الموت والثقافة
فئة : مقالات
الموت والثقافة[1]
انشغل الإنسان منذ فجر البشرية بهاجس الموت، وأخذ هذا الهاجس مجالاً كبيراَ من فكره واهتماماته، حيث برز ذلك واضحا في الآثار المخلفة على جدران الكهوف في المراحل المبكرة من حياة الإنسان البدائي، وفي الآثار الناتجة عن طقوس التكيف مع الموت في بعض الحضارات المتعاقبة. ومع تطور وسائل الإنتاج والعيش وما أعقبها من نموّ فكري تمثل في إيجاد مجموعة من الأنساق لترجمة الموقف من الموت، ظهرت ممارسات سلوكية، وأخرى كتابية عملت على مواجهة الموت بما تملك من أسباب المواجهة وحسب الأنماط الاجتماعية والثقافية المتطورة... وهكذا كانت الأسطورة طريقة في فهم العالم وتأويله؛ وحظي الموت فيها بنصيب وافر لا يطوله جانب آخر. لقد ابْتُكِرت سرودٌ كثيرة لمحاصرة الموت وجعله فاعلا ومنفعلا في الملحمة الكبرى التي صاغها سكان اليونان وبلاد الرافدين وغيرهما من الشعوب.
وبعد المرحلة الأسطورية، ارتقى الفكر البشري إلى درجة ابتكار مناهج فلسفية في التفكير، وكان الموت خلال ذلك هو البؤرة التي تتجاذبها كل الخيوط؛ بل إن بعض الفلاسفة، ومنهم سقراط، جعلوا الفلسفة رياضة روحية وتدربا فكريا على استقبال الموت وتقبله، فعن طريق ذلك يصبح الفرد مستعدًّا لاستيعاب لحظات الاحتضار؛ وهذا ما تؤكده المحاورة الأخيرة التي جمعت سقراط وتلامذته، عندما أصدرت هيئة المحلفين حكمها عليه بالإعدام.. فلم يكن أمام هذا الفيلسوف الفذ إلا أن يرفض عروض تلامذته التي كانت تقترح حلولا تجنبه تنفيذ الحكم عليه، وهي حلول تأكدت هشاشتها للفيلسوف لكونها مقترنة بتنازلات لا تليق بمن جعل الفلسفة تمريناً مضنياً يسهل معه استقبال الموت وتقبله.
إن أيّ مفهوم للموت لا يمكن أن يكون إلا ثقافيا، وأي شعور بالخوف منه لا يتعمق إلا بإعمال التفكير وتشغيل الطاقات التخيلية حيال مصير الإنسان المحاط بكل الأسباب والشروط المهددة بزواله. فشرط الوجود الجسدي خلَق بالغريزة الحرصَ على المحافظة عليه، ثم نما الشعور الغريزي بما تراكم من خبرات ومهارات ترجمها الوعي إلى أفكار مجردة، تتطور باستمرار آخذة في بلورة نسقها الذي تمثل ــ بدايةً ــ في التفسير الأسطوري قبل أن تهجم الفلسفة الإغريقية عليه، من خلال صراع العقل مع المنظومات السحرية والطقوسية، في محاولة الإقناع بأن الخبرة بالقُدسي لا يمكن اكتسابها بنشوة صوفية يخلقها الطقس، ولا برؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة، كما يرى أفلاطون مثلا(1).
من هنا نرى أن الفلسفة اليونانية برمتها قامت على أساس تعلم الموت أو التدرب على مواجهته. فهذا سقراط يصرح أمام أتباعه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه: "إن أولئك الذين يوجهون أنفسهم في الطريق الصحيح إلى الفلسفة، يعدون بذلك مباشرة وبمحض إرادتهم، يُعِدون أنفسهم، لأن يموتوا وللموت. وإذا كان هذا صحيحا فهم، إذن، في الواقع يتطلعون للموت طول حياتهم. ومن غير المعقول، إذن، أن يضطربوا عندما يَقْدِمُ الشيء الذي كانوا لأمد طويل يعدون أنفسهم له ويتوقعونه."(2) والفلسفة بهذا المعنى، تمرين فكري يعمل على إضعاف الهواجس والشعور بالخوف من الموت. أو هي فن التهيؤ للموت بشجاعة، بل أكثر من ذلك يجهر سقراط في يومه الأخير بأن "الفلاسفة الحقيقيين يجعلون الموت مهنة لهم".(3)
وإذا كانت الفلسفات القديمة قد انشغلت بالموت كمفهوم أنطولوجي شامل، في سياق علاقة الجسد بالروح، مع تباين واضح في القبول بالتفسير الميتافيزيقي المتعالي أو رفضه؛ فإن الفلسفة المعاصرة قد واصلت أسئلتها حول الموت ولكن بإيقاعات مختلفة مع استحضار للتراكم الفكري القديم كمرجعية أساسية لم تفتقد طراوة التأمل وإمكانيات التفسير. كما أن ظهور علوم أخرى في إطار البحث الفلسفي كالأنثروبولوجيا وعلم النفس، قد ساهم بكيفية بارزة في إثارة موضوع الموت ومعالجته من زوايا متعددة. وقد تنوعت مفاهيم الموت تبعا للتوجه الذي يصدر عنه الباحثون، حيث نجد معظم الأطروحات الفكرية تركز على تعريف الموت كفعل ثقافي أكثر منه كفعل طبيعي.
وهكذا نرى أن حقيقة موت (الآخر) تتجلى في موت ما كان يتميز به من أخلاق وسلوكيات أكثر ما تتجلى في تحوله إلى جثة فاقدة لكل حركة؛ فعند "برينو كاست" Bruno Castes أن "موت شخص محبوب، يعني موت شيء مرئي في الشخص الحي المحب، شيء يفتقد ويموت فينا. فالحب والعطف والطيبوبة يمكن أن تعوض أو تسترجع، ولكن ليس بنفس الخصوصيــة التي كان يسبغهــا الميت علينــا. هنا فراغ يخلق"(4)، ومعنى ذلك: أن تموت يعني أن تقتل في (الآخر) كل شيء حي كوّنه عنك. فالميت يصبح قاتلا للعلاقة الطيبة التي سبق أن ربطها مع (الآخر) وسالبا لها. أما عن تأثيره كجثة، فهو يمنحنا فرجة ما سيحدث لنا: التحول إلى جثث.
إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر autre؛ أي حالة اللاموضوع"(5). ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور، باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له، أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما، فيصبح الموت ملاذا ومأوى. ويعتقد "روسيه" Rousset أن "النوم والانقطاع والحاجة إلى النوم والرغبة في الانقطاع كلها تمثل بالنسبة إلى المحلل النفسي أشكالا أخرى للموت"(6). وهي كلها أشكال تدل على وجود غريزة الموت في الإنسان. وهناك مفهوم اجتماعي للموت استطاع أن يرقى إلى إذاقة الإنسان طعم الموت وهو حي يرزق؛ فقد "أقر في الغابون قانون: كل محكوم عليه بالإعدام لا يقتل، بل يشطب اسمه من الحالة المدنية، كما لو أنه لا يوجد، أو أنه منــبــوذ. إنه مــوت أقوى من أي مــوت آخر، إنه موت اجتماعي"(7).
من هنا يتضح أن الإنسان استنتج من الموت الطبيعي للجسد تصورات ثقافية من أجل إقرار الموت كمفهوم رمزي يتجاوز آثار الانفصال التي يسببها موت الجسد. ثم، لِمَ ننظر دائما إلى الموت كحدث سلبي يفقدنا بهجة الحياة؟! "فالموت يشكل مصدرا للدخل والكسب، فبفضله تباع التوابيت النفيسة والأماكن المفضلة في المقابر، ولا ننسى بائعي الزهور والأكاليل، .. وكل ذلك يصبح بشكل تلقائي مصدرا للكسب".(8) وعند المسلمين يعتاش بفضله كذلك مجموعة كبيرة من حفظة القرآن والقائمين على حفر القبور وتزيينها بالكتابة على الجبص والرخام.
إن الموت ــ بهذا الطرح ــ يغدو مكملا لدورة الحياة التاريخية، فموت شخص ينتج عنه تفعيل لحياة أشخاص آخرين يرتبط شرط استمرارهم في الحياة بما يعقب الجنازة من بذل وإنفاق وإرث.. وقد يكون الميت سفاحاً أو ديكتاتورا بوصفه مسببا لموت الكثيرين، فيخف ــ بموته ــ إيقاع الهلاك. ومع ذلك، تصبح هذه النظرة ممعنة في بساطتها، إذ لا تملك قدرة المواجهة الوجودية لما يتهدد حياة البشر. وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع بعدد من المفكرين إلى دخول حلبة التأمل من أجل استنتاج أي تخريج عقلي يمنح الإنسان الشعور بالطمأنينـة. فعنــد "كيركيجارد" Kierkegaard أن "الموت شيء لا يمكن تجنبه من حيث إننا أشخاص تاريخيون حقا. ولهذا السبب، فإنه ليس حيلة أو خدعة قاسية من الطبيعة، ولا هو شيء مفروض غير عادل من القدر. فليس هناك أي شر في الموت. وفي الحقيقة ليس هناك شيء نهائي يمكن أن يقال عن الموت، لأن المــوت هو في نهايـة الأمر مجــرد حدث في تيار الصيرورة الذي لا يتوقف".(9)
أما قضية الخوف من انتزاع الموت للذة السرور، فيعالجه أبيقور بما يلي: فما دمنا لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، فالأولى بنا ألا نتطلّع أبدا إلى مصدر سرورنا ولذتنا، وكل من يفعل ذلك يكون معرضا لأن لا تتحقق له هذه الرغبة، ويصبح بالتالي محبطا في مسيرة حياته. ذلك أن كل ما نطمح إليه في المستقبل معرض للتهديد الدائم من التغير والموت(10). ولعل أبيقور يحسم المسألة باعتبار الذوات كيانات تؤلفها الذرات، وعندما تتشتت هذه الذرات يحدث الموت؛ بمعنى أن الجسد الحي ليس موجها من قبل قوة خارجية، بل طبيعة في المادة ذاتها. ولذلك عاش مرددا شعاره المبدئي: "اترك الموت يمتلك المستقبل وعش أنت الحاضر"(11). وإذا كان طرح أبيقور لمسألة الموت طرحا يزاوج بين النبرة الوجودية والتخريج العلمي، فإن الفكر الوجودي المعاصر عمل هو الآخر على الابتعاد من المسلمات الدينية والهروب من الميتافيزيقا إلى التبرير الكلامي والتفسير العلمي في محاولة نفي المــوت عن علاقة الإنســان بذاتــه؛ لأن هذا المــوت ما هــو إلا "حدث واقعي ماثل في صميم الحياة منذ البداية، وكأنما هو واقعة مستمرة لا تكاد تنفصل عن فعل وجودي نفســه"(12)، وأي فصل بين التجربتين المندمجتين: الحياة ــ الموت يلقي بصاحبه إلى الشعور بالخوف الرهيب من مأزق الانتقال من مرحلة الحيوية والامتلاء إلى مرحلة الفناء والمجهول. وعلى هذا الأساس، يسارع فريديريك نيتشه Nietzsche إلى تقديم تأويل فلسفي ينجح في تشخيص هذا الفصل المؤلم بين التجربتين، حيث يقول: "إذا كنا نعيش متجهين إلى الأمام، فإننا نفكر دائما متجهين إلى الوراء."(13) وهذا يعني أننا لا نوازي زمنيا بين العيــش والتفكير، والذاكرة، هذه الخزانة الكبيرة التي تحتفظ بكل الذكريات هي سبب تعاستنا، لذلك يبادر نيتشه إلى علاج هذا المأزق الوجودي بنظرية (العود الأبدي)، حيث يقول: "كل شيء يمضي، كل شيء يعود، وتدور إلى الأبد عجلة الوجود، كل شيء يموت، كل شيء يتفتح من جديد، وخالدا يمضي زمن الوجود، الأشياء كلها تعود في خلود، ونحن أنفسنا كنا بالفعل مرات لا حصر لها ومعنا الأشياء."(14) لكن ما يلاحظ على نظرية العود الأبدي هو طرح نسق يؤمن بالشمولية والخلود، ولكنه يلغي القيمة الوجودية للشخص في حد ذاته، ويسلبه خصوصيته الفكرية والوجدانية، مما يجعل هذا الطرح مناقضا تماما لما كفلته الأديان السماوية للإنسان من حق الوجود الذاتي، واختيار المصير الذاتي الذي لن ينتهي بفناء الجسد.
إن خروج آدم وحواء من الجنة هو، في الحقيقة، خروج إلى قلب الزمن المتتابع الذي يجعل منهما كائنين تاريخيين يواجهان مسـتقبلا مجهولا، لكنه مختوم بموت حتمي؛ ففي التوراة وصية لآدم ترد في (تكوين: 2/16-17) مفادها أن يأكل آدم من كل أشجار الجنّة بِحُرّية إلا شجرة معرفة الخير والشر، لأنه إذا أكل منها فسوف يموت؛ ومعنى ذلك أن المعرفة والخلود لا يمكن أن يجتمعا. فقد كان على آدم أن يختار بين اثنتين، إما الخلود أو المعرفة، لكنه آثر أن يختار الثانية.
وإذن، فالموت في الدين يفقد أي نزوع عبثي، كما يفقد كل رهبة تحاط به، ويصبح الخوف منه مسألة نسبية تتفاوت بين الناس، انطلاقا من التراكمات السلوكية التي حققوها خلال حياتهم؛ فـ "عندما ينظر اليهود إلى الموت، فإنهم يرون الحياة، وعندما ينظرون إلى الحياة، فإنهم يرون الرب. والرب الذي يرونه هو المصدر المباشر لكل ما هو عليه ولكل ما يعملون. وهذه الصفة من الاحتفال والابتهاج بمركزية الرب ظلت صفة دائمة في صلب الحياة الدينية لليهود."(15) من هنا يتهمش دور الموت، فلا يعود مركزا للاهتمام في الأديان لأن الوجه المضيء للحياة يشغلهم بتفاصيله التي خطها الرب في كتبه السماوية عن أية إمكانية أخرى للالتفات إلى فناء الجسد. وفي المسيحية، لا يعتبر الموت سؤالا مركزيا أو محوريا، ولا يصح أن يكون سؤالا على الإطلاق بالنسبة إلى يسوع ولأتباعه؛ لأن رسالته متجهة إلى أمور الحياة، وكأنما أمور الموت كلها يجب أن تترك للموتى. والمسيح يقول: إن الربّ، ليس هو إله أموات بل إله أحياء (16)، فهم عنده أحياء في الدنيا وأحياء في الآخرة عندما يبعثون.
إن الجسد الدنيوي إرث ثقيل انحدر من الفردوس لإعطاء الفرصة الثانية لأصحابه لعلهم يعتبرون مما لحق بآدم وزوجته بعد عصيانهما. وربما كانت السماء رحيمة بهذا الجسد، عندما خلقت الروح الشبيهة به وجسدتها في المسيح، ففي الكتاب المقدس أن "ما عجزت عنه الشريعة، لأن الجسد أضعفها، حققه الله عندما أرسل (ابنه) في جسد يشبه جسدنا الخاطئ، كفارة للخطيئة في الجسد ليُتِمَّ ما تتطلبه منا أحكام الشريعة، نحن السالكين سبيل الروح لا سبيل الجسد. فالذين يسلكون سبيل الجسد يهتمون بأمور الجسد، والذين يسلكون سبيل الروح يهتمون بأمور الروح. والاهتمام بالجسد موت، وأما الاهتمام بالروح فحياة وسلام. لأن الاهتمام بالجسد تمرد على الله، فهو لا يخضع لشريعة الله ولا يقدر أن يخضع لها. والذين يسلكون سبيل الجسد لا يمكنهم أن يرضوا الله."(17)
لقد أصبح الجسد مؤقتا بمجرد أن أكل الإنسان من شجرة معرفة الخير والشر، وعليه أن يتحمل مسؤولية مصيره المرهون للموت عن طريق اتباع التعاليم التي جاء بها رسول رحيم هو عيسى بن مريم الذي لم يتوان في تقديم النموذج أمام الناس، جسده تسامحه وتضحيته في محاولة لتجنيبهم السقوط في الخطيئة الثانيـــة، ومن ثم يتعرضون للموت الثاني "فليحكم عليهم بالفراق الأبدي مع الله وتكون النار مأواهم."(18) والمسيح في حد ذاته، يكرس فكرة الانبعاث بعد الموت، فبعد أن قتل وصلب ودفنه بعض أتباعه، حــدث ما لم يكن في الحسبان، ففي اليوم الثالث بعد موته ذهبت امرأتان (أو ثلاثة حسب رواية أخرى) ليرين كيف وضع في القبر، وإذا بهن يكتشفن أن القبر خال. وظهر لهن ملاك، وطلب منهن أن يعلمن الآخرين أن يسوع قد قام من الموت. وقيل إنه شوهد في الجليل بعد ثلاثة أيام من موته، وكان قد تنبأ بذلك في جلسة مع أتباعه. وفي ذلك دليل مسيحي على أن جسده، في الحقيقة، كان للتمويه الذي يقصد به تقديم القدوة وإعلان إمكان الظفر بالحياة الأبدية التي لا يطولها الموت البيولوجي للجسد، وهو خيّر أتباعه – في العشاء الأخير ــ بين الحلول فيه، ومن ثم اكتساب الأبدية وبين الانشغال بمطالب الجسد الكثيرة التي تتنافى مع الفضيلة، ومن ثم تكون العاقبة موتا أو فناء لا انبعاث فيه.
أما في الإسلام، فيحضر الموت في النص القرآني، باعتباره حدّاً مطلوبا أو أمنية مرغوبا فيها؛ وبذلك ينتفي عنه المفهوم السلبي الذي طالما أرّق البشر وأوقعهم في الحيرة والقلق... إنه مفهوم يلغي كل الأسئلة الفلسفية، وينحو منحى تبسيط فكرة الموت؛ وذلك عن طريق دعوة الناس إلى تمنّي الموت، ليكون ذلك حجة على صدقهم: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)(19) والصدق المراد هنا ينسحب على الأعمال الدنيوية وعلى النوايا كذلك. وقد ينحو النص القرآني إلى الإجابة عن أسئلة فلسفية شائكة لطالما حيّرت الإنسان المتأمل في حقيقة الوجود، من مثل: ما أصل الوجود؟ كيف بدأت الحياة؟ وإلى أين نحن سائرون؟! ففي سورة البقرة: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون).(20) إنها سلسلة من تعاقب الحياة والموت تختزل البدء والنهاية، وبينهما تنداح الأزمنة صاغرة لكونها تخضع لسلطة عليا تتحكم في إيقاع انسيابها؛ وفي ذلك يقول جلال الدين محمد أحمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمان السيوطي في تفسيرهما: "كيف تكفرون يا أهل مكة بالله، وقد كنتم نطفا في الأصلاب فـ (أحياكم) في الأرحام والدنيا بنفخ الروح فيكم، والاستفهام للتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو للتوبيخ (ثم يميتكم) عند انتهاء آجالكم (ثم يحييكم) بالبعث (ثم إليه ترجعون) تردون بعد البعث فيجازيكم بأعمالكم."(21)
كما أن الفنون في مستوياتها المختلفة كانت الصدى الجمالي لفكرة الموت، عبّر من خلالها أولئك المحتكمون إلى وجدانهم عن ردود أفعالهم، وعن هواجسهم ومخاوفهم، فأسهموا بحق في صياغة منظور يؤازر التراكمات الفكرية المتنوعة التي اجتهدت في التخفيف من الإشكال الذي طرحه موضوع الموت.
كل هذه التراكمات الفكرية والإبداعية صارت فيما بعد تركة رمزية، يتأسس عليها كل مشروع فكري أو جمالي جديد، يطمح إلى ترميم المفارقات التي أوجدتها فكرة الموت والتخفيف من تنافر أطرافها المتباعدة. وبمعنى آخر، أصبحت تلك التراكمات مرجعية في تشكيل أي وعي يؤمن بروح الحوارية التي سادت كل الحضارات الإنسانية..
وغير خاف أن الشعراء العرب المعاصرين لم يستطيعوا تجاوز تلك المرجعيات، باعتبارها أنماطا ثقافية تستوعب في مراحل معينة، ولكنها تعاود الظهور في خطابهم الشعري بأشكال متعددة وطرائق مختلفة؛ ذلك أن النصوص الشعرية المتحققة لا تكتب من فراغ، لأنها أوعية لحوارات تتأسس بين نصوص أخرى، أو هي مراكز لتكثيف نصوص أخرى سابقة، ويتم ذلك بشكل واع أو غير واع. وقولنا "نصوص أخرى"، لا يعني إقبار جهد صاحب النص الجديد، فهو الذي يمتص ويعيد الإنتاج ويبتكر لغته الخاصة. كما أن النصوص المتحاورة تدخل في زمرتها مرجعيات أخرى لا علاقة لها بالكتابة؛ ومن ذلك الواقع المعيش والأحداث المؤثرة وحدث الموت نفسه بقوته الوجودية، وبصفة المجهولية التي تحيط به، فيغدو مكونا بنيويا داخل النصوص التي رام فيها الشعراء تقديم رؤيتهم له.
يتضح من هذا الطرح الثقافي لمفهوم الموت، أن الإنسان المعاصر قد شُغل عن الخوف منه بطموحاته المادية والاقتصادية غير المحدودة، لذلك نجده يمعن في ابتكار جنوني لوسائل الموت من أفكار ووسائل وأدوات سعياً إلى تحقيق إشباعه المادي النهم، غير عابئ بالتناقض الذي يورط نفسه فيه؛ ذلك أن لكل شيء ثمنا. ففي الوقت الذي استهدف القضاء على البطء باختراع آلات لتسريع الإيقاعات، فإنه كان في الوقت نفسه يخترع ما يتسبب في الموت العبثي الذي يحين في غير وقته. وأنه عندما تطرف في فكره الديني والعنصري، ادعاء منه للتقية، فإنه بذلك كان يجند جيشا إرهابياً كبيراً للفتك بالحياة الإنسانية فوق الأرض، دون مراعاة للضوابط الحقوقية والأخلاقية والديمقراطية. هذا فضلا عن الحروب التي لا تريد أن تتوقف أبداً منذ أن أشعلها أول إنسان انحرف عن جادة الصواب. ونراها اليوم، تعصف بالأعداد الوفيرة من الضحايا من كل الأعمار. وبذلك، يصبح الموت حالة يومية خرجت عن مفهومها الطبيعي والتاريخي، لتتلبس بمفهوم ثقافي لا تراجيدية وأكثر مأساوية.
[1]- مجلة ذوات العدد43
(1) يمكن الرجوع إلى طبيعة الصراع بين الفلسفة والأسطورة في كتاب: (الأسطورة والمعنى) لفراس السواح، دار علاء الدين ــ دمشق 1997، ص 22 وما بعدها.
(2) جيمس ب. كارس، الموت والوجود، ترجمة: بدر الديب، المجلس الأعلى للثقافة ــ القاهرة 1998، ص 19
(3) المرجع نفسه، ص 20
(4) Bruno Castes : Le visage de la mort, in : La Mort Aujourd’hui, publié sous la direction de : Louis Vincent Thomas – Bernard Rousset – Trinh Vanthao. Editions Anthropos. Paris 1977, p. 147
(5) Ibid., p. 149
(6) Ibid., p. 120
(7) Ibid., p. 120
(8) Problèmes de la mort aujourd’hui, in : La Mort Aujourd’hui, op.cit.,p p. 19 – 20
(9) جيمس ب. كارس، الموت والوجود، ص 585
(10) المرجع نفسه، ص 51
(11) نفسه، ص 52
(12) زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، مكتبة مصر (د.ت)، ص 125
(13) ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية، ترجمة: فؤاد كامل، الدار المصرية للتأليف والترجمة (د. ت)، ص 55
(15) جيمس ب. كارس، الموت والوجود، ص 237
(16) المرجع نفسه، ص 288
(17) إنجيل متى (العهد الجديد) جمعية الكتاب المقدس في لبنان 2001ـ حياة الروح ـ الآية 8
(18) LA SAINTE BIBLE – Société Biblique de Genève (INDEX BIBLIQUE). p. 1290
(19) سورة البقرة ــ الآية 94
(20) سورة البقرة ـ الآية 28
(21) تفسير الجلالين، وبذيله: أسباب النزول للسيوطي، دار الفكر، بيروت 1987، ص 11