المنهج وأزمة التلفيق
فئة : مقالات
يقدّر محمد أبو القاسم حاج حمد (2004م) أنّ الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة أخطأت المنهج، وروحه ابتداءً، باعتبار اعتمادها طرائق متفاوتة منهجياً، تعتمد أساليب المقاربة أو المقارنة، وكلاهما يفضي إلى التلفيق، سواء تمّ التعاطي بها مع القرآن والسنّة مرجعيةَ المسلمين العليا وتراثهم، وكذا مع نتاجات البشر النسبيّة الموازية. وأيضاً، تناولُ الفكر الغربي بمدارسه، بوساطة هذه الروح، أفضى إلى توليد حالة من المعرفة غير المُعَرِّفَة، والعلم غير المعلِّم، والسلوك غير السوي، الذي ينبئ بتاريخ مهتلك مترواح، يدور في مكانه لافتقاده بوصلةَ الوعي الصحيح، في إطار الجمع والجدل بين مستويات الوعي، والظواهر، ومفردات الغيب.
«... تحت ضغط التحديث، وعبر (المقاربات) مع النسق الحضاري الغربي، ومناهجه المعرفيّة، ومنظومته الاجتماعيّة، ظهرت محاولات لعصرنة المفاهيم الإسلامية، بهدف اتّساقها مع العقل الموضوعي، وكذلك العلمي، فتأوّلوا ما يردّ عن (السحر)، و(النفاثات في العقد)، و(طير أبابيل)، و(أهل الكهف)... كما تأوّل بعضهم النبوّة بأنّها مَلَكة إنسانيّة، والوحي مرحلة عليا من مراحل الإدراك، والمعجزة ليست أمراً خارقاً للطبيعة، ويمكن أن تكون رؤيا منامية، مع تفسير خلق آدم على ضوء نظرية داروين التطورية..»[1].
الملاحظ أنّ المقاربات تنطلق، غالباً، من إقرار ضمنيّ - ولو لم يعلن طرحه - بأنّ الثقافة الغربية، ونهايتها العلمية، هي النموذج الأقصى للحقيقة، والمعبّر عنها. وتعريفها للأشياء هو المنطقي والصحيح، وتالياً كلّ ما يلزم عن رؤيتها المعرفية وتقييمها للمعنى، من نظمٍ حياتية هي الأمثل، ومن اللازم احتذاؤها. وهنا، تُقاس الذات بالآخر، لا على أنّه هامش؛ بل مركز تنتج الذات من خلاله، وتعاد صياغتها وفق قوالبه، وأدواته، وقيمه، فتهدر المقاربة خصوصية الذات، وتضطرّها إلى التأويل المضاعف لتتوافق ومقاييس الآخر التقييمية والتصديقية، فتُحجب فرادة الذات، وكذا الآخر، وتُكسف كلّ إمكانيّة لتحقيق التحوّل.
وفي تقدير حاج حمد أنّ مولدات هذا النوع من التعاطي اللامنهجي تتمّ ضمن إطارين:
«...أنّها تنطلق من مقاربة النسق الحضاري الغربي، ومناهجه المعرفيّة، وهو نسقٌ يتّجه، في نهاياته الفلسفية، إلى (الوضعية)، التي تعدّ نفسها، ومنذ فلسفة أوجست كونت، متجاوزةً للاهوت والميتافيزيقا. والوضعية الفردية هي ارتداد لجدل الإنسان بالمعنى المثالي، ولجدل الطبيعة بالمعنى المادي، فهي تختصر المقوّمات الكونيّة لجدل الإنسان والطبيعة، وتطرحها ضمن دائرتين موضعتين جزئيتين.
ثانياً: أنّ محاولات العصرانية هذه قد اعتمدت على الجهد العقلي ضمن صيغه العلمية، أو الموضوعيّة؛ أي أنّها قد أسقطت حالاتها الذهنية على النصّ القرآني، في حين أنّ المطلوب هو اكتشاف منهجيّة القرآن وقراءاته من داخله...»[2].
نجد أنفسنا، مرةً أخرى، مع تطبيق نقديّ وجّهه حاج حمد بوحي من مشروعه ومنهجه، باعتبار المقاربين يذهلون عن التاريخ الخاصّ للوعي الغربي وتشكّلاته ضمن جدليته الخاصّة، ويعمدون إلى سحبها على إطار تاريخي مختلف، وإن تقارب في بعض جوانبه، فتضيع المقدرة التحليلية التفسيرية، وحتى التغييرية للمناهج، وتنقلب إلى ضدّ ما وُجِدت له، زيادة على أنّ المقاربة تُغفِل أهمّ عنصر في التأسيس، وأعني به الانطلاق من الذات مستوعبة أدواتها، فتعمل على تمثُّلٍ للآخر في غير انهزامية، ولا تراجع، كما هو الحال بالنسبة إلى التعاطي مع القرآن. فاللازم منهجياً ورؤيوياً - حسب حاج حمد - البحث عن وحدته ومنهجيّته من داخله لفهمه، وإلا فهو التلفيق.
يعتقد حاج حمد أنّ المقاربة تكسر المرجعيّات، وتخلطها هنا وهناك، وتؤدّي إلى ضمور الاستقلال المرجعي، فتبهت الرؤية، وتصير ضبابية، باعتبار عدم مراعاة مورّدها ومشرّعها الفريد، سواء بالنسبة إلى الغرب وحضارته، أم الإسلام وتجلياته، على مستوى التاريخ، وقد حاول الكثير فعل ذلك من تجربة محمد علي الحضارية، إلى تنظيرات خير الدين باشا التونسي، إلى طه حسين، فسلامة موسى، ثمّ مراد وهبه، فسيّد القمني...، وكذا المحاولات غير الليبرالية، التي سعت إلى تبرير عقائد الإسلام وفلسفتها توافقاً مع الحداثي والجديد...
وبالنظر إلى عدم التكافؤ حضارياً، «... فرضت علينا أوروبا أن نزرع ما تريده، وأن نكيّف مصير حاصلاتنا الطبيعية والزراعية على ضوء أغراضها الصناعية، وأن نكيّف حياتنا على استهلاك منتجاتها، وأن نبني نُظمنا الدستورية، والسياسية، والاقتصادية، وفقاً لمصالحها، فالعالم كلّه يجب أن يتحوّل إلى صور أخرى للمركز المهيمن، وبطريقة إرادية منظّمة يضمن بها المركز المهيمن عالمياً سيطرته على الهوامش»[3]. وليت الأمر حبيس التشكُّلات النظمية والقانونية؛ بل الأخطر منه ارتهان أدوات العالم الثالث المعرفية لأساليب الغرب ومناهجه، وفي تقديري، أنّ ذلك لا يحتاج إلى كثير بيان، وخُذْ برامج الجامعات ومناهجها التعليمية خير دليل.
«... هذا الميل المتعاظم من قبل الهامش باتّجاه المركز، في عصر الثورة التكنولوجية، ونمطها الاتباعي، سيفرض نتائج خطيرة على مستوى الفكر، والمناهج، والسلوكيات...»[4]. وأبسط الخطورة جعلها تابعة باستمرار، تعمد إلى المقاربة الدائمة، فتقع في دوامة الاستنساخ، والاجترار، والمحاكاة الأبدية، حتى تذهل عن الذات، وأيّ ذات؟
وما حصل في الغرب تولّد عبر تراكمات «... شتى، وأنّ القانون يعطي فهم الرؤية المستقبلية، التي تساعد على معرفة الأفكار واتجاهات المجتمع، فلا يمكن أن تكون داروينياً في كلية الطب، وأنت تدرس مختلف الظواهر السوسيولوجية وتطوّرها، ثمّ تكون غزالياً في الفلسفة، وعلم الاجتماع، والتاريخ...»[5].
في حسباني، ليس من مثال دالٍّ على المفارقة في منطق المقاربة من أن يكون العالم مشدوداً إلى الداروينية، ملتزماً بأدبياتها في مختبراته وبحوثه العلمية، ويعتمدها ناظماً كليّاً مؤطّراً للرؤية، ومحرّكاً للمنهج، ثمّ هو يصير غزالياً ينظر إلى العالم بتقييمات مستدعية للالتزام العقدي بطريقة الغزالي الفلسفية ضدّ المشائية، والكلامية الأشعرية، والصوفية الإحيائية.
«... حين ترجمنا نهايات أوروبا الفكرية والفلسفية... فصلنا تلك النهايات عن السياق الجدلي الأوروبي، الذي بقي يحاورها، ويصارحها، ويرفضها، ويتقبّلها، مدى أربعة قرون، كما لم نستطع أن نركب النهايات الأوروبية (المترجمة) على سياقنا الجدلي الذاتي، فأحدثنا انفصاماً مزدوجاً، حين فصمنا نهايات الحضارة الغربية عن تجربتها، ولم نُعِد تركيب نهايات موروثنا ليدفع بتقدُّم واقعنا...»[6].
إذاً، المقاربة أفضت - حسب حاج حمد - إلى المفارقة؛ إذ كيف لها أن تندفع إلى قطف ثمرة تولّدت عبر مكابدات جدلية نتاج تراكمات قرون، وأرادت الاستثمار منها بذوراً تتحوّل إلى جذور في تربة لا تحوز أدنى شروط التركيب ولا التكوّن؟ فأفضى الوضع إلى تناقضات بنيوية عميقة من الصعب تجاوزها، وليت القائمين على أسلوب المقاربات انتبهوا إلى ما يفعلون، عساهم يستدركون بعضاً من الشروخ قبل حصولها، ولكن لات حين مندم.
التوأم الملفّق الآخر للمقاربة هو المقارنة، والموضوعات، التي يتصدّى لها، هي «... التي يعالجها فكر (المقاربات)، ولكن من منظور مختلف؛ فإذ تتّجه المقاربة إلى تجديدٍ وتفاعل مع المنظومة الغربية، بدرجات متفاوته، وبمنطق الحداثة، فإنّ المقارنة تتّجه إلى (المفاضلة) بين الطروحات الإسلامية بمنطق (الأصالة) والطروحات الغربية...»[7]. ومن الوجهة المنهجية المتينة، فإنّ فكر المفاضلة يتظاهر برفض الأسلوب الغربي، لكنّه، في التحليل العميق، يدرك الذات، أيضاً، بأساليب الآخر، فقد عمد إلى تنظيم تفكيره، وإثارة قضاياه، واعتماد مناهجه، تبعاً لما عند الآخر، ثمّ يهرع للبحث، كما هو موجود عنده، ليقول إنّه يملكه، وبطريقة أفضل وأمثل، وفي ظنِّ التحليل أنّه ليس من أنموذج الإعجاز العلمي ومدرسته، أفضل معبِّر عن هذا التوجه، ومآلاته واحدة، التلفيق، وعكس اتجاه المنهج، وإعلاء الآخر معرفياً، وكبت المقدرة المنهجية البديلة، التي يمكن وجودها في خضمّ الإرث الثقافي الهائل الموجود، في غير عزلة ولا استعلاء.
«... ففشل فكر (المقاربات)، الذي أراد أن يردم الهوّة بين المسلمين والحضارة الغربية، وكذلك فشل فكر (المقارنات)، الذي أراد توسيع الهوة، وتزايد تأثير الغرب في الواقع الإسلامي، كلّ ذلك أوجد حالة من القلق الفكري... ضمن حالة (دفاعية) قائمة على منطق العجز الحضاري من ناحية، وحالة (سلبية) مصدرها خوف الاحتواء من ناحية ثانية»[8]. وهذا يستوجب أسلوباً آخر، ونوعاً جديداً من المنهج، يتجاوز التلفيق، ويحقّق التجاوز بعد الاستيعاب.
[1] حاج حمد، محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية، ج1، ص 111
[2] حاج حمد، محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية، ج1، ص ص 111- 112
[3] حاج حمد، محمد أبو القاسم، منهجية القرآن المعرفية، ص 43
[4] المصدر نفسه، ص 44
[5] حاج حمد، محمد أبو القاسم، الأزمة الفكرية والحضارية، ص 206
[6] حاج حمد، محمد أبو القاسم، إبستمولوجية المعرفة الكونية، ص 17
[7] حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ج1، ص 149
[8] حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، ص 32