المواقف الفقهية المؤيدة لإخاء الأديان
فئة : مقالات
المواقف الفقهية المؤيدة لإخاء الأديان[1]
ينبغي التفريق هنا بين مصطلحين اثنين: رجال الدين والفقهاء، فرجال الدين هم السادة الواعظون الذين يتناوبون على منابر الجمعة في نصح الناس وإرشادهم إلى تعاليم دينهم. أما الفقهاء، فهم أولئك الذين يستطيعون الاستنباط من أدلة الشرع، ويكون مكانهم عادة في اللجان التشريعية والقانونية التي يشكلها الحكام لوضع القوانين للناس.
ويمكن القول: إن رجال الدين في الغالب لن يقبلوا فكرة إخاء الأديان على الإطلاق ومثلهم في ذلك مثل رجال الدين في الأديان الأخرى، إلا طائفة من الصوفية الذين يتبعون المذهب الإنساني ويعلون شأن الإنسان عند الله، ويكتبون في عدالة الله وحضوره في كل مكان وعجز الناس أن يختاروا لأنفسهم، وهؤلاء أفردنا لهم دراسة خاصة في باب الصوفية، وهم كثير.
ويمكن القول: إن الفقهاء في عصر الدولة الدينية كانوا أيضاً صدى لرجال الدين، وكان من الطبيعي أن يكون موقفهم صريحاً في وجوب احتكار الخلاص والجنة والنعيم الأبدي للمسلم، ومن ثم التسليم بأن أعمال غير المسلمين زاهقة وباطلة.
وهكذا، فإن الفقهاء في السياق التاريخي لم يقبلوا فكرة نجاة الأمم، وهناك ما يشبه الإجماع بين الفقهاء على أنّ العبادة المقبولة والعمل المقبول هو فقط ما يقوم به المسلمون الذين آمنوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وآمنوا بنسخ النبوات جميعاً بعد رسول الله، وبطلان كل شريعة سابقة أو لاحقة على الإسلام.
ولكن يجب القول: إن الفقهاء تطوروا في وعيهم بشكل كبير بعد ولادة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة، وباتوا قادرين على أن يستخرجوا من التراث الإسلامي أجود ما فيه، وأن يعيدوا سبل الاستنباط من الكتاب والسنة وأصول الفقه الإسلامي، وقد باتوا اليوم يقدمون التشريعات البصيرة التي تحقق المساواة بين أتباع الأديان، ومن ثم تفرض على المجتمع احترامهم واحترام ما يعتقدون، بوصف ذلك حقاً اجتماعياً ومسؤولية شرعية يقتضيها واجب الاستخلاف في الأرض.
وقد ظهرت آثار هؤلاء الفقهاء الكرام في النصوص الدستورية والقوانين التشريعية التي شاركوا فيها، وقد بات أكثر من (52) دستوراً في الدول الإسلامية البالغة (57) دولة تقر إخاء الأديان وكرامة الإنسان، وتدعو إلى المساواة بين أتباع الأديان واحترامها وتوفير حاجاتها ومطالبها الروحية والشعائرية بكل احترام وتقدير.
ونؤكد على أهمية هذا الموقف، فاللجان التشريعية التي تعتمدها الدول الإسلامية هي في الغالب من أكبر أساتذة القانون، ولا تخلو من فقهاء متخصصين في الشريعة الإسلامية، وحين توضع هذه المواد التي تؤكد على المساواة بين أتباع الأديان، فإنها تحظى بقبول كبير بين سائر الهيئة التشريعية، وقد رأينا النواب من الحركات الإسلامية في أكثر من ثلاثين بلداً إسلامياً برلمانياً يشاركون في وضع هذه القوانين وحمايتها، ويعتبرونها رصيداً مشتركاً بين الحركة الإسلامية والحركات الوطنية.
وخلال العشرين عاماً الأخيرة على سبيل المثال، لم نسمع بمطالبة برلمانية جادة في أي من الدول الإسلامية تطالب بتمييز المسلمين على غيرهم في القانون، أو ترفض الاعتراف بالديانات القائمة في البلاد، على الرغم من تناقضها الصارخ مع التوحيد، ويمكننا القول: إن النواب الإسلاميين الذين اختارهم السواد الأعظم من المؤمنين المتدينين قد أيدوا الدستور الوطني الذي ينص على مساواة الأديان والإخاء بين أتباعها، وهذا وصف دقيق لنواب الحركات الإسلامية وممثليها الجماهيريين في الدول الإسلامية البرلمانية ومنها تركيا وماليزيا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر وغيرها، وكل هذه الدول شاركت فيها الحركة الإسلامية بنواب فعالين، وقد أقسم هؤلاء على حماية الدستور، وكان سياق مشاركاتهم دوماً في ظل الدستور، ولم نسمع عن مطالبات جدية من الإسلاميين لتغيير الدستور خاصة في البند المتصل بمساواة الأديان ومنح أتباعها كامل الحقوق.
ومع تأكيدي ذلك، فأنا لا أنفي حصول هذا من بعض النواب، ولكنه على كل حال نادر وقليل، والنادر لا يقاس عليه.
ولكن من المؤكد أن هذه الهيئات التشريعية لا تطرح الأمر من جهة القبول الاعتقادي لممارسات الأديان، بل هي تنظم الجانب الاجتماعي منها، وتتجاوز الجانب الاعتقادي.
وقد شرعت الدول الإسلامية كافة أو على الأقل (52) دولة منها بالإذن ببناء المعابد للديانات المختلفة على أراضيها، وكانت الأرض تقدم على الغالب من خزينة الدولة (بيت مال المسلمين) وقد شيدت كنائس وكنس ومعابد هندوسية وبوذية وسيخية في كثير من بلاد المسلمين وفق الحاجة إلى ذلك، وما زالت خمس دول إسلامية ترفض هذا الانفتاح، وهي تحديداً السعودية وإيران والصومال وموريتانيا واليمن، مع التأكيد على المحافظة على المعابد القائمة فيها، ولا تزال دولة واحدة تمنع وجود المعابد لغير المسلمين، وهي تحديداً السعودية.
ولا بأس أن نشير إلى عدد من الفقهاء في عصور متقدمة أظهروا مواقف متقدمة في إخاء الأديان، وإن كنا لا نستطيع القول إنهم تبنوا هذا اللون من التفكير كموقف قائم على تأصيل منهاجي.
ولا بد أيضاً من التحفظ أن ما ننقله من كلامهم في التفاسير الأساسية قد يرد عليه ما يناقضه من التفاسير إياها أيضاً، وهذه طبيعة الدراسة التي تقوم أساساً على تأويل نص احتمالي حمَّال أوجه، فيه من الأدب والحكمة والموعظة والقصة والخبر، بخلاف النص الحقوقي الصارم المحسوم سياقاً وسباقاً ودلالة.
وبالجملة، فإن وجود هذه المرويات القليلة من كلام الفقهاء في قبول إيمان الأمم لا يغير ما قدمناه، وهو أن معظم الفقهاء إلا الصوفية على رأي واحد في رفض إيمان الآخرين وقصر القبول عند الله على أتباع الرسالة الخاتمة.
ابن رشد:
ويمكن أن نشير هنا إلى الإمام ابن رشد، الذي ذكرناه في الفلاسفة، وهو أيضاً من أعلى فقهاء المالكية وقضاتها شأناً، وكتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد لا يزال أهم كتب المالكية في الفقه المقارن، ويؤكد ابن رشد أن عالم الآخرة هو عالم روحي، وأن الأرواح هي التي تعذب أو تنعم، ولكنه لا يرى بأساً في التشبيه الجسدي للبعث؛ لأنه يفيد الناس، ويحثهم على الفضائل، وبذلك فإن العلاقة مع أهل الأديان لا ينبغي أن تقوم على الكراهية، وأن مشهد الآخرة ليس تعظيماً للمؤمن وتحقيراً لسواه، بل هي دار عدل وسعادة، والجميع من رحمة الله بمكان[2].
ابن عادل الحنبلي:
ونشير إلى موقف مهم لابن عادل الفقيه الحنبلي الكبير وصاحب (اللباب في علوم الكتاب)؛ وذلك في سياق تأويله لآية البقرة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البَقَرَة: 115]، فقال:
قال قَتَادة: إن النبي عليه السلام قال: «إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ»، فقالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم! فنزل قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عِمرَان: 199] فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القِبْلَة، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب، وما بينهما كلها لي، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي[3].
ابن أبي حاتم:
ونشير إلى موقف مهم لابن أبي حاتم الرازي عبد الرحمن بن محمد (327هـ) صاحب (تفسير القرآن العظيم)، وهو من كبار المفسرين المعتمدين عند أهل السنة والجماعة، فقد أورد كثيراً من الروايات التي تفيد قبول العمل الصالح من كل الأمم، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وأن كل من عمل الخير من كل الأمم فهو عند الله بمكان، ومنها: عن أبي سعيد الخدري وذكر حديثاً طويلاً فيه حساب اليهود والنصارى والمجوس، ثم يقول الله للملائكة: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيذهبون فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يرجعون فيقولون: ما تركنا في النار أحداً ممن أمرتنا أن نخرجه إلا أخرجناه، وكان أبو سعيد الخدري يقول: فإن لم تصدقوا بهذا الحديث فاقرؤوا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاء: 40] الآية[4].
ولا شك في أن ما ينقله ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري يوضح أن هذا هو موقف الصحابي أبي سعيد الخدري، وقد استدل له بعموم الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ}، في سورة النساء، وهو المعنى الذي تكرر في سورة الأنعام والنحل وسورة الزلزلة أيضاً.
العنبري (168هـ):
عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة للخليفة المهدي (ت 168هـ)، وقد اشتهر القول عن العنبري بأنه يرى الأجر والثواب لكل مجتهد في البحث عن الحق، واشتهرت عبارته في إعذار مثبتي القدر ومنكريه من المعتزلة والظاهرية فقال: هؤلاء قد عظموه وهؤلاء قد نزهوه، ولكن الجويني والسبكي نقلاً عنه أنه كان يقول بإعذار كل مجتهد مهما انتهى اجتهاده، سواء اهتدى إلى الإسلام أو إلى سواه، ونقل القرافي كلمته: كل مجتهد في الأصول مصيب، وليس فيها حق متعين[5].
وينقل الشاطبي في (الاعتصام) موقف العنبري فيقول: وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ كَانَ مِنْ ثِقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ رَمَوْهُ بِالْبِدْعَةِ بِسَبَبِ قَوْلٍ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُصِيبٌ، حَتَّى كَفَّرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ[6].
وَحَكَى الْقُتَيْبِيُّ عَنْهُ: كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ، فَالْقَوْلُ بِالْقَدَرِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَوْلُ بِالْإِجْبَارِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَهُوَ مُصِيبٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ رُبَّمَا دَلَّتْ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ»[7].
قَالَ: «وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ، فَكُلُّ مَنْ سَمَّى الزَّانِيَ مُؤْمِناً، فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ سَمَّاهُ كَافِراً فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ هُوَ فَاسِقٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ هُوَ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَقَدْ أَصَابَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي»[8].
وموقف العنبري في الحقيقة ومثله موقف الجاحظ أيضاً، هو تطوير لموقف الأصوليين في الاعتقاد، كما حكاه عنهم الغزالي في (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) حيث نقل إعذار الكافر إذا بذل مجهوده ولم يهتد للحق[9]. ولكن الغزالي بطبيعة الحال لم يقصد ما وصل إليه العنبري ولم يقره وشكك في الرواية عنه، مع أنه شاركه القول في أن من لم تبلغه الدعوة من النصارى واليهود على وجه تقوم به الحجة فهو معذور[10].
ولكن هذا الموقف المتسامح للعنبري وحتى الغزالي حظي بهجوم عنيف من عدد من الفقهاء ومن أشدهم ابن تيمية، وقد سبقه كذلك القاضي عياض فهاجم العنبري وكفره بشدة وألحق بمقولته أيضاً: داود بن علي الأصفهاني والغزالي نفسه فقال:
ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كَانَ عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ، وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ مِثْلَهُ عَنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَحَكَى قَوْمٌ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ فِيمَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الْجَاحِظُ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ: وَتَمَامُهُ فِي أَنَّ كَثِيراً مِنَ الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْبُلْهِ مُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ للهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَال، وَقَدْ نَحَا الْغَزَالِيُّ قَرِيباً مِنْ هَذَا الْمَنْحَى فِي كِتَابِ (التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ) وَقَائِلُ هَذَا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَداً مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ، وَكُلُّ مَنْ فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ أَوْ شَكَّ، لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمَنْ وَقَفَ فِيهِ فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ[11].
القشيري (465هـ):
يمثل أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن، وهو من أعلام المفسرين في كتابه (لطائف الإشارات في تفسير القرآن الكريم) مدرسة الصوفية من أهل السنة في العرفان بالله تعالى موقفاً متقدماً في قبول إيمان الأمم أياً كانت أديانها، وقد كتب في تأويل آية البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البَقَرَة: 62].
اختلاف الطريق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدّق الحق سبحانه في آياته، وآمن بما أخبر من حقه وصفاته، فتباين الشرع واختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان، لذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا} ثم قال: «{مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}، أي إذا اتفقوا في المعارف فالكلّ لهم حسن المآب، وجزيل الثواب، والمؤمن من كان في أمان الحق سبحانه، ومن كان في أمانه -سبحانه وتعالى- فبالحريّ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون»[12].
ثم قال: وَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُعَامَلَةِ اللهِ -تَعَالَى- لِكُلِّ الْفِرَقِ أَوِ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ بِنَبِيٍّ وَوَحْيٍ بِخُصُوصِهَا؛ الظَّانَّةِ أَنَّ فَوْزَهَا فِي الْآخِرَةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ صَابِئَةٌ مَثَلاً، فَاللهُ يَقُولُ: إِنَّ الْفَوْزَ لَا يَكُونُ بِالْجِنْسِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِيمَانٍ صَحِيحٍ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّفْسِ، وَعَمَلٌ يَصْلُحُ بِهِ حَالُ النَّاسِ؛ وَلِذَلِكَ نَفَى كَوْنَ الْأَمْرِ عِنْدَ اللهِ بِحَسْبِ أَمَانِيِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَثْبَتَ كَوْنَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ[13].
وقد كرر موقفه في الآية (69) من سورة المائدة:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ وَالنَّصارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المَائدة: 69].
بيّن أنهم -وإن اختلفت أحوالهم- تجمعهم أصول التوحيد فلهم الأمان من الوعيد، والفوز بالمزيد.
القاسمي:
وللشيخ جمال الدين القاسمي في (محاسن التأويل) موقف دقيق في تأويل آية البقرة، ذهب فيه إلى أن البشر لا يطالبون إلا بما قامت فيه عليهم الحجة بيقين، وأن الحساب والعقاب للمعاند الذي عرف الحق فجحده علواً واستكباراً، أما من عبد الله بدين غير الإسلام، ولم يبلغه ما يكفي لقيام الحجة والبرهان، فهو من الناجين على أي دين كان:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ وَالنَّصارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المَائدة: 69].
فقال: نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبريّ ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب، حتى في الأصول، ووافقه الجاحظ، قال الغزاليّ في (المستصفى): ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن كان معانداً على خلاف اعتقاده، فهو آثم. وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم. وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر، فهو أيضاً معذور. وإنما الآثم المعذب، المعاند فقط؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق، ولزموا عقائدهم خوفاً من الله تعالى، إذ استد عليهم طريق المعرفة[14].
وبذلك، فإن القاسمي ينقل عن جماعة من السلف القول بنجاة الموحدين من كل الملل، سواء نظروا أو لم ينظروا، ولا يرى هلاك أحد منهم إلا من قامت عليه الحجة بيقين، ولكنه ترك الالتزام وآثر هواه فأعرض واستكبر وكان من الكافرين.
تفسير المنار:
ذهب الشيخ محمد رشيد رضا صاحب (تفسير المنار) إلى القول بأن أَهْلَ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ -وَهُمُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِهَا وَبِشَرْطِهَا- إِذَا آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي بَيَّنَهُ نَبِيُّهُمْ وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَهُمْ نَاجُونَ مَأْجُورُونَ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى....
وقال: ثُمَّ أَزِيدُ الْآنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالتَّفْصِيلَاتِ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى اتِّبَاعِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَعَدَمِهَا...... وَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحَاسِبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ مَا بِحَسْبِ مَا عَقَلُوا وَاعْتَقَدُوا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَمُقَابِلِهِمَا[15].
وفي الواقع، فإن ما اختاره الشيخ محمد رشيد رضا أدنى مما ذهب إليه الإمام محمد عبده، ولكنه على كل حال يخدم الغاية نفسها، وهي ربط عدالة الله تعالى بمصير العباد، وتنزيهه عن العبث في خلق الخلق وزجهم في نار السعير.
ولا بد من الإشارة في النهاية إلى موقف لافت منسوب لابن تيمية، حيث يقترن اسم ابن تيمية بالمواقف المتشددة ضد العقائد الأخرى، وكتبه في ذلك واضحة وصريحة، وسنشير إلى طرف من فتاويه المشهورة في رفض إخاء الأديان، وقد دون كثيراً منها في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، وكذلك (مجموع فتاوى شيخ الإسلام)، وهي كتب صريحة في وجوب حصر الخلاص والنجاة بالمسلمين من أهل السنة والجماعة.
ولكن ابن تيمية بوصفه شخصية عامة مارس الفتيا والسياسة والحرب، وكان حاضراً بقوة في كل أحداث زمانه، فقد تعددت الرواية عنه، وظهر منه مواقف مناقضة لمبدأ الولاء والبراء الذي يقتضي بغض غير المسلمين حتى يدخلوا في الدين الحق.
ونشير هنا إلى دراسة مهمة نشرها الباحث محمد خير العبود، بعنوان (قواعد التعايش بين أهل الأديان عند ابن تيمية)، حيث يؤصل لعشر قواعد أساسية اعتمدها ابن تيمية تكرس أفقاً من التعايش بين أهل الأديان، ومن أهم هذه القواعد تأكيد وحدة الدين في الأصل مصدراً ووحياً، وكذلك التأكيد على إمكان التأسيس لمشترك أخلاقي بين أهل الأديان، وكذلك رفض الإكراه في الدين، وتفصيل القول في فقه أهل الذمة الذي يمكن تطويره باستمرار لتأمين الحقوق الإنسانية للمخالف في الدين.
وتؤكد هذه الاختيارات أن الفقه الذي يتداوله طلبة الشريعة في حلقاتهم المغلقة هو فقه متشدد غالباً، فإذا نزل إلى ساحة التطبيق والإدارة والشأن العام، فإنه لا بد أن يمارس بعض الإصلاحات الضرورية، وأن يتنازل عن بعض الثوابت التي تبناها في تشكله الفقهي، وهذا ما يمكن ملاحظته بدقة في أعمال ابن تيمية.
وإذ نشير إلى هذا البحث الفريد، فإننا نؤكد أن الغالب المعروف من كتب ابن تيمية هو التشدد مع المختلف دينياً، وفي الواقع لن يكون حظ النصارى والمجوس واليهود في التسامح عند ابن تيمية أحسن من حظ المسلمين أنفسهم من الصوفية والأشعرية الذين هاجمهم ابن تيمية بلا هوادة[16].
على كل حال، فإن الفقهاء ورجال الدين تاريخياً قدموا رؤية رافضة لإخاء الأديان، وليس من الصواب البحث في خياراتهم عن إخاء الأديان، وإن كان بالإمكان الحصول على نصوص وفتاوى في التعايش الديني والاجتماعي.
ولكن القرون الأخيرة دفعت الفقهاء إلى اختيارات واقعية في إخاء الأديان، وظهر الفقيه المتمرس بحقوق الإنسان، والتعارف بين الأمم والشعوب، وقد نجح هؤلاء الفقهاء في تقديم رؤية مختلفة للآخر في الإسلام، تتضمن على الأقل تحقيق مساواة الأديان في السياق التشريعي والحقوقي، وحين عهد لهؤلاء الفقهاء بكتابة الدساتير والقوانين نجحوا في تسطيرها في دساتير الدول الإسلامية الحديثة وقوانينها، ولا تجد دستوراً معتمداً لدولة مسلمة إلا وفي اللجنة التي أعدته أعلام من الفقهاء الراسخين، والأمر نفسه في القوانين المدنية والجزائية والشخصية، وهؤلاء ينجزون نصوصاً تشريعية حديثة ومتقدمة قائمة على المساواة بين أتباع الأديان، ومنع احتقار أتباعها أو نصوصها أو مقدساتها، وهذا كله مخالف للسياق الذي كتب به الفقهاء في التاريخ الإسلامي قبل قيام الدولة الحديثة.
أما رجال الدين، فلا يزال موقفهم الاعتراض والرفض لإيمان أي إنسان إلا أن يتبرأ من كل الأديان ويدخل في الإسلام، وهم مستمرون للأسف في تحقير أديان الآخرين، واتهامها بالتحريف والتزييف والضلال، ولا تزال منابر الجمعة في كثير من بلاد المسلمين مسرحاً لتسخيف اليهود والنصارى وغيرهم من الأديان، وتفصيل القول في توعدهم بالعذاب الشديد في الآخرة والهوان والذل في الدنيا، ولا يستثنى من ذلك إلا السادة الصوفية الذين يؤمنون برحمة الله تعالى بلا حدود.
كتب الديارات:
ونجد من المفيد هنا أن نضيف فقرة نتحدث فيها عن كتب الديارات في التراث الإسلامي، والمقصود بالديارات جمع دير، وقد كتب عدد من الأدباء كتباً في وصف الأديرة في المدن الإسلامية، ومن المدهش أن ما قدمه هؤلاء الأدباء ناضح بروح من المودة والمحبة والثقة كانت سائدة بين الأديب المسلم، وبين المجتمع الكهنوتي في الأديرة، حيث يتعبد الرهبان النصارى، فقد كان الأديب يصف عجائب الدير وحسن ما فيه وينظم الأشعار الجميلة والفريدة، وما يكون فيه من الأعياد والمناسبات والأحزان والأتراح، ويروي عن الرهبان بديع الكلام، وفريد الحكمة، وهو ما يعكس هامشاً حيوياً من إخاء الأديان تقدم إليه الأدباء في الإسلام وإن كان قد انصرف عنه الفقهاء ورجال الدين.
ومن أهم كتب الديارات:
الديارات للأصفهاني:
هو علي بن الحسين أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني توفي (356هـ) الموافق (967م) وقد ترك تراثاً ضخماً في الأدب والرواية، وفي كتابه (الديارات) يقدم الأصفهاني تعريفاً بـ (52) ديراً في العراق والشام، ويمهد بمقدمة يتحدث فيها عن الأديرة ووظائفها الدينية والاجتماعية.
وتعكس الروايات التي قدمها والقصائد الأربعون التي رواها بمطلع: يا دير، تكشف عن روح من الإيجابية والوداد كانت تسود بين مجتمعات الرهبان وبين محيطهم القروي، ويروي عشرات الأخبار عن زيارات قام بها فقهاء مسلمون لهذه الأديرة، ومدى الأمان الذي كان متوفراً لأصحاب الديارات ونزلائها، وحجم التعاون بينهم وبين المجتمعات المحلية.
الديارات للشابشتي:
علي بن محمد الشابشتي توفي (390هـ) وكان معاصراً ونديماً مقرباً للخليفة الفاطمي العزيز بن المعز، وكان يطوف عليه بنوادر الآداب، وكان من أجود ما كتبه كتابه (الديارات) التي تحدث فيها عن نحو أربعين ديراً في العراق والشام وفلسطين ومصر، وكان يقدم هذه الأديرة بروح من الصفاء والإعجاب وحسن المعاملة، ويشير إلى ما كان يلقاه من تكريم ومودة فيها.
شعر الديارات للشتيوي:
ونشير أيضاً إلى عمل مهم للدكتور صالح الشتيوي، وقد نشرته وزارة الثقافة في الأردن، وقصد إلى جمع أهم ما كتب في الديارات، وكذلك أهم ما يروى عن الديريين، من كهنة ورهبان، في الغزل والفن والخمرة والوداد والعشق، ويرسم من خلالها صورة المجتمع الإسلامي بلونيه الإسلامي والمسيحي في العصر الذهبي للإسلام.
ويجب القول: إن هذه الإضافة المهمة عن الديارات تستحق جهداً أكبر لاستقصاء هذا الجانب الجميل في الأدب العربي، حيث يقوم الأدب والفن بدوره كجسر للإخاء والمودة بين أبناء الديانات، بعيداً عن اشتراطات الفقهاء وقيودهم.
[1] - مقتطف من كتاب "إخاء الأديان" الصادر عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع- لبنان.
[2] - انظر المبحث الخاص عن الإمام ابن رشد في هذا الكتاب في فصل إخاء الأديان في التراث الإسلامي.
[3] - ابن عادل الحنبلي، عمر بن علي، اللباب في علوم الكتاب، ج2، ص413
[4] - رواه الطيالسي في مسنده عن أبي سعيد الخدري، ج3، ص629
[5] - القرافي، أحمد بن إدريس، نفائس الأصول في شرح المحصول، دار الطباعة الفنية، 1973، ج9، ص375
[6] - الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الاعتصام، ج1، ص255
[7] - المصدر نفسه والصفحة نفسها.
[8] - الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الاعتصام، تحقيق الهلالي، ج1، ص96
[9] - الغزالي، محمد بن محمد أبو حامد، فيصل التفرقة، ص87
[10] - الجويني، أبو المعالي إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله، لمع الأدلة، دار المعارف، 1984م، ص26
[11] - القاضي عياض بن موسى بن عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفيحاء، عمان، 1987، ج2، ص282
[12] - القشيري، عبد الكريم بن هوازن، لطائف الإشارات، الهيئة المصرية للكتاب، ج1، ص96
[13] - محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج1، ص279
[14] - القاسمي، جمال الدين، محاسن التأويل، ج1، ص317
[15] - محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية للكتاب، ج1، ص281
[16] - عبود، محمد خير، أصول التعايش بين أهل الأديان عند ابن تيمية.