"المنظومة الحضارية عند مالك بن نبي" للدكتور إبراهيم رضا
فئة : قراءات في كتب
"المنظومة الحضارية عند مالك بن نبي" للدكتور إبراهيم رضا
من بين الكتب التي اهتمت بمشروع مالك بن نبي كتاب "المنظومة الحضارية عند مالك بن نبي" للدكتور إبراهيم رضا، وهو أستاذ التعليم العالي، بالجامعة المغربية، جامعة القاضي عياض مراكش. الكتاب صدر عن مركز الدراسات والأبحاث، التابع لمؤسسة خالد الحسن، في طبعته الأولى 2020م.
أهمية الكتاب
أهمية هذا الكتاب بالمقارنة مع القليل من الكتب التي اهتمت بمشروع بن نبي، أنها تتبع مختلف مراحل حياة بن نبي، سواء الشخصية منها أو الفكرية، وطبيعة الزمن والمحيط الذي كتب فيه مختلف مؤلفاته. والأصول المعرفية لمختلف فكره.
يضم الكتاب خمسة فصول، وهي: الأول: الأصول التربوية والفكرية والاجتماعية للمنظومة الحضارية لابن نبي، الثاني: الرؤية النقدية للبدائل الفكرية والحضارية التي نجمت عن الغزو الحضاري الغربي للبلاد الإسلامية، الثالث: المنظومة الحضارية بين الضبط الاصطلاحي والخلفيات الموجهة لها، الرابع: الفكرة الدينية والإرادة الإنسانية وأثرهما في توجيه عناصر المنظومة الحضارية، الخامس: الأصول المعرفية والثراء المنهجي للمنظومة الحضارية لابن بن نبي وأثرها على الفكر الإسلامي المعاصر.
مالك بن نبي في صغره
يعترف مالك بن نبي بأنه تأثر بشخصية جدته، بما منحته له؛ هي وجيلها من قيم وأخلاق كريمة وروح سامية تتصف بالوفاء للوطن، وإلى جانب التربية الأسرية تلقى بن بني تعليما مزدوجا بين كتاب المسجد، الذي فتح عينيه على القرآن الكريم والأخلاق الإنسانية، التي يحث عليها، ودعوته للتأمل في الحلق والخلائق وبين المدرسة الفرنسية، يقول: "قد انتظمت في المدرسة الفرنسية، وأتردد في نفس الوقت على الكتاب القرآني، فتوقظني أمي لأذهب مبكرا إلى الكتاب، ثم في الساعة الثامنة إلى المدرسة"[1] ولا شك في أن الطفل منذ صغره قد أحس بأن أسلوب التربية والتعليم، في الكتاب جد عتيق مقارنة مع الأسلوب الحديث في المدرسة الفرنسة، ولا شك في أنه استفاد كثيرا في مرحلة الثانوية، من دروس الفلسفة خاصة من فلسفة ديكارت يقول: "وكان معلمونا الفرنسيين يسكبون في فكرنا وروحنا محتوى ثقافة ديكارتية تبدد ذلك الضباب الذي ينمو في الفكر الأسطوري، الذي كان يتواءم وضلالات الاتكال على أشخاص لا يملكون للناس ضررا ولا نفعا تلك البدع المنتشرة في الجزائر حين ذاك".[2]
في الحرب العالمية الأولى، كان بن نبي شاهدا على أبناء وطنه (الجزائر)، وهم يصدرون إلى مواقع القتال جنبا إلى جنب مع مختلف المواد الأولية، التي كان الاستعمار ينهبها دون مقابل، وهو أمر جعل مالك بن نبي يشعر منذ طفولته بالواقع الرديء والبئيس الذي أفرزته الظاهرة الاستعمارية.[3]
بعد هجرة مالك بن نبي إلى فرنسا، حاول أن يلتحق بمعهد الدراسات الشرقية، وعندما لم يتمكن من ذلك، فضل الانتماء لمدرسة للاسلكي التي تخرج مهندسين مختصين في الكهرباء، وهو أمر جعله يكتسب تكوينا علميا.[4] فتجربة الهجرة جعلت بن نبي يتعمق أكثر في اكتشاف الهوة الحضارية التي تفصل المجتمعات الإسلامية عن الغرب، مما يستلزم في نظره مضاعفة الجهود في البلاد الإسلامية لإدخال التقنية، وقيمتها الحضارية في البرامج التربوية التغييرية الإصلاحية التي تنشد التغيير، والاستقلال الحضاري للأمة الاسلامية.[5]
مالك بن نبي وهم فكرة الإصلاح
يرى إبراهيم رضا، أن المنظومة الحضارية لابن نبي، لا تمثل في الحقيقة سوى بديل من بين البدائل الأخرى، التي قدمها المفكرون المصلحون، سواء منهم الذين اطلع على أفكارهم ونظرياتهم في الإصلاح والتغيير، أو الذين عاصرهم واحتك بأفكارهم وأطروحاتهم المختلفة. فقد ظل طلب التغيير هو الهاجس الذي يسكن كل البدائل والمشاريع الفكرية والحضارية التي قدمت في البلاد الإسلامية، خلال مرحلة الاستعمار وما بعده.[6]
ويمكن تقسيم تيارات الإصلاح بشكل عام إلى شقين: تيار تقليدي وتيار تغريبي. فالأساس الذي قام عليه التيار التقليدي في نظر بن نبي "لم يسجل إذن في نسق الأحداث التاريخية، فهو بهذا يعتبر (مزلقة) لا تؤدي بالإنسان إلى مرحلة من الوعي، بل إلى مرحلة يتعلم فيها ما يتصل بعلم الكلام؛ أي إنه يسلك المنهج الذي سبق أن سلكه المسلمون في عصر ما بعد (صفين) فهو إذن إصلاح للعلم، قلما، يمس البتة مصير المجموعات الإنسانية".[7]
أما التيار التغريبي، فالغرب يمثل له النموذج والمثال، الذي ينبغي اتباعه، فكل من يعترض عن هذا النموذج، ويقول بالتمايز الحضاري بين الأمم والمجتمعات، فهو رجعي وسلفي وظلامي، يكره التقدم ولا يفقه التحضر. فحالة العالم الإسلامي في هذه الحالة مثل المريض الذي لم يتم تجسيد وتحديد مرضه من لدن طبيب مختص، وذهب إلى الصيدلية مباشرة ليشتري الدواء دون معرفة المرض وسببه، وهي حالة تفضي إلى الموت الحضاري.
وهناك شق آخر جمع بين التيارين التقليدي وتغريبي، وهو التيار التوفيقي، والتوفيق لا يتضمن على الأغلب منهجا واضحا؛ لأنه يسلك مسلك الانتقاء، ويتحول بذلك إلى تلفيق، وكل من التوفيق والتلفيق لا يؤدي إلى تقدم حضاري منشود.
ولابن نبي وعي مبكر، بمشكلة الكثير من الكتابات الاستشراقية، الفاقدة للموضوعية، والتي تنظر إلى الشرق والعالم الإسلامي من زاوية المركزية الغربية، وفي هذا السياق يحذر من الدراسات الاستشراقية التي تمدح ماضي المسلمين؛ لأن ذلك يساهم في الحد من فاعلية الإنسان المسلم ويدفعه للهجرة من واقعه إلى واقع تاريخي. "فحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي أصبحت ثقافة أثرية، لا يتجه العمل الفكري فيها إلى أمام، بل ينتكس إلى وراء. وكان هذا الاتجاه الناكص المسرف سببا في انطباع التعليم كله بطابع دارس لا يتفق ومقتضيات الحاضر والمستقبل. وبذلك أصيبت الأفكار بظاهرة التشبث بالماضي، كأنما أصبحت متنفسا له".[8]
وقد دعا مالك بن نبي لمواجهة تيار الجمود والاعتكاف على التراث لوحده دون فهم علمي، فذلك في نظره يعد "محاربة للدين باسم الدين [وهو] أهم شعار يمكن أن نصف به جماعة المفكرين المسلمين الذين لاذوا بالفرار عندما بهرتهم الحضارة الغربية، ففضلوا الاستكانة والرجوع إلى إسناد ظهورهم على جدران الحضارة الإسلامية، لقد واجهتهم الحضارة الغربية بما بهرهم، وسحر أبصارهم، وبعث خيالهم إلى استلهام مجد حضارتهم، ورشف كؤوسهم على تعداد ما أنتجته الحضارة الإسلامية السالفة".[9]
لا شك في أن مالك بن نبي قد استفاد من طروحات وأفكار رجال النهضة، وهذا لم يمنعه من مراجعة الكثير من أفكارهم، فهو يخلص مثلا إلى أن جمال الدين الأفغاني، رغم أنه كان باعث الحركة الإصلاحية، فإنه لم يكن في ذاته مصلحا بمعنى الكلمة؛ [10] أي إنه لا يملك مشروعا واضح المعالم في الإصلاح والتغيير، كما أنه أشاد بطرح محمد عبده بالتركيز على موضوع التربية وتغيير الأفكار لتغيير ما بالأنفس والمجتمع، ففي نظره لا ينبغي الاكتفاء بشعار التربية لوحده؛ إذ بالضرورة تزويد كل ذلك بثقافة العصر.[11] الحس النقدي عند مالك بن نبي جعله يقف موقف النقد من أفكار سيد قطب، الذي كانت أفكاره نتيجة أزمة نفسية عند زيارته لأمريكا، كما أنه لم ينجر إلى مواقف مجانية ليكون ضد جمال عبد الناصر، وهو أمر جعله في نظر المحسوبين على الإسلام السياسي، بأنه طالب حضارة وليس طالب دعوة، وهو أمر صحيح؛ ففلسفة الحضارة تقتضي النقد والتحليل وإيقاظ ملكات العقل والقلب، بينما الاستقطاب إلى التنظيمات الحزبية والدعوة لها، يقتضي العاطفة الجياشة والحماس والشعارات، والكيل بمكيالين؛ فالإسلاميون لم يجدوا في أفكار مالك ما يقوي شوكتهم بتجميع عموم الناس من حولهم. وليس من الغريب أن يكون جودت السعيد الداعي إلى شرعة السلم والسلام، من بين الذين تأثروا بأفكار بن نبي.
ميز مالك بن نبي بين حالة تكديس الحضارة، وبين حالة روح الحضارة، وقد حذر العالم الإسلامي من آفة التكديس، ودعاه ليقدم حالة الروح على حالة التكديس. وإذا تمعنا في واقنا اليوم، سنجد أننا في حالة من التكديس التي تجعلنا لافي حالة التبعية والاستهلاك، فنحن لا نصنع لباسنا ولا ننتج غداءنا ونصنع دواءنا، كل ما بين أيدينا هي مواد أولية نقايضها مع الغير، أو يعتد علينا في بعض من الصناعات الثانوية التي تقدم ولا تؤخر، من أجل مصلحة الغير وليس مصلحتنا. الآن، عندما تنزل في أي عاصمة من عواصم العالم الإسلامي، فقد لا تحس بالفرق، بينها وبين مختلف الدول الغربية من جهة المستلزمات اليومية والمرافق والمنشآت...الفرق، هو أنك في العالم الإسلامي داخل حضارة مكدسة ومستوردة بالكامل، وفي الغرب فأنت في حضارة تملك روحها؛ فالتكديس ما هو إلا استيراد للمبيعات والأشياء بشكل مفصول عن روح الحضارة، ومع الأسف أن العالم الإسلامي مهووس بالأشياء بدل البحث في الأفكار التي من ورائها. "فالحضارة هي التي تصنع منتجاتها، وعليه فلو أننا عكسنا القضية بأن نحاول صنع حضارة من منجاتها فسيكون هذا بكل بساطة من قبيل ـ وضع المحراث أمام الثورـ هذا الانقلاب في الوضع هو الذي يتسم به التقدم الفوضوي البطيء للنهضة الإسلامية، ونحن ندين له بهذا التكديس والتكويم الذي يبدو أنه يقود تطور المجتمع الإسلامي نحو حضارة شيئية".[12]
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
[حضارة = إنسان + تراب+ وقت][13]
بهذه المعادلة الفيزيائية، حدد مالك مفهوم الحضارة، فهي في نظره لا تتجاوز هذه العناصر الثلاثة، ولا شك أن الفاعل المحوري بين هذه الثلاثية هو الإنسان، فبدونه لا يمكن أن نتحدث عن شيء اسمه الحضارة التي لا تقتضي التركيب والبناء والربط بين عنصر التراب والوقت من لدن الإنسان، وهذا يستحيل وقوعه مع المخلوقات الأخرى، وهذا يدفعنا إلى القول إن الإنسان إما داخل الحضارة بقدرته على التركيب بين هذين العنصرين، أو خارج الحضارة بعجزه وضعفه عن التركيب والربط بين هذين العنصرين، هذا يدفعنا إلى السؤال، ما هي العوامل والدوافع التي تجعل من الإنسان قادرا على التركيب؟.
هذه القدرة يكتسبها الإنسان استجابة لفكرة ما؛ لأن أي "حضارة ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدفع به إلى التاريخ"[14]، ومن هنا تأتي أهمية الفكرة الدينية وما يتمحور حولها من أفكار؛ لأن الحضارة في نظر مالك بن نبي ما هي إلا استجابة ونتائج للفكرة الدينية "فكلما أوغل المرء في الماضي التاريخي للإنسان في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو في المراحل البدائية لتطوره الاجتماعي وجد تطورا من الفكرة الدينية"[15]؛ فالحضارة "لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية"[16] إلا أن مالك بن نبي يميز بشكل دقيق بين الأفكار الميتة والأفكار الحية، فالعقيدة الدينية ونقصد هنا الإسلامية لم تأت إلا بأفكار حية تزرع الحياة في الإنسان وتهبه القدرة على الإبداع والتركيب، والذي ينبغي أن يتنبه إليه الإنسان هنا هو ضرورة أهمية التجديد في عالم الأفكار، وإلا بقي رهين أفكار خرجت من دائرة الحياة إلى دائرة الموت. ومن هنا "يمكن القول إننا إذا عرفنا تاريخ مجتمع معين، فسنجد أنه كما أن لديه مقبرة يستودعها موتاه، فإن لديه مقبرة يستودعها أفكاره الميتة، الأفكار التي لم يعد لها دور اجتماعي"[17]، وهذا ما نص عليه القرآن في مواطن عديدة، بالدعوة إلى تكسير كل أصنام الآبائية والتقليد والتقوقع، قال تعالى: "قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)" (سورة المائدة) فالحضارة في نظر مالك بن نبي تأتي في صلة الإنسان بعالم الأحياء بدل الأموات، وبعالم الشهادة والعلم والمعرفة بدل الوهم والخرافة، وبهذا فبناء الإنسان هو المدخل الأساس في بناء الحضارة بدل وهم الاكتفاء بالنظر إلى الأشياء في معزل عن الأفكار. وعليه فالعالم الإسلامي لم يميز بعد بين تكديس الحضارة وبنائها.
يرى إبراهيم رضا، أن مشروع مالك بن نبي لم يلق العناية اللازمة، بالمقارنة مع من هم أقل منه تفكيرا وتنظيرا وكتابة، كأن هناك حصارا غير معلن عن أفكار هذا الرجل داخل العالم الإسلامي وخارجه، [18] فالغاية من كتابته حول مالك بن نبي كانت بهدف المساهمة في تقريب أفكار الرجل الذي فكر من أجل الانسان والإنسانية.
[1] مالك بن نبي، شاهد على القرن، دار الفكر، ط.1، 1970، ص.25
[2] نفسه، ص. 105
[3] إبراهيم رضا، المنظومة الحضارية عند مالك بن بي، مركز الدراسات والأبحاث، مؤسسة خالد الحسن، الرباط. ط.1، 2020م. ص.29
[4] نفسه، ص.42
[5] المنظومة الحضارية عند مالك بن نبي، م. س. ص. 43
[6] نفسه، ص. 59
[7] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، 1980م، ص.145
[8] نفسه، ص.54
[9] شايف عكاشة، الصراع الحضاري في العالم الإسلامي، دار الفكر، ط.1، 1926م، ص. 17
[10] المنظومة الحضارية عند مالك بن نبي، م. س. ص. 88
[11] نفسه، ص. 92
[12] مالك بن نبي، فكرة الأفريقية الأسيوية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، طبعة 1981 ص.82
[13] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، دار الفكر طبعة 2000م، ص.49
[14] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم في العالم الإسلامي، ترجمة الدكتور بسام بركة والدكتور أحمد شعبو، إشراف وتقديم المحامي عمر مسقاوي، دار الفكر، طبعة 2000م ص41
[15] نفسه، ص.29
[16] شروط النهضة، م. س. ص.56
[17] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر، ص.46
[18] المنظومة الحضارية عند مالك بن نبي، م. س. ص. 292