المنعطف الميتافيزيقي للفلسفة التحليلية المعاصرة: في العقل والزمن/ ج3 تداعيات ميتافيزيقيَّة: في فلسفة العقل – الحُجَّة من إمكان التصوُّرArgument from Conceivability
فئة : مقالات
المنعطف الميتافيزيقي للفلسفة التحليلية المعاصرة: في العقل والزمن/ ج3
تداعيات ميتافيزيقيَّة:
في فلسفة العقل – الحُجَّة من إمكان التصوُّرArgument from Conceivability
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أفسَحَت فلسفةُ اللغة مجالًا كبيرًا لفلسفة العقل بالنسبة إلى وفرة غير قليلة من الفلاسفة، فقد أدَّى خمود نجم الوضعية المنطقية إلى انخفاض في الاهتمام العام بمشروع اللغة المثاليَّة الذي سيطر على النصف الأول من المرحلة، وبعد صدور كتاب «بحوث فلسفيَّة» لـ «لودفيغ فتجنشتين»، و«الفعل بالكلمات» لـ «جون ل. أوستن»، ارتأى بعضُ الفلاسفة أنَّ حل المشكلات المستعصية في فلسفة اللغة لا يستقيم من دون تحليل للعقل ومشكلاته، وقد كان لكتاب «مفهوم العقل» لـ «جيلبرت رايل» أثره البالغ في إعادة توجيه الاهتمام نحو الأسئلة الفلسفية الكلاسيكية مثل: ما طبيعة العقل؟ وكيف يعمل العقل؟ ما العلاقة بين العقل والجسم؟ وغيرها مما يتبع من أسئلة ذات صِلة. ودفعت محاولات الإجابة عن هذه الأسئلة بالفلاسفة إلى إعادة إحياء المذاهب الميتافيزيقية: الثُنائية والواحديَّة. وأدَّت النقاشات والتحليلات إلى تعديل النظريات الكلاسيكيَّة وتطوير الحُجج. وبلَغَ الجدال مبلَغه حتى استقرَّت المنافسة - نسبيًّا - بين نظريّتين لاقتا قبولًا واهتمامًا أكثر من غيرهما، وهما: الثنائية الديكارتية، ونظرية تطابق الهويَّة الماديَّة.
ونظرية تطابق الهويَّة الماديَّة هي الرؤية القائلة، إن ثمَّة تطابق ماهَوي بين الحالات العقلية والحالات الدماغية، تمامًا كما أنَّ هنالك تطابق ماهَوي بين سائل الماء والمُركَّب الكيميائي H₂O، والادعاء الأساسي لهذه النظرية هو أن تطابق الحالات العقليَّة مع الحالات العصبية في الدماغ يأتي كخاتمة لسلسلة الاختزالات العلمية التي يقوم بها العلماء في اكتشافاتهم، فكما اكتشفنا أن الذهب هو العنصر ذي العدد الذرّي 79، وأنَّ الحرارة ليست سوى متوسط الطاقة الحركيَّة للجزيئات، وأنَّ الجينوم البشري هو نفسه الحمض النووي DNA، نقول، كما اكتشفنا كل ذلك، فكذلك أيضًا اكتشف علم الأعصاب أنَّ الحالات العقلية (مثل الرغبة، الشعور، الاعتقاد) ليست إلا تحفيزًا لمجموعة من الخلايا العصبية في الدماغ. وتجدر الإشارة إلى أنَّ ما يقصده دعاة نظرية التطابق ليس التأكيد على وجود "ارتباط" Correlation بين الحالات العقلية والحالات الدماغية، فمثل هذا الارتباط لا يُنكره الثنائيون، وإنما تتعلَّق المسألة بطبيعة ذلك الارتباط، فبينما يُفسّره الثنائيون بأن علاقةٌ سببية Causality، يرى أصحاب نظرية التطابق أنَّ الارتباط بين الحالات العقلية والحالات والدماغية يمكن تفسيره بعلاقة الهويَّة Identity فالشعور بالألَم، مثلًا، هو نفسه تحفيز لألياف C في الدماغ.
أما الثنائية الديكارتيَّة (أو ثنائية الجوهر Substance Dualism)، فهي الرؤية القائلة بوجود نوعين من الكيانات في العالَم، المادة والعقل، وأنَّ هذين النوعين مُختلفان جذريًّا، حيث إنَّ ماهيَّة المادة هي الامتداد، أمَّا العقل فماهيّته التفكير. والإنسان وفقًا لهذه النظرية يتكوَّن من هذين الجوهرين المتميّزين: عقل يُفكِّر وجسم مُمتد. وأنَّ الرابطة القائمة بين هذين العالَمَين هي التسبيب Causation. ثمَّة حُجج مختلفة تقدَّم بها الفلاسفة لدعم هذه الرؤية، بدايةً من أفلاطون ومرورًا بفلاسفة العصور الوسطى وانتهاءً بديكارت، وكان لنوع الحُجج التي قدَّمها ديكارت نصيب الأسد من الاهتمام بين الفلاسفة، فهي من الناحية التقنيّة تقوم على منطق الجهات Modal Logic؛ إذ تُحاول أن تُقيم التمييز بين العقل والمادَّة على أساس من إمكانيَّة تصوُّرهما متمايزين؛ وذلك من خلال تجربة فكرية مُتَّسِقة منطقيًّا، فإذا تمكَّننا أن نتصوّرهما مُتمايزين، لما كانا مُتطابقين نوعيًّا، وهذا على النقيض مما تدَّعيه النظرية الماديَّة؛ أي التطابق بالهُويَّة. ولهذا، غالبًا ما تسمَّى هذه الحُجَّة بـ ’’الحُجَّة من إمكان التصوُّر‘‘.
نجد واحدةً من أروَع الصِيَغ المُبكّرة لهذه الحُجَّة عند الشيخ الرئيس «ابن سينا» في إثباته لوجود النفس وتمايُزها عن الجسد، يقول «ابن سينا»:
"يجب أن يتوهَّم [أي يتخيَّل] الواحد منّا كأنه خُلِقَ دُفعةً وخُلِقَ كامِلًا، لكنه حُجِب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخُلِقَ يهْوى في هواء أو خلاء هويًّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدمًا ما يَحوج إلى أن يُحسَّس، وفرّق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمَّل أنه هل يُثبت وجودَ ذاته ولا يشكّ في إثباته لذاته موجودًا ولا يُثبت مع ذلك طرفًا من أعضائه ولا باطنًا من أحشائه ولا قلبًا ولا دماغًا ولا شيئًا من الأشياء من خارج. فإن قيل: إن المشعور به هو المزاج. فالجواب: إن المزاج لا يُدرك إلا بالانفعال والمنفعل عنه غير المنفعل، بل كان يُثبت ذاته ولا يُثبت لها طولا ولا عرضًا ولا عُمقًا، ولو أنه أمكنه في تلك الحالة أن يتخيّل عضوًا آخر لم يتخيّله جُزءًا من ذاته ولا شرطًا في ذاته، وأنت تعلم أن المُثبَت غير الذي لم يُثبَت والمُقَرُّ به غير الذي لم يُقَرُّ به، فإن للذات التي أُثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تُثبَت، فإذن المُتنبّه له سبيلٌ إلى أن يتنبّه على وجود النفس بكونه شيئًا غير الجسم بل غير جسم، وأنه عارف به مُستشعر له، فإن كان ذاهلًا عنه يحتاج إلى أن يقرع عصاه".[1]
تُسمَّى هذه النُّسخة السيناويّة بـ ’’حُجَّة الرجُل المُحلِّق‘‘ Floating Man Argument، ويبدو أنَّ الشيخ الرئيس كان يعتزّ بهذه الحُجَّة؛ إذ نجده يذكرها في كتبه الكبيرة ورسائله الصغيرة أيضًا، فنجده يعرضها في كتابه «الإشارات والتنبيهات»[2] أيضًا؛ إذ يقول:
"ارجع إلى نفسك وتأمَّل: هل إذا كنت صحيحًا، بل وعلى بعضِ أحوالك غيرها، حيث تفطن للشيء فطنةً صحيحة، هل تَغفُل عن وجود ذاتك ولا تُثبت نفسَكَ؟ ما عندي أنّ هذا يكون للمستبصر، حتى إنّ النائم في نومه والسّكران في سُكره لا تعزُب ذاته عن ذاته، وإن لم يثبت تمثُّلُه في ذِكره. ولو توهَّمتَ [أي تخيَّلْتَ] ذاتك قد خُلِقَتْ أوّلَ خلقها صحيحة العقل والهيأة، وفُرِض أنها على جملة من الوضع والهيأة لا تُبصر أجزائَها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي مُنفرجة ومُعلَّقة لحظةً ما في هواء طلق – وجدتَها قد غفلت عن كل شيء، إلا عن ثبوت إنّيَّتها".
ما تُخبرنا به هذه التجربة الفكرية التي يُقدّمها لنا «ابن سينا» أنه - وبمصطلحات مألوفة: من الممكن للإنسان أن يتصوَّر – بشكل مُتَّسِق منطقيًّا – نفسه وقد وُجِدَ مُعلَّقًا في الفضاء، حيث لا وجود لأي مُنبّهاتٍ حسّيَّة من حوله، فلا يُبصر ولا يسمع ولا يشمّ ولا يتذوَّق ولا يلمس أي شيء، ثم يتصوَّر الإنسان أن أعضائهُ تنفصل عنه شيئًا فشيئًا، ورغم كل ذلك، لا يستطيع الإنسان في هذه الحالة أن ينكر أنه ما يزال واعيًا بوجوده! ومن ثمَّ، فوجوده ليس هو عين وجود جسمه، مما يعني أنَّ نَفسه (أو وَعيه) هي شيء آخر غير جسمه.
ولكن ما دلالة «الممكن» هنا؟ أو بتعبير آخر: ما الذي يجعل من هذه الإمكانيَّة المُتصوَّرة، حُجَّةً؟ حتمًا لدى «فتجنشتين» المبكر ما يقوله هنا؛ إذ نجد في رسالته المنطقية الفلسفية تقريرًا للعلاقة بين المنطق والوجود والجهات. أعرض فيما يلي فقرات مُنتقاة من «الرسالة» بغرض توضيح هذه المسألة:
3- الفكر هو الرسم المنطقي للوقائع.
2,202- والرسم يمثل أمرًا ممكنًا من أمور الواقع في المكان المنطقي.
2,203- والرسم يتضمَّن إمكان قيام هذا الأمر من أمور الواقع الذي جاء الرسم ليمثّله.
3,02- والفكر هو إمكان الوجود بالنسبة إلى أمور الواقع التي تكون موضوعًا لتفكيره. فما يمكن التفكير فيه، هو كذلك ممكن الوجود.
5,6- إنَّ حدود لغتي هي حدود عالَمي.
5,61- والمنطق يملأ العالَم؛ فحدود العالَم هي أيضًا حدوده. ولذا، فنحن لا نستطيع أن نقول في المنطق: إنَّ العالَم فيه هذا هذا، ولكن ليس فيه ذاك؛ لأنه من الواضح أنَّ ذلك قد يفترض مُقدما أننا نستبعد إمكانات مُعيَّنة، وهذا لا يمكن أن يكون هو حقيقة الأمر، وإلا لتحتّم على المنطق أن يجاوز حدود العالَم؛ أي، إذا كان في استطاعته أن ينظر إلى هذه الحدود من الجانب الآخر أيضًا. إنَّ ما لا نستطيع أن نُفكّر فيه، هو ما لا يمكن أن نُفكّر فيه ولذا، فنحن لا يمكننا أن نقول ما لا يمكن التفكير فيه.
6,13- المنطق ليس نظرية، بل هو انعكاس للعالَم، إنَّ المنطق شيء مُتعالٍ.
المنطق إذًا، وفقًا لهذه النظرة، مُحايث في نسيج الوجود، وقوانينه تسري لا في عالمنا الواقعي فقط، بل في جميع العوالِم الممكنة، ومن ثمَّ فكل ما يمكن تصوُّره بوضوح وبشكل مُتَّسِق منطقيًّا (أي بدون تناقض)، فليس هنالك ما يمنع من صدقه من حيث المبدأ، حتى ولو لم يصدق فعليًّا في عالَمنا الواقعي، فقد يصدق في عالَم ممكن آخر، فالإمكان المنطقي، إذن، يستلزم إمكانًا ميتافيزيقيًّا، أو بتعبيرٍ آخر: الإمكانية تستلزم الاحتماليَّة. وتُعدُّ هذه النظرة للعلاقة بين المنطق والوجود مُصادرةً أوَّليَّةً في الفلسفة العقلانية، وتُسمَّى: مبدأ المعقوليَّة Principle of Intelligibility، وقد عبَّر عنها الفلاسفة المدرسيون بعبارة Adaequatio Intellectus ad rem التي تعني: مُلاءمة الفكر للوجود. ففي ضوء هذه المُصادرة العقلانية نستطيع أن نفهم كيف تُمثّل التجارب الفكرية Thought Experiments حُججًا في الفلسفة وفي العلم أيضًا كما هو مشهور عن «أينشتاين»، وتجاربه الفكرية عن القطارات والمصاعد وامتطاء شعاع الضوء، وكذلك عن «شرودنجر» وقطته، وغيرهما، غير أنَّ التجارب الفكريَّة في العلم غالبًا ما تتقيَّد بالإمكان الفيزيائي فقط، لا المنطقي حصرًا؛ أي ما يمكن تصوُّره بما ينسجم وقوانين الفيزياء في عالَمنا.
الكوجيتو الديكارتيّ Cartesian Cogito: Cogito, ergo sum
تبدأ الحُجَّة الديكارتية من ملاحظة مفادها أنه ينبغي على الإنسان - ولو لمرَّة واحدة على الأقل - أن ينظر بعين الشك إلى كل ما اعتقد بصحّته يومًا، فلعلَّه يكون مُخطئًا بشأن كثير من الأمور، فبالفعل، يحدث لنا أن نتبيَّن أحيانًا خطأَ كثيرٍ من الأمور التي تلقيناها في حداثة عهدنا. فإذا أمكن للإنسان أن يتثبَّت من صدق أمر واحد على الأقل، يستطيع حينئذٍ أن يتخذ من صدق هذا الأمر أساسًا يقينيًّا ليُشيّد عليه بناء معرفته. ولكنَّ مراجعةً شاملةً كهذه أمر يصعب تحقيقه في واقع الأمر، فهي غير ممكنة (من الناحية العملية)، غير أنَّه أيسَر على المرء أن يتشكّك في المصادر التي حصل بواسطتها على هذه الاعتقادات بعامَّة، فهذه المصادر تُمثّل الأساس الذي تُبنى عليه هذه المعتقدات، والتشكيك في الأُسس يؤدّي إلى التشكيك في البناء. ومصدر هذه المعتقدات هو الحواس، فإن ديكارت لَيؤكد على الشعار المدرسيّ بأنَّ ’’لا شيء في العقل إلا وقد سبق مروره على الحِس‘‘[3]، ثم يقول: كل ما حسبته حتى اليوم أشدَّ الأشياء وثوقًا قد تعلَّمته من الحواس، لكنني تبيَّنتُ بالتجربة أن الحواس تخدعني أحيانًا وإذًا فمن الحيطة ألا أعود إلى الثقة بالحواس ثقةً يقينية، فمن الحكمة ألَّا نطمئن كلَّ الاطمئنان لمن خدعونا ولو مرَّة واحدة.[4] ولتأكيد هذه المُقدِّمة يتقدَّم ديكارت بمثالَيْن كافيين لزعزعة الثقة بكل ما نعرفه عن طريق الحواس، وهما (1) الأحلام: لأنه بما أنني إنسان، وأنَّ من عاداتي أن أنام، وأنّي أتمثَّلُ في الحلم نفس الأشياء التي أراها في اليقظة، وأنه لا توجد قرائن يقينيَّة لتمييز اليقظة من النوم، فلا سبيل لي إلا أن أنظر بعين الشك إلى جميع ما تلقَّيته عن طريق الحواس. (2) الشيطان الماكر: لنفترض أنَّ هناك شيطانًا ماكرًا يستطيع - بحيلةٍ ما - أن يخدع الإنسان فيجعله يعتقد خطأً بكل ما يعرفه عن طريق الحواس، فيُوهمه بأنَّ هناك سماء وهواء وأرضا وأجساما توجد حقيقةً كما يختبرها الإنسان، في حين أنها في حقيقة الأمر خدعة من صنع ذلك المخلوق الخبيث.. يبدو ذلك قابلًا للتصوُّر من حيث المبدأ، ومن ثمَّ فليستْ الحواس أساسًا يُعوَّل عليه بثقة. يقول ديكارت:
"وإذن فأنا أفترض أنَّ جميع الأشياء التي أراها باطلة، وأميل إلى الاعتقاد بأنه ما وُجد شيء أبدًا من كل ما تُمثّله لي ذاكرتي بما فيها من أغاليط، وأحسب أنّي خلوّ من الحواس، وأعتقد أنَّ الجسم والشكل والامتداد والحركة والمكان ما هي إلا أوهام من أوهام نفسي. وإذن فأي شيء يمكن في تقديرنا أن يكون صحيحًا؟ لعلَّ شيئًا واحدًا هو الصحيح: وهو أنه لا شيء في العالَم بيَقينيّ! ولكن ما يُدريني؟ لعلَّ هناك شيئًا آخر غير الأشياء التي حكمت منذ قليل بأنها غير يقينية، لا يُستطاع أن يُخالجنا فيه أدنى شك، أليس هنالك إله أو أي قوَّة أُخرى تُوحي إلى نفسي هذه الخواطر؟ ليس هذا ضروريًّا، فلعلّي قادر على إحداثها من نفسي".[5]
ثم يمضي فيسأل:
"وأنا إذن على الأقل، ألستُ شيئًا؟ ولكني قد أنكرت فيما تقدَّم أن يكون لي حواس أو جسم، غير أنّي حيران أُسائل نفسي ما نتيجة هذا؟ هل بلغ من اعتمادي على الجسم وعلى الحواس أنّي لا أكون موجودًا بدونها؟ لكنّي قد اقتنعت من قبل بأن لا شيء في العالم بموجود على الإطلاق: فلا توجد سماء ولا أرض ولا نفوس ولا أجسام، وإذن فهل اقتنعت بأني لستُ موجودًا كذلك؟ هيهات! فإنّي أكون موجودًا ولا شكَّ، إنْ أنا اقتنعت بشيء أو فكرت في شيء. - ولكنَّ هنالك، لا أدري، أي مُضل شديد البأس شديد المكر، يبذل كل ما أوتي من مهارة لإضلالي على الدوام. ليس من شكّ إذن في أنّي موجود متى أضلَّني. فليضلَّني ما شاء، فما هو بمُستطيع أبدًا أن يجعلني لا شيء، ما دام يقع في حسباني أنّي شيء. فينبغي عليَّ، وقد روّيت الفكر ودققت النظر في جميع الأمور، أن أنتهي إلى نتيجة وأخلص إلى أن هذه القضية «أنا كائن وأنا موجود» قضية صحيحة بالضرورة كلما نطقتُ بها وكلّما تصوّرتها في ذهني. ولكنّي لا أعرف بوضوح كافٍ أي شيء أنا، وإن كنتُ موقنًا بأني موجود؛ إذ إنه يجب عليَّ منذ الآن أن أُحاذر من أن يشتبه الأمر عليَّ فآخذ شيئًا آخر بديلًا بي أنا نفسي، فأضل عن الحق، حتى في تلك المعرفة التي أرى أنها أكثر معارفي يقينًا وبداهة".[6]
ويمضي ديكارت في تحليله الشكِّي حتى يستنتج أنَّ ماهية وجوده هي أنه: ’’شيء مُفكِّر، أي ذهن أو روح أو فكر أو عقل: فهي ألفاظ كنتُ أجهل معناها من قبل: فأنا إذن شيء واقعي وموجود حقًّا، ولكن أي شي؟ - لقد قلتُ أنني شيء مُفكِّر.‘‘[7] والنتيجة النهائية التي تخلُص إليها الحُجَّة الديكارتية هي أنه:
"إذا ذهبتُ من كوني أعرف بيَقين أني موجود وأني مع ذلك لا ألاحظ أن شيئًا آخر يخص بالضرورة طبيعتي أو ماهيتي سوى أنني شيء مُفكّر، استطعت القول بأنَّ ماهيتي انحصرت في أني شيء مُفكّر أو جوهر كل ماهيته أو طبيعته ليست إلا التفكير، ومع أنَّ من الممكن (بل من المُحقَّق كما سأُبيّن بعد قليل) أن يكون لي جسم قد اتصلت به اتصالًا وثيقًا، إلا أنه لمَّا كان لديَّ من جهة فكرة واضحة ومتميزة عن نفسي، من حيث إني لستُ إلا شيئًا مُفكّرًا، لا شيئًا ممتدًا، ومن جهة أُخرى لديَّ فكرة متميّزة عن الجسم، من حيث إنه ليس إلا شيئًا ممتدًا وغير مُفكّر، فقد ثبت أن هذه الإنيَّة، أعني بها نفسي التي تتقوَّم بها ذاتي وماهيتي، متميزة عن جسمي تميُّزًا تامًا وحقيقيًّا؛ وأنها تستطيع أن تكون أو أن توجد بدونه."[8]
ليس ثمَّة اختلافٌ جوهريّ بين نُسخة «الرجُل المُحلّق» ونُسخة «الكوجيتو»، فما يُضيفه ديكارت هو تأصيل إبستيميّ للحُجَّة ذاتها، من خلال الشك المنهجي. أمَّا المضمون، فهو عينه: أنَّ العقل (أو النفس) يتميَّز نوعيًّا عن الجسم، وعِلَّة ذلك أنه من الممكن - منطقيًّا - تصوّرهما مُنفصلَين. ومن ثمَّ يقع عبء تفسير «قابليَّة التصوُّر» Conceivability هذه على النظرية المضادة للثنائية؛ أي النظرية المادية القائلة بتطابق الهويَّة: فإذا كانت الحالات العقليَّة متطابقة نوعيًّا مع الحالات الدماغيَّة، فكيف يمكننا تصوُّرهما مُتمايزين؟
للخروج من ذلك المأزق يجادل الماديون المدافعون عن نظرية التطابق بأنَّ الإمكان المنطقي لا يستلزم احتمالًا فعليًّا، فهم يعترفون بقابليَّة تصوُّر العقل مُتمايزًا عن الجسم (أو الدماغ)، ليس ثمَّة خطأ قبليّ فيما قاله ابن سينا أو ديكارت، غير أنه لا يلزم من ذلك أنَّ يكون العقل متمايز فعليًّا عن الجسم (أو الدماغ). وتعليل ذلك أنه يمكننا نفي عبارة ’’الماء هو المُركَّب الكيميائي H₂O‘‘ من دون الوقوع في التناقض، فعبارة ’’ليس الماء هو المُركَّب الكيميائي H₂O‘‘ ممكنة منطقيًّا أيضًا (طالما ليس ثمَّة تناقض)، ومع ذلك، فقد اكتشفنا تجريبيًّا أنَّ الماء هو بالفعل المُركَّب الكيميائي H₂O. مثال آخر، إنَّ عبارة ’’بنيامين فرانكلين هو مخترع النظارات ثنائية البؤرة‘‘ قابلة للمعرفة تجريبيًّا فقط؛ لأن نفيها ’’ليس بنيامين فرانكلين هو مخترع النظارات ثنائية البؤرة‘‘ ليست خطأً منطقيًّا أيضًا. ولكن بالنظر إلى أنَّ بنيامين فرانكلين هو المخترع الحقيقي للنظارات ثنائية البؤرة، فإنه من المستحيل فعليًّا ألَّا يكون ’’بنيامين فرانكلين هو مخترع النظارات ثنائية البؤرة‘‘. وفقًا لهذه الدعوى، تكون الحالات العقلية متمايزة عن الحالات الدماغيَّة منطقيًّا فحسب، أي في بعض العوالم الممكنة، وأمَّا فعليًّا (في عالمنا الواقعي)، فهما الشيء نفسه؛ فالفجوة غير القابلة للردم بين مفاهيمنا عن العقلي والدماغي، هي فجوة منطقيَّة (قبليَّة) فقط، ولكنها - فيما يرى أصحاب التطابق - لا تستلزم فجوةً أنطولوجيَّة.
رد «سول كريبكة» وأطروحة المُحدّدات الصارِمة:
لا يقبل «كريبكة» بالأمثلة التي يقدّمها أصحاب التطابق للخروج من ذلك المأزق، فالماء ليس متطابقًا مع المُركَّب H₂O على نحو إمكانيّ، إنَّ إمكانيةً كهذه لغير قابلةٍ للتصوُّر؛ فأطروحة الصرامة تمدّنا بقاعدة منطقية تحظر أن يكون التطابق - بين المُحددات الصارمة - تطابقًا إمكانيًّا: إنَّ عبارات الهويَّة التي تطابق بين مُحدّدات صارمة، إذا صدَقَت، فإنها صادقة بالضرورة. إنَّ ما يتصوَّره دعاة التطابق في مثال الماء ليس ماءً، وإنما «نظيرًا إبستيميًّا» للماء، والنظير الإبستيمي هو نوع من المواد التي تمتلك نفس الخصائص الظاهرية القابلة للرصد بالمادة المعنية، فالنظير الإبستيمي للماء هو نوع من المواد السائلة التي لا لون ولا طعم ولا رائحة لها، فهي تبدو شبيهةً بالماء، إلا أنَّها ليست ماءً، على نحو ما يبدو «حديد البيريت» شبيهًا بالذهب، إلا أنه «ذهب الحمقى». ويبدو أنَّ أنصار التطابق يستعملون الاسم «ماء» بهذا المعنى ’’مادة سائلة لا لون ولا طعم ولا رائحة لها‘‘ ومن ثمَّ فيمكن للماء ألَّا يكون هو المُركَّب الكيميائي H₂O، ففي عالَم ممكن يجوز أن تمتلك مواد مختلفة مثل هذه الخصائص الظاهرية، فأيّها يمكن أن يكون هو «الماء» إذن؟ ولكنَّ توصيفًا كهذا غير مقبول، فهو ليس مُحدّدًا صارِمًا Non-rigid Designator، ونحن نعلم أنَّ الأسماء مُحدداتٌ صارِمة Rigid Designators، فلا يمكن للاسم «ماء» أن يتساوى منطقيًّا مع ’’مادة سائلة لا لون ولا طعم ولا رائحة لها‘‘ فهذه الخصائص الظاهرية، إنما هي علامات عرَضيَّة نستعملها لتثبيت إشارة الاسم فقط، لا لتعيين موضوع الإشارة. أما الاسم «ماء»، فيُعيّن نوعًا من المواد ذات بنية داخليَّة مُحدَّدة، وقد اكتشفنا أنَّ هذه البنية هي التركيب الكيميائي H₂O، وبما أننا تأكدنا من صدق هذا الاكتشاف، فهو صادق بالضرورة، ومن ثمَّ فلا يصح أن يتطابق الماء مع المُركَّب H₂O على نحوٍ إمكانيّ. أما بخصوص مثال «بنيامين فرانكلين»، فإن التوصيف ’’مًخترع النظارات ثنائية البؤرة‘‘ ليس مُحدّدًا صارِمًا، كان يمكن لأي شخص أن يخترع النظارات، ليس ثمَّة ما يُحتِّم على ’’مُخترع النظارات ثنائية البؤرة‘‘ أن يكون هو «بنيامين فرانكلين» بالذات. ومن ثمَّ، فالتطابق الإمكاني جائز هنا بسبب عدم توافرنا على مُحدّد صارِم أيضًا. وأما إذا قُلنا: ’’المُخترع الحقيقي للنظارات ثنائية البؤرة‘‘، فإن لدينا مُحدّدًا صارِمًا، ومن ثمَّ تصبح العبارة: ’’إن المخترع الحقيقي للنظارات ثنائية البؤرة هو بنيامين فرانكلين‘‘ صادقة بالضرورة، لا على سبيل الإمكان.
والآن، فلننظر في دعوى التطابق الإمكاني بين الحالات العقلية والحالات الدماغية على ضوء هذه الاعتبارات السابقة. لنتناول مثالًا ممتهنًا في دعوى التطابق، مثال "الألم = تحفيز ألياف-سي". السؤال الرئيس هنا: هل «الألم» و«تحفيز ألياف-سي» هما مُحددات غير صارِمة أو نظائر إبستيمية؟ هل يمكن لأي شيء أن يكون شبيهًا بالألم دون أن يكون ألَمًا، كما في حالة نظائر الماء؟ لا يبدو ذلك ممكنًا، فإن الطابع الكَيفيّ الظاهريّ المُحدّد للألَم هو نفسه الألم، إنَّ كل ما يبدو أنه ألم، هو بالفعل ألم وليس شيئًا آخر، لا يمكننا تصوُّر شيء شبيه بالألَم على غرار نظائر الماء، إنَّ فينومينولوجيا الألَم تُحدّد ما يعنيه الألَم بصرامة. يقول «كريبكة»: ’’أن تكون في الظرف الإبستيمي عينه الذي قد يتحقَّق إن كنت مُتألّمًا، هو نفسه أن تكون في ألَم؛ أن تكون في الظرف الإبستيمي عينه الذي قد يتحقَّق في غياب الألَم هو ألَّا تكون في ألَم.‘‘[9]
وماذا عن «تحفيز ألياف-سي»؟ يبدو أن لدينا مُحدّدًا صارِمًا أيضًا؛ إذ لا وجود لخصائص ظاهرية في هذه الحالة، إنَّ تركيب خلايا الدماغ بطريقة مُحدَّدة يُشكّل وجود حالة «تحفيز ألياف-سي» كما أنَّ تركيب الذرَّات بطريقة مُحدَّدة يُشكّل وجود المُركَّب H₂O. وإذا صحَّ ذلك، فإنَّ لدينا مُحدّدَيْن صارِمَين، وإذا صدق أنهما متطابقين فلا بدَّ أن يتطابقا بالضرورة؛ أي على نحو لا يمكن تصوُّر خلافه. ومع ذلك، فقد أمكن تصوُّرهما متمايزين كما في الكوجيتو الديكارتي وحُجَّة الرجل المُحلّق. ومن ثمَّ، فليسَ هنالك تطابق من الأساس.
وبناءً على ذلك، يمكن إعادة صياغة الحُجَّة من قابليَّة التصوُّر على النحو الآتي:
(1) تعريف 1: العالَم الممكن W هو أكبر عدد من القضايا المترابطة التي تصف (أو تُصوِّر) حالة غير فعليَّة للعالَم.
(2) تعريف 2: نقول عن حدٍّ ما «مُحدّد صارِم» Rigid Designator إذا - وفقط إذا - كان يعيّن موضوعًا مُحددًا في جميع العوالم الممكنة، ونقول عن حدٍّ ما «مُحدّد غير صارم» Non-rigid Designator إذا – وفقط إذا – كان يُعيّن موضوعًا مختلفًا في بعض العوالم الممكنة.
(3) مُسلَّمة: لكل قضية هوية P إذا كانت P تُطابق بين y و x، حيث إنَّ y و x مُحدِّدَيْن صارِمَين، فإن القضية P إذا صدَقَت تكون صادقة بالضرورة (مبدأ الهوية + قاعدة ضرورة التطابق بين المُحدّدات الصارِمة).
(4) مُقدّمة 1: لكل حالة عقلية x (حيث x مُحدد صارِم) ولكل حالة دماغيَّة y (حيث y مُحدّد صارِم) إذا كانت x متطابقة مع y فلا يمكن أن يوجد عالم ممكن w بحيث تكون x متمايزة عن y في w.
(5) مُقدّمة 2: ثمَّة عالَم ممكن w حيث توجد الحالة العقلية x متمايزة عن الحالة الدماغية y (الكوجيتو الديكارتي وتجربة الرجل المُحلّق).
(6) النتيجة: إذن x غير متطابقة مع y في w. ومن ثمَّ، فإن x متمايزة عن y. (قاعدة القياس الاستثنائي Modus Tollens)
يمكن استبدال المُتغيّرين x و y بأي حالة عقلية وما يضاهيها من الحالات الدماغية التي يُنبئنا بها علم الأعصاب.
في فلسفة الزمن: «جون بيري» و«ريتشارد جيل» والدفاع عن النظرية (أ)
قسَّمَ فيلسوفُ كامبريدج «جون ماك تاجارت» طريقة تفكيرنا في الزمن إلى نوعَين مُختلفين جذريًّا؛ أولاهما: أنَّ الزمن «ديناميكي» ويتغيَّر كل لحظة من أن يكون مُستقبلًا أولًا، ثم يصبح حاضرًا، ثم في النهاية – بمجرد أن ينتهي - يُصبح ماضيًا. أما وفق الطريقة الثانية؛ فيمكن النظر إلى السمات الزمنية بوصفها سمات «ساكنة» غير مُتحرّكة، عندما نُفكّر أنَّ لحظة مُعيَّنة قبل أو بعد لحظة أُخرى، أو أنَّ لحظَتين مُتزامنتين. هذه العلاقات لا تتغيَّر بتحرُّك اللحظات من المستقبل، عبر الحاضر، إلى الماضي؛ فالخامس من يناير يأتي دائمًا قبل السادس من يناير في أي عام، سواء أكان هذا العام في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. وأشار «ماك تاجارت» إلى الطريقة الأولى للتفكير في الزمن بوصفها النَّسَق (أ)، وإلى الثانية بالنَّسَق (ب). ثمَّة إذن نظامين مختلفين من المفاهيم التي نُفكّر من خلالهما في الزمن، وبحسب هذين النظامين انقسمَ الفلاسفةُ إلى فريقين: فريقٌ يُدافع عن الزمن الديناميكي المُتدفِّق؛ أي النظرية (أ)، وفريقٌ يُدافع عن الزمن العلائقي الساكن، أي النظرية (ب).
تنقسم حُجج الفريقَيْن إلى نَوعين: حُجج قبليَّة A priori arguments وحُجج بَعديَّة A posteriori arguments، والنوع الأخير من هذه الحُجج يستند إلى النظريات العلمية في الفيزياء المعاصرة؛ فالمُدافعون عن النظرية (ب) يتذرَّعون بالنظرية النسبية الخاصة، إذ تُعامِل النسبية الخاصة الزمنَ بوصفه بُعدًا آخر لا ينفصل عن المكان، فكلاهما يُمثّلان فضاءً رُباعيّ الأبعاد هو مُتَّصَل الزمكان Space-Time، حيث لا سبيل للكلام عن ’’الآن – الحاضر‘‘ المُطلَق، فلا معنى للآنيَّة – الحاضر إلا بالنسبة إلى الإطار المرجعي للمُراقِب وسُرعته، وهذا ما يدعوه الفيزيائيون ’’نسبية التزامُن‘‘. فما هو حاضر بالنسبة إليك يمكن (نظريًا) أن يكون ماضيًا بالنسبة إلى آخر يُراقبُ من إطارٍ مرجعيٍ تختلفُ سرعته، ومن ثمَّ فحاضره (ذلك المُراقِب الآخر) سيبدو مُستقبلًا بالنسبة إليك! وبهذا الاعتبار يُحاجج مؤيّدوا النظرية (ب) بأنه ليس هنالك اختلافٌ - موضوعيّ - بين ماضٍ وحاضِر ومُستقبل، حيث إنَّ جميع هذه الأحداث التي نُسمّيها ماضٍ وحاضر ومُستقبل توجد معًا، بطريقةٍ ما، وترتبط فيما بينها بعلاقات التوالي (قبل / بعد). ومهما بدا ذلك الكلام غريبًا ومُضادًا للحدس، فإنه في النهاية يستند إلى واحدة من أوثق النظريّات الفيزيائية الرائدة، ويُسمَّى ذلك التصوُّر بنظرية كُتلة الكَوْن Block Universe أو النزعة السرمدية Eternalism. وردًّا على ذلك التصوُّر المُضاد للحدس، احتكمَ بعضُ المُدافعين عن النظرية (أ) إلى ميكانيكا الكم، وهي عامود أساس لا غنى في الفيزياء المعاصرة؛ فبحسب الطبيعة الاحتماليَّة اللامُحدَّدة التي تُميّز ظواهر العالَم الكمّي، يبدو من غير المُبرَّر لنا أن نتكلَّم عن مُستقبل مُحدَّد يوجد موضوعيًا باستقلال عن أي عمليَّات قياس، وبناءً على هذا الاعتبار حاجج مؤيّدو النظرية (أ) من هذا النوع بأنَّ هنالك اختلافا – موضوعيّا – بين الماضي والحاضر، فالماضي قد انقضى بلا رجعة ولا سبيل إلى تغييره. أما الحاضر، فهو ما نعيشه في اللحظة الراهنة، وأما المُستقبل فلم يوجد بعد، فهو ما يزال فضاءً ضبابيًا من الاحتمالات، ويُسمَّى ذلك التصوُّر بنظرية الكَوْن المُتنامي Growing Universe، فهو يلتزم بواقعية الماضي والحاضر فقط، حيث يجيء المُستقبل ويمضي مُضافًا إلى الأحداث الماضية التي تُكون في عملية تراكم مُتنامي.
أمَّا النوع الأول (أي الحُجج القَبليَّة)، فهو الذي يُهمَّنا، وواحدة من الاستراتيجيات الشهيرة التي يتّبعها الفلاسفة في هذا النوع من الحُجج، تتمحوَر حول قابليَّة تحليل العبارات الزمنية التي تحتوي على مفاهيم النظرية (أ) إلى عبارات بمفاهيم النظرية (ب) أو العكس، بشرط التكافؤ المنطقي: أي الحفاظ على المعنى كما هو بلا زيادة أو نقص. فمن جهة النظرية (أ) لدينا المُفردات: ماضي، حاضر، مُستقبَل، كان، الآن، سيُصبح. وهذه المُفردات ومثيلاتها تُدعى (الخصائص– أ) A-Properties. ومن جهة النظرية (ب) لدينا المفردات: قبل، بعد، متزامن مع، سابق، لاحق، أثناء، وهذه جميعها تُدعى (العلاقات– ب) B-Relations. فإذا أمكن ترجمة العبارات التي تحتوي على (خصائص – أ) إلى عبارات تحتوي على (علاقات – ب) من دون تغيير في المعنى لكان ذلك حُجَّةً لصالح النظرية (ب)؛ لأنه بحسب نظرية التطابق في الصدق، إذا صدقت العبارات التي تصف الواقع بواسطة (العلاقات – ب) فلابدَّ إذن أنها تصف حقيقة الزمن على نحو مُلائم، وهذا يعني أنَّ مُفاهيم (العلاقات – ب) أكثر أساسيَّةً لفهم الزمن، وإذا أمكن العكس، فستكون الحُجَّة إذن لصالح النظرية (أ)، بما يعني أنَّ مفاهيم (الخصائص – أ) تصف حقيقة الزمن على نحو مُلائم، ومن ثمَّ فهي الأكثر أساسيَّة لفهم ماهية الزمن.
قدَّم «برتراند راسِل» (وهو أبرز المُنظّرين الكلاسيكيين للعلاقات – ب) استراتيجيةً مميزة للتحليل تُفيد بأنَّ أيَّ عبارة تتضمَّن مُفردات زمنية من نوع (الخصائص – أ) يمكن ترجمتها إلى عبارة بمُفردات (العلاقات – ب) من دون تغيير في المعنى؛ وذلك بواسطة حدود ذاتية-الإشارة Self-referential Terms (أو ما سيُدعى لاحقًا الرموز الانعكاسيَّة Reflexive-Tokens)، وهي عبارات تُشير إلى المنطوق نفسه الذي يحتويها، وأيضًا من خلال ذكر التواريخ والأوقات بدلًا من الأزمنة. فمثلًا:
1) يتناول أحمد طعامه الآن
هذه العبارة التي تستخدم (خاصية – أ) للحاضر الزمني ’’الآن‘‘ يمكن ترجمتها إلى:
2) يتناول أحمد طعامه بالتزامن مع (أو أثناء)؛ ذلك المنطوق (Simultaneous to this utterance)
أو:
3) يتناول أحمد طعامه في الخامسة مساءً يوم الأحد الموافق 8/10/2024
وإليك أمثلة أُخرى بمُفردات ’’الماضي‘‘ و’’المستقبل‘‘ وترجمتها على طريقة «راسل»:
4) انتهت الانتخابات الرئاسية بفوز المُرشَّح x. (أي في الماضي، ما حدث في لحظة ماضية)
5) تنتهي الانتخابات الرئاسية بفوز المُرشَّح x قبل ذلك المنطوق. (كلمة ’’تنتهي‘‘ لا تُفيد الحاضر في ذلك السياق، وإنما تُشير إلى موقع الحدث بوصفه سابقًا للمنطوق في التخطيط البياني للزمن)
6) تنتهي الانتخابات الرئاسية بفوز المُرشَّح x يوم الأربعاء الموافق 4/7/2020، (حيث يكون التقويم المذكور سابقًا تاريخيًا لمنطوق العبارة)
7) سوف يُلقي البروفيسور جورج محاضرته غدًا. (أي في المستقبل، ما سيحدث في يوم قادم)
8) يُلقي البروفيسور جورج محاضرته بعد ذلك المنطوق بيوم. (كلمة ’’يُلقي‘‘ لا تُفيد الحاضر هنا أيضًا، وإنما تُشير إلى موقع الحدث فقط)
9) يُلقي البروفيسور جورج محاضرته في الحادي عشر من مارس عام 2024، (حيث يُشير التقويم المذكور إلى تاريخ لاحق لمنطوق العبارة)
إذا كانت استراتيجية «راسِل» سليمة؛ أي إذا كان التحليل بواسطة الرموز الانعكاسيَّة مع (العلاقات – ب) والتقاويم صحيحًا من الناحية المنطقية، فإن ذلك ليقتضي منَّا أن نستبعد (الخصائص – أ) من أيَّة لغة منطقية لوصف العالَم بدِقَّة، وذلك لأنَّ العبارات التي تحتوي على (العلاقات – ب) مع الرموز الانعكاسية والتقاويم، لا تتضمَّن بأي حال من الأحوال مفاهيمنا الزمنية من نوع (الماضي – الحاضر – المستقبل)، وِفقًا لنظرية «راسِل» ليس للحظات الزمن خاصية ’’الآنيَّة – Nowness‘‘ ومن ثمَّ فليس هنالك تراكُمٌ للماضي، ولا تقلُّصٌ للمستقبل. وإذن، فهذه المفاهيم لا حاجةَ لها لوصف السمات الحقيقية للعالَم، فينبغي حذفها من اللغة مُراعاةً لمعيار البساطة؛ أي «نصل أوكام». وفي ذلك يقول «كواين» أيضا:
"إنَّ لغتنا العادية تُظهر تحيُّزًا مُرهقًا في تعاملها مع الزمن. فالعلاقات بين التواريخ يتم تمجيدها نحويًّا... وهذا التحيُّز في حد ذاته هو عدم أناقة، أو خرق للبساطة النظرية. فضلًا عن ذلك، فإن الشكل الذي تتخذه هذه التحيُّزات – أي الشكل الذي يتطلَّب أن تُظهِر كل صيغة من صِيَغ الفعل زمنًا – يُنتج بشكل غريب تعقيدات لا داعي لها؛ لأنه يتطلَّب التلفُّظ بالكلمات للإشارة إلى الزمن حتى عندما يكون الزمن أبعد ما يكون عن أفكارنا. وإذن فمن المعتاد في صياغة التدوينات القانونية أن نتخلَّى عن التمييز بين الأزمنة."[10]
بَيْد أنه تبيَّن فيما بعد أنَّ استراتيجية «راسِل» غير ناجحة، فمن المشكوك فيه إلى حدٍّ كبير أن يكون الجهاز اللغوي الذي قدَّمه لنا «راسِل» قادرًا على تحليل جميع العبارات من النوع الذي يستخدم (الخصائص – أ)، وقد ساهم عمل الفيلسوف المعاصر «جون بيري» في توضيح هذه المسألة جيدًا[11].
جادل «بيري» بأنَّ العبارات الزمنية المتضمّنة لـ (خصائص – أ) تختلف في معناها عن لغة التحليل الراسلي من ثلاثة وجوه:
أولًا: العبارات الزمنية التي تحتوي على (الخصائص – أ) إخباريّة بطريقة لا تكون مُتوفرة لنظيرتها المترجمة على طريقة «راسِل»؛ وذلك لأن الفكر والسلوك البشريين سوف يُصابان بالعجز إذا كان مُحتوى معتقداتنا خاليًا من (الخصائص – أ) تمامًا. يطلب منَّا «بيري» أن نتخيَّل أُستاذًا جامعيًا لديه اعتقاد من النوع الذي يكون مُحتواه (العلاقات – ب) على طريقة «راسِل»؛ وذلك الاعتقاد هو "إنَّ اجتماع الكُليَّة يبدأ عند الظهيرة". لقد ظلَّ ذلك الأستاذ متمسّكًا بهذا الاعتقاد طوال الصباح. وبالتالي، فإن هذا الاعتقاد تحديدًا لا يمكن أن يكون هو التفسير الذي يُفسِّر لماذا ينهض عند الظهيرة ويذهب إلى الاجتماع؟ إنَّ ما يُفسّر التغيير في سلوكه حينها هو أنه أصبح يعتقد بأنَّ "الاجتماع يبدأ الآن". فكما يُلاحظ «بيري»: ’’إنَّ هذه الدلالات أساسيَّة؛ لأن استبدالها بمصطلحات أُخرى يُدمّر قوة التفسير...‘‘.
ثانيًا: العبارات المُصاغة بواسطة (التوقيت) Date-sentences إخباريّة بطريقة لا تكون مُتوفّرة لنظيرتها التي تحتوي على (الخصائص – أ). فمثلًا، قد يكون لديَّ اعتقاد بأنَّ "السيدة براون كانت غير متواجدة في المنزل" من دون أن أعرف أو أعتقد أنها "لم توجد في المنزل يوم 8 من شهر مايو عام 1960" كما سيُقال بطريقة التحليل الراسليَّة. كما يُشير «بيري» إلى أنه إذا فقد المرء شعوره بالزمن كما قد يحصل أحيانًا، فقد يظل يعتقد بشكل عقلانيّ أن "الاجتماع يبدأ في الظهيرة، 16 سبتمبر 1976" ومع ذلك يُنكر في الوقت نفسه أنَّ "الاجتماع يبدأ الآن". وهذا يوضح أنَّ هاتين العبارتين لا يمكن أن يكون لهما نفس المعنى كما يدَّعي مُنظّروا (العلاقات – ب).
ثالثًا: عبارات (الخصائص – أ) لا تستلزم وجود رموز انعكاسيَّة لنفسها كما في نظائرها المُترجمة على طريقة «راسِل»؛ إذ ليس جُزءًا من معنى العبارة التي تحتوي على (خصائص – أ) أن تُشير إلى نفسها. تأمل عبارة: "لا توجد رموز انعكاسيَّة الآن". هذه العبارة كاذبة، ولكن يبدو أنها ممكنة الصدق (على سبيل المثال ستكون صادقة في عصر الديناصورات قبل أن يوجد بشر). والآن انظر إلى ترجمتها على طريقة «راسِل»: "لا توجد رموز انعكاسيَّة بالتزامن مع هذا المنطوق". إنه تناقض ذاتي بوضوح، ومن ثمَّ فالعبارة أصبحت مُستحيلة الصدق. وبالتالي، فالعبارتان لا تحملان نفس المعنى.
اضطرَّ مُنظِّرو (العلاقات – ب) لاحقًا إلى التخلّي عن شرط (التكافؤ في المعنى) واستبداله بشرط (التكافؤ في شروط الصدق). ودفاعًا عن استراتيجية «راسِل» جادل «جون سمارت» J. J. C. Smart بأنَّ عدم وجود خاصية زمنية مثل ’’الآنية‘‘ Nowness ينبغي فهمه بالتوازي مع عدم وجود خاصية مكانيَّة مثل ’’الكَوْن هنا – Hereness‘‘: فإنَّ كلمة ’’الآن‘‘ التي تُشير إلى الحاضر موازية منطقيًا لـ ’’هنا‘‘ التي تُشير إلى موقعٍ ما من المكان، من حيث أنّهما (الآن – هنا) نِسبيَّتان إلى المُتكلِّم؛ فكما أن أي مكان يصح أن يكون ’’هنا‘‘ بالنسبة إلى المُتكلِّم، فنفسُ الشيء ينطبق على ’’الآن‘‘؛ إذ يصح أن تُشير إلى أزمنةٍ مختلفة نِسبةً إلى المُتكلِّم، فالعام 2025 هو ’’الآن‘‘ بالنسبة إلينا، كما أنَّ العام 384 قبل الميلاد هو ’’الآن‘‘ بالنسبة إلى «أرسطو»، وسيكون العام 2125 هو ’’الآن‘‘ بالنسبة إلى الذين يعيشون فيه. إنَّ كلمة ’’هنا‘‘ تعني ببساطة: المكان الذي يحصل فيه ذلك المنطوق. وبالمِثل، فإنَّ ’’الآن‘‘ تعني: التوقيت الذي يتزامن مع ذلك المنطوق. وهذا يعني أنَّ مفاهيمنا عن (الماضي – الحاضر – المستقبل) لا تعكس معالِم حقيقيَّة للواقع، وإنما هي انعكاس لمنظور المُتكلّم فقط. وإذا صحَّ ذلك، فلا حاجة بنا لاستخدام (الخصائص – أ)، فهي – كما يقول سمارت – غير ذات أهمية كَونيَّة؛ [12] لأننا إنما نُريد أن نُقدّم وصفًا صادقًا للوقائع المُستقلّة عن لغة المُتكلّمين، وشروط الصدق للعبارات التي تحتوي على (الخصائص – أ) هي نفسها شروط صدق عبارات (العلاقات – ب)، حتى وإن لم يكن لهما المعنى نفسه.
فهل يمكن إقصاء (الخصائص – أ) بهذه البساطة كما يدَّعي مُنظِّروا (العلاقات – ب)؟ ما الذي يُقدّمه أنصار النظرية (أ) في الزمن، ردًّا على التحليل الاستبعادي الذي قدَّمه أنصار النظرية (ب)؟ إذا عُدنا إلى «كريبكة» مرةً أُخرى، فثمَّةَ ما يقوله هنا من خلال «أطروحة الصرامة»، فقد أشار «كريبكة»[13] إلى أنَّ الحدود الإشاريَّة من نوع (أنا، هذا، هنا، الآن) هي أيضًا مُحدداتٌ صارِمة Rigid Designators، غير أنه – ومن أسَفٍ – لم يضطلع بمعالجة هذه المسألة والنتائج الميتافيزيقية المُترتّبة عليها فيما يخص فلسفة الزمن. فبأي معنى تكون ’’الآن‘‘ مُحدّدًا صارِمًا؟ وما الذي يترتَّب على ذلك؟ اضطَّلعَ «ريتشارد جيل» (1932-2015) بتوضيح هذه المسألة، فقد حاجج «جيل» بأنَّ (الخصائص – أ) هي مفاهيم أوَّليَّة Primitive غير قابلة للاستبعاد بـ / أو الاختزال إلى (العلاقات – ب).
ردًّا على مُنظِّري (العلاقات – ب) يُجادل «جيل» بأنَّ هنالك عدم تماثل عميق بين ’’الآن‘‘ و’’هنا‘‘، وأنَّ ’’الآن‘‘ موضوعيَّة بطريقة ليست مُتاحة لـ ’’هنا‘‘؛ لأنَّ منظورنا الزماني ’’مفروض علينا‘‘ بطريقة غير متوافرة لمنظورنا المكاني؛ [14] لأنَّ الشخص S الموجود حاليًا في بترسبيرغ ويستطيع أن يقول عن بترسبيرغ ’’هنا‘‘، يستطيع أن يستقلّ طائرة نحو سنغافورا، حيث تدل ’’هنا‘‘ على سنغافورا، ثم يعود مرَّة أُخرى إلى بترسبيرغ فتُصبح ’’هنا‘‘ مُجددًا. ولكن على النقيض من ذلك، فإن الشخص S الذي يعيش عام 2024 لا يستطيع أن ينتقل إلى عام 100 قبل الميلاد، ثم يعود مرَّةً أُخرى إلى عام 2024، وتفسير هذه اللاتماثُليَّة الفريدة لمنظورنا الزماني عن منظورنا المكاني، فيما يرى «جيل»، يعود إلى أنَّ مفاهيم (الماضي – المستقبل) مُتأصّلة جذريًّا في تصوُّرنا لـ (سببيَّة-الفاعل) Agent-causation: نستطيع أن نُسبّب أحداثًا مُستقبليَّة، لكننا لا نستطيع أن نُسبّب شيئًا في الماضي. الشخص S الموجود حاليًا ببترسبيرغ يستطيع، نظريًا، أن يُحدِث تأثيرًا سببيًا في أيّ نقطة مكانيَّة، على سبيل المثال سنغافورا، ولكنه لا يستطيع أن يُحدِث تأثيرًا فيما حدث عام 100 قبل الميلاد. فمن منظور (سببية-الفاعل) إذن يختلف الزمان عن المكان، وتختلف ’’الآن‘‘ عن ’’هنا‘‘.[15]
قد يُجادل أحدهم بأنَّ الانتقال عبر الزمن إلى الماضي مُمكن (نظريًّا)، إلا أن هنالك من الأسباب المنطقية ما يُحيل هذه الإمكانية النظرية إلى استحالة! فالسفر عبر الزمن للماضي يستتبع مفارقاتٍ منطقية، مثل مفارقة الجَدّ Grandfather Paradox ومفارقة الهوية الشخصية، كما أنَّ «جون سمارت» نفسه (وهو من أشدّ أنصار النظرية (ب) في الزمن) يعترض على إمكانية الانتقال عبر الزمن قائلًا:
"لنفترض أنه من المتفق عليه أنني لم أُوجد قبل 100 عام. إنه لمن التناقض أن نفترض بأنني أستطيع أن أصنع آلة زمن تنقلني إلى 100 عام مضت قبل أن أوجد. بوضوح تام ليس هنالك آلة زمنية تستطيع أن تجعلني موجودًا وغير موجودًا قبل 100 عام".[16]
وكما أنَّ الأسماء العَلَم لا يمكن استبعادها أو اختزالها إلى أوصاف كما بيَّن «كريبكة»، فكذلك تكون (الخصائص – أ) للزمن غير قابلة للاستبعاد أو الاختزال إلى (العلاقات – ب) كما بيَّنَ «جون بيري» و«ريتشارد جيل». إنَّ ’’الآن‘‘ مُحدّدٌ صارِم؛ لأنها – حسبما يؤكد «جيل» – دائمًا ما تُعيّن لحظة جُزئيَّة مُحدَّدة بمنظورنا الزمني الفريد، وإنَّ عبارة ’’الآن هو الآن‘‘ تحصيل حاصل، أي صادقة بالضرورة. وأما قولنا ’’الآن يمكن ألَّا يكون الآن‘‘ فكاذبٌ بالضرورة؛ لأنه إذا مرَّ بعض الوقت، وانتقل الحاضر إلى ماضٍ، فإن ’’الآن‘‘ الحالية (هذه اللحظة الجُزئيَّة بالذات) لن تكون هي نفسها اللحظة اللاحقة، وهذا انتهاك صريح لقاعدة: ضرورة تطابق الهوية بين المُحدّدات الصارِمَة.
على الرغم من الاختلاف الذي بيَّنهُ «جيل» بين ’’الآن‘‘ و’’هنا‘‘ من منظور سببية الفاعل، إلا أنه، فيما يبدو، لا يُقوّض الادّعاء العام الذي يطرحه مُنظّرو (العلاقات – ب) من أنَّ شروط صدق عبارات (الخصائص – أ) هي نفسها شروط صدق عبارات (العلاقات – ب). إنَّ ما يوضّحه تمييز «جيل» فقط هو لاقابليَّة اختزال/استبعاد مفاهيم (الخصائص – أ)؛ لأنها مفروضة علينا موضوعيًا بطريقة خاصة بسبب منظورنا الزمني الفريد، إلا أنه يمكن للمرء أن يتساءل هنا: إذا كان ادّعاء مُنظِّري (العلاقات – ب) صحيحًا، فكيف يمكن أن يكون هنالك شروط صدق من النوع الذي تُوفّره العلاقات – ب (أي وقائع ساكنة Static) لعبارات تُخبر عن العالَم بطريقة (ديناميكيّة Dynamic) كما تفترض الخصائص – أ؟ بتعبير آخر، إذا لم يكن للزمن فعليًا خاصية الآنيَّة Nowness، فكيف يمكن أن تصدُق هذه العبارة مثلًا:
10) إنَّ السيد جونز يمارس الرياضة الآن.
إنَّ نظرية التطابق في الصدق تفترض تناظرًا بُنيويًّا بين حامل الصدق (العبارات، القضايا، الجُمَل) وبين صانع الصدق (الواقعة، الحدث، الحالة الراهنة للعالَم)؛ أي علاقة واحد بواحد بين أجزاء العبارة (أو الجملة، أو القضية) وتركيب العالَم (الواقعة، الحدث، الحالة الراهنة)، ومن ثمَّ فإن من يعتقد بصدق العبارة (10) لابدَّ وأن يعتقد بها استنادًا إلى وجود واقعة ديناميكية تتَّصِف زمنيًّا بالآنيَّة، وهو ما لا يتفق وشروط الصدق التي تفترضها (العلاقات – ب) من حيث هي وقائع ساكنة لا مكان فيها للحاضر – الآن. فليس من الواضح إذن كيف يمكن أن يكون هنالك تكافؤ في شروط الصدق بين عبارات (الخصائص – أ) وعبارات (العلاقات – ب).[17] ولعلَّ ذلك هو ما دفع بعض أنصار النظرية (أ) في الزمن إلى الاحتجاج من لاقابليَّة استبعاد (الخصائص – أ) من اللغة، إلى الطبيعة الديناميكية للزمن بالفعل (نجد ذلك مثلًا عند «بيتر لودلو» Ludlow و«كوينتن سميث» Smith و«ويليام ل. كريغ» Craig.)[18] إلا أنَّ استراتيجيةً كهذه قد تكون غير مقبولة؛ لأنه ليس من الضروري للُغتنا الطبيعية أن تكون مُعبّرة عن حقائق العالَم كما هو، ويمكن للمرء أن يعتقد – بشكل عقلاني – أنَّ (الخصائص – أ) غير قابلة للاختزال أو الاستبعاد من لغتنا، وفي الوقت نفسه، يعتقد بصحة النظرية (ب) في الزمن الواقعي، وهذا الموقف يتبنَّاه بالفعل بعض فلاسفة النظرية (ب) في الزمن، وهو أنَّ مفاهيمنا عن (الماضي - الحاضر - المستقبل) إنْ هي إلا انعكاس لشعورنا بمرور الزمن، يعتقد «جون سمارت» مع فلاسفة آخرين أنَّ شعورنا بمرور الزمن ليس إلا نوع من الوهم، إلا أنهم لا يُقدّمون تفسيرًا مقبولًا عن سبب ذلك الوهم المُتأصّل في الخبرة الواعية، وهذا هو التحدّي الأساسي الذي يواجهه أنصار النظرية (ب) في الزمن حاليًا.[19]
وعلى كل حال، فإن التأكيد المُجرَّد على صرامة (الخصائص – أ) بالمعنى الموضَّح أنفًا لا ينهض كحُجَّة إيجابيَّة لصالح النظرية (أ) في الزمن، وإنما هو فقط حُجَّة إبستمولوجية مُضادة لحُجج قابليَّة التحليل التي يُقدّمها أنصار النظرية (ب) في الزمن؛ فإن أقصى ما تُفيده حقيقة أن (الخصائص – أ) مُحدّداتٌ صارمة غير قابلة للاستبعاد أو الاختزال، هو عدم وجود سبب كافٍ للاعتقاد بقابليَّة التحليل التي يُقدّمها مُنظّرو (العلاقات – ب). ولكي يكون لدى أنصار النظرية (أ) حُجَّة إيجابية، فثمَّة خطوةٌ إضافية عليهم القيام بها هنا، وهي محاولة تحليل عبارات (العلاقات – ب) إلى عبارات (الخصائص – أ). وبالفعل قام بعض الفلاسفة بذلك.[20] أما عن مدى نجاح هذه المحاولة، فهو مسألة تستدعي النظر.
فيما يلي سأُقدّم صيغة مُنظَّمة وواضحة قدر الإمكان للحُجَّة الإبستمولوجية المضادة للاعتقاد بالنظرية (ب) في الزمن بناءً على استراتيجية التحليل:
1) إذا كانت الحُجَّة من قابليَّة التحليل صحيحة، فإن الاعتقاد بالنظرية (ب) في الزمن يكون عقلانيًّا.
2) وتكون الحُجَّة من قابلية التحليل صحيحة إذا – وفقط إذا – أمكن اختزال العبارات التي تحتوي على (خصائص – أ) إلى عبارات تحتوي على (العلاقات – ب)؛ وذلك إما بشرط التكافؤ في المعنى، أو التكافؤ في شروط الصدق، مما يقتضي استبعاد (الخصائص – أ) من اللغة.
3) ولكنَّ (الخصائص – أ) مُحدّداتٌ صارِمة غير قابلة للاستبعاد أو الاختزال، بسبب: 3-1) أنَّ العبارات التي تحتوي على (خصائص – أ) ليست مُتكافئة في المعنى مع عبارات (العلاقات – ب) كما بيَّن «جون بيري». 3-2) ولأنها مفروضة علينا موضوعيًّا – من منظور سببية الفاعل – بسبب منظورنا الزمني الفريد كما بيَّن «ريتشارد جيل». 3-3) وأنه ليس من الواضح كيف يمكن أن تكون شروط الصدق من النوع الذي توفّره (العلاقات – ب) مُلائمة لعبارات (الخصائص – أ)، مع الأخذ بالاعتبار أنَّ خبرتنا الواعية بمرور الزمن، ستفتقر إلى التفسير، إذا ما تخلَّيْنا عن شروط الصدق التي توفّرها (الخصائص – أ).
4) النتيجة: إذن ليس من المعقول الاعتقاد بالنظرية (ب) في الزمن بناءً على الحُجَّة من قابليَّة التحليل.
- ملحوظة: المُقدّمة (1) شرطيَّة بالمعنى الضعيف (إذا – فإذن) وليستْ اشتراطًا بالمعنى الدقيق (إذا – وفقط إذا – فإذن) كما في (2)؛ لأنه يمكن للمرء أن يعتقد بالنظرية (ب) في الزمن بناءً على حُجج أُخرى، إذا ما توفَّرت له، وليس صدق النظرية (ب) في الزمن مشروطًا بحُجَّة وحيدة. ولذلك قمت بتقييد النتيجة على الحُجَّة من قابلية التحليل فقط.
انتهى.
[1] الشيخ الرئيس ابن سينا "النفس: من كتاب الشفاء" تحقيق: آية الله حسن زادة الآملي، الطبعة الخامسة، المقالة الأولى، الفصل الأول، ص ص25-26
[2] الشيخ الرئيس ابن سينا "الإشارات والتنبيهات" تحقيق: مجتبى الزارعي، مؤسسة بوستان كتاب، الطبعة الثالثة، ص: 233
[3] رينيه ديكارت "التأملات في الفلسفة الأولى". ترجمة وتقديم وتعليق: عثمان أمين. المركز القومي للترجمة، العدد 1297، ص: 271
[4] المصدر نفسه، ص ص: 65-66
[5] المصدر نفسه، ص94
[6] المصدر نفسه، ص: 94-96
[7] المصدر نفسه، ص ص: 99-100
[8] المصدر نفسه، ص: 249-250
[9] صول كريبكة "التسمية والضرورة"، ص ص262-263
[10] W. V. O. Quine, “Word and Object” §36, pp: 154-155
[11] William Lane Craig, “Time and Eternity: Exploring God’s relationship to Time.” Ed1 (2001), P: 116-119
[12] J. J. C. Smart: “”Tensed Statements”: A Comment” in journal: The Philosophical Quarterly, July 1962
[13] التسمية والضرورة، هامش الصفحة 80 من تصدير المؤلّف.
[14] Richard M. Gale: “It Is Now Now?” in: Mind, New Series, Vol. 73, No. 289 (Jan., 1964). Pp. 97-105
[15] Gale, Richard M. | Internet Encyclopedia of Philosophy (utm.edu)
[16] J. J. C. Smart “Is Time Travel Possible?” in: Journal of Philosophy. Vol. 60 No. 9 (Apr. 25. 1963), pp. 237-241
[17] يُناقش كريج هذه المسألة بتفصيل أعمق وأكثر تِقنيَّة في كتابه المذكور في هوامش هذا البحث، صفحة 119-129.
[18] A Companion to the Philosophy of Time (Blackwell Companions), Edited by: Heather Dyke & Adrian Bardon. pp: 340-341
[19] Peter Van Inwagen “Metaphysics”, Third Edition, pp: 79-81
[20] See: William L. Craig “Time and Eternity” pp: 188-197