النقابية الريفية ونشأتها، ومواجهة الحكم العسكري الذي جاء نيتجة انقلاب عام 1964 وبدأت مواجهة قوية بين الكنيسة والدولة موضوعها حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
وكان رد الكنيسة على سياسات الحكومة والاستثمارات الرأسمالية التي أدت إلى نشوء هجرة واسعة من الريف إلى المدن وقيام أحزمة البؤس حولها بمساعدة الهنود والريفيين على تنظيم أنفسهم، وتقديم الدعم والحماية لهم في مواجهة الإقطاعيين والسلطات المحلية والمركزية والشركات الاستثمارية.
وأنشئت أيضًا مؤسسات كنسية من الأساقفة لهذه الأغراض، مثل اللجنة الرعوية لشؤون العمال والسكان الأصليين (الهنود) ولجنة العدل والسلام لتنسيق النشاطات الإنسانية والاجتماعية والنقابية، والعمل السياسي والإعلامي في مواجهة التعذيب والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
ومع بداية الثمانينات كان يعمل في البرازيل حوالي ثمانية آلاف جمعية كنسية كانت تعمل بمثابة تنظيمات شعبية بين الطبقات الفقيرة بين البرازيليين وتعتبر الكنيسة هناك صوتهم الأساسي في مواجهة حالة لا يجدون فيها تمثيلاً لآرائهم واهتماماتهم، فالكنيسة كما توصف هناك "صوت من لا صوت له".
يقول أوليفيه روا في كتابه "الجهل المقدس" إنّه حتى النصف الأول من القرن العشرين، لم تكن توجد في نظر الإرساليات الدينية وروادها سوى حضارة واحدة، هي حضارتهم؛ الحضارة والثقافة الغربيتان، بما هما نتاج المسيحية. وهم يعتقدون بوجود تقدم أخلاقي، وإن كان بعضهم يقر بوجود عناصر إيجابية في الثقافات الأخرى. ولأجل ذلك، كان التلاميذ في المدارس الدينية والكهنوتية يخضعون لعمليات تنميط وإعداد وفق الثقافة الغربية.
لكنّ الكنيسة الكاثوليكية بدأت منذ القرن التاسع عشر، تبتعد عن النموذج الثقافي الغربي، وتدعو إلى مركزية دينية عالمية. يقول فرانسوا ليبرمان؛ مؤسس الإرساليات الكاثوليكية في أفريقيا: "نعتقد أنّ الإيمان لا يمكن أن يتخذ شكلاً ثابتاً وسط هذه الشعوب. ونعتقد أنّ الحضارة مستحيلة من دون إيمان". وقد بدأت عمليات تفاهم وتعاطف تجري بين الإرساليات وبين الشعوب التي تعمل بينها، وصارت الإرساليات معادية للعنصرية والتمييز ضد غير البيض.
وبدأت منذ الستينيات تتكرس مفاهيم من قبيل التعددية الثقافية، والنظرة العالمية إلى الحضارة، بدلاً من الثقافة بمعنى استيعاب المعايير الأخلاقية للدين، والتمييز بين الدين والثقافة ولكنّه لا يوجد خارج ثقافة ما. وفي رسالة للبابا يوحنا بولس الثاني العام 1990، جاء أنّ: "اندماج الكنيسة في ثقافات الشعوب تتطلب وقتاً طويلاً؛ لأنّ ذلك يعني تحولاً للقيم الثقافية لإدماجها في المسيحية". فالمقصود هو تحويل الثقافات أكثر من ملاءمة الإنجيل مع الثقافات.
وتبدو الصلة بين ثقافة ودين واضحة في عدد من المجتمعات والجماعات العرقية؛ البولونيون الكاثوليك، والروس الأرثوذكس، والتبت البوذيون. ويمكن ملاحظة هذه العلاقات المعقدة من أمثلة عدة، مثل السريان الذين تعبر كنيستهم عن أمة سريانية، يندرج فيها بالإضافة إلى السريانية، العربية والتركية والكردية. وقد تبدو في تجليات أكثر تعقيدًا وتميزًا؛ مثل السريان الأرثوذكس، والسريان الكاثوليك. وأحيانًا تجمعهم اللغة وتفرقهم المذاهب، وأحيانًا يجمعهم المذهب وتفرقهم اللغات. وفي هضبة البامير، ثمة علاقة بين الإثنية والمذهب الإسماعيلي. وفي أميركا، اعتنق السود المسيحية أملاً في المساواة والاندماج، ثم اعتنقوا الإسلام شعوراً بالتميز وبهوية مختلفة عن البيض. وفي تترستان، حيث أُجبر التتر المسلمون على الدخول في الأرثوذكسية في القرن السادس عشر الميلادي، اضطرت الكنيسة الأرثوذكسية فيما بعد إلى الاعتراف بعودتهم إلى الإسلام (على الرغم من أنّ الأرثوذكسية لا تسمح بالردة عنها)؛ لأنّه حسب الكنيسة ظلت ثقافتهم بعيدة عن الكنيسة، وظلت مسيحيتهم مصطنعة. وقبلت المحاكم المصرية طلب مصريين العودة إلى المسيحية بعد دخولهم في الإسلام؛ لأنّهم حسب المحكمة لم يكفوا أصلاً عن كونهم مسيحيين.
ويلاحظ أوليفيه روا أنّ الأصوليات بدأت تصاب بالوهن. فالحملة الانتخابية الأميركية للعام 2008، أظهرت أنّ الجبهة الموحدة لليمين المسيحي لم تعد موجودة، وأنّ الأجيال الجديدة من المؤمنين مهتمة أكثر بالبيئة والعدالة الاجتماعية. وتبدو القيم والأفكار المحافظة أقل رسوخاً، وتتحول إلى خيارات فردية. ولكن - وكما يقول روا - فإنّ "الديني" بالرغم من أزمته، والتي هي أزمة الثقافة أيضًا، فإنّ الاعتقادات الدينية وتحولاتها وانتقالاتها قادرة على البقاء والازدهار.