المنازعة حول مفهوم العلمنة بين كل من كارل لوفيث وهانس بلومنبرغ قراءة تحليلية ونقدية من منظور جان كلود مونو

فئة :  أبحاث محكمة

المنازعة حول مفهوم العلمنة بين كل من كارل لوفيث وهانس بلومنبرغ قراءة تحليلية ونقدية من منظور جان كلود مونو

لمنازعة حول مفهوم العلمنة بين كل من كارل لوفيث وهانس بلومنبرغ

قراءة تحليلية ونقدية من منظور جان كلود مونو*

ملخص:

تعدّ المنازعة حول مفهوم العلمنة من هيجل إلى هانس بلومنبرغ سجالا غنيا أفرز تشابكا معرفيا بين مباحث معرفية متعددة؛ انتقل على أثرها السجال من تاريخ الأفكار إلى الفلسفة السياسية وعلم اجتماع الأديان، ثم إلى التاريخ والفلسفة؛ فقد تميز التاريخ المفهومي الخاص بالبرهنة على صلاحية مفهوم العلمنة بالتعقيد والتدجين التناهجي لعدة حقول معرفية. إذن الآلية التي حاول بعض المفكرين استعمالها لقراءة أزمنة بكاملها تحتاج هي نفسها للتحديد المفهومي لتشابك وتشعب استعمالاتها وظائفها، وكذا لخصوصية انبثاقها التاريخي. فقد حملت وظيفتين وصفية ومعيارية، وغالباً ما يتم استخدامها لإظهار ما تدين به العقلانية الحديثة تجاه الدين؛ إذ ارتبط مفهوم العلمنة تاريخيا بالأزمنة الحديثة، مما ينزع عنه سمتي الحياد والموضوعية الكافية لحمل الوظيفة الوصفية (المعرفية) القادرة على الخروج بنتيجة تضفي المشروعية أو تنزعها عن هذه الأزمنة، وهو ما يسمح بالمقابل بازدواجية المقاربة الوصفية والتقييمية/المعارية.

تقديم:

إن فعل المنازعة حول مفهوم العلمنة قد رسم اتجاهين مختلفين: الأول يقدم الحداثة ومفاهيمها الأساسية، ومنها مفهوم الدولة وفلسفة التاريخ والسيادة والتقدم؛ مفاهيم مستمدة من التصور الثيولوجي، وإن اختلف هذا التصور ظاهريا عن الأصل المستمد منه، وهي الأطروحة التي نجدها عند كل من كارل لوفيث، كارل شميث، إريك فوغجلين، جاكوب تاوس، بولتمان، كولمان(وإن كان هذان الأخيران يثيران مفهوم العلمنة في الحقل الثيولوجي، لكنهم يقيمون علاقة مابين المسيحية والحداثة بماهي علمنة مسيحية مشروعة)، وتوجه معاكس يقوم على أساس مشروعية الأزمنة الحديثة يمثله بشكل أساسي هانس بلومنبرغ (ويمكن تصنيف راينهارت كوزيليك في مصاف هذا الاتجاه، وإن كان الأمر يحتاج للتوضيح*). إن أصل هذا السجال هو إشكالية مفهوم العلمنة* التي رادفت، بمعنى ما، مفهوم التقدم، مما يجعل من مفهوم العلمنة آلية وصفية في فهم التاريخ، وهو ما تم توظيفه داخل الأنساق الفلسفية الحداثية، بالأخص الألمانية التي استدمجت بطريقة ما التصورات الثيولوجية أوعلى الأقل الأفق التأملي الثيولوجي، وكذا رحابة انتظارات الأزمنة الحديثة المتولدة عن راهن يعيش مجرى تغيرات تاريخية، تعد بما هو أبعد مما هو راهن، وهي الأنساق التي استدعاها كارل لوفيث بطريقة نسقية، حيث عمل من خلالها على تفكيك بنائها مستخلصا أساسها الثيولوجي؛ فالتاريخ يمتد على فترتين ما قبل المسيحية وما بعد المسيحية وما الأزمنة الحديثة سوى امتداد لهذه الأخيرة.

إن الحديث عن عودة المعطى الديني في المجتمعات المعلمنة الغربية قد احتد، بمعنى ما، خلال ستينيات القرن العشرين، حيث أثير السجال حول عودة الدين. يشير مونو أن أولى المفاجآت بهذا الخصوص كانت خلال نهاية 1970 مع الثورة الإيرانية، ومختلف المسارات التي قادت للحديث عن عودة الدين، والتي ساهمت في ظهور أشكال جديدة لتسيس الدين أو نزع التسيس عن الدين، نموذج الإسلاموية طبعا، ولكن أيضا النيوفيودالية المسيحية واليهود[1].

يقر كلود مونو، بنوع من الحذر، أن الأنساق الكبرى، وعلى الأخص الألمانية، التي أعلنت إفلاسها قد استمدت أسس بنائها من تأملات التصور الديني، لكن هذا الاستدعاء لا يبرر التشكيك السلبي الذي يهدف لخلق نوع من التدمير الهدام لكل البناء الحداثي، كما حاول أن يقدمه كارل لوفيث*، بل إن الأمر أبعد من هذه النظرة التبسيطية لمجال يترجم الفعالية البشرية في خضم السيرورة التاريخية؛ اذ هي أنساق حداثية استجابت لالحاح التحدي المرحلي الراغب في الحصول على تطمينات وضمانات مستقبلية في استمرار راهنية التقدم إلى أبعد حد ممكن. حقيقة أن طبيعة مفهوم العلمنة قد ساعد كارل لوفيث وكارل شميث على نسف هذا البناء أو على الأقل التشكيك فيه، لكن المفهوم ذاته قد كشف العديد من القراءات؛ منها إشكالية المفهمة في عملية ارتباطها بعملية الوصف والتأويل، وكذا ارتباطها بحاضر الحداثة وفساحة المقاربة المعيارية التي رفعته عن العتبات التاريخية. لهذا وجب، حسب جان كلود مونو، تطوير سرديات أكثر دقة على النحو الذي اقترحه تشالز تايلور أو العمل على تتبع الأنماط المعقدة التي تكون في متناول السياسية أو الدين في سياقات مختلفة كما قدمها هانس جواس[2]؛ لأن هذه المقاربات تساهم في إبراز السياقات التاريخية لجل التجارب التي عكستها العلمنة؛ إذ يثير جان كلود مونو مسالة أن العلمنة بماهية آلية أو أسلوب نظامي أو مؤسساتي لتطوير التنوع الديني[3]، ومن هنا يتم تقديم العلمنة بوصفها برنامجا فلسفيا وسياسيا؛ بمعنى أنها لا تعكس فقط الجانب الوصفي لصيرورة الاجتماع التاريخي، لكن أيضا الجانب المعياري الذي يحيل على مشروعية الفعل السياسي المعلمن. والتركيز أيضا على الأصل الاشتقاقي لهذه المصطلحات مما يؤكد، بمعنى ما، القرابة وصلتهم بالعالم المسيحي.[4]

إن فلسفة التاريخ الحداثية عرفت العلمنة كإشكال تاريخي وموضوعي، ولكن أيضا كهم هيرمنوطيقي ينكب تجاه أصلها الخاص بالسياق الغربي. رغم أنها أعلنت نيتها في بناء يتأسس على دعامات علمية عقلانية لا تدين فيه بأي ارتباط ثيولوجي. رافضة بذلك رفضا تاما أي صلة بما هو قديم، وبالأخص الصلة بالتصور المسيحي الاسكاتولوجي. ومن ثمة، فإن مفهوم العلمنة قد وجد هنا أرضا خصبة ومثالية لبلورة تصوره وإشكالاته في ظل هذا السجال. الأمر الذي اعتبره جان كلود مونو مناسبة لتقديم توضيح مفهومي واصطلاحي، فقد لاحظ في قراءته لماكس فيبر وكارل شميث وكارل لوفيث وهانس بلومنبرغ، لكن أيضا الكثير من سوسيولوجي الأديان أن كلمة علمنة تعود على عمليات مختلفة ومتنوعة للغاية، وقد اتخذت في بعض الأحيان معاني متعاكسة دون أن يشار إلى هذا الأمر بشكل واضح، أو يتم تناوله كتيمة.[5]لهذا حاول جان كلود مونو في البداية إثارة بعض المشاكل العامة المرتبطة بصيغة علمنة أو صيرورة العلمنة*؛ لأنها أصبحت إحدى الأدوات المعتادة في تفسير التاريخ الغربي، وبشكل خاص الأزمنة الحديثة.[6]

فهل يملك كارل لوفيث كامل الحق في نزع مشروعية فلسفة التاريخ الحداثي؟ ألم ينطلق من قراءته للأزمنة الحداثية من حيثيات أفق فشل اكتمالها المرتبط بالأزمة السياسية المعاصرة؟ أم إن بلومنبرغ قد استطاع كبح الطموح اللوفيثي، ومنح بالمقابل الأزمنة الحداثية هويتها التأصيلية والتأهيل الذاتي الحداثي المشكوك في مشروعيته؟.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

* جان كلود مونو هو سيناريست وفيلسوف فرنسي معاصر (ولد1970...) ابن الإثنولوجي جان مونو، مبرز في الفلسفة حاصل على دكتوراه فلسفة من جامعة باريس، (2000) باحث في أرشيف هوسرل، ينتمي لمركز الأبحاث العلمية وأستاذ فلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة ENS، متخصص في الفلسفة الألمانية المعاصرة والفلسفة السياسية، يعدّ من أهم المتخصصين أو مقدمي المفكر الألماني هانس بلومنبرغ وكل ما يرتبط بالسجال الفلسفي الخاص ببراديكم العلمنة.

* "ففي بدايات راينهارت كوزيليك كان متعلقا بشكل ما بلوفيث، على الأخص فيما يتعلق بأطروحة علمنة فلفسة التاريخ، وإن لم ترادف العلمنة اللوفيثية العلمنة الكوزيليكية بشكل تام، إذ بينهما مساحة لبناء تقارب وتباعد على حد سواء، ومع ذلك يحضر بينهما أيضا خيط رفيع؛ لأنهما معا توجها نحو سؤال مشترك حول الطريقة التي نفهم بها الصفات الزمنية للماضي والحاضر والمستقبل؛ فالأول توجه نحو التصورات الثيولوجية المسبقة التي أطرت أنساق فلسفات التاريخ الحداثية. أما الثاني، فركز على التجربة التاريخية في نسختها المتعلقة بحاضر التجربة الذي يعيد قراءة الماضي ويؤسس لانتظارات المستقبل، ومن هنا يكون كوزيليك أقرب إلى بلومنبرغ منه إلى لوفيث، هذا التوجه الكوزيليكي الذي ستلوح بوادره بفضل كتابات هانس بلومنبرغ 1975، حيث سينكب على الجانب الاستعاري المتعلق بالتغييرات التي اكتسبتها اللغة" المعبرة عن تعاطينا مع الزمن الحداثي وماقبله.

نزهة بوعزة، أزمة مشروعية فلسفة التاريخ أزمة اسس حداثية: راينهارت كوزيليك، مؤمنون بلاحدود، 03ديسمبر 2021، www.mominoun.com

* يعدّ مفهوم العلمنة مفهوم معياري كثيف يتضمن وصفا وتقييما في الآن نفسه. العلمنة هي من المفاهيم المعيارية الكثيفة حيث تحضر الصلة مابين البعد الوصفي والمعياري المعرفي والإيديولوجي. إنه مفهوم يتضمن وصفا وتقييما في آن معا. ومن هنا، فإن "المفهوم المعياري الكثيف هو ذاك الذي يتضمن في الوقت نفسه جانبا أو مكونا معياريا، وجانبا أو مكونا وصفيا غير معياري."

د. حسام الدين درويش، في المفاهيم المعيارية الكثيفة العلمانية، الإسلام (السياسي) تجديد الخطاب الديني، تقديم ساري حنفي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت2022، ص75

[1] Jean claude Monod, la promesse de la Sécularisation: puissance théorique et effet pragmatique d’un concept chargé d’histoire, Entretien avec Elise Lamy Rested, L’à venir de la religion, revue ITER N01, 2018, p 3

* أحدث لوفيت بكتابه "التاريخ والخلاص" histoire et salutأو الافتراضات اللاهوتية المسبقة لفلسفة التاريخ، أفقا للنقاش في الفكر المعاصر حول القراءة الممكنة للأزمنة الحديثة، فالتشكيك في أصالة فلسفة التاريخ هو تشكيك في أصالة الأزمنة الحديثة نفسها، وهو الأمر الذي لا يمكن فهمه بعيدا عن أطروحته الأساس حول فلسفة التاريخ، فكتاب "التاريخ والخلاص"، يعتبر فاكهة لوفيث التي أثمرها بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1949 meaning and history، وترجم إلى الألمانية خلال سنة 1953weltgeschichte und heilgeschehe. مضمون الكتاب هو الدفاع عن فكرة مفادها أن فلسفة التاريخ الحديثة، هي ترجمة لتاريخ الثيولوجيا القديمة.

[2] Jean claude Monod, la promesse de la Sécularisation: puissance théorique et effet pragmatique d’un concept chargé d’histoire, p 8

[3] François Boucher, Des voix multiples Sécularisation et laïcité Jean-Claude Monod, presses universitaires de France, philosophie, Number 234, fall 2010, pp46_48 ; P47. www.erudit.org

[4] Bérengère Massignon, « Jean-Claude Monod, Sécularisation et laïcité », Archives de sciences sociales des religions, 144 | octobre-décembre 2008, P1. www.journals.openedition

[5] Jean Claude Monod, la promesse de la Sécularisation: puissance théorique et effet pragmatique d’un concept chargé d’histoire, p1

* ان الاشارة هنا إلى صيغة صيرورة العلمنة او الخط والمسار التاريخي لمفهوم العلمنة معناه اثارة سقف هذا المسار وطبيعة المراحل او الانماط المتولدة عن هذا المسار، مما يضعنا امام مجموعة من الاستفاهات كيف نقيس ماوصلنا اليه من تعلمن، وما السبيل لمعرفة سقف حاجاتنا لعملية التعلمن، بل ما السبيل لمعرفة هل نتجه نحو المزيد من العتلمن ام العكس، الا يتم هنا الخلط بين الجانب الوصفي للمفهوم والتوجه المعياري التقييمي...

[6] Jean Claude Monod, la sécularisation et ses limites: entre théologie politique et positivisme juridique, modernité et sécularisation, Hans blumenberg, Karl lowith, Carl schmitt, Leo Strauss, sous la direction de Michael foessel, jean François kervégan et Myriam revault d’Allonnes, CNRS édition, paris2007, p155-168, p155