الملائكة في النصوص المقدّسة
فئة : مقالات
الملائكة في النصوص المقدّسة
تتعدّد المواضع التي تشير إلى اتصال الإنسان بعالم الغيب في النصوص المقدّسة، ومن أهم أشكال ذلك التواصلُ بين الأنبياء والملائكة. على أنّنا نشير قبل معالجة مظاهر التواصل بينهما ودلالاته إلى أنّ ماهية الملائكة قد اختلفت من نص إلى آخر.
الملائكة في العهد القديم
قدّمت أسفار "العهد القديم" تعريفات مختلفة للملائكة تصل حدّ التعارض والتضارب، ففي سفر التكوين لا نميّز بين الرب الإله وملائكته، من ذلك أنّ ثلاثة قدموا على إبراهيم[1] رجلان واللّه،[2] وكان الرّجلان ملاكين،[3] بيد أنّ المتأمّل في صفات الثلاثة لا يجد بينهم فوارق تساعده على التمييز بين الرب الإله وملائكته.
وقد ذهب هشام جعيط في هذا المجال إلى القول إنّ يهوه "وملكه شيءٌ واحد، إنّما أريد التّقدّم خطوة صغيرة في التّنزيه إنْ صحّت الكلمة لكنّا نلحظ صيغة التّماهي بين يهوه وملكه".[4]مُرجعا تمييز بقية أسفار العهد القديم بين الرب الإله وملائكته إلى تأثر اليهود بالمعتقدات التي كانت منتشرة في بلاد الرافدين وبلاد فارس. أمّا السيد القمني، فجعل للمسألة أسبابا تاريخية تمثّلت في رغبة بني إسرائيل في تفضيل إلههم على" بقيّة الآلهة [التي] حَوَّلوها إلى أتباع الإله القوميّ يهوه"، وفي ذلك مواجهة لجميع عوامل الإفناء والاحتقار والقمع المسلّط على الجماعة من قبل شعوب المنطقة.[5]
إنّ النصوص التوراتية الأولى- والفكر الديني اليهودي- لم تستطع وضع حدود واضحة للتمييز بين الرب الإله وملائكته؛ ففي العديد من الأسفار التاريخية، نعثر على إشارات واضحة إلى عدم قدرة النص الديني على الفصل بين الرب الإله وملائكته، ففي وقوف الملاك أمام هاجر أو لقائه ببلعام، نجد أقوال الإنسان تخبر عن تماه بين الرب الإله وملائكته. إذ سمّت هاجر العين بوجه الله، وسمى يعقوب البئر بفو ئيل، وكذا الأمر بالنسبة إلى بلعام.
وفي هذا المجال، يبدو أنّ "العهد القديم" يشير إلى أمرين مختلفين، وهما"ملاك الله" وملائكة الله"؛ فالأول يكاد يكون الله نفسه. أمّا "ملائكة الله"، فهي متصلة بقدرات الله إذ سمّيت تلك الملائكة بأسماء حاملة لدلالات معيّنة، فـ"روفا ئيل" "معناه الله يشفي".[6]أمّا "ميكا ئيل" فمعناه "منْ مثل الله" [7] وقس على ذلك بقية الأسماء.
فنحن إزاء الذات الإلهية المُتجلّية في هيأة ملاك أو بشر، وهو "ملاك الله" من جهة، ومن جهة أخرى نجد الصفات الدالة على الذات من خلال قوى مختلفة متصلة بالإنسان (الشفاء، العقاب،...).
ونحن إذا ما عمدنا إلى مقارنة صورة الملائكة في العهد القديم بما ورد حولها في "الـــقرآن" أو في "الأناجيل" ألفينا اختلافا بيّنا بين هذه النصوص، ويعود الأمر في ذلك إلى:
أوّلا: اختلاف العهد القديم والقرآن الكريم في تحديد ماهية الملائكة ودورها.
ثانيا: أنّ الأناجيل من خلال إقرارها بتجسّد الإله قد ألغت جميع أشكال الوحي التي يجب أنْ تقوم بين النبي والإله.
ففي ما يتّصل بالمسألة الأولى، ألفينا "العهد القديم" يخصّ الملائكة بأسماء مختلفة" إسرافيل، جبرائيل" وجميعها تتكوّن من اسمين؛ يحيل الأول على صفة يختص بهـا ذلك المــلاك دون غــيره. أمّا الاسم الثاني، فثابت وهو "ئيل" وهو "الله"، فإذا بالملاك خادم أو مأمور ينفذ الإرادة الإلهية، أو هو يستمّد قوّته من الرب الإله.
واللافت للنظر في تلك الأسماء ما قد نسب إلى الملائكة من أفعال فيها إحالة على القوّة والجبروت، بل إنّ قسما منها أُوكل إليه السيطرة على قوّة طبيعية مدمّرة، زد على ذلك أنّ تجلّي الملاك للنــبي أو الملك أو الناس العاديين قد اقترن بأمر إلهي من قبيل إعلام ملك بضرورة فـعل كـذا أو تـرك كـذا أو الإخبار بالعواقب الوخيمة التي ستنزل بالفرد و الجماعة بسبب جرم ما؛ فكان دور الملائكة قائما على الإنباء بالعقاب أو التحذير والتهديد أكثر من النصح والإرشاد.
وفي هذا المجال، نشير إلى اختلاف أشكال التواصل (الصّوت، الرّؤيا) وقد يتسنى للنبي الواحد الجمع بين تلك الأشكال، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى النّبي صموئيل. [8]
وقد نهض الحدث المُتخيّل بدور مهمّ في هذا الجانب، فمُحاورة الرّبّ الإله أو الملاك لصموئيل الّتي ترد في الأصحاحين السّابع والثّامن من سفر صموئيل الأوّل، تبيّن لنا ثلاثة أمور متلازمة متعلّقة بحياة الجماعة، وهذه الأمور:
أوّلا: أنّ الملوكيّة لم تكن صادرة عن أمر إلهيّ،[9] بل إنّ الرّبّ الإله عندما طلب من صموئيل اختيار ملك لليهود كان يُنزل بجماعة إسرائيل العقاب، ذلك "أنّ الملكية في تصوُّره حنث بالميثاق، أو العهد بين الإله والشعب، ذلك العهد الّذي جاء فيه أنّ جماعة إسرائيل- يسرائيل لن يكون لها ملك سوى الإله."[10]
ثانيّا: إنّ النّبيّ صموئيل يُعدّ آخر نبيّ يجمع بين السّلطة الدّينيّة والدّنيويّة؛ فهو آخر القضاة.
ثالثّا: إنّ الملك، شأنه شأن عامة الشّعب من بني إسرائيل، مُلزَم بإطاعة العهد وبإرادة الإله، ممثّلة في شخص النّبيّ.[11]
إنّ اتّصال الملاك بالأنبياء والملوك في العهد القديم موصول في أغلب الأحايين بمصالح الجماعة (تعيين ملك، .....)، فإذا بالملاك لا ينهض بدور الوسيط فحسب، بل كان يجسّم الحضور الفعليّ للإله في عالم الوقائع المحيطة بالجماعة.
الملاك في الأناجيل
إنّ الحديث عن الملائكة في "العهد الجديد" قد اتخذ شكلين مختلفين، وذلك بالنظر إلى صلتها بالطرف المرسل إليه؛ ففي ما يتعلّق بالجانب الأول كانت الملائكة على علاقة بأحداث متخيّلة متصلة بالمسيح، ففي "إنجيل الطفولة" كانت الملائكة من تحمي المسيح وأمّه وتحتفي بمولد الإله، وفي "إنجيل برنابا" نقرأ" بَينَمَا كَانَ يُصَلِّي [... إذ] بِنُورٍ بَاهِرٍ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَجَوقٍ لاَ يُحْصَى مِنَ الْمَلاَئِكَةِ كَانُوا يَقُولُونَ لِيَتَمَجَّدِ اللّهُ. "[12] أمّا في ما يتعلّق بالشكل الثاني، فإنّ الأحداث تتصل بالتلاميذ بعد موت المسيح.
وفي هذا المجال نشير إلى أنّ النصوص الإنجيلية قد باتت تحدّثنا عن "الروح القدس" بدلا من حديثها عن الملائكة. وفي هذا السياق، نلحظ اختلافا واضحا بين" روح القدس" الذي نعثر عليه في النص القرآني و"الروح القدس" المذكور في العهد الجديد؛ فالأول ملاك؛ أمّا الثاني فأقنوم من أقانيم الذات الإلهية في التصور المسيحي.
بيد أنّ ما يلفت الانتباه في هذا المجال، أنّ "العهد الجديد" لم ينسب إلى "الروح القدس" أفعالا أو صفات خاصة، تدعونا إلى تمييزه عن سائر الملائكة التي ذُكرت في النصين الآخرين، من ذلك أنّنا نجد جملة من الأحداث المُتخيلة التي يقوم فيها "الروح القدس" بوظائف متنوعة لا تختلف الشيء الكثير عما نسب إلى الملائكة في "العهد القديم " أو في "القرآن الكريم".
وفي هذا المجال، ننزل إنقاذ الرّوح القدس لبطرس من السّجن ومن مؤامرات اليهود؛ ففي "أعمال الرّسل" يتكرّر هذا الأمر مع بطرس في مناسبتين، وردت الأولى في الإصحاح الخامس، إذ "فَتَحَ [ مَلاَكٌ] أَبْوَابَ السِّجْنِ فِي اللَّيْلِ وَأَطْلَقَهُمْ [ بطرس ومجموعة من الرّسل]".[13] أمّا المناسبة الثّانيّة، فقد وردت في الإصحاح الثّاني عشر، وفيه ينوي الملك هِيرُودُس تسليم بطرس لليهود، وقد شدّد الحراسة عليه في سجنه على أنّ ملاكا "مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ [حَضَرَ]، فَامْتَلَأَتْ غُرْفَةُ السِّجْنِ نُوراً. وَضَرَبَ الْمَلاَكُ بُطْرُسَ عَلَى جَنْبِهِ وَأَيْقَظَهُ وَقَالَ: «قُمْ سَرِيعاً!» فَسَقَطَتِ السِّلْسِلَتَانِ مِنْ يَدَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: «شُدَّ حِزَامَكَ، وَالْبَسْ حِذَاءَكَ !» فَفَعَلَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْبَسْ رِدَاءَكَ وَاتْبَعْنِي".[14]
إنّ الحادثتين ترميان إلى تأكيد قدرة اللّه على حماية رسل المسيح (التلاميذ)، على أنّ ما يميّز الحادثة الثّانيّة أنّ الرّاوي قد تعمّد الإطناب في وصف خصائص الفضاء لحظة حلول الملاك، إذ حل النّور بدلا من الظّلام، وقد خصّ بهذه العجائب بطرس دون غيره من الرّسل، على أنّ الأمر الذي لم تشر إليه القصّة كيفية خروج بطرس من السجن التي كانت أشبه ما يكون بعملية تهريب أيّ سجين (السّرعة، السّير على الأقدام اتبعني،....)
إنّ الحادثة الثّانيّة، كانت أكثر وضوحا فيما يتعلّق بملابسات الحدث المُتخيّل، بيد أنّ لاشيء في الأحداث قد يوحي بأنّ الّذي قد أنقذ بطرس هو ملاك، بصرف النّظر عن النّور الّذي ملأ الفضاء، إذ تشير الرّواية الإنجيليّة إلى الحالة النّفسيّة الّتي كان عليها بطرس-الرؤيا /الحقيقة-، فاعتبر المنقذ ملاكا قد يكون من نتاج مخيال بطرس.
الملائكة في القرآن
لقد نسب "القرآن" إلى الملائكة صفات متنوّعة وسمّاها بأسماء مختلفة، فلئن ذكر بعض الأسماء الواردة بالتوراة، فإنّه يشير إليها بأسماء أخرى، مثل"ملائكة الرحمان"، ونسب إلى الملائكة أفعالا كثيرة منها السجود لآدم، وإنزال العذاب بأهل الشرك والكفر، ومنها تعذيب أهل الجحيم،[15] ومنها أنّهم منْ يأتي الأنبياء بالوحي.[16]
وفي هذا السياق، نشير إلى أنّ النص القرآني لم يشر إلى طبيعة الملائكة أو المادة التي خُلقت منها، وفي المقابل عمد في جميع المواضع تقريبا إلى نفي صفة القدرة عنها، وذلك من خلال نسبة الفعل إلى ضمير نحن "ننزّل" أو بنسبتها إلى ضمير "هو" "يُنَزِّلُ" اللذين يعودان على الله.
ووفق الرواية القرآنية، فقد فُضّل آدم على الملائكة بأنْ خَلَفَ الله على الأرض،[17] إذ تشير آيات كثيرة إلى أنّ مهمّات عديدة كُلّف بها الملائكة خدمة للإنسان، على أنّ ما يميّز ملائكة" القرآن الكريم" اتصالها بالله أو بأنبيائه دون غيرهما، فإذا بالملاك كائن يُؤمّن التّواصل بين اللّه والإنسان، فهو الحلقة الواصلة بين عالم الغيب وعالم الشّهادة، ومن شأن هذا الدّور أنْ يحدث انسجاما بين العالمين، وفي المقابل يكون الشّيطان شخصيّة حاملة لمشروع مضاد.
الملائكة والوحي
إنّ الصراع القائم بين الخير والشر، يتطلّب رعاية الله للإنسان وإرشاده إلى طريق الصلاح، فلئن كانت وسوسة الشيطان شرا، فإنّ الوحي هو الخير الذي ارتضاه الله لعباده، وقد نهض المَلاك جبريل في هذا السياق بدور المبلّغ الذي يصل بين الله وأنبيائه، بيد أنّ الوحي المشار إليه في النص القرآني وحي مخصوص، إذ لم يعد دور الملاك الإشارة إلى أمر ما أو طلب القيام بفعل معين أو الانتهاء عن آخر، وذلك باستخدام ألفاظ مختلفة لا تعبّر بالضرورة عن اللفظ الإلهي.
لئن تجسّد الله في أسفار"العهد القديم" للبشر، وكذلك الشأن في الأناجيل، فإنّ الوحي الإسلامي قد فصل بين عالم الإله وعالم البشر، وأضفى على الوحي معنى جديدا، فهو كلام منصوص عليه في اللوح المحفوظ.
وقد ترتب على ذلك جملة من الإشكاليات المتصلة بشروط التواصل بين العالمين، وبقدرة كل طرف على منح الكلام الإلهي معانيه الأصلية، وقد عالج القدامى هذا المبحث في سياقات مختلفة تعلّقت بالوحي تنزيلا وتدوينا، إذ ذهب دارسو "القرآن " في ذلك مذاهب ثلاثة جمعها بدر الدين الزركشي (تـ 794هـ) في "البرهان في علوم القرآن"[18] بقوله: "لقد اتفق أهل السّنة على أنّ كلام الله منزّل، واختلفوا في معنى الإنزال فقيل: معناه إظهار القرآن، وقيل إن الله أفهم كلامه جبريل، وهو في السماء، وهو عال من المكان وعلّمه قراءته ثم جبريل أدّاه في الأرض، وهو يهبط في المكان" .
وقد مال الزركشي إلى القول إنّ الله قد فَهَّمَ كلامَه جبريل، فإذا بالمعنى إلهي واللفظ ملائكيّ، على أنّ هذا التصور من شأنه أنْ يحوّل عملية التواصل بين الله وجبريل من عملية لغوية تتمّ عبر الكلام إلى عملية غير لغوية.
إنّ هذه المواقف الثلاثة المشار إليها، تعبّر بعمق عن الإحراج الذي كان يشعر به المسلمون في تحديدهم لماهية الوحي، فأنْ يكون الوحي إلهيّا في معانيه ومن عند جبريل ألفاظه، أو أنْ يكون معناه إلهيا ولفظه بشريا، أو أنْ يكون إلهيّا في معانيه وألفاظه، فإنّ ما يترتب على تلك الآراء من نتائج له تأثيره الواضح في ماهية النبوّة والوحي.
ذلك أنّ ما يثير قلق الباحث في تلك الآراء الثلاثة، سؤال واحد مداره قدرة الملاك أو النبي على تعقّل المعنى الإلهي والتعبير عنه وتبليغه إلى الأنبياء دون أنْ يطوله النقصان في المستوى الدلالي. أضف إلى ذلك أنّ القول إنّ المعنى من عند الله واللفظ من عند الرسول من شأنه أنْ يلغي الحدود التي سعى المسلمون إلى إقامتها بين الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية والقرآن، وهو ما يترتب عليه فقدان الوحي خصوصياته.
* سمية المحفوظي
[1] العهد القديم، سفر التّكوين الأصحاح الثامن عشر.
[2] العهد القديم، سفر التّكوين 18/22
[3] العهد القديم، سفر التّكوين 19/1
[4] جعيط (هشام): في السّيرة النّبويّة - الجزء الأوّل- الوحي والقرآن والنّبوّة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1999، ص 63.
[5] القمني (السّيد) :الأسطورة والتّراث، دار سينا،ط1، القاهرة مصر، 1992، ص 65.
[6] العهد القديم، سفر طوبيا 3/25
[7] العهد القديم، سفر دانيال 10/13
[8] العهد القديم، سفر صموئيل الأوّل 3/19-20 و7/6 -16.
[9] العهد القديم، سفر صموئيل الأوّل 8/18.
[10] Bailey(Adriana):Ecole Biblique, traduction par Christine Lalier,édition, G.P.Maisonneuve, Paris, p114.
[11] المرجع نفسه والصّفحة نفسها.
[12] راجع إنجيل برنابا 10/2.
[13]العهد الجديد، أعمال الرسل 5/19
[14]العهد الجديد، أعمال الرسل12/7-10
[15] سورة الأنفال9/51
[16] سورة الحجر 16/8
[17] سورة البقرة2/30.
[18] راجع الزّركشي (بدر الدّين): البرهان في علوم القرآن، حققّه محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت لبنان، 1988، مج 2، ص229.