الندوة الحوارية التاسعة حول كتاب: "القمع المقدس" مع المؤلف الدكتور حسن حماد
فئة : حوارات
الندوة الحوارية التاسعة حول كتاب: "القمع المقدس"
مع المؤلف الدكتور حسن حماد
تقديم دة. ميادة كيالي
حوار د. حسام الدين درويش
"القمع مستحبٌّ؛ لأنه يمارس باسم الإله"
دة. ميادة كيالي:
"قبل أن أبدأ الندوة التاسعة من سلسلة ندوات مؤمنون بلا حدود ... اسمحوا لي من بعد إذنكم اليوم بلائحة واسعة من الشكر والامتنان لا بد منها، لفريق العمل الرائع في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والذي يساهم أعضاؤه معي بكل حبّ وإخلاص في نجاح هذه السلسلة من الندوات منذ انطلاقتها.
أبدأ بالشكر للعزيزتين السيدة كنزة أولهبوب والسيدة رانية الكردي، اللتين تمثلان روح الدعم والمساندة في كل مراحل الندوات وفي العمل كلّه. ولا يفوتني أن أشكر السيد جمال المودن، الرئيس التقني المسؤول عن إدارة موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والذي يتابع معنا سير الندوات على تقنية زوم، ويتولى الإشراف على إخراج البروموهات والفيديوهات وعلى البث المباشر، وكل ما يضمن تواصلنا معكم بالشكل الأمثل.
وشكري لابني الغالي فارس منصور الذي يجتهد على المادة الإعلامية لكل نشاطاتنا، سواء في المعارض أو الندوات، ويحتمل قسوة العمل معي، حيث يعمل بدون توقيت محدد، وأحياناً ساعات متواصلة ومضنية.
وأتوجه بشكر كبير للعزيز السيد مأمون العاني، رئيس القسم الفني في دار النشر، ورفيق الكتاب منذ اللحظات الأولى حتى يخرج إلى النور، لدوره البارز في تحقيق هذا العمل المتكامل.
كما أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور عبد السلام شرماط، رئيس التحرير والتدقيق في الموقع، والذي يرافقنا في كل خطوة، ويرافق النشر بكل أشكاله، ويحوّل هذه الحوارات إلى نصوص مكتوبة دقيقة ومنقحة، تُنشر وتصبح مرجعًا للقرّاء.
طبعاً، لا يفوتني أن أشكر الصديق البروفسور حسام الدين درويش الذي يضفي دائماً على عملنا ديناميكية وحيوية بنكهة حلبية ألمانية، ولقد ساهمت مهاراته الحوارية ومعرفته الأكاديمية الواسعة، في إنجاح هذا العمل، وفتح الشهية للمزيد من النشاطات في المستقبل العاجل.
وأخيراً لن أنسى أن أشكر الأصدقاء الذين يدأبون على الحضور المستمر معنا، والذين يغنون حواراتنا بأفكارهم ومساهماتهم القيمة، ويمنحون لكل حلقة قيمة معنوية عالية.
دعوني أهمس لكم، سواء من ذكرت أسماءهم هنا أو من لم أذكر، نحن جميعًا جنبًا إلى جنب في هذا المسار. إن كل واحد منكم له دور مهم ومؤثر في تحقيق ما وصلنا إليه، ولولا جهودكم وتفانيكم لما كنا هنا اليوم.
إن عملنا المشترك كان وما زال يجمعنا حول هدف واحد ورسالة سامية، وبهذا الاتحاد نواصل التقدم بخطوات ثابتة نحو المستقبل. فكل الشكر لكم جميعًا على هذا العطاء الذي لا يتوقف، وعلينا أن نواصل العمل بروح الفريق الواحد كما بدأنا.
أهلاً وسهلاً بكم أصدقاءنا الأعزاء مجدّداً في الندوة الحوارية التاسعة من سلسلة ندوات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، أرحب بكم جميعًا في هذا اللقاء الفكري الذي يأتي استكمالاً لما بدأناه في ندوتنا السابقة، حيث تناولنا بالنقاش "استراتيجيات التأويل وأصول العنف في الفكر الإسلامي المعاصر". واليوم نواصل مناقشة موضوع العنف، ولكن من زاوية فلسفية أعمق وأكثر شمولًا من خلال كتاب "القمع المقدس" للمفكر الدكتور حسن حماد.
وبينما ناقشنا في المرة السابقة العنف من منظور التأويل الديني والسياسي، نلتقي اليوم لنتناول هذا العنف من خلال قراءة فلسفية تمسّ كل جوانب حياة الإنسان، ليقدم لنا الفيلسوف رؤية تحليلية تكشف عن آليات القمع الذي يُمارس باسم المقدس. هذه الندوة، تتيح لنا فرصة جديدة لفهم العلاقة المعقدة بين القمع والحرية، ولتأمل كيفية تحويل الدنيوي إلى مقدس، وإخضاع تفاصيل حياتنا اليومية لهذه السلطة القمعية.
الدكتور حسن حماد هو أستاذ متفرغ بقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة الزقازيق، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة الزقازيق بتقدير مرتبة الشرف الأولى. له سجل أكاديمي حافل بالتدريس والبحث في مجالات الفلسفة المعاصرة، الجماليات، وعلم النفس الفلسفي، وله مشاركات واسعة في المؤتمرات الدولية والنشر العلمي. حصل على العديد من الجوائز التقديرية، بما في ذلك جائزة الدولة التشجيعية. هذا إلى جانب نشاطه الأكاديمي، له إسهامات متعددة في التأليف والنشر، حيث تناول موضوعات فلسفية عميقة تمسّ قضايا الوجود، الجمال، والروح الإنسانية.
وتشرفت مؤمنون بلا حدود بإصدار كتاب "القمع المقدس" في أغسطس 2024. وبه نحتفي اليوم من خلال نقاش معمق.
*- كتاب "القمع المقدس"
يتناول الكتاب شكلًا فريدًا من القمع يمارس باسم المقدس، ويعتمد على مرجعية تجمع بين الطمأنينة المتعالية والشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة. ما يميز هذا الكتاب هو التناول الشامل والعميق لظاهرة القمع، حيث لا يقتصر على القمع التقليدي المرتبط بالسلطة الخارجية، بل يمتد إلى القمع الداخلي الذي يصبح فيه الفرد مستعبدًا لقوى داخلية تسهم في إعادة إنتاج القمع بشكل أكثر عنفًا.
يوضح الدكتور حسن حماد في مقدمة الكتاب، أنَّ "القمع المقدس" ليس مجرد عنف خارجي يُمارس باسم الدين، بل هو عملية شاملة تغزو كافة جوانب حياة الإنسان: الروح، الجسد، الفكر، وحتى العادات والتقاليد اليومية. هذا القمع، يسعى إلى تحويل كل ما هو دنيوي إلى ديني، ويفرض رقابة على كل تفاصيل الحياة الإنسانية.
يقدم الكتاب نقدًا لآليات القمع الديني والسياسي، ويكشف عن العلاقة الجدلية بين القمع الخارجي والداخلي، حيث تصبح السلطة المستبطنة داخل الفرد أكثر قمعًا من السلطة الخارجية.
توزع الكتاب على سبعة فصول مع مقدمة ومدخل وخاتمة:
مدخل: مفهوم القمع والدلالة في الثقافات المختلفة
يستهل الكتاب بمقاربة لمفهوم القمع كما يظهر في ثقافات متعددة، مما يضع أساسًا نظريًا للمواضيع اللاحقة.
الفصل الأول: بنية السلطة المقدسة
الفصل الثاني: القمع الإبستيمولوجي- أبوية النص
الفصل الثالث: القوة السحرية للخطاب الديني
الفصل الرابع: قمع الجسد الأنثوي
الفصل الخامس: الألم المقدس
الفصل السادس: الميول السادية – المازوخية في الممارسات اللاهوتية
الفصل السابع: الأب السياسي – الراعي والرعية
والخاتمة
من خلال هذا الكتاب، يسعى الدكتور حسن حماد إلى تحريض القارئ العربي على التمرد ضد كل أشكال الاستبداد والقهر، سواء كانت دينية أو سياسية، ويدعو إلى استعادة وعي الإنسان بحريته وكرامته، ويؤكد على ذلك في خاتمة الكتاب، حيث يقول: إنَّ "القمع المقدس" يجعل الإنسان متهيئًا للقبول بالطغيان والخضوع، ويشكل خطرًا كبيرًا على الحرية الإنسانية. ويختم بدعوة حثيثة لإيقاظ وعي الإنسان العربي وتشجيعه على رفض القهر والتمرد على كل أشكال الاستعباد.
أعطي الكلمة للدكتور حسام الدين درويش، وأكرر شكري لكل من يواصل الحضور والتفاعل والتشجيع، ونعدكم بالمزيد.
د. حسام الدين درويش:
أشكرك دة. ميادة شكرًا جزيلاً على هذه الالتفاتة، والشكر الأكبر لك؛ لأنك أنت المبادرة الأولى لتنظيم هذه السلسلة من الندوات والفعاليات الحوارية. ورغم انشغالاتك، والأعباء المتزايدة، فأنت تقومين بها بكل سرور ومحبّة، فشكرًا لك، وشكرًا للدكتور حسن الذي تفاعل بكل إيجابية مع فكرة الحوار حول كتابه الذي كان أكثر كتب مؤسسة مؤمنون بلا حدود مبيعاً من كتب أخرى في معرض الكتاب الأخير في السعودية. فهنيئًا له ولمؤسسة مؤمنون بهذا الكتاب. قدمت دة. ميادة بعض المعلومات عن مضامين الكتاب، ويبدو عنوانه بسيطاً ومفهوماً: قمع يتم باسم مقدّسٍ، لكنك، د. حسن، عرضت، في المقدمة، تفاصيل أكثر وأعمق عن ذلك القمع، لا سيما في المقدمة. هل تشرح لنا المقصود بالقمع المقدس، الذي يبدو فريدًا من حيث شموله وقوته وهيمنته وراهنيته؟
د. حسن حماد:
اسمح لي بداية، لا بد لي أن أشكر سيدة هذه الدار، دة. ميادة الكيالي على هذا الدور التنويري التثقيفي، التحريضي بالنسبة إلى الحرية، الذي تقوم به من خلال مؤسسة مؤمنون بلا حدود، أو من خلال هذه الدار تحديدًا. من المعروف أن أيّ دار نشر تكتفي بدورها في نشر الكتب، لكن وجود مثل هذه القناة، أنا أعتبره فكرًا جديدًا وفكرًا مؤسسيًّا عاليا جدًّا، ويلعب دورًا رئيساً ليس في المكان أو المجال الخاص بالدار فقط، ولكن على مستوى العالم ككل؛ فتحية خاصة لهذه السيدة العظيمة، وتحية لفريق العمل الذي يعمل معها. تحية طبعاً لحضرتك البروفيسور حسام الدين درويش، المفكر والمبدع دائما والمحاور الجميل؛ أتابع دائما حواراتك الرائعة ولقاءاتك العميقة. وأشكر دة. ميادة مرة ثانية على هذا التقديم، وعلى هذا التوضيح للكتاب ولفكرته.
القمع المقدس هو اسم كما تفضلت حضرتك، بسيط جدًّا، لكن له دلالات مهمة؛ لأن مفهوم القمع مفهوم متسع جدًّا، وهو مفهوم ينتمي بشكل رئيس إلى أدبيات التحليل النفسي، خاصة وأنه يتم أحياناً الخلط ما بين الكبت وما بين القمع. والكلمة التي تشير إلى هذين المعنيين هي كلمة "répression"، وهي كلمة يمكن ترجمتها إلى الكبت، أو إلى القمع. والقمع المقصود هنا هو هذا الجدل ما بين السلطة الخارجية والسلطة الداخلية، أو السلطة الخارجية التي تتحول إلى سلطة مستبطنة. فأنا ضد فكرة أن كل قمع هو مرتبط بسلطة خارجية فقط؛ فالكتاب يدور أساساً في فلك القمع المستبطن، كيف يتحول القمع الخارجي إلى قمع داخلي؟ كيف تتحول هذه السلطة من سلطة خارجية إلى سلطة داخلية؟ كيف يتحول هذا القيد من كونه قيدًا إلى قيد نسعى إليه، إلى قمع نرحّب به؟ وهذه هي القضية الأساسية، فأنا أنطلق من مؤلف صغير جدًّا، ظهر تقريبا في القرن 16 لإتيان دو لابواسييه، وترجمه مصطفى صفوان العظيم إلى "العبودية المختارة"؛ فهذه الفكرة أو أي فكرة جديدة تولد من حاجة صغيرة، وهذه هي أهمية الأفكار، فأنا منذ فترة طويلة، وأنا مغرم بهذه الفكرة؛ أي إن أخطر أنواع العبودية هي العبودية المختارة، العبودية التي يسعى إليها الإنسان ويسعد بها أيضا. وهذه هي الخطورة؛ لأن القمع المقدس هو قمع لا يشعر الإنسان نحوه بالاستياء، بل على العكس يشعر أنه في حالة من الطمأنينة والسكينة وراحة البال. والخطورة هي أن يشعر الإنسان تجاه العبودية أو تجاه القمع بنوع من الاختيار أو نوع من الارتياح. لا داعي لكلمة مختارة؛ لأن كلمة العبودية المختارة يمكن أن تشير إلى أنها عبودية حرّة، لكن هي عبودية طائعة أو طوعية؛ فالإنسان يطيع هؤلاء السادة أو هؤلاء الجلادين، ويصبح راضياً تماما عن هذه العبودية.
د. حسام الدين درويش:
هذا التوتر في اختيار المفردات للتعبير، موجود في الكتاب. فإلى أيّ حد اختار هذا الإنسان عبوديته؟ وإلى أي حدٍّ هو مقموع ومسؤول عن القمع الذي يتعرض له؟ فهو غير حرّ ومسؤول، مع أن المسؤولية تقتضي الحرية. فكيف نقول إنه مسؤول عن عبوديته؟ سنعود إلى هذا التوتر لاحقًا. أنت تناولت، في المدخل، بعد ذلك، دلالة هذا العنف المقدس أو دلالة المقدس في الديانات المختلفة، ما الذي خلصت إليه في المدخل؛ في خصوص معنى المقدس ودلالته في الديانات المختلفة؟
د. حسن حماد:
يهمني إضاءة بعض المفاهيم كي تكون أهم من التطرق إلى تفاصيل الكتاب. فهذا القمع هو قمع مستحبّ أو مرضي عنه؛ لأنه يمارس باسم الإله، وهذا ما أقصده بكلمة المقدس. ولهذا هو قمع مستحب أو هو قمع يُسعى إليه. بالعودة إلى فكرة المقدس، وهي فكرة يمكن أن نتكلم عنها كثيرًا، هي فكرة ترتبط دائما بالدنيوي، في التحليل الأنثروبولوجي لفكرة المقدس، تجدها ترتبط بالدنيوي بالأساس في تجلياتها القديمة من خلال السحر، والأسطورة قبل أن تظهر الديانات المؤسساتية التي ترتبط بمؤسسة معينة، كان المقدس واسعاً جدًّا. ولذلك، أنا أفرق بين كلمة "Holy"؛ لأنها تشير إلى المقدس، وهو الإلهي بشكل مباشر، وكلمة أخرى قديمة هي Sacre، والتي منها اشتقت الكلمة الإنجليزية Sacred وهي كلمة تشير إلى المقدس المنبث في هذا العالم، ليس المقدس كإشارة إلى الله مثلا أو الكائنات المقدسة، ولكن المقدس بالمعنى المتسع، وهذا ما تناوله فرويد أيضا في كتابه "الطوطم والتابو"؛ فكلمة طوطم تشير إلى كل ما هو محرم، والمحرم يتضمن المقدس والمدنّس معا. حتى في تراثنا الإسلامي تجد أن كلمة محرم، تشير إلى المقدسات والمدنسات معا. والخلاصة إنني انتهيت في هذا المدخل إلى أن أساس المقدس هو الدنيوي، ولكن يتم عزله وفصله، وإحاطته بحالة من التحريم حتى يصبح مقدساً، وهذا ما قاله إيميل دوركايم، إن المقدس والمدنس مرتبطان ببعضهما، لكن يتم عزل المقدس في جانب بعيدًا عن المدنس وعن الدنيوي، وبهذا المعنى تصبح عتبة الكنيسة أو عتبة المسجد هي فاصل بين عالمين؛ العالم الدنيوي وعالم المدنس وعالم المقدس.
د. حسام الدين درويش:
أنت درست مسألة المقدس، والنشوء الديني، من منظور أنثروبولوجي. ومن هذا المنظور، يبدو أنه كانت للمقدس وظيفة إيجابية، أحيانًا، وتتمثل، مثلًا، في منح الإنسان الإحساس بالأمان والسيطرة والقدرة على امتلاك العالم، وإعطائه الأمل في الخلاص من الموت ورعب الفناء ...إلخ. ففي لحظةٍ أو مرحلةٍ تاريخيةٍ ما من تاريخ البشرية كان لهذا المقدس دور إيجابي جزئيًّا على الأقل؛ لكن يبدو أنك ترى حالياً، أنه لم يعد له سوى دور سلبي. هل هذا مرتبط بتطور البشرية؟ هل وصلنا الآن إلى مرحلة لم نعد فيها بحاجة إلى هذا المقدس؟
د. حسن حماد:
مصطلح المقدس نفسه حتى في دلالته اللاتينية القديمة Sacer، له معنى مزدوج؛ لأنه يعني المقدس، ويعني أيضا الملعون، وبالمثل نجد كلمة الطابو أو الحرام في اللغة العربية، تشير إلى هذا المعنى المزدوج؛ فالمحرمات مثل الدم ولحم الخنزير... تحاط بهالة من التحريم، وأيضا المقدسات، ففي أداء طقوس الحج تفرض قيوداً معينة على الأماكن المقدسة وعلى الأشهر الحرم إلى آخره...فالمقدس يشير إلى معنى مزدوج: يشير إلى معنى إيجابي، ويشير أيضا إلى معنى سلبي، وهو الملعون؛ لأن كلمة المحرم ليست منفصلة عن كلمة المقدس. لقد لعب المقدس دورًا كبيرًا في حياة البشرية، خاصة في مرحلة السحر، وهي مرحلة تمثل على المستوى الأنثروبولوجي ما يمثله العلم الآن بالنسبة إلى الإنسان؛ فاليوم حين نتكلم عن الذكاء الاصطناعي، وهو بديل للسحر؛ فالسحر كان وسيلة الإنسان للسيطرة على الطبيعة، وهذا ما تناولته في الفصل الثاني، حين تكلمت عن الدور السحري للدعاء، حيث تصبح الكلمة هي بديل الشيء؛ فالمرحلة السحرية في حياة البشرية كانت مرحلة ثقة للإنسان في ذاته؛ لأنه كان يزعم أن لديه المقدرة على أن يؤثر في الأشياء ويسيطر عليها، ويغير من طبيعتها. ومن ثم، فإن الدين كشكل من أشكال السحر القديم لعب دورًا إيجابيًا في حياة الإنسان. فالسحر هو المعجزة، فإيمان الإنسان في بداية فجر التاريخ الإنساني أو في بداية المغامرة الإنسانية بقدرته الخارقة جعله يؤمن أنه قادر على السيطرة على العالم، وعلى الأشياء، وعلى الطبيعة وعلى الحيوانات المفترسة. وهذا ما يفسر لماذا كان الإنسان البدائي يقوم برسم بعض الحيوانات، ثم يوجّه إليها سهامه، اعتقادًا منه أنه عندما يسيطر على هذه الصورة، فهو يسيطر على الأصل، وهذه فكرة مهمّة جدًّا في نمو فكرة الرمزية الموجودة حاليا، فحين نأتي على حرق العلم الإسرائيلي مثلا، أو أي رمزية سياسية، هي مرتبطة بهذا التفكير السحري القديم؛ فالدين لعب طيلة فترة طويلة دورًا إيجابياً جدًّا في حياة الإنسان، خاصة في مرحلة السحر، ثم جاءت مرحلة الأسطورة، التي تقدم تفسيرًا للعالم، لكنه تفسير لا يقوم على العقل بصورة كاملة، ولكن يقوم على كائنات خرافية أو خيالية. حين انتقل الإنسان إلى مرحلة العلم، بدأ يتخلص من السحر، ومن السردية الدينية التي تفسر العالم تفسيرًا غيبيًّا تماماً، وبالتالي، فالدين لعب دورًا في حياة الإنسان، وما يزال يلعب هذا الدور، وأنا أعتقد أن الإنسان، حتى الإنسان المعاصر يحتاج إلى قدر من الدين؛ لأن الدين يقدم له إحساساً بالطمأنينة، وأن هناك قوة عليا يمكن أن تسنده في لحظة ضعفه، وأنه ليس وحده في هذا الكون، كما يقدم له الدين أجوبة، ربما لا يستطيع العلم الإجابة عنها، وربما لا تستطيع الفلسفة أن تجيب عنها، لكن مشكلة الإجابات المقدسة أنها إجابات نهائية.
د. حسام الدين درويش:
أنت، في الكتاب، ترى أن العلم يستطيع أن يجيب عن جميع الأسئلة التي تؤرق الإنسان اليوم. وبهذا المعنى، لم يعد الإنسان بحاجة إلى أي شيء غير العلم للإجابة عن أسئلته. في المقابل، أنت تقول الآن إن هناك أسئلة لا يزال العلم قاصرًا في الإجابة عنها، وليس دوره الإجابة عنها؛ فهل من توضيح لوجهة نظرك في هذا الخصوص؟
د. حسن حماد:
طبعاً، هذه هي مشكلة المقدس؛ لأنه يقدم إجابات نهائية، ويقدم إجابات أشبه بالبديهيات التي تمارس سلطة لا محدودة على الإنسان، بينما الحقيقة التي يصل إليها العلم نسبية ومتغيرة، ولا يمكن فرضها على الآخرين بالعنف أو بالقوة أو بالبديهيات...أستحضر عبارة جميلة لنيتشه يقول فيها ليس الشك هو الذي يقتل، ولكنه اليقين؛ فمشكلة الإجابات الجاهزة والنهائية والمقدسة، أنها لا تناقش ولا تحمل شكًّا، ولا يمكن الشك فيها. وهذه هي المشكلة الكبرى، أنا لست ضد المقدس، ولست ضد الدين.
د. حسام الدين دروش:
تبدو العلاقة بين الإيمان أو العقيدة الدينية أو المقدس من ناحية، والشك أو القمع أو التعصب، من ناحية أخرى، إشكالية، في الكتاب؛ إذ يبدو أنك ترى أن "الإيمان الديني هو نوع من الدوغما؛ أي العقيدة الجامدة المتعصبة، فإنه لا يأبه لنداءات العقل وصدماته. إنه مغلق بوجه العقل". فهل هو دائمًا كذلك، أم يمكن أن يكون الإيمان أو الدين مصدرًا للأخلاق الحميدة؟ فكيف ترى علاقة الإيمان بالتعصب أو الانفتاح على الآخر؟
د. حسن حماد:
ليس كلّ الإيمانات على درجة واحدة، يوجد إيمان يحمل قدرًا من التسامح، وتلك كانت هي قضية عصر التنوير؛ أي أن يتحول الدين إلى مسألة داخلية، إلى علاقة مباشرة بين الإنسان والرب، وبالتالي يصبح أمرًا ذاتياً داخلياً، أنت حرّ في إيمانك، لكن شريطة ألا تفرض هذا الإيمان على الآخر، وألا تعتقد أن إيمانك أو إيماني أصح من بقية الإيمانات الخاصة بالبشر، أو على طريقة ما يحدث من سخافات ومن عبث لدى بعض الشيوخ الذين يصنفون البشر؛ هذا يدخل الجنة وهذا يدخل النار، وكأنهم يحملون مفاتيح عالم الدنيا والآخرة، وهذه هي الكارثة الكبرى؛ فالقضية ليست قضية إيمان، بل على العكس؛ فهناك إيمان العوام أو البسطاء من الناس، إيمانهم بسيط جدًّا، وقبل موجات التطرف التي ابتلينا بها من بعد هزيمة 67 في مصر. قبل هذا، كان الناس يؤمنون، ويزورون أضرحة الأولياء؛ كل الأولياء الحسين وغيره، ولا يفرقون ما بين شيعة أو سنة؛ فالإيمان الشعبي هو إيمان بسيط جدًّا. إيمان المتصوفة كذلك، هو إيمان لا يحمل هذا القدر من الضغينة والكره أو الإقصاء بالنسبة إلى الآخر. لقد قدم التصوف نموذجاً مشرقاً للتدين أو للإيمان البعيد عن التشنج والتعصب وإقصاء الآخر، والبعيد عن العنف والإرهاب، بينما خطورة الإيمان هي أن يتحول إلى دوغما؛ فبداية المأساة هي فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة، عندما تظن جماعة أو طائفة أو أصحاب عقيدة أنهم أصحاب اليقين أو الحقيقة المطلقة، وأنهم الأقرب إلى السماء والأقرب إلى الله، وبالتالي أنهم يمتلكون الإله. هؤلاء يتحولون بالتأكيد إلى إرهابيين، حيث لا توجد سوى حقيقة مطلقة واحدة، ولا يمكن أن تجد حقائق متعددة في الإطلاق، ولكن الحقائق المتعددة دائما نسبية. ما أعنيه بالقمع المقدس، هو هذه الرغبة في السيطرة على الإنسان على عقله ومشاعره وجسده.
د. حسام الدين درويش:
عندما تحدثت عن بنية المقدس، في الفصل الأول، وفي فصول أخرى أيضًا، ترى أن سلطة المقدس هي أقوى السلطات جميعها. في سوريا وفي بلدان أخرى على الأرجح، يمكن بسهولة نسبية أن تشتم الإله المقدس، لكن يصعب أن تشتم بالسهولة النسبية ذاتها الرئيس على الأقل. فالمقدس الديني أضعف بكثير من المقدس السياسي/ الأمني، ما رأيك؟
د. حسن حماد:
لماذا أقول هذا الكلام؛ لأن المقدس سلطة مستبطنة، سلطة يرضعها الإنسان منذ بداية حياته. منذ نعومة أظافره، يبدأ في رضاعة هذه السلطة، وبالتالي تصبح جزءًا من كيانه. ولذلك في الفصل الخاص ببنية المقدس، تكلمت عن الأساس الجسماني للمقدس؛ لأن المقدس جزء من بنية الجهاز العصبي والجسدي للإنسان، وتكلمت أيضا عن فكرة عودة المكبوت؛ لأننا مع التراكم المعرفي والثقافي نتلقى ثقافات متعددة غربية وشرقية ومن كل الاتجاهات، لكن في قاع الشخصية يوجد هذا الميراث الذي تعلمناه في مراحل الطفولة، والذي من السهل أن يرتد مع أيّ لحظة ضعف، مع أيّ إحساس بالاهتزاز، مع أيّ معاناة يمكن أن يمرّ بها الإنسان، سواء كانت معاناة جسدية أو نفسية؛ فالمقدس سلطة جبّارة جدًّا؛ لأنه سلطة ليس لها ظل خارجي أو موضوعي مباشر، ولكنها موجودة في أعماقنا، وتمارس باسم قدرة عظيمة جدًّا، هي القدرة الإلهية؛ يعني في كل الديانات، وخاصة الديانات الإبراهيمية الثلاث، تمارس سلطة المقدس باسم هذه السلطة الجبارة، وهي سلطة مركزية في الخطاب الإبراهيمي، ينبع منها كل شيء، حتى الكتب المقدسة مرتبطة بهذه السلطة المركزية، الجنة والنار ترتبط بهذه السلطة المركزية.
د. حسام الدين درويش:
تحدثت عن القمع الإبستيمولوجي وعن أبوية النص؛ أي تنطلق من مفهوم النص اليتيم عند دريدا، الذي استقاه من أفلاطون، في كتابه صيدلية أفلاطون، لتتحدث لاحقًا عن أبوية النص. سؤالي هنا ألا يبقى القرآن مثله مثل أي نص نصًّا يتيمًا، مع اختلاف أساسيٍّ يتمثل في وجود من يتبناه، ويدعي امتلاكه وامتلاك الحقيقة، في خصوصه؟ كما إنك تتحدث لاحقا عن أبوية أطراف أخرى: أبوية الشافعي والحنفي والبخاري وابن تيمية، وتحدثت عن الأب التراثي السنّي؛ فهل الأبوية هنا هي أبوية النص أم أبوية من هيمنوا على النص، وهيمنوا على تفسير النص، وادعوا أنهم يمتلكون حقيقته؟
د. حسن حماد:
طبعاً، فكرة الأب لا توجد بشكل مباشر في الإسلام، مثل ما هي موجودة في المسيحية، لكن من وجهة نظري، أو الرؤية التي أطرحها في هذا الكتاب، هي أن النص القرآني يحتل هذه السلطة من خلال نقطة أساسية، وهي الفكرة التي آمن بها أهل السنّة، وهي فكرة أن النص القرآني نص قديم، (وهذا ليس نقاشا ترفيهياً، ليس نوعاً من الترف، ولكنه نقاش أصيل في صلب المدونة الإسلامية). هناك رؤية أخرى تقول إن النص مخلوق وحديث وجد في زمان ومكان محددين، وبالتالي هو تاريخي. الرؤية الأولى، تنظر إلى النص على أنه كلام الله، وهو قديم قدم الذات الإلهية، وهذا من شأنه أن يحيله إلى صفة من صفات الإله. ومن هنا يكتسب النص القرآني لدى أهل السنّة أو بشكل عام لدى التيار الأصولي الإسلامي قداسة مطلقة؛ لأنه كلام الله، وبالتالي كل من ينطق به يصبح مقدسا، عندما أتحدث بهذه الكلمات ذاتي نفسها تتضاعف وتصبح ذاتاً خرافية القوة والوجود بالتأكيد. من هنا تأتي أبوية النص، طبعا المدونة الإسلامية لم تقتصر على الكتاب المؤسس أو النص المؤسس، وهو القرآن، ولكن أضيفت إليها المرويات، وبالتالي اتسعت هذه المدونة، حيث أصبح البخاري مقدساً. أتذكر في بلدتي، وهي محافظة المنيا في الصعيد، وأنا صغير كنت أسمع بعض القرويين يقولون: "وحياة البخاري"، فأنا تصورت أن البخاري كلمة مرادفة للمصحف الشريف. وبعد ذلك، عرفت أن البخاري هو صاحب صحيح البخاري، فدائرة التقديس هنا تتسع وتتضخم، وهذه هي مشكلة المقدس في الثقافة العربية والإسلامية.
د. حسام الدين درويش:
إذا عدنا إلى مسألة قداسة النص، أنت تتحدث عن أن هذا النص لديه سلطة مطلقة وجبارة، وتقول إنه أمام هذه السلطة المطلقة والجبارة، لا يملك الإنسان إلا الخضوع والتبعية الكاملة للماضي وللنص المقدس، وهذا هو الاهتداء، أو التمرد ورفض الخضوع، وهذا هو المروق والكفر. فهل نحن بالفعل أمام هذين الخيارين فقط، أم يمكن استبعاد كليهما؟ على سبيل المثال، ألا يمكننا أن نتجاهل النص تمامًا أو نقوم بقراءته بوعي ونقد؟
د. حسن حماد:
نحن نحتاج إلى قراءة تاريخية للنص، وهذا هو الحل، ولا يمكن استبعاد الدين من حياة الإنسان، وخاصة في عالمنا العربي، لا يمكن استبعاد الدين، وواهم من يتصور أنا أو أنت أو أي إنسان يستطيع استبعاد الدين من حياة البشر؛ فهذا جزء رئيس من بنية الثقافة العربية، لكن القضية هي إلى أي حد؟ القضية هي أن مساحة المقدس اتسعت بشكل كبير جدًّا، حيث لم تعد قاصرة على هذا النص المؤسس، ولا حتى على النصوص الشارحة له، ولا حتى على المرويات، ولكن امتدت ليس فقط للأنبياء، بل امتدت إلى الشخصيات العادية والشخصيات المعاصرة. وإذا أردت أن تتحدث بشكل نقدي عن الشيخ الشعراوي في مصر، هذا مقدس وغيره ....، أنا أذكره كمثال؛ فبالتالي مساحة المقدس عندما تتسع في حياة الإنسان، فهي تغطي كل شيء، تصبح هي قضية الإنسان المحورية، وهذه هي مشكلة الإنسان العربي، أنا أتكلم عن مصر التي أعرفها جيّدًا. مشكلتنا اليوم في مصر، أننا نحن كمثقفين نستلهك أنفسنا في معركة ليس مع المقدس، ولكن مع هذا الفهم الخاطئ والمشوه للمقدس. أحيانا أضع على صفحتي منشورات لا علاقة لها بالدين، تجد الناس أحالوها إلى قضية عداء مع الدين؛ فالجماهير أصبح لديها حساسية مَرضية تجاه أي مساس بالمعتقدات الدينية، أو حتى التقاليد الاجتماعية، ولا شك أن هذا يستهلك وقتاً كبيرًا جدًّا من تفكير الناس؛ أعني أنني عوضاً عن هذا الكتاب الذي وضعته عن المقدس، كان من الممكن أن أقوم بشيءٍ آخر، يعني لو لم يكن هذا هو الشغل الشاغل للثقافة المصرية والعربية اليوم، كان من الممكن أن أتكلم عن شيء آخر أكثر إيجابية ويخدم الإنسان، وربما يؤدي إلى نتائج أفضل لمستقبل الأمة العربية، لكن نحن مستهلكون ومستنزفون في هذا الصراع ليس مع طواحين الهواء؛ لأنها لم تعد طواحين للهواء، ولكنها أصبحت واقعاً أنت تواجهه.
د. حسام الدين درويش:
بعد الفصل الثالث الذي تحدثت فيه عن القوة السحرية للخطاب الديني، أعطيت، مشكورًا، خصوصية للقمع؛ الممارس على المرأة عموما، ولقمع الجسد الأنثوي، خصوصًا. وهذه الخصوصية ضرورية، لأسباب كثيرة؛ منها أن وضع المرأة في (بعض مناطق) العالم الإسلامي هو الأسوأ عالمياً بلا منازع: وضع المرأة تحت حكم طالبان في أفغانستان على سبيل المثال. وأنت تستند، في كتابك، إلى تحليلات فوكو وفرويد في مسألة الجسد والعلاقة مع المرأة، لكنك تتحدث عن قمع ثلاثي تعاني منه المرأة؛ فإضافةً إلى القمع العام الذي يعاني منه كل إنسان، هناك القمع الفقهي الديني الخاص بالمرأة أيضا، وهناك القمع المستبطن، وهو أخطر أنواع القمع من وجهة نظرك.
د. حسن حماد:
طبعا، المرأة مهمة جدًّا؛ المرأة هي الأم، وهي الزوجة، وهي الصديقة، تمثل العالم؛ فالمرأة ليست كياناً هامشيًّا داخل المجتمع، لكن السيطرة على جسد المرأة يؤدي إلى السيطرة على المجتمع من وجهة نظري، وأنا لاحظت هذا، في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان الإخوان المسلمون في معظم جامعات مصر يضعون لافتات كُتب عليها: "حجابي عفّتي"، وهذا مقصود بشكل أيديولوجي؛ لأنك حين تسيطر على جسد المرأة، فأنت تسيطر على تفكيرها ومشاعرها. المرأة هي التي تربّي هذه الأجيال؛ فالأم إذا ربّت أبناءها على الحرية وعلى الاستقلال، والاعتزاز بالذات والتمرد على القيود والقمع، بالتأكيد سيكونون أحرارًا. أما المرأة التي تزرع في وجدان بناتها وأبنائها الخضوع والاستسلام، بالتأكيد ستنشئ مجتمعاً يقوم على الإذعان والاستسلام والخضوع والامتثال؛ فالسيطرة على الأنثى مهمّ جدًّا لأي قمع، وأخطر شيء هو القمع المستبطن الذي ذكرته بالنسبة إلى النساء. وأنا أتحدث عن مصر، حتى لا يغضب مني أحد من بقية البلدان العربية، أتذكر أنّي أقمت ندوة في أحد الأماكن عن حرية المرأة، ففوجئت أن بعض السيدات الموجودات في الندوة، قلن لي: الوضع يعجبنا هكذا، فلماذا أنت غاضب؟ وهذا موجود حتى عند بعض المذيعات المحترمات للأسف، وهن يقلن: "قبّلي حذاء زوجك فهو سيّدك"، وما المانع أن يتزوج الزوج ثلاث أو أربع نسوة؛ فهذا القمع المستبطن أخطر أنواع القمع؛ فبعض النساء يهاجمن ما أقوله مهاجمة ربما تكون أكثر شراسة من الرجال، وهذه هي الخطورة. إن هذه الثقافة القمعية أصبحت مستبطنة/مستوطنة، وتسكن أعماق النساء، حيث يدافعن بأنفسهن عن هذا القمع، وهنا مكمن الخطورة؛ لأن الحرية من وجهة نظري، تتمثل في كلمة واحدة هي الوعي بالقيود، وهذه هي قضية هذا الكتاب الأساسية. على أي إنسان يريد التحرر أن يستشعر القيود؛ لأن أناساً كثيرين يعيشون عبيدًا ولا يشعرون بعبوديتهم، وهذه هي المسألة الخطيرة؛ لأن العبد الحقيقي هو الذي يرتضي العبودية ويدافع عنها.
د. حسام الدين درويش:
ربما يستدعي الوعي بالقيود الوعي بالضرورة عند الفلاسفة سبينوزا أو ماركس؟
د. حسن حماد:
أنا لا علاقة لي بالفلاسفة، أنا أتحدث عن وجهة نظري ...الحرية تبدأ بالوعي بالقيود، ربما كان جان جاك روسو له عبارة قريبة، وهي أن وعي الإنسان بقيوده هو بداية التحرر؛ لأن كثيرًا من الناس حتى من الرجال، مذعنون لقيودهم ويرفضون التخلص منها، وهذه هي قضية القمع المقدس؛ لأنه قمع يسعى الإنسان إليه، ويدافع عنه حتى قتل الآخر.
د. حسام الدين درويش:
إذا تابعنا مسألة المرأة، لديّ سؤال يتعلق بالخاص والعام، بين صورة الأم أو الأمومة من ناحية، وصورة الأب أو الأبوة من ناحية أخرى. الأبوة في الكتاب رمز للعبودية والاستبداد، ولكل شيء سيّئ تقريباً. والحال مختلف تمامًا مع الأمومة. واسمح لي هنا أن أقرأ الإهداء الجميل جدًّا في كتابك: "إلى أعظم امرأة في حياتي، إلى من جسدت في ذاتها وكيانها صورة إيزيس العظيمة مانحة الحياة، وواهبة البقاء والخلود لهذا الوجود، إلى من علمتني أن الحبّ هو أن تعطي، أن تعطي بلا حدود، وبلا انتظارٍ لمقابل، إلى أمي في وحدتها الأبدية وغربتها المطلقة ...".
"الأمومة تبدو عطاءً وحبًّا". كيف تفهم وتفس هذا التناقض الوصفي والمعياري بين رمزي الأبوة والأمومة في كتابك. فعلى العكس من هذه الصورة الوردية للأمومة، تتسم الأبوة، في كتابك، بكل السلبيات الممكنة. وثمة فصلان، يتحدثان عن الأب والأبوية: الفصل الثاني يتحدث عن أبوية النص والقمع الإبستيمولوجي، والفصل السابع يتحدث عن مفهوم الأب السياسي، وعلاقته بثنائية الراعي والرعية؛ فهل من توضيح لمفهومي الأبوة والأمومة في فكرك عمومًا، وفي هذا الكتاب خصوصًا؟
د. حسن حماد:
ربما لأننا في مجتمع أبوي بطريركي ذكوري، وبالتالي الأنثى غائبة، والأنوثة معنى في هذا الوجود؛ لأن الأنوثة تعني الجمال والرقة والحنان، وتعني الاحتواء تعني الأرض أيضا. من هنا، فأنا منحاز للأنوثة كمعنى في مقابل الأبوية وفي مقابل الذكورة. طبعا، فكرة الأب فكرة ضرورية، ولا يمكن أن نتخيل شيئاً بلا أب، وإن كان الاستنساخ البيولوجي اليوم، استطاع أن يوجد كائناً بلا أب، وهذا انتصار للعلم وانتصار للأنثى. طبعا، نحن لا نريد استغناء الإناث عن الرجال؛ لأن هذا ليس في صالح الرجل...، لكن هذا الانحياز هو انحياز مبرر؛ لأننا في ثقافة ذكورية تماما، وبالتالي يمارس الأب هذا الدور على كل المستويات؛ التعليمي والأسري والسياسي والديني، وهي أدوار تتلاحم كلها؛ فدور الأب بهذا المعنى، يتلاحم ويكمل بعضه بعضا؛ فالأب في الأسرة يكمله الأب التعليمي في المدرسة أو في الجامعة، ويستكمله الأب الديني ويعززه الأب السياسي، والأب التعليمي والأب الأسري والأب الديني، هؤلاء الثلاثة يعززون الأب السياسي؛ بمعنى أن القمع الديني يخلق في نهاية الأمر إنساناً مروضاً ممتثلاً مذعناً مستسلماً خاضعاً، ولديه قابلية لتقبل أي سلطة. ولذلك، وهذه مسألة واضحة على المستوى التاريخي، وهي مسألة مهمة جدًّا؛ أعني ارتباط القمع السياسي بالقمع الديني، رجل السياسة يحتاج دائما إلى رجل الدين. فرجل السياسية لا يستطيع التخلي عن رجل الدين، ولا يستطيع أن يمارس السيطرة من دونه.
د. حسام الدين درويش:
في متابعة لمسألة الجسد (الأنثوي) المطروحة في الفصل الرابع، يتناول الفصل الخامس موضوع الألم المقدس، ومن ثم يتناول الفصل السادس مسائل الميول السادية المازوخية في الممارسات اللاهوتية. ويعتمد الكتاب بشدة على تنظيرات التحليل النفسي والعلوم النفسية بشكل عام، ولا سيما في مسألة ميول السادية المازوخية. طبعا، أنت ترى أن العلاقة بين العبد والسيد هي العلاقة النمطية النموذجية في كل الأديان، وبينت بشكل مقنع أن هذه العلاقة مع المقدس تكون سادية ومازوخية في الوقت نفسه؛ فهل تشرح لنا أطروحتك في هذا الخصوص؟
د. حسن حماد:
طبعا، الألم المقدس وهو موضوع الفصل الخامس، وهذا يؤكد أننا ما زلنا في منطقة الجسد؛ فالجزء الرئيس من قمع الإنسان هو قمع الجسد، وهذا ما قاله فوكو بشكل متسع، وقاله المحلل النفسي فيلهلم رايش في كتابه عن الثورة الجنسية. إن سيطرة السلطة على الجسد، أيّ سلطة طبعا، هي مقدمة ضرورية للسيطرة على الإنسان، ولذلك نجد الجسد الإنساني اليوم يفتقد لأي خصوصية، إنه مرئي في كل مكان. ففي معظم دول العالم اليوم يخضع الإنسان في كل سكناته وحركاته للكاميرات التي تحاصره. إن مرئية الإنسان هي مسألة مهمة جداً في إحكام السيطرة ولذلك، حتى في التراث الديني يرى الله الإنسان في كل سكناته وحركاته، فأنت في حالة من المرئية والانكشاف الكامل؛ وترتبط مسألة الألم المقدس أيضاً بشكل رئيس بفكرة الروح والجسد، هذه الثنائية اللعينة المسيطرة على التاريخ تقريبا كلّه، والتي بدأت ربما من قبل أفلاطون، وكان أفلاطون نموذجاً صارخاً لمسألة ثنائية الجسد والروح؛ فالروح تنتمي إلى عالم مفارق، والجسد ينتمي إلى عالم مدنس ومنحط، وبالتالي ينظر دائما إلى الجسد على أنه رمز للخطيئة وللعصيان والتمرد ورمز للعبد؛ ففي ألف ليلة وليلة، نجد العبد يمثل القوة الجنسية المنفلتة في مقابل قوة السيد المحدودة. لذلك، تجد الجسد مداناً وملعوناً بهذه الصورة، ولهذا يتم قهره وتقييده وإقصاؤه، ويتم قمعه وكبته. وهذا واضح حتى في التوراة، قصة الخلق نفسها مرتبطة بالخطيئة وبالجسد، ومرتبطة بنداء الشهوة؛ شهوة الأكل من التفاحة، هي طبعا مسألة رمزية بكل معاني الكلمة.
ثمة نقطة مهمة وجب قولها، وهي أن مسألة قمع الجسد أو الألم المقدس هي مسألة مهمة جدّا، ولهذا تجد في اليهودية أو في المسيحية تحديدًا أن بعض الرهبان كانوا يقومون بعملية إخصاء لأنفسهم قصد التخلص من الشهوة تماما، ويُذكر أن بعض الرهبان مثل - سمعان العمودي- كانوا يقومون بعزل أنفسهم بعيدًا عن الأرض، حتى يتجرد الراهب من كل ملذات الجسد؛ فالجسد مدان بكل المعاني وبكل الصور. وفي الإسلام، نجد الشيعة بالذات في احتفالات كربلاء تتضح هذه المسألة من خلال إنزال الألم بالجسد والضرب بالسلاسل وبالآلات الحادة. كل هذا، الغرض منه هو هذا العنف المقدس. وهذا يرتبط بالمازوخية، ولذلك كان الفصل التالي عن السادية المازوخية؛ فمعظم الديانات تلجأ إلى فكرة المظلومية، وهذه مسألة موجودة في اليهودية طبعا، فكرة محرقة الهولوكوست، وموجودة عند الإخوان في مسألة تعرضهم لقمع السلطة والإقصاء؛ ففكرة المظلومية هي فكرة مهمة جدّا؛ لأنها تحمل طابعا فيه نوع من الإحساس بالقهر وبالمازوخية، الإحساس بأنك ضحية، وهذا الإحساس هو إحساس مريح، ويعيشه كثير من الناس، على المستوى الفردي والمستوى الجمعي؛ أي الإحساس بأنهم ضحية لسلطة غاشمة. فالسادية والمازوخية مرتبطان ببعضهما، فالشخص السادي يمكن أن يتحول في لحظة إلى مازوخي، والشخص السادي الذي يكون في قمة التسلط على بعض الناس، يمكن أن يكون مازوخياً مع امرأة أو مع سلطة غيبية مثل سلطة الإله. وقد أعجبني تحليل ” تيري إيجلتون“ في كتاب له عن العنف المقدس، وذكر أن الإرهابي يمارس حالة مزدوجة من السادية المازوخية؛ لأنه يمارس من خلال الفعل الانتحاري نوعاً من السادية، فهو يؤذي أكبر عدد بشكل مجاني من الضحايا، لكنه في نفس الوقت لديه إحساس بنوع من المازوخية والخضوع. فالسادية والمازوخية تعبران عن نقص؛ فالسادي محتاج للمازوخي، والمازوخي محتاج للسادي، والسادية يمكن أن تتحول إلى مازوخية، والمازوخية يمكن أن تتحول إلى سادية في لحظة من اللحظات. فأقل واحد مثلا، في ديانات الأغلبية يمكن أن يكون سادياً مع الأقليات الدينية في الطرف الآخر. وفي رأيي إن البعد المازوخي أكثر ظهورًا في ما يتصل بدوائر المقدس.
د. حسام الدين درويش:
في الخاتمة، أنت تتبنى أطروحة جريئة، مفادها أن التاريخ ليس تاريخ الصراع أو النضال من أجل الحرية، وإنما تاريخ الهروب من الحرية، وقد استعنت برواية الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي، لتوضيح هذا الرأي. القصة ببساطة أنه عندما عاد الرب إلى الأرض رفضه الكهنة أو رجال الدين؛ لأنه يعرقل توجهاتهم؛ هل يعني ذلك أنك ترى أن المشكلة تكمن في السلطة الدينية وليس في الدين نفسه، أو تكمن في السياسة وليس في الدين؟
د. حسن حماد:
أنا طبعاً، أحب التعامل مع هذه الظواهر بشكل جدلي؛ بمعنى أن الدين مرتبط بالتدين؛ طبعا هناك من يقول التدين، والدين شيء آخر، مثل فكرة النظرية والتطبيق. فهذه المسائل التنظيرية يمكن أن تتبع ما يمكن أن نسميه بالمنطق الصوري؛ أي هناك فصل فيما بينهما وكأن النظرية مستقلة بمفردها...وهذا الرأي موجود عند الماركسيين التقليديين أو الأرثوذكس من الماركسيين، وعند الأرثوذكس من المتدينين أيضا أو الأصوليين، حيث يقولون بالدين النقي والدين الذي تلوث بممارسات البشر. هذا كلام يمكن أن نقنع به الناس البسطاء؛ أي النظرية شيء والتطبيق شيء آخر. لا طبعا، ليس بهذه الصورة، وبالتالي فثمة ارتباط وثيق بين النظرية والتطبيق، بين الدين والممارسة غير المنفصلين تماما.
د. حسام الدين درويش:
في هذه الصورة كان الصراع بين الكهنة والرب نفسه، يعني الممثل للدين. لهذا ذكرنا هذه الرمزية هنا. وأتفق معك في خصوص جدلية هذه العلاقة، وعدم إمكانية الفصل بين الدين والتدين أو النظرية والتطبيق.
د. حسن حماد:
هذه هي الفكرة التي أراد العظيم دوستويفسكي قولها، وهي فكرة أن الإنسان يرغب في التخلص من حريته؛ لأن الحرية بالنسبة إليه همٌّ، وهذه هي الفكرة التي انطلقت منها؛ فالمقصود لدى معظم الناس أن التاريخ الإنساني هو تاريخ البحث عن الحرية. والواقع أن التاريخ الإنساني هو تاريخ الهروب من الحرية؛ لأن الشعوب تسلم حرياتها دائما، إما لرجل السلطة أو لرجل الدين. فمعظم الناس اليوم، يستسلمون لفتاوى الشيوخ في الفضائيات بشكل بشع؛ ففكرة الفتوى هي فكرة تعتمد على تسليم الحرية لآخر. ولذلك أصبح المواطن يريد إلى جانبه شيخا ليسأله: "والله يا مولانا سأعمل كذا ما رأيك؟" وهذا يعني أنك تسلم له حريتك، وهو يفكر لك، ويقرر أن الحرية ترتبط بالمسؤولية، ترتبط بالمجهول وبالوعي، وترتبط بالوعي بالقيود بشكل أساسي كما قلت في سياق كلامي. ولذلك، فالناس لا تتحمل الحرية، ولكنها تحب دائما الخلاص منها، وخاصة عندما تعتاد العبودية، والاعتماد والاتكال على سلطة، سواء أكانت هذه السلطة؛ سلطة الدولة أو سلطة الكنيسة أو سلطة المسجد. في كل هذه الحالات، تصبح الحرية عبئاً وهمًّا بهذا المعنى، حتى كيركيغورد كان يصوّر الحرية على أنها قفزة في الظلام. حين تأتي لتختار، تشعر أنك تقفز في الظلام، وحين أقول لك اعمل كذا وستضمن كذا، سترتاح جدّا؛ فالناس في حاجة إلى من ينوب عنها في الاختيار والحرية؛ لأنه يعفيه من همّها وعبئها.
دة. ميادة كيالي:
شكرًا جزيلا د. حسن على الطرح الجميل. أنت تحدثت عن القمع المقدس للجسد الأنثوي، وهذا شيء يمسني بشكل مباشر؛ لأنك تناولت ما تعانيه النساء من قمع يمارس باسم الله والدين، وأشرت إلى أن المرأة نفسها تمارس القمع على ذاتها وعلى الأخريات، وأنا أتفق معك تماما في أن القمع المقدس لدى المرأة جعلها تدافع عن عبوديتها. في هذا السياق، نرى نماذج مختلفة في الإعلام؛ أي هناك إعلاميات يطالبن بتقديم الطاعة للفرعون، ونموذج آخر يدعو إلى التمرد الكامل عن كل الرجال حتى من يدعمون حقوق المرأة. ألا تعتقد دكتور، أن غياب القانون، وتحقيق العدالة في المجتمع هو الذي يساهم في ظهور هذه النماذج المتطرفة، سواء في هذا الاتجاه أو ذاك، سواء في الطاعة المطلقة أو التمرد الشامل، وكيف يمكن لنا كسر هذه الدائرة من القمع الداخلي والخارجي، وتحرير المرأة بشكل حقيقي؟
د. حسن حماد:
دور المناخ العام أو الفضاء العام، من وجهة نظري أهم بكثير من دور القانون، أنا مثلا أتكلم عن مصر، توجد قوانين كثيرة إلى حدّ كبير هي لصالح النساء ولصالح المرأة، ولكن في التطبيق تأخذ وقتاً طويلا، والقوانين دائما مطاطة، ومن السهل إيجاد بعض الثغرات التي ينفذ منها الرجال لضرب هذه القوانين، لكن الفضاء العام مهمّ جدًّا، هل الفضاء العام يسمح للمرأة أن تتكلم...حضرتك تكلمت عن المذيعات؛ الإعلام دوره مهم جدّا في تنمية هذه الثقافة الداعية إلى تحرير واستقلال الأنثى والمرأة، كذلك الوضع الاقتصادي له دور خطير جدّا بالنسبة إلى تركيع النساء؛ لأن طبعاً معاناة الفقر والاحتياج وفرص العمل التي أصبحت منعدمة، كل هذا يخلق قيودًا حول حركة المرأة، وصاية رجال الدين في الفضاء العام في غاية الخطورة، ودائما ما ندعو في مصر وفي العالم العربي إلى التحرر من هيمنة سلطة رجال الدين؛ لأن سلطة رجال الدين وسيطرتهم على الفضاء العام من خلال مؤسسات التعليم والإعلام والمنابر السياسية، كل هذا خطير؛ لأنه في نهاية الأمر يحاصرنا ويرسخ القيم القديمة: قيم الذكورة والأبوة. فالفضاء العام من وجهة نظري والبعد الاقتصادي في غاية الخطورة من أجل تحرير المرأة، والدعوة إلى مدنية الأنظمة السياسية عموماً في العالم العربي كله ينبغي أن تكون المهمة الأولى للمثقفين، فلا يمكن تحرير الانسان العربي دون علمنة مؤسسات التعليم والمؤسسات السياسية، فضلاً عن أن تحرير الرجل العربي مشروط بتحرير المرأة العربية.
د. حسام الدين درويش:
يتضمن الكتاب، إشارات سريعة ومكثفة وواضحة، إلى أن هذا العنف المقدس يأخذ شكل الإرهاب، وأن مواجهته تقتضي مشروعاً تحديثياً شاملاً يشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة والتعليم والإعلام. هذا يعني أن المسألة، من وجهة نظرك، ليست مجرد فكرٍ، بل هي مسألة جذرية وشاملة وبنيوية ومتعددة الأبعاد، أليس كذلك؟
د. حسن حماد:
أريد القول إن الظروف الموضوعية والذاتية بمنطق التفكير الجدلي لم تزل مهيأة لعودة شبح الإسلام السياسي مرة أخرى؛ لأن مسألة تجفيف الينابيع، مسألة تقضي على الأسباب الرئيسة أو العوامل التي تؤدي إلى ظهور هذا الوباء.
دة. ميادة كيالي:
في ختام ندوتنا اليوم، نجد أن حديثنا عن القمع المقدس قد أضاء على زوايا عميقة في مفهوم القمع والحرية. لقد ناقشنا كيف أن القمع لا يقتصر على السلطة الخارجية فحسب، بل يتغلغل إلى أعماق النفوس، وقد يتحول إلى قمع داخلي تستبطنه المرأة والرجل على حدّ سواء. ولكن لا بد أن نؤكد أن هذا الكتاب، كما ذكر الدكتور حسن حماد، لا يتهم الإيمان في حد ذاته، بل يتهم احتكار الحقيقة واستغلال الدين لأغراض القمع والسيطرة.
إن الحرية الحقيقية لا تأتي إلا عندما نتحرر من سطوة هذا الاحتكار، عندما نرفض القبول بأن أحدًا يمتلك الحقيقة المطلقة، ويحقّ له أن يمارس القمع باسمها. الحرية ليست في التخلص من الإيمان، بل في استعادته إلى فضاء أوسع، فضاء يحتفي بالاختلاف والتعددية، ويفسح المجال لكل فرد ليعبر عن ذاته دون خوف أو قيد. لنتذكر أن الحرية ليست غياب القيود فقط، بل هي الوعي بهذه القيود والسعي المستمر نحو كسرها.
شكرًا لكم، ونعدكم، أنه في نهاية شهر أكتوبر، سنعقد ندوتين؛ الأولى ستكون من تونس الخضراء، وسيكون موضوعها عن التأويليات وتاريخها، والثانية ستكون عن المصحف وقراءاته، هذا العمل الضخم الذي قدمته مؤسسة مؤمنون بلا حدود.