المنعطف اللغوي
فئة : ترجمات
المنعطف اللغوي[1]
مايكل دوميت
ترجمة: هشام المنجلي
لعل ما يميز الفلسفة التحليلية في مختلف مظاهرها عن باقي التيارات الفلسفية الأخرى، هي أنها أولا تذهب إلى الاعتقاد بأن التحليل الفلسفي للغة يمكن أن يقود إلى توضيح فلسفي للفكر، وثانيا الاعتقاد بأن هذه الطريقة هي الشكل الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى توضيح شامل. وقد مثل هذان المبدآن التوأم، كل من الوضعيين المناطقة وكذا فيتغنشتاين في مراحل تطوره الفكري، وأيضا فلاسفة أكسفورد (فلاسفة اللغة العادية)، تماما كما هو الحال في الفلسفة التي جاءت بعد كارناب في الولايات المتحدة الأمريكية، التي مثلها كل من كواين QUINE ودافدسون DAVIDSON، وإن كانت بينهما اختلافات كبيرة.
تلك الأسبقية للغة على الفكر في نظام التفسير، تعكسها العديد من الأعمال الأخيرة المكرسة في التقليد التحليلي، حيث إنهم زعموا أن اللغة لا يمكن تفسيرها إلا بالاعتماد على عدة مفاهيم في أنماط الأفكار المختلفة التي يمكن التأمل فيها في استقلال عن تعبيرها اللغوي. ويبقى كتاب "أصناف الإحالة" لغاريت إيفناس[2] GARETH EVANS خير مثال يمكن الاستشهاد به في حديثنا عن هذا التيار الجديد، الذي حاول فيه تحليل فكرة تدور حول موضوع ما، في صورها المختلفة بشكل مستقل عن اللغة، وبعد ذلك الشروع في تفسير مختلف الأساليب اللسانية التي تحيل على هذا الموضوع بالاستناد على هذه الكيفية في التفكير. لكن وفقا للخصائص التي وضعها إيفانس EVANS هنا، لا يمكن اعتباره فيلسوفا تحليليا، فهو ينتمي حقا إلى التقليد التحليلي، حيث اعتمد في كتابه السابق، على الركائز الثلاث، ألا وهم راسل ومور وفريجه، ولكن مع ذلك، فإنه لا يرتبط بالتوجه التحليلي إلا بقدر ما يناسب هذا التقليد، الذي يتميز بأسلوب فلسفي معين، جعله يستدعى مفكرين آخرين.
ظهرت الفلسفة التحليلية كما حددتها سابقا مع الانعطاف اللغوي، ومما لا شك فيه أن هذه النهج الجديد لم يسلك في فترة تاريخية محددة وبطريقة متجانسة من قبل مدرسة فلسفية معينة؛ فالمثال الواضح الأول الذي أعرفه يوجد في عمل فريجه "أسس الحساب" الذي يعود تاريخه إلى عام 1884، وفي نقطة محددة من هذا الكتاب، فريجه أثار السؤال الكانطي التالي: إذا لم يكن لدينا لا تمثل ولا حدس للعدد، فكيف أعطي لنا؟[3] تعتمد إجابة فريجه على مبدئه المشهور للسياق، والذي وضعه في المقدمة كأحد المبادئ المنهجية الأساسية الذي سيتبعها في كتابه[4].
غير أن مبدأ السياق هذا، قد صيغ وكأنه أساس حاسم في مقاربة اللغة، وليس كقاعدة للتحقيق والبحث في أنماط الفكر، وإذا تمت صياغته كطريقة للتحقيق، فإنه سيقول لا وجود لفكرة عن موضوع ما، إلا إذا تعلقت هذه الفكرة به تحديدا، حيث نتخذ هذا الموضوع، على نحو خاص، محور تفكيرنا.
جوابا عن السؤال الكانطي، قال فريجه إن الأعداد تعطانا عبر إدراكنا لأفكار تامة بدورها، وخلال بحثه سيحدد ما يستلزمه تصور الأفكار المتشابهة. ولكن على هذا النحو، لم يتم التعبير عن مبدأ السياق، ما لم يعبر عنه على نحو الأطروحة التي مفادها أن الكلمة لا تأخذ معناها إلا في سياق القضية، هذا ما يبرر السبب الذي جعل فريجه يتساءل عن كيفية تحديد معنى القضايا التي تتضمن عبارات عددية، سيجد هذا السؤال الإبستمولوجي جوابه، في البحث في اللغة.
إن كتاب الأسس لا يحتوي على أي تبرير للمنعطف اللغوي، هذا الأخير حدث ببساطة، كشكل طبيعي للنهوض بالبحث الفلسفي، ومع ذلك يؤكد فريجه في سياق تطوره دون شك وبكل إصرار، أن بحثه لا يتخذ من القضايا التي بواسطتها تعبر الأفكار عن نفسها موضوعا له، بل اتخذ كموضوع لبحثه، تلك الأفكار نفسها.
لدى فريجه انطباع متزايد على أن اللغة الطبيعية هي عائق أكثر من كونها مرشد بالنسبة إلى البحوث المنطقية والفلسفية. إنه مقتنع بشكل خاص بعد فشله في حل مفارقة راسل بشكل مقنع، لهذا لم ينجح في إنجاز المهمة الأساسية التي فرضها بنفسه، ألا وهي تأسيس النظرية وتحليل الأعداد على مبادئ صلبة لا يمكن التلاعب بها. ففي أغسطس 1906 كان لديه حدس بأنه سيتخلص كليا من تصوره السابق عن الأشياء المنطقية وماصدقات المفاهيم التي يتضمنها - كما يتهم اللغة بأنها تعطينا الوهم بوجود أشياء مشابهة من خلال منحنا إمكانية إنشاء مصطلحات فردية ظاهرة ذات الصورة (ما صدق المفهوم ب). لهذا السبب، كتب ل هوسرل في نونبر 1906: "تقوم المهمة الأساسية للمنطقي على تحليل اللغة"، وفي مقالة (مصادر المعرفة) المكتوبة في عامه الأخير، كرر فريجه أن "الجزء الأكبر من وظيفة الفيلسوف تقوم على صراع اللغة". هل يؤدي المنعطف اللغوي القائم على الأسس إلى الطريق الخطأ؟ فرغم أنفه، هل أصبح فريجه نذير للفلسفة التحليلية في الوقت الذي اتبع طريقا أخر؟. هذا التشخيص يبقى سطحيا في علاقته بالأشياء.
و في الأعمال الأخيرة (من الفصل الأخير من عام 1906 حتى وفاته) لفريجه، نجده يهاجم فيها بقوة اللغة الطبيعية، ويؤكد على حقيقة أن الأفكار تتجلى من خلال القضايا. وفي رسالة إلى لودفيج دارمشتيدرLudwig Darmstaedter [5] كتب فرجيه: "يمكن اعتبار القضية بمثابة انعكاس للفكر، بالقياس إلى العلاقة بين القضية وأجزائها التي تتطابق إلى حد ما مع الفكر وأجزائه". فقد تكون اللغة مرآة مشوهة، لكن لا نملك بديلا عنها.
إن هذا التشخيص يبقى سطحيا، ولنا في الحقيقة دليل على أن فلسفة فريجه تشمل تيارات عميقة تؤدي إلى البحث في الفكر عن طريق تحليل اللغة، ومن الواضح أنه هو نفسه لا يعي مصدر هذا التيار الذي أنتج العديد من النظريات ومنع أخرى.
في مؤلف الأسس لم تتأثر وجهة نظره حول اللغة، بالإحساسات المتضاربة التي عالجها فيما بعد، إلا أن المنعطف اللغوي الذي أحدثه هذا العمل، كشف النقاب عن الاتجاه العام لتفكيره، وهو الاتجاه الذي سيكون غامضا، لكن ليس مختلفا تماما بسبب تحفظاته اللاحقة حول الثقة التي وضعها في الأنماط اللغوية.
سنطرح للنقاش ثلاث خصائص مميزة لفلسفة فريجه، جعلت الانعطاف اللغوي امتدادها الطبيعي، رغم كون فريجه نفسه لم يكن مقتنعا بهذه الكيفيات.
1- التعرف على مكونات المعنى La reconnaissance des composantes du sens كعناصر مكونة للفكر الذي يعتمد على الإلمام ببنية القضية التي تعبر عن الفكر. يؤكد فريجه أن بنية الفكر ينبغي أن تعكس بنية القضية والوقائع المعبر عنها، ويبدو هذا أساسيا لمفهوم التعبير عن الفكر، (بدلا من مجرد ترميز الفكر)، على العكس، دون الإحالة إلى التعبير اللغوي للفكر، يكاد يكون من المستحيل توضيح ما المقصود ببنية الفكر، فلا نقول إننا نستطيع البلوغ إلى البنية القضوية بشكل صحيح، دون الأخذ بعين الاعتبار معنى القضية.
وعلى العكس من ذلك، يقودنا التحليل التركيبي إلى أن نضع مسبقا، أعيننا على التفسير الدلالي الذي يتعلق بتحديد شروط صدق أو كذب القضايا الدالة على مكوناتها. هذان المفهومان؛ أي مفهوم بنية القضية ومفهوم بنية الفكر ينبغي معالجتهما في آن واحد، وهذا يكفي للتخلص من الفكرة التي مفادها، أنه من الممكن فحص بنية الفكر دون الإحالة إلى تعبيره اللغوي. وفي المقابل، لا يوجد اعتراض على فكرة فحص اللغة، باستعمال فحص مباشر للفكر- على اعتبار أنه لا يقبل النقل اللغوي. فالقضية تعبر عن الفكر بحسب خصائصها الدلالية، وحسب بعض الطرق التي تسمح بالحكم عليها بالصدق أو الكذب. فحين نحيط بالخصائص الدلالية للقضية، يتم الإحاطة بالفكر، والحديث عن بنية القضية الدالة، يعني الحديث عن العلاقة الدلالية القائمة بين عناصر القضية.
هذا الأمر مقبولا، خصوصا بالنظر إلى التفكير العام لفريجه حول استنباط "المفهوم" (بالمعنى الفريجي للمفهوم قبل عام 1890[6]*عن طريق التحليل الكامل للفكر). فإجراء هذه العملية على القضية لأول مرة سيحدثه فريجه، بعدما تبع ذلك اختراع لغة رسمية تمثل المنطق الرياضي بالكامل أطلق عليها اسم Idéographie، حين كتب فريجه لراسل في يوليوز 1906: "تحليل القضايا يتطابق مع تحليل الفكر".
فليس هناك مشكل في حديث فريجه عن تحليل الفكر، بل إن ما يثير الإشكال على وجه الخصوص، هو ما إذا كان يمكن تفسيره دون الإحالة على مفهوم القضية؛ لأنه عندما نطبق هذا الإجراء على القضية فهذا لا يعني فقط انتقاء اسم صحيح يحتوي عليه، وإنما أيضا اكتشاف تكرارات خاصة بهذا الاسم الذي يمكن أن نستبدله بصيغ أخرى تحل محله. فالنهج الذي ينبغي علينا أن نسلكه هو أن نكون قادرين على توضيح حالة معنى الاسم في الفكر، دون الاعتماد على شكل تعبيره اللغوي، وهذا يعني أنه لا يوجد هناك شيء واضح.
2- إن فريجه مقتنع بأن الفكر الذي نقصده يحتمل الصواب أو الخطأ، في حين أن القضية، لا نقول عنها صادقة أو كاذبة إلا في المعنى الاشتقاقي، إذ بالنسبة إلى فريجه القيمة الصدقية للقضية تتحدد بالإحالة على مرجعها، وهذا يعني في المقام الأول أن معنى القضية هو الذي يجعلها تحيل على مرجعها، في حين أن القضية لا يحصل عليها إلا بالمعنى المشتق. ففريجه اهتم قليلا بتعميم هذا المبدأ على جميع العبارات، إلا أنه اعترف صراحة بالتعديل الذي أحدثه، وبالتالي فليس المقصود هو الاسم في حد ذاته، وإنما المقصود على سبيل المثال هو معنى الاسم الذي يتعلق في المقام الأول بالموضوع الذي يحيل عليه.
في الحقيقة فريجه لم يكن حريصا على تنظيم تلك الخصائص، عندما قدم توضيحا بخصوص التمييز القائم بين المعنى والإحالة. فهو لم يعمل أبدا على تقديم مفهوم المعنى لوصف الإحالة كأنها خاصية مميزة للمعنى، بل انطلق أولا بالحديث عن حقيقة أن هذه العبارة، لها مرجع، ثم دخل في جدال بعد ذلك، حول كون العبارة لها معنى أيضا، فوضح على ماذا يقوم هذا المعنى. في الواقع لا يمكن لفريجه أن يتجنب الحفاظ على هذا الترتيب في تفسيراته، وهذا يعود إلى تصوره لمعنى العبارة، باعتباره الوسيط الذي يحدد لها مرجعها، وتبعا لهذا التصور فإن معنى القضية لا يمكن توضيحه إلا بالرجوع إلى مفهوم الإحالة، ولهذا السبب نحتاج في المقام الأول إلى المفهوم.
لكن إذا عدنا أولا إلى مفهوم الإحالة قبل المعنى، فلا يمكننا فهم الإحالة كخاصية للمعنى؛ لأنها ببساطة خاصية للعبارة، ويترتب على أطروحة فريجه هاته، التي توحي بكون الإحالة تعزى إلى المعنى، أطروحة خاطئة. وهذا الخطأ يظهر بوضوح في الجزء الأول من مؤلف القوانين الأساسية grundgesetz. في هذا النص، يكشف فريجه عن قصده في فهم نزعته الرمزية بالاعتماد على التعاريف (Festsetzungen) التي تنص على أن كل عبارة، سواء كانت بسيطة أو مركبة، لها مرجعها الخاص. تلك التعاريف في مجملها، تحدد لكل صيغة الشروط التي بموجبها تكون العبارة صادقة، وبهذه الشروط فقط يحضر المعنى، كما أن هذه التعريفات ستكون ملتبسة إذا كان مرجع العبارة مشتق من المرجع الذي يلائم المعنى، حيث لا يمكننا فهم المضمون الفكري الذي تحيل عليه العبارة، إلا في ارتباطها بمعناها.
وعلى عكس هذه الطريقة، ففريجه يعلن أن المعنى في العبارة الصورية لا يفسر، إلا بوضع الشروط التي تحدد مرجعها، ويفسر المعنى بالرجوع إلى الشروط التي تحكم المرجع. وينبغي أن يكون معنى القضية في اللغة الرمزية هو المضمون الفكري الذي يستوفي الشرط المنصوص عليه في المحددات المرتبطة بالمرجع، وبفضله تكتسب القضية قيمتها الحقيقية. وينبغي أن يكون معنى كل العبارات التي تؤلفها يساهم في تحديد شروط تلك العبارات الجزئية. وعلى خلاف نظرية فريجه الأساسية يجب أن نعلم بأن ما تدل عليه القضية فهو صادق، قبل التمكن من معرفة أن ما تدل عليه يعبر عن الفكر، بل قبل معرفة، أن ما تدل عليه القضية له معنى، ولابد أن نعرف أن هذا الشيء له مرجع.
يعتبر فريجه أساسا أنه من الممكن تناول الفكر بكيفية أخرى دون تعبيره اللغوي، إلا أن تفسيره للمعنى لا يسمح بإدراك كيف يكون هذا ممكنا؛ أي كيف نتوصل إلى أن تناول فريجه للمعنى بكيفية أخرى على غرار نسبة معنى العبارة إلى مرجعها، هذه الصعوبة لا يتم حلها بالقول أن الإحالة يمكن أيضا أن تعزى بشكل مباشر إلى المعنى؛ لأن هذا الأخير حدد بوصفه الطريقة التي تحيل بها العبارة على شيء؛ أي الطريقة في الإحالة. ولكي يصبح هذا التفسير مفهوما يجب أن يكون لها شيء تحيل عليه هو مرجعها. وهنا تظهر نقطة من عديد نقاط التوتر والخلاف بين النظريات العامة لفريجه والتفسيرات التفصيلية التي يقدمها لإشكالية المعنى والإحالة.
3- وببساطة كل عبارة حسب فريجه لها معنى، ولا يظهر معناها بالضرورة أثناء استعمالها. فالمعنى في حد ذاته موضوعي. لذا فهو قابل لأن يدرك من طرف عدة ذوات، عند هذه النقطة عادة ما نكشف أن موضوعية المعنى غير كافية لضمان موضوعية التواصل؛ لأن هذا يتطلب الإقرار بالشرط الإضافي الذي قلما تحدث عنه فريجه، والذي بموجبه يمكن للمرء أن يؤسس بشكل موضوعي للمعنى المرتبط بكل عبارة. ومن أجل توضيح هذا الشرط الإضافي، نحتاج إلى توضيح المقصود بهذا المعنى المرتبط بالعبارة. هذا الإشكال لم تتم مناقشته بشكل صريح من قبل فريجه، بيد أن اهتمامه انصب بكل وضوح على مسألة تقتضي ضمنيا المعرفة باللغة، من خلال الاعتراف بأننا نلتزم (نتمسك) بالتصور الفريجي للمعنى. فمعرفة المعنى الذي تتمفصل الكلمة أو العبارة المركبة حوله، هو ما يحدد شروط صدق القضايا.
إن الأفكار بالنسبة إلى فريجه لا يمكن للمرء أن يصل إليها بمجرد التعبير عنها بلغة أو بعلامة تكون ملائمة للعبارة اللغوية؛ لأنها تنتمي إلى ماهية الفكر، ومن ناحية أخرى فهو لا يعتقد أن الفكر هو في جوهره معنى القضايا، سواء في اللغة الحقيقية أو الافتراضية. لهذا في نظره، لا يوجد تناقض في تخيل كائنات تمتلك نفس أفكارنا، لكن يمتلكونها بشكل عاري؛ أي دون غطاء لغوي.
وحسب هذه الكائنات، فإن الأفكار المجردة (العارية) التي يمتلكونها، فهي على النقيض من التفسير الذي قدمه فريجه حول معنى القضية، كما سبق وأن رأينا. فمن الصعب معرفة كيف يمكن تقديم تفسير للأفكار العارية بشكل يتطابق مع التفسير الذي أعطاه فريجه للقوانين الأساسية Grundgesetze للأفكار الواردة في قضايا اللغة الصورية. ففي هذه الحالة، من الواضح إذن، أنه لا يوجد شيء يمكن أن يكون صادقا أو كاذبا خارج إطار الفكر وخارج إطار مكونات المعنى، ولا شيء قادر على تحديد شروط صدقهم. فبين المعنى وتملك المعنى توجد علاقة تبدو أنها متبادلة: حيث إن المعنى الذي لا يمكن امتلاكه يكون وهميا. فعند معرفتنا بشكل محدد لمعنى التملك [7]le saisir، نعرف أيضا المعنى المقصود، وعلى العكس عند معرفتنا للمعنى المقصود، يجب أن نعرف أيضا كيفية تملكه، فإن كان فريجه محقا في اقتراحه حول تملك (الإحاطة والإلمام) الفكر العاري، فإنه من الواجب أن نكون قادرين على قول ما يعنيه تملك (الإحاطة والإلمام) الفكر في عرائه، رغم كوننا غير قادرين على ذلك؛ لأنه من الصعوبة بمكان معرفة كيف يعلن هذا المفهوم عن لا تناقضه، عندما لا نكون في مستوى تفسير ذلك.
ومع ذلك، بالقدر الذي يمكننا من الوصول إلى الفكر نفسه من خلال تعابيره اللغوية، ينبغي أن يكون من السهل توضيح ما يدل عليه فعل تملك الأفكار المعبر عنها في القضايا، هذا التوضيح سيغدو ضروريا عندما ستنكشف الكيفية التي تكون بها اللغة هي الأداة الكفيلة بالتعبير عن الفكر ونقله، لذلك نصل إلى الفكرة التالية التي مفادها، أنه يمكن لفريجه توضيح ما تدل عليه القضية المعبرة عن الفكر. لذلك، فإما أن الوصول إلى تحليل موازي للعناصر المكونة للفكر العاري (المجرد) دون الرجوع إلى اللغة أمر ممكن، أو أنه غير ممكن، فلو كان ذلك ممكنا، فباستطاعتنا استنتاج التحليل غير اللغوي للأفكار بالاعتماد على تحليل اللغة. وإذا كان غير ممكن، فليس بوسعنا أن نقدم تحليلا للأفكار بالرجوع إلى اللغة، وهذا ما يقودنا إلى المسلمة الأولى للفلسفة التحليلية وليس الثانية. لكن في الحالات الأخرى، يتم تأسيس المسلمتين معا.
إن السؤال ما الذي يمنح للقضية معناها؟ يمكن الجواب عنه بأن المتكلمين يفهمونه بهذا المعنى، بينما السؤال على ماذا يتوقف فهم القضية عند المتكلمين؟ يجيب فريجه حسب تحليله للقوانين الأساسية Grundgesetze، "إنه يتوقف على رؤيتهم للقيمة الصدقية للعبارة، كما هو محدد بالشكل الصحيح"، أو "إنه يتوقف على اعتقادهم بأن القضية تصبح صادقة إذا توفرت شروط صدقها بشكل دقيق"[8]، وبالتالي فإن تفسير المعنى عند فريجه يعتمد على مفهوم الصدق، وهذا واضح من خلال مقالته المعنونة بالفكر، التي قال فيها: "ما أدعوه الفكر يحافظ على علاقة وثيقة جدا مع الصدق"[9] هذا الأمر قاده إلى طرح سؤال آخر، ما الذي يحدد شروط صدق القضايا؟ ومثلما يرتبط المعنى ارتباطا وثيقا بالصدق، فإن هذا الأخير بدوره يرتبط ارتباطا قويا بمفهوم الجزم L’assertion، إلا أن فريجه ما كان يقول شيئا عن هذا المقترح، لو تم تحديد الشروط التي بموجبها تكون القضايا اللغوية ذات قيمة صادقة أو كاذبة، وأن هاتين القيمتين لا تعرف إلا بتحديد (أ) و(ب)، على ضوء هذه المعطيات سيكون من المستحيل اكتشاف أي تحديد من هذين التحديدين (أ) و(ب) يمثل القيمة الصدقية. ولتحقيق ذلك، سيكون من الضروري معرفة على الأقل نموذج واحد للقضايا، وإلا فما معنى أن يستثمر مستعملو اللغة العبارات الجازمة لهذه القضايا.
يشدد فريجه على أنه لا يوجد سبب للجزم على فعل خاص بالنفي، إلى جانب فعل الكلام، لكن، ومثلما لاحظ فيتغنشتاين في مؤلفه الرسالة المنطقية الفلسفية[10]. إنه فعلا لا نستطيع أن نتصور متحدثين بعبارات لغوية سالبة، دون فعل الجزم. فشكل التعبير المستعمل لنقل المعلومات، قد لا نلم به، إلا من خلال قوة الجزم، وكنتيجة لذلك لا يكون الملفوظ صحيحا، إلا إذا كان الجزم صحيحا.
في نظريته عن المعنى والإحالة، فريجه أقصى الطابع الاجتماعي للغة، وركز على قابلية المعنى للنقل، ومع ذلك فإن تفسيره لطبيعة المعنى يمكن أن يكون للعبارات اللغوية الفردية كما المشتركة، بقوتها االلفظية - وقوتها الجزمية والاستفهامية والأمرية والتمني ومختلف القوى الأخرى بلا شك - ومن الصعب تصور وجودها بطريقة أخرى، إلا في علاقتها مع القضايا المعبر عنها في الأفعال اللغوية خلال العملية التخاطبية. فما أحدثه فريجه من تمييز واضح بين المعنى والقوة، وبين الفكر المعبر عنه بالقضايا والقوة المرتبطة بالتعبير عنها، مقتنع به. ويقف هناك دون محاولة تقديم شرح مفصل لمختلف القوى، كل واحدة على حدة، ووفقا لتصوره لم يتوقف حتى عن إمكانية منح تفسير غير دائري لهذه القوى التعبيرية. وكنتيجة لذلك، فمن المستبعد النظر إلى كون نظريته في المعنى مستقلة عن نظرية قوة التعبير؛ لأن قضايا اللغة لا تستطيع التعبير عن كل أفكارها واحدة تلوى الأخرى، إذا لم يكن بالإمكان التعبير عنها بقوة جازمة؛ لأنه ببساطة يمكن استخدامها بالطريقة التي يمكن القول إنها تستوفي شروط الصدق، ويترتب على ذلك، أن دراسة اللغة وتتبعها في تداولها أثناء عملية التواصل، هو امتداد مشروع للنظرية الفريجية، وتكملة ضرورية له.
وهكذا، فقد تبين لنا في أعمال فريجه، العلامات التي تظهر الطابع الحتمي للمنعطف اللغوي، تلك العلامات التي لم يكن فريجه نفسه يحيط بها بشكل صحيح، هذه العلامات توضح لماذا أثارت أعمال فريجه هذا الاهتمام عند ممثلي الفلسفة التحليلية؟ ولماذا يظهر كالأب الروحي الأكبر للفلسفة التحليلية؟ لقد كان فريجه الأول في تاريخ الفلسفة الذي أثار بوضوح تام سؤال ما هي الأفكار؟ وما هي معاني القضايا والكلمات التي تشكلها؟. فبالنسبة إلى أولئك رأوا أن تحليل العبارات اللغوية يقودهم إلى تحليل الأفكار، وأن كل ما تبقى هو تتمة للأسس التي وضعها فريجه.
للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا
_______________________________________________________________
[1]- Le tournant linguistique (ترجمة الفصل الأول من كتاب أصول الفلسفة التحليلية لـ Michael Dummett)
Michael Dummett, Les Origines de la philosophie analytique, Editions Gallimard, 1991, Nrf essais
[2] غاريت إفان، أصناف الإحالة، ترجمة ج مكدويل، مطبعة أكسفورد، طبعة 1982
[3] غوتلوب فريجه، أسس الحساب، 1984، ترجمه إلى الفرنسية، كلود امبرت، باريس، ط 1969، ص، 188.
[4] لقد ورد مبدأ السياق كمبدأ أنطولوجي أساسي في مقدمة كتاب أسس الحساب، الصفحة 122، وفي الكتاب عموما ورد بمعنى جديد (الصفحة 186- 187)، لكي يذكرنا أنه يكفي إدراك أن القضية [satz] في كليتها لها معنى، كي نعرف محتواها من نفس أجزائها، حتى لو كان محتوى الوحدات المكونة للقضية غير قابلة للتمثيل، وفي الفقرة الأخيرة من هذا الكتاب يظهر ذلك بكل وضوح، هذا هو معنى القضايا الرياضية – ومحتوى المصطلحات الرقمية التي تتضمنها- التي يشار إليها. ثم يتم تطبيق المبدأ على الحالة المحددة لقضايا الموضوعات المعرفية، (العبارات البارزة في 106)، ومن الضروري عندئذ تعريف معنى القضية في هويتها أو على الأقل في صورة لفظ عددي يحدد الموضوع المستقل (62$). يذكرنا فريجه في فقرة ملخصة رقم 106، (الصفحة 226) أنه استخدم هذا المبدأ باعتباره المبدأ الوحيد الذي يسمح لنا برفض التصور الفيزيائي للعدد، دون رفض التصور السيكولوجي.) هذه الإحالات كلها تعود إلى كتاب أسس الحساب لفريجه، ترجمة وتقديم كلود امبيرت، باريس، طبعة 1969).
Ludwig Darmstaedter [5]، هو كيميائي ألماني ومؤرخ للعلوم، عاش ما بين 1846 و1927
* قبل ذلك المقالة (الدالة والموضوع) المنشورة في عام 1891، وقبل المقالة (المفهوم والموضوع) المنشورة في سنة 1892، هاتين المقالتين معا ترجما إلى مقال واحد بعنوان: كتابات منطقية وفلسفية، ترجمة وتقديم كلود امبيرت، باريس، ط 1971
[7] في سياق حديث فريجه عن الفرق بين الأفكار الموضوعية والتمثلات الذاتية (في مقالة الفكر، كتابات منطقية وفلسفية، ص 190-191)، إننا نحمل الأفكار مثلما نحمل تمثلاتنا، نملك هذه الفكرة أو تلك، ولكن ليس على النحو الذي نملك به تمثلا حسيا، لهذا فقد أوصى باختيار تعبير خاص، يخدم هذا المسعى، والذي تمثل بالنسبة إليه في كلمة تملك[fassen]، يتعين على قدرة التفكير كقدرة روحية أن تطابق فعل تملك الفكر، فالتفكير ليس إنتاجا للأفكار، بل فعل تملكها. أنظر ميكائيل داميت، أصول الفلسفة التحليلية، ص 38، في الهامش، عن المترجم.
[8] فريجه لم يصغ بوضوح إلا مرة واحدة مفهومه حول فعل تملك معنى[Sinn] القضايا في مصطلح Une saisie، أي (الإلمام) بشروط الصدق، للمزيد من المعرفة أنظر القوانين الأساسية في أسس الحساب، المجلد 1، حيث يقول "كل مفهوم القيمة الصدقية فهو يعبر عن المعنى وعن الفكر [druckt einen sinn,einen Gedanken aus]. فشروطنا هي التي تحدد الظروف التي بموجبها تكون الاحالة صادقة، أي أن معنى الفكر هو الفكرفي شروطه المتحققة.
[9] غوتلوب فريجه، الفكر(1918) كتابات منطقية وفلسفية، الترجمة الفرنسية، كلود امبيرت، باريس، ط 1971، ص، 191.
[10] فيتغنستاين، الرسالة المنطقية الفلسفية (1921)، الترجمة الفرنسية، ب. كلوسوسكي، باريس، ط 1972، ص 79.