الميولات الراديكالية وخطاب الهوية: المدرسة فضاء للتشكّل
فئة : مقالات
تقديم: ملامح خطاب الهوية: بما هو خطاب متشابك[1]
ثمة زاوية غموض تتسّع مع تواصل تلهّي التناول السوسيولوجي للفكر الراديكالي بالحقل النظري والتنظيري عن مسائلة المدرسة كفضاء للتنشئة وبناء التصوّرات، وتشكّل صورة الذات عن نفسها من خارجها؛ أي عبر الفعل التعليمي للمدرّس بما هو فعل يمتنع عن أن يُسيّج في مضامينه التعليمية. فالمدرّس فاعل رئيس في تشكّل شخصية المتعلّم وبناء عالمه الاجتماعي الذي تتحدّد به وعبره روابطه الاجتماعية مع الآخر بمتعدّد أشكال حضوره في الفضاء العام. فمجال الدرس أي الفصل الدراسي هو حقل رمزي موسوم بدينامية تتسلّل إليها وعبرها مرجعيات القيمة للمدرّسين وتصوّراتهم لمكانتهم وأدوارهم وللمضمون السياسي لفعلهم التعليمي.
إن خطاب الاصطفاء بعبارة علي حرب يمارس وصاية على الذات وعلى الهوية بمنطق ثبوتي اصطفافي يمثّل "اعتداء رمزيّ على الآخرين"
نحتاج اليوم إلى أن تنتبه السوسيولوجيا إلى خطاب الهوية الذي تنتجه المدرسة وأن تستشكل مسؤوليتها في تشكّل الميولات الراديكالية الدينية أو اللادينية لدى الشباب المتعلّم؟ ويستوجب استشكال العلاقة مدخلا تفكيكيّا لبنية خطاب الهوية الذي تنتجه متعدّد مكوّنات الفعل التعليمي في المدرسة التونسية انطلاقا من واضعي البرامج التعليمية والمنهاج التعليمي إلى المدرّسين كفاعلين محوريين في نقل مضامين هذه البرامج التعليمية ولكن أيضا وبالأساس تشي رؤية المتعلّم لذاته ولروابطه الثقافية والتاريخية بالآخر وتمثّلاته لغيريته واختلافه التي يستنفر سلطة الفرض المعترف له بها في ممارسة تعسّف ثقافي تجاه المتعلّم.[2]
وتتمثل غاية هذا المبحث في تفكيك خطاب الهوية، باعتبارها آليات إثبات وجود فردية وجماعية مكتسبة[3] تُصبغها وعيا أو لا وعيا المضامين التعليمية والمناهج الدراسية كما ينقلها ويكيّفها المدرّس، باعتباره فاعلا مركزيا في تشكّل تمثّلات وتصوّرات المتعلّمين لذواتهم وللغير ضمن المدرسة التونسية اختبارا لفرضية اعتبار المدرسة مجال من مجالات تشكّل وتغذية الميولات الراديكالية في بعدها الديني خاصة لدى الشباب المتعلّم وتهيئته للاستقطاب ضمن المجموعات الإرهابية. فالتنبّه إلى خطورة المدرسة، ولفت الانتباه إليها لا يعني نفي أدوارها التنويرية والتحديثية، أو إنّها أيضا وفي الآن ذاته أحد أكثر أهم سياقات وآليات التحديث ومقاومة الهويات المغلقة والقاتلة[4]؛ غير أنّ تلبّس الفعل التعليمي والبيداغوجي بالأيديولوجي وعدم ارتقاء الرقابة البيداغوجية والإدارية إلى القابلية أو القدرة على الضبط الكلّي لهذا الفعل، وتسييج أثره النفسي والفكري والعقائدي، هو ما يضخّم مقبولية هذا المدخل وأهمية استشكاله واستحواذه على حيّز مهم من البحث السوسيولوجي بالذات؛ فالمدرّس لا ينقل المعرفة حياديّا بقدر ما يسقط وعيا أو لا وعيا رؤيته للعالم والأشياء على ما يمرّره للمتعلّم من مضامين معرفية تصاغ بشكل يجعلها ناقلة لرسائل ومواقف ورؤى وسردية ما، تؤثر في بناء الذات المتعلّمة لتصوّرها لذاتها وللآخرين وللعالم ولروابطه المجتمعية وبناء عليه في تشكّل هويته. فعبر التفاعل تتم عملية التنشئة الاجتماعية للأفراد عبر نقل قيم ومعايير الجماعة[5] المرجعية لناقل المعرفة عبر عملية التأويل المتبادل الذي يحكم العلاقة الاجتماعية التفاعلية. فالفرد داخل المجال الاجتماعي يتعامل ويتفاعل ويعمل وينشط ككائن اجتماعي يوجد عبر عمليات التفاعل الاجتماعي، ويكتسب السلوكيات والتصرفات والأفعال الجماعية. لكن علاقة التفاعل ليست متساوية بين الطرفين، بل تضع أحدهما في موقع أعلى مثل المسير أو المشرف أو المدرّس في الفعل التعليمي والعلاقة التربوية والآخر (المتعلّم هنا) في موقع التابع؛ أي المرؤوس أو المنفّذ حسب الموقف الشخصي لكل منهما؛ أي إحساسه بالتفوّق أو عكس ذلك الإحساس بالدونية. فالفرد عند قوفمان (Goffman) يتعلّم القيم والاتجاهات السائدة في حياته لكل الأيام[6] ويدمجها في تركيبته النفسية بطريقة تجعله قادرا على تطوير اتجاهاته الاجتماعية تلقائيا وتطوير خبراته ومشاعره وتواصله الاجتماعي، وهو ما يتحقّق من خلال العلاقات الاجتماعية والاتصالات المتبادلة بين الأفراد، والتي تحصل في كثير منها عبر الرموز وتبادل معانيها وتأويلها بين المتفاعلين في جماعة اجتماعية أو في موقف اجتماعي ما.
1. خطاب الضدّية والهوية المغلقة:
يموضع الخطاب الضدّي الآخر المختلف ثقافيا ضدّا (من خلال ما تختزنه البرامج من عبارات على شاكلة الغرب المسيحي / العالم الغربي / الحروب الصليبية/ الفتوحات الإسلامية ...) يتعارض بدل يتغاير مع الذات المدركة. فيحضر هذا الآخر في الوعي الهووي للذات مهدّدا لهوية الأنا والنحن المتلازمين في هذا الخطاب التوجسّي، أو المبدع للتوجّس والرُّهاب من الآخر (فوبيا الآخر). وعليه، فإنّ سردية الاصطفاف والتصفيف هذه تنتج خطاب هوية لا يقبل ولا يحترم غيرية الآخر، من خلال مضامين تعليمية متعدّدة (التاريخ / التربية الإسلامية، نصوص أدبية) أو ما ينقله المدرّس عبرها من تمثّلات وتصوّرات ودلالات وتأويلات ومواقف من التاريخ الثقافي "للنحن" ومن متعدّد الإثنيات والقوميات والأترخة الثقافية المغايرة أو المتمايزة. فالفعل التعليمي هو فعل ثقافي بامتياز يشي سردية هووية ما للمدرّس، ينقلها وعيا أو لا وعيا عبر الفعل البيداغوجي بما هو عنف رمزي[7] يغلّف الدلالات الذاتية التي يمررّها عبر المضامين التعليمية بالدلالات الشرعية في توظيف لسلطة اللغة وسلطة المعرفة التي يعترف له بها المتعلّم مجتمعيا؛ غير أنّ ما يستفزّ التفكير ويستشكل الفعل التعليمي في علاقة بالراديكالية والإرهاب، هو هذا النمط من الخطاب الحدّي الذي يصنّف "النحن" والغير ضديّا في صلة وثيقة بالهوية الدينية خاصة، بشكل إمّا أنّه يفرز سلوكا انغلاقيا ضدّ هذا الآخر بعامل رصيد الريبة والتوجّس من الغير المختلف ورفضه[8] أو إنتاج الشروط الموضوعية لمعقولية إقصاء ونفي (العدمية) هذا الغير المنتصب في أفهام ضحايا هكذا خطاب هووي كنقيض جذريّ[9] يبيح تهديده للهوية الانقطاع عنه أو رفضه حضاريا. فتتشكل بذلك الحدود الدامية بعبارة صمويل هنتنغتون[10] بين الهويات المتخاصمة، وبخاصة إذا التمست لها مستندات دينية تمنحها البعد المقدّس وتحثّها على التصادم وتمجّد نواتجه. فلطالما قدّم لنا المدرّسون المذهب الشيعي مثلا بسردية رافضة ومبخّسة لحقّه في التخالف والاختلاف. فأن تكون شيعيّا هو أقرب ضمن هذا النمط من الخطاب إلى الخروج عن النحن "السنية" الأصيلة والمحتكرة بأحقيات متعدّدة للخطاب الأصيل للإسلام. إن خطاب الاصطفاء هذا بعبارة علي حرب يمارس وصاية على الذات وعلى الهوية بمنطق ثبوتي اصطفافي يمثّل "اعتداء رمزيّ على الآخرين"[11]. ويتكرّر يوميا وبدرجات متفاوتة التواتر والكثافة في المدرسة كعالم اجتماعي دون أن يكون للرقابة البيداغوجية أو الرسمية منفذ للإحاطة به وتوجيهه. فنحن أمام فضاء تنشئة اجتماعية غير مراقب وغير خاضع للرقابة يتوجّب تنبّه البحث السوسيولوجي إلى كيفيات وأشكال توجيهه لشخصيات المتعلمين وبناء تصوّراتهم وتمثلاتهم ومواقفهم، وبالتالي كيفيات اندماجهم الاجتماعي وروابطهم المجتمعية.
يخلق هذا الخطاب هوية متأزّمة تغذّي التنافر وتهدم التعايش بين جماعة الانتماء والجماعات الأخرى[12] بما تولّده من خوف وقلق وهلع على الذات ينتصب كسبب كاف لسيولة شرّ[13] تقتات من السياجات المنغلقة التي تموضع فيها الذات المتعلّمة في علاقتها بالعالم الخارجي وديناميات التغير التي تحكم منطق التاريخ. فأن يجتهد المدرّس في تمجيد "النحن" من خلال إحصاء انتصاراتها التاريخية ومجدها ضمن دورة حضارة[14] انقطعت عن أسباب نهضتها وتبرير تراجعاتها وانكساراتها وتخلّفها عن سيرورة العصرنة والحداثة بهجمة الآخر (الغرب المسيحي) وهيمنته على مقدّراتها وارتهان إرادتها عبر ضرب مقوّمات هويتها، فإنّه يدفع إدراك[15] التلميذ نحو تمثّل هذا الآخر المختلف عدوّا ونقيضا يتوجّب استعدائه لاستعادة شروط نهضته، وهو ما يشكّل مدخلا مناسبا لتمرير سلس ومخاتل لمفهوم الجهاد ووجوبيته المقدّسة والموضوعية استنادا إلى هذا التمفصل العضوي بين الهوية وجهاد الآخر النقيض والمهدّد لتملك عناصر الخلاص والنهضة.
2. خطاب تذويبي: الأنا الجماعية وقتل الفرد
تتأتى عنونة هذا الخطاب من أنّه يتّجه إلى تذويب الذات الفردية في الجماعة؛ بمعنى أنّ تشكّل الهوية الفردية للشخص لا يتمّ إلاّ في سياق الهوية الجماعية (الأمّة التي تتلاشى معها خصوصية الذات الفرد...) التي تعيد إنتاج نفسها في تحفّظ شديد من التغيّر، وهو ما يتضّح في علاقات القوة بين المعلّم والمتعلّم التي تشي الاعتراف الجمعي بسلطة المعلّم وكذا في علاقة هوية المسلم بسلطة الفقيه في التاريخ العربي الإسلامي. ذلك أن صلة المسلم بدينه متخارجة تمرّ على صراط الفقيه بما هو حارس الهوية الذي يجسّر رابط المسلم بالنص التأسيسي. وكذا نتمثّل حضور المعلّم وسيطا يجسّر بين الذات المتعلّمة والمعرفة بذاتها وبماضيها وحاضرها.
المدرّس لا ينقل المعرفة حياديّا بقدر ما يسقط رؤيته للعالم والأشياء على ما يمرّره للمتعلّم من مضامين معرفية، تؤثر في بناء الذات المتعلّمة لتصوّرها لذاتها وللآخرين
يتعارض هذا الخطاب مع براديغمات الحداثة المتصّلة أساسا بالفردانية وتراجع احتواء الجماعة للفرد أو تغيّر العلاقة بين الفرد والجماعة الاجتماعية خصوصا والمجتمع عموما. وتتسّع خطورة هذه السردية فيما تصنعه من ارتباط عاطفي غير قائم على المعرفة الاستدلالية بمجتمع متخيّل بعبارة أوليفيه روا[16] يستحضره هذا الخطاب الهووي كلحظة مهمة وفارقة في تاريخ الأنا الجماعية التي تدفع الهوية الفردية إلى الذوبان فيها كشكل أرقى للوعي الجماعي. فوعي الفرد بذاته وتشكل هويته الفردية يمرّ حتما بهكذا خطاب عبر صراط ثقافة النهي والتحريم والمنع والتحذير والممانعة والتعالي التي ترسم للذات مسارها الوجودي ومسار بناء وعيها بنفسها داخل الحدود التي تكرّسها الهوية الجماعية من أجل ديمومتها واستمراريتها. فتبني بذلك هذه السردية الواقعة في الرمز[17] عالما غير واقعي للفرد يسيّج قدرته على فهم ما يحيط به من تغيرات وتحوّلات تمسّ مختلف مناحي حياته الراهنة، فتوهن بذلك صلته بواقعه وبحاضره مما يضع الفرد في عزلة اجتماعية نتاج انحلال الروابط الاجتماعية بعبارة Castel. وقد تخلق تبعا لذلك ميولات صدامية مع ما يحمله محيطه الحاضر من تباينات واختلافات مع النموذج الرمز الذي حوصرت ضمنه الذاتية الفردية.
3. خطاب ماضوي تمجيدي: نحو سلفنة الحاضر وارتهانه
يشتغل تمجيد الماضي ضمن هذا الخطاب كبراديغم توليدي لمختلف الأفكار التمجيدية لتاريخ سلف كافر بحدود ماضويته وسلفنة حاضر مؤمن بماضويته كشرط لاستعادة القابلية للنهضة. وعليه، فإنّ السمة الفارقة في هذا الخطاب هي براديغم الإحيائية الذي يستنفر المضامين المعرفية التي تقدّمها دروس التاريخ أو التربية المدنية أو مادة العربية أيضا لتمجيد تراث صنميّ مقدّس ينتصب في راهن الذات مدوّنة رسمية مغلقة بعبارة أركون.[18] ويمرّر عبر خطاب الهوية أنسية قديمة تمنح الذات المتعلّمة هوية غير منتجة، باعتبارها سردية تختزل الهوية إلى انتماء واحد[19] ثابت وغير متحوّل وتنتج ميولات متحيّزة ومتعصّبة لسلف غائب فيزيقيا، ولكنه حاضر رمزيا بعامل قوّة الارتباط الهووي في التصوّر والممارسة والفعل المؤسس بأفضلية النحن وتفوقها الأخلاقي على الآخرين[20]؛ ذلك أن سلفنة الحاضر توهن قدرة الذات على فهم مكانتها في سياق تطوّري ومتحوّل بما أنها سردية تمجيدية لا تعترف بالهنات ومناطق الضعف أو التخلّف أو التراجع بقدر ما تحاول دائما أن تجد للحاضر موطن قدم في الثقافة الأم المصنّمة أو في النص التأسيسي الذي هو مرتكز الهوية. فأن نتحدّث عن الديمقراطية على أنّها وجه آخر للشورى التي أسس لها السلف وأهملها الخلف، وأن نعتبر أنّ العقلانية ما هي بغريبة عن المكوّن الرئيس للهوية الجماعية المرجع بادّعاء أن الإسلام قائم على العقل وداع لإعمال العقل، أو أن نبخّس سبق الثقافة الغربية في إعلاء شأن الإنسان وعلوية حقوقه وحرياته على كلّ الحقوق بمقولة أن الإسلام كرّم الإنسان وأعلى من شأنه ومن شأن المرأة وما إلى ذلك، فمعناه أنّنا نصنع نستلب الذات المتعلّمة المتأثرة بهذا الخطاب التمجيدي أو منطق المدافعة بعبارة علي حرب[21] ونصنع قطيعتها وانقطاعها عن منطق التاريخ ومعقولية التغيّر. فتأصيل مفاعيل الحداثة المنبثقة عن سياقات تاريخية وثقافية مغايرة للتاريخ العربي الإسلامي بمنطق الانتصار لماض يختزن في تراثه المجيد أصول كل الحداثات المزعومة وينتصب بذلك السبيل الأمثل للتطوّر، يوهن حظّ الذات المتعلّمة من الخلق والتوليد المشروط بتوافر منطق النقد من أجل إعادة البناء والتشكّل. فإذا كانت النصوص والمضامين التعليمية لا تحمل دائما هذه الرسالة ومثل هذه المعقولية في فهم الذات والاختلاف مع الغير، فإن مكمن الخطر إذاً في الفهم الذي يحمله المدرّس والخطاب الذي يمرّره من خلال هذه المضامين. هذا الخطاب لا يكتشف عبر المتابعة البيداغوجية أو الإدارية بما أن المدرّس لا يدوّن بكراس الدروس أو بجذاذاته البيداغوجية إلا المضامين الرسمية والأهداف العامة والخصوصية للدرس كما هو متفق عليه، ولكن الإشكال يكمن أساسا في الشفوي والضمني والمبطّن من الفعل التعليمي للمدرّس الذي يحيل إلى تمثّلاته وتصوّراته ومواقفه غير المعلنة أو المصرّح بها. ولذلك، فإن السيطرة على مفاعيل التربية والفعل التعليمي وهم يجب التفطّن اليه وتحويل وجهة البحث إلى اللا مقال واللا مدوّن وغير القابل للمراقبة الرسمية والشكلية للسلطة التربوية بما هو بوابّة نحو استدراج المتعلّم لملعب لا يملك مفاتيح الخروج منه، ولا يحتكم على فهم للعبة الأيديولوجيا والأدلجة المبطّنة.
4. خطاب تبخيسي: تجسير نحو الكراهية
وهو خطاب يصنع دونية الذات الجماعية والفردية خارج سور دين الفقيه (والسلفي بالذات) من جهة وتبخيسي للهوية الجماعية في حضرة الآخر المتفوّق (الغربي الذي ينتصب في الخطاب المروّج لا كغير بل كضدّ) من جهة ثانية. وفي كلتا الحالتين، يولّد هذا البراديغم مرجعية قيمية ومعاييرية تنبت وتغذّي ميولات راديكالية تجد في خطاب الكراهية وفي العنف الموجّه لهذا الضدّ الهووي المنتصب كتهديد لكيانه وهويته المتمحورة حول مكوّن الدين، مبرّرا للمرور إلى الفعل؛ أي إلى ممارسة العنف بأشكال تتلوّن بحسب السياقات والمراحل والتحوّلات التي تعيشها أو تحتلها الذات المتلبّسة بمنظومة قيم ومعاير منتجة ودافعة لمعقولية غير قادرة وغير قابلة للتأقلم والتكيّف مع محيط التنوّع والتعدّد والاختلاف الذي يسيّج عوالمنا اليومية ومجالات التفاعل الاجتماعي.
فالمدرّس الذي يقدّم نقدا غير موضوعي للتاريخ الجماعي في أبعاده السياسية والثقافية والحضارية ويفرغ التراث الجماعي من قابليته وقدرته على مراكمة شروط النهضة مقارنة بالتاريخ الحضاري والسياسي للآخر الأكثر تناسب مع مقوّمات الحداثة والتطوّر، إنّما يولّد لدى المتعلّم تمثّلا توضيعيا وتبخيسيا للذات من جهة وعدائيا للغير ومعقولية تحمّل هذا الغير المتقدّم مسؤولية تخلّفه وتراجعه الحضاري. فتبخيس الذات وتجريح مكانتها في مقارنة مع الآخر، إنّما هو تأويج لخطاب ثقافي مأزوم يؤسّس لكراهية، إمّا للتراث الحضاري والثقافي للهوية المرجع، وإمّا كراهية الآخر ورفضه تجسّر نحو العنف والتطرّف بأشكاله الفردية أو الجماعية.
الفصل الدراسي ينكشف حقلا ديناميا تميل قوى التأثير فيه لصالح المدرّس بما يملكه من سلطة المعرفة وسلطة التقييم وتأثيره القويّ في تشكّل شخصية المتعلّم
تنشأ الراديكالية عن هذه القطيعة الثقافية التي تحدّث عنها جيل كيبال Kepel خاصة إذا وجدت في الدين ما يغذّيها ويمنحها أدوات التوسع والاستقطاب. على أن هذه القطيعة لا توجّه إلى مجتمعات معينة، بل إلى نموذج حضاري ومجتمعي ومن ينتصر إليه أو يتبناه فكريا وحياتيا. فالاعتقادات تتشكّل لدى المتعلّمين هنا عبر فكرة ينجح المدرّس في تمريرها وترسيخ الإيمان بها ويترتّب عنها لدى Gérald Bronner[22] رابط ما بهذه الفكرة ومشاعر وأحاسيس تجاه الذات والأنا الفردية والجماعية وتجاه الغير المنتصب في هذا الخطاب كدالّ على دونيته وضعفه وتخلّفه. ينكشف خطر هذا الخطاب التبخيسي للهوية الجماعية ومرجعياتها الدينية والحضارية والتاريخية فيما يولّده لدى المتعلّم من حساسية غير معلنة تجاه الغير المختلف ومرجعياته القيمية تصنع الأرضية المناسبة لنمو الميولات الراديكالية، وتنبي مدخل العنف والإقصاء في التعاطي مع هذا التنوّع الحضاري والثقافي.
خاتمة
إنّ مقاربة خطاب الهوية في سياق الفعل التعليمي غير القابل للرقابة والمتابعة هو صناعة قلق منتج للمعرفة السوسيولوجية الميدانية حول صلة ما مفترضة بقوّة بين الميولات الراديكالية لدى الفئات المتعلّمة والمنخرطة في موجة التطرّف بأوجهه الدينية واللادينية، وبخاصة الإرهاب الديني وبين المدرسة ومخرجاتها وما تعتمده من منظومة تعليمية وبيداغوجية وإدارية لتحقيق اهداف معلنة وموثقة غير أنّها لا تعني ميدانيا أنّها منجزة أو متحقّقة. وعليه، فإن هذا المقال هو دعوة إلى التنبّه إلى فضاء الدرس كمجال يتّصف بكثير من الضبابية والغموض والانفلات من الرقابة التي يمكن أن تمارس إداريا أو بيداغوجيا. فالفصل الدراسي ينكشف حقلا ديناميا تميل قوى التأثير فيه لصالح المدرّس بما يملكه من سلطة المعرفة وسلطة التقييم وتأثيره القويّ في تشكّل شخصية المتعلّم[23]. وما يمارسه من عنف رمزي عبر الفعل البيداغوجي[24]. هنا تكمن النقطة العمياء في البحث السوسيولوجي حول الميولات الراديكالية عند الشباب التونسي المتعلّم. فالبرامج التعليمية الخاضعة لمسارات مراكمة للإصلاح وإعادة الإصلاح التربوي تعلو عن تهمة خلق فكر تطرفي أو خطاب هوية قابل لردكلة ميولات ومواقف وتصرّفات المتعلمين. فهذا الخطاب الهووي المنتج للراديكالية يتسرّب للمتعلّم إذن عبر ناقل المعرفة الذي هو المدرّس المتأدلج والحامل لمشروع يعمل على تمريره عبر الفعل التعليمي. وهنا تكمن أهمية المقال في لفت انتباه البحث السوسيولوجي حول التطرف والراديكالية إلى غموض هذا الحقل الذي هو الفصل الدراسي، وما يحمله من قوى تأثير وتوجيه لتفكير المتعلّم ولرؤيته لذاته وللعالم ولعلاقته بالآخر المتعدّد الذي يفرض وجود ضمن مختلف مناحي الحياة الجماعية والاجتماعية. وتحمل بعض هذه القوى المؤثّرة في تشكّل ميولات المتعلّم مخاطر حقيقية وجادّة تدفعنا الى استشكال فعل المدرّس/ المكوّن الباث قصدا او لا قصدا لمضامين تعليمية مؤدلجة أو قابلة للأدلجة والتي تفلت من رقابة السلطة التربوية بأبعادها ومستوياتها المتعدّدة.
المراجع:
- أركون، محمد، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق هشام صالح، دار الطليعة، بيروت 1999
- أوليفييه روا، الجهاد والموت، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، الطبعة الأولى 2017
- باومان.زيجمونت، دونسكيس. ليونيداس، الشرّ السائل: العيش مع اللابديل، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017
- بن نبي، مالك، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، ج1، دار الفكر، دمشق، 2002.
- بورديو، بيار، العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة نظير جاهل، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994
- حرب، علي، تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008، ص125
- حرب، علي، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية، المركز الثقافي العربي، ط2، بيروت، 2004
- حرب، علي، خطاب الهوية: سيرة فكرية، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط2، بيروت، 2008
- الزواوي بغوره، الهويّة وسياسة الاعتراف شارل تايلر نموذجاً، مجلة الموقف للبحوث والدراسات في المجتمع والتاريخ، عدد9، 2014
- صن. أمارتيا، الهويّة والعنف، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2008
- المسكيني. فتحي، الهجرة إلى الإنسانية، منشورات الضفاف، بيروت، 2016
- المسيري، عبد الوهاب، الهويّة والحركية الإسلامية، حوار سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، ط2، 2010، ص146
- معلوف، أمين، الهويات القاتلة "قراءات في الانتماء والعولمة"، ترجمة نبيل محسن، ورد للطباعة والنشر، سورية، 1999
- ميير. رول، السلفية العالمية: الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغيّر، ترجمة محمد محمود التوبة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014
- هنتنغتون، صمويل، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، سطور للتوزيع والنشر، 1999
- Bonnico (Céline), Goffman et l’ordre de l’interaction, un exemple de sociologie compréhensive, Philonsorbonne [En ligne] 2007, revues.org/102
- Bronner. Gérald, La pensée extrême. Comment des hommes ordinaires deviennent des fanatiques, Denoël, Paris, 2009.
- Lalli (Pina), Interaction sociale et sociologie, Actes du colloque international «La systémique qualitative», Portugal, les 4, 5 et 6 septembre 2008
- Moessinger. Pierre, Le jeu de l’identité, Paris. PUF, 2000.
- Perrenoud.Philippe, Métier d'élève et sens du travail, Paris: ESF 1994, 6e éd. 2010
- Rigaux. Natalie, Introduction à la sociologie par sept grands auteurs, édition de boek, 2011
- Taylor Charles, Le fondamental dans l’histoire, interprétation de l’identité moderne, Centre culturel international de cerisy- la -salle cerf, et les presses de l’université Laval, 1998
[1] Taylor Charles, Le fondamental dans l’histoire, interprétation de l’identité moderne, Centre culturel international de cerisy- la -salle cerf, et les presses de l’université Laval, 1998, p40.
[2] بورديو، بيار، العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة نظير جاهل، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994، ص 7
[3] Moessinger. Pierre, Le jeu de l’identité, Paris. PUF, 2000, p. 97
[4] معلوف، أمين، الهويات القاتلة "قراءات في الانتماء والعولمة"، ترجمة نبيل محسن، ورد للطباعة والنشر، سورية، 1999
[5] Bonnico (Céline), Goffman et l’ordre de l’interaction, un exemple de sociologie compréhensive, Philonsorbonne [En ligne] 2007, revues.org/102.
[6] Lalli (Pina), Interaction sociale et sociologie, Actes du colloque international «La systémique qualitative», Portugal, les 4, 5 et 6 septembre 2008
[7] بورديو، بيار، العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، مرجع سابق، ص 5
[8] المسكيني. فتحي، الهجرة إلى الإنسانية، منشورات الضفاف، بيروت، 2016، ص 33
[9] المسيري، عبد الوهاب، الهويّة والحركية الإسلامية، حوار سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، ط2، 2010، ص 146
[10] هنتنغتون، صمويل، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، سطور للتوزيع والنشر، 1999
[11] حرب، علي، تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008، ص 125
[12] صن. أمارتيا، الهويّة والعنف، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2008
[13] باومان.زيجمونت، دونسكيس.ليونيداس، الشرّ السائل: العيش مع اللابديل، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017، ص ص 27-28
[14] بن نبي، مالك، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، ج1، دار الفكر، دمشق، 2002، ص 28
[15] الزواوي بغوره، الهويّة وسياسة الاعتراف شارل تايلر نموذجاً، مجلة الموقف للبحوث والدراسات في المجتمع والتاريخ، عدد9، 2014، ص 19
[16] أوليفييه روا، الجهاد والموت، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، الطبعة الأولى 2017، ص 74
[17] حرب، علي، خطاب الهوية: سيرة فكرية، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط2، بيروت، 2008، ص 25
[18] أركون، محمد، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق هشام صالح، دار الطليعة، بيروت 1999، ص 232
[19] معلوف، أمين، الهويات القاتلة "قراءات في الانتماء والعولمة"، مرجع سابق، ص 31
[20] ميير. رول، السلفية العالمية: الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغيّر، ترجمة محمد محمود التوبة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014، س 30
[21] حرب، علي، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية، المركز الثقافي العربي، ط2، بيروت، 2004، ص 65
[22] Bronner. Gérald, La pensée extrême. Comment des hommes ordinaires deviennent des fanatiques, Denoël, Paris, 2009, p 130
[23] Perrenoud.Philippe, Métier d'élève et sens du travail, Paris: ESF 1994, 6e éd. 2010
[24] Rigaux. Natalie, Introduction à la sociologie par sept grands auteurs, édition de boek, 2011, p25-27