الندوة الحوارية العاشرة حول التأويليات وتاريخها حوار علمي مع نخبة من المفكرين حول كتاب مهدى لمحمد أبو هاشم محجوب
فئة : حوارات
الندوة الحوارية العاشرة حول التأويليات وتاريخها:
حوار علمي مع نخبة من المفكرين حول كتاب مهدى لمحمد أبو هاشم محجوب
بيت الحكمة – تونس 24 أكتوبر 2024
حوار: د. حسام الدين درويش
تنسيق وإشراف: د. ميادة كيالي
"مترجم الفلسفة في لغتنا العربية مضطرٌّ إلى ابتداع ظلّ له"
د. حسام الدين درويش:
مساء الخير جميعاً، وأرحّب بكم أجمل ترحيب في هذا المكان العريق، وفي هذا اللقاء الحواري العلمي المخصص لكتاب "التأويليات وتاريخها: نحو بدايات أخرى"، الصادر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" في العام الماضي، 2023. وكما هو معلوم، يضم هذا الكتاب نصوصًا تتسم بالتنوع والغنى حول التأويل، وهي أعمال مهداة إلى أحد أبرز المختصين في هذا المجال، الأستاذ الدكتور والصديق العزيز محمد أبو هاشم محجوب.
قبل البدء بالمداخلات، اسمحوا لي أن أعبّر عن جزيل الشكر وعظيم الامتنان لمجمع بيت الحكمة التونسي للعلوم والآداب والفنون، ولا سيما قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية فيه، وأخصّ بالذكر رئيس المجمع الأستاذ الدكتور محمود بن رمضان، ورئيس القسم الأستاذ الدكتور عبد الحميد هنية، على احتضان هذا اللقاء العلمي الحواري، والمبادرة إلى تنظيمه، بالتعاون مع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" ومديرتها الدكتورة ميادة مصطفى كيالي. ويؤسفني أن أبلغكم أنّ شخصين كان من المفترض أن يشاركا معنا اليوم، لكن تعذّر عليهما ذلك لأسباب خارجة عن الإرادة، وهما الأستاذ الدكتور فتحي التريكي، والأستاذ الدكتور سعيد توفيق. ونتمنى لهما الصحة والعافية والعودة السالمة إلى الوطن.
لدينا اليوم أربع إلى خمس مداخلات؛ وسنبدأ بكلمة للدكتورة ميادة مصطفى كيالي، التي تمثل مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" التي نشرت هذا الكتاب.
الدكتورة ميادة باحثة وكاتبة سورية، تحمل شهادة الدكتوراه في الحضارات القديمة. وهي مديرة مؤسسة سراج للأبحاث والدراسات في هيئة أبو ظبي للإعلام، والمديرة العامة لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في بيروت والشارقة. ساهمت الدكتورة ميادة في إنتاج ونشر أكثر من 400 إصدار، شملت كتبًا وأبحاثًا متميزة في مجالات الفلسفة والفكر والدراسات الدينية. صدر لها مؤلفات إبداعية، منها: "أحلام مسروقة" (2010)، و"رسائل وحنين"(2013)، وأخرى أكاديمية، منها: "المرأة والألوهة المؤنثة" (2015). و"هندسة الهيمنة على النساء، الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة"(2018).
الكلمة لكِ، دكتورة ميادة.
د. ميادة كيالي
بدايةً، أودُّ أن أتقدّم بالشكر الجزيل إلى بيت الحكمة في تونس على استضافتهم الكريمة لهذه الندوة المميزة. ويسرّني أن أكون بينكم اليوم ممثلةً عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" لتقديم هذا العمل المهمّ.
يعكس هذا اللقاء التعاون المستمرّ بين المؤسسات الفكرية في العالم العربي، وتحظى تونس بمكانة خاصة، سواء بالنسبة إلى مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" أو بالنسبة لي شخصيًّا، لما شهدته من محطات مفصلية في مسيرتي مع المؤسسة.
تعود ذكرياتي مع تونس إلى سنوات مضت، حيث نظّمت مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" أولى ندواتها، بين عامي 2013 و2014، واستقطبت حينها العديد من الباحثين والمفكرين وأساتذة الجامعات، ثم حلّت المؤسسة عام 2015 ضيفَ شرفٍ في معرض الكتاب بتونس، الذي كان يرأسه آنذاك الأستاذ الفاضل الدكتور محمد أبو هاشم محجوب، وقد عكس ذلك الاحتفاء الكبير ما لمسه الجميع من اجتهاد المؤسسة في تقديم مختلف المشاريع الفكرية، وفتح منصتها لاستضافة مدارس فكرية متعددة في الدين والفلسفة.
في تلك الفترة، لم تكن "مؤمنون بلا حدود" قد أطلقت بعد دار النشر الخاصة بها، لكن مع نهاية عام 2015، تم تأسيسها في لبنان، لتكون الحاضنة الرئيسة للإنتاج المعرفي للمؤسسة، الذي تخطّى اليوم حاجز الأربعمئة عنوان.
وفي عام 2019، وبمناسبة معرض الكتاب، عدتُ مرة أخرى إلى تونس، حيث شهد جناح "مؤمنون بلا حدود" مهرجاناً حافلًا بالتوقيعات واللقاءات الفكرية، ثم جاء عام 2020، حاملاً معه تحدّيات الجائحة التي فرضت قيودها على مختلف مجالات الحياة، وعلى رأسها المجال الثقافي. كان ذلك تحدّياً كبيرًا في مسيرة المؤسسة، فتحوّلت دار النشر إلى الحاضنة والحامية لهذا الإرث المعرفي الغني، الذي بُنيَ عبر سنوات من العمل الجادّ والملتزم.
واليوم، في عام 2024، يسعدني أن أكون بينكم في هذه الندوة التي يستضيفها بيت الحكمة العريق، لأمثّل مؤسسةً التزمت، ولا تزال، بنشر المعرفة والبحث الرصين، وسعت إلى تسليط الضوء على المشاريع الفكرية المهمة في الوطن العربي والعالم.
نحن هنا اليوم للحوار حول هذا الكتاب المهم: "التأويليات وتاريخها: نحو بدايات أخرى"، وهو عملٌ مهدى إلى الدكتور محمد أبو هاشم محجوب، احتفاءً بمشروع التأويليات الذي رعته المؤسسة، وتقديرًا لجهود أحد أبرز أعلامه.
تفخر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بما قدمته من إسهامات غنية في مجال الفلسفة والفكر، سواء عبر الأعمال الأصلية أو المترجمة، وتعتزّ بأنك، دكتور محمد، كنتَ ولا تزال ركناً أساسيًّا في مسيرتها، وداعماً رئيساً لمشروع التأويليات.
لقد أطلقت المؤسسة سلسلة من الأعمال ضمن مشروع التأويليات، شملت كتباً مترجمة وأخرى مؤلَّفة، إضافة إلى إصدار مجلة التأويليات، التي تُعدّ رائدةً في العالم العربي، والتي صدر منها حتى الآن ستة أعداد. ولا يفوتني هنا أن أكرّر الشكر لكلّ من ساهم في إنجاح هذا المشروع، وعلى رأسهم الدكتور محمد محجوب والدكتور فتحي إنقزو، اللذان واصلا العمل على المجلة بكل تفانٍ وإخلاص، رغم كلّ التحديات.
إن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" تستمدّ قوتها من ثقتكم بها، ومن إبداعاتكم الفكرية التي نفتخر ونعتزّ بها. وأودّ أن أتوجّه بالشكر الجزيل لأستاذي الدكتور محمد محجوب على مسيرته الطويلة في خدمة الفكر والمعرفة، وأتطلع إلى مواصلة العمل معه على مشروع التأويليات، بل وتوسيعه أكثر من أيّ وقت مضى.
أما عن الكتاب، فسأتحدث عنه بإيجاز، على أن يقدّمه بتوسع الصديق العزيز الدكتور حسام الدين درويش.
"التأويليات وتاريخها: نحو بدايات أخرى" كتاب يجمع مداخلات علمية وفكرية، كان من المفترض أن تُعرض ضمن ندوة علمية نظمتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، لكنها أُلغيت بسبب انتشار جائحة كورونا عام 2020. ومع ذلك، لم يتوقف المشروع، بل جُمعت المداخلات في هذا الكتاب، بمساهمة عدد من المفكرين والباحثين المتخصصين في الفلسفة والتأويليات، وتحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد أبو هاشم محجوب.
يمثل هذا الكتاب استمرارًا لجهود المؤسسة في دعم الإنتاج الفكري الذي يسهم في تجديد الفكر العربي والإسلامي، ويعدّ إضافةً نوعيةً إلى المكتبة الفلسفية والفكرية المعاصرة. ومن موقعي اليوم في إدارة المؤسسة، أؤكد انفتاحي الكامل على التعاون مع المؤسسات الفكرية والجامعات والمعاهد الرائدة في تونس والعالم العربي، لتوحيد الجهود وتبادل الإنتاج المعرفي، وكل ما من شأنه دعم البحث والباحثين.
أشكركم جميعاً على حضوركم، وأعتذر عن صوتي المتعب. تحياتي لكم.
د. حسام الدين درويش:
كما تلاحظون، في مداخلة الدكتورة ميادة، وكذا في المداخلات الأخرى، هناك تداخلٌ بين ما هو خاص وما هو عام، ما هو شخصي وما هو موضوعي. وقد كان هناك تشديدٌ خاص من الدكتور محمد على ضرورة التركيز على الجانب الموضوعي بعيدًا عن البعد الشخصي، غير أن هذه الندوة والكتاب الذي نتحدث عنه يلتقيان عند ثلاثة محاور رئيسة.
أولًا، هناك حديث عن التأويل، من حيث المنهج والماضي والتاريخ والآفاق المستقبلية. ثانيًا، يحتوي الكتاب يحتوي على نصوص غنية ومتنوعة، لمؤلفين عرب وغير عرب، مترجمة ومؤلفة، تتناول موضوعات متعددة، سواء في المجال الديني أو غير الديني. ثالثًا، يتقاطع الجانب الشخصي في هذه المداخلات، حيث سيتم الحديث عن الدكتور محمد محجوب بوصفه أحد أبرز المختصين في هذا المجال في العالم العربي، ليس من باب العلاقات الشخصية، بل من باب الضرورة المعرفية الموضوعية.
بالنسبة إلى العنوان، فإن الحديث عن التأويل وبداياته يحمل دلالات عميقة. فالتعددية حاضرة في التأويل؛ إذ إنه يعترف بوجود قراءات متعددة للنصوص والمعارف. التأويل، منذ نشأته، يقوم على الإقرار بوجود "آخر"؛ أي بوجود فهمٍ أو تأويلٍ آخر للنصوص، وهو ما يعكس نسبية المعرفة ومنظوريتها، وليس نقصاً فيها. فحينما نقول "نحن نؤول"، فهذا يعني الاعتراف بالشرعية المبدئية لوجود رأيٍ مختلفٍ ومخالفٍ، وهذا جوهر التعددية الفكرية.
أما مسألة البدايات، فهي تشير إلى علاقة التأويل بالماضي، لكنه ليس مجرد تمجيد للماضي، بل محاولة لفهمه والبناء عليه في الحاضر، مع الانفتاح على المستقبل. وقد كثَّف الدكتور فتحي إنقزو هذه الفكرة في تقديمه للكتاب: "إن الحاجة إلى الماضي جزء من النسيج الزماني للوعي البشري، وليست من جنس الحاجات العقدية الأيديولوجية أو السياسية الطارئة ولا هي من النزوات العابرة وهي حاجة إلى إعادة بنائه بطريق السرد والذكر والاستحضار التي تمكن جميعها من احتمال ثقل الحاضر الحي، وتجعل الفكر قادرًا على مناظرته في يومه، أي في اليوم الفلسفي الذي يجعل له انتسابًا إلى الكلي، والذي يجعله جزءًا من الأفق الإنساني".
أعطي الكلمة الآن للدكتور فتحي إنقزو، وهو باحث أكاديمي تونسي، وأحد أبرز المختصين في التأويل في العالم العربي. يشغل منصب أستاذ في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، كما عمل أستاذًا للتعليم العالي في الفلسفة بجامعة تونس المنار. له العديد من الأبحاث والمؤلفات المهمة؛ منها: هوسرل واستئناف الميتافيزيقا (تونس، 2000)، هوسرل ومعاصروه من فينومينولوجيا اللغة إلى تأويلية الفهم (بيروت-الرباط، 2006)، وقول الأصول: هوسرل وفينومينولوجيا التخوم (بيروت-الجزائر: 2013)، معرفة المعروف تحولات تأويلية من شلايرماخر إلى ديلتاي (بيروت-الرباط، مؤمنون بلا حدود 2017)، وهناك طبعاً ترجمات كثيرة آخرها ترجمة بعض أعمال كانط التي تنقل إلى العربية لأول مرة مثل: الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية (2022) ونزاع الكليات (2023). والآن، أترك الكلمة للدكتور فتحي.
د. فتحي إنقزو:
شكرًا دكتور حسام الدين درويش وتحية إلى الحاضرين في بيت الحكمة؛ ومنهم د. محمد محجوب في المقام الأول؛ لأنه معنيٌّ بهذا اللقاء، وكذلك د. ميادة كيالي مديرة مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وسائر الزملاء من تونس؛ منهم الصديق عماد عماري، وكذلك الصديق والزميل العزيز عبد الله السيد ولد أباه من موريتانيا الحبيبة.
حديثنا عن هذا الكتاب الذي ظهر منذ فترة قريبة في السنة الماضية، والذي دعينا من أجله لهذا اللقاء ينبغي أن يكون مسبوقاً بواجب الشكر، وهذا واجبٌ ضروريٌّ؛ أولا لمن يستحقه ممن بادر إلى الفكرة التي بمقتضاها تحقق هذا الكتاب بفضل حرص مؤسسة مؤمنون بلا حدود والقائمين عليها لإنجازه، ثم للتعريف بما تنتج من كتب وإصدارات للجمهور العريض؛ فقد صار عندها الآن طبقة محترمة من القراء، ينتظرون هذه الإنتاجات، ويقبلون عليها إقبالاً جميلاً، وكذلك صمود هذه المؤسسة، رغم العراقيل والصعوبات واستمرارها في السنّة التي وضعتها من الاشتغال في مختلف حقول الفكر، لا سيما الفلسفة، وتخصيص جزء من مجهود الدار للمجال التأويلي من خلال السلسلة التي ابتدأت باسم "تأويليات"، ونشرت فيها بعض العناوين التي صارت معروفة ترجمة وتأليفاً، ونتمنى أن تستمر، وكذلك الحفاظ على المجلة الوحيدة التي بقيت تصدر في المؤسسة ورقيًّا على الأقل، وهي مجلة "تأويليات" التي بلغت العدد السابع هذه السنة، ويصدر إن شاء الله في أقرب الأوقات، وهو جاهز تقريباً. وواجب الشكر أيضاً لبيت الحكمة، هذا الصرح العريق، الذي استقبل هذه المناسبة الطيبة، التي تساهم بقسط مهمّ في التعريف بالإنتاج الفلسفي والكتاب الفلسفي، التونسي والعربي، ومنه ما هو من إنتاج المؤسسة المحترمة التي هي صاحبة الفضل في إخراجه وصناعته وتوزيعه، ولكن الكتاب أيضا إنتاج تونسي إلى حد ما؛ يعني أنه يعبر عن اجتماع كفاءات وباحثين معروفين؛ أكثرهم من تونس، وبعضهم من أوروبا ومن باقي الدول العربية شاركوا بمساهماتهم للاحتفاء بالعمل الفلسفي للدكتور محمد محجوب.
أما فكرة الكتاب ونشأته وبلوغه طور التحقق، فقد عانت في البدء من معوقات كثيرة منها، طبعاً، ما تعرضنا له من انقطاع فجْئي في الأثناء لأنشطة البحث والنشر، مع ظهور الجائحة التي ذكرتها الدكتورة كيالي، وأدت إلى تأجيل المشروع الذي هو في الأصل مؤتمر علمي من المؤتمرات الدورية التي تعقدها المؤسسة بشكل سنويّ تقريباً، لاستحالة عقده في الظروف الصحية الصعبة التي مرّ بها الجميع طيلة سنتي 2020-2021، وقضت في نهاية المطاف بتعليق كل نشاط. فكان أن اقترحنا تحويل فكرة المؤتمر نفسها والحفاظ عليها على شاكلة كتاب جماعي يشارك في تأليفه جملة من الباحثين والمفكرين، ممن أرسلوا موافقتهم للمشاركة في المؤتمر. قد يكون هذا الكتاب جزءًا من الظرف الشديد الذي مررنا به جميعاً، ولكنه أيضاً ذكرى جميلة؛ لأنه اتخذ في الثناء صفة جديدة غير مجرد الجمع والنشر، هي صفة التكريم والاحتفاء، الأمر الذي يندر تقريباً في السياق الفلسفي العربي أن يحدث بالشكل الكافي، الذي يحقق مطلب الوفاء لمن علمنا وتقدم علينا بما بذل من الجهد والعطاء؛ هذا الكتاب ربما يكون شهادة على منجاتنا من صراط عبرناه في وقت عسير.
يضاف إلى ذلك أمر آخر مفاده أن الاحتفاء بالتكريم في هذا الكتاب، لا يعني أن عمل محمد محجوب هو مخصص كلّه للتأويليات، حتى لا يقع في ظن القارئ غير المتخصص أو القارئ الذي يعرف جزئيًّا المنشورات الرائجة في الفلسفة، أن التخصص الذي ينسب إلى محمد محجوب أو أحياناً إلى بعض الباحثين الآخرين من الأساتذة هو أمر نسبيّ؛ ذلك أن التفكير يمكن أن يتركز، وأن يأخذ وجهة بعينها، كأن يتبع أسلوباً تأويليًّا، ولكن التأويلية في نهاية المطاف ليست بالضبط جزءًا كلاسيكيًّا من أجزاء الفلسفة، هي أوسع من ذلك؛ بمعنى أنها تتصل بمعارف وعلوم أخرى، وفي الفلسفة تحاول أن تفتك لها موقعاً بمحاذاة التخصصات الأخرى؛ فإذن الذي هو غير معروف عند الجمهور، أن محمد محجوب اشتغاله الأساسي هو في تاريخ الفلسفة أولاً، ونحن ممن درس هذا الأمر على يديه، ابتداءً بتاريخ الفلسفة القديمة، والحديثة أيضاً، وبشكل خاص تاريخ الفلسفة المعاصرة، إضافة إلى اهتمام مواز بتاريخ الفلسفة الإسلامية في نوع من السفر والتنقل بين هذه المجالات بارتياح؛ ذلك ما كنا قد تلقيناه في الدروس والمحاضرات، وتشكلت به نظرة وأسلوب عمل، ربما ليس له نظير بالمعنى الحرفي في المؤسسات الجامعية الأخرى، إلى حد الآن، وعندما ألتقي أصدقاء من الدول العربية المختلفة، دائماً ما يشيرون إلى هذا الأمر؛ أعني أن هناك في الإنتاجات الفلسفية التونسية ما يدلّ على روح خاصة في التعامل مع التراث الفلسفي، وهذا يؤثر في القراء وفي الباحثين، ويعطي انطباعات جيدة وثابتة، نلمسها فعلاً عند متابعي الإنتاج الفلسفي.
إذن هذه عناصر مدرسة تشكلت منذ فترة طويلة، ولكنها انطبعت بفكرة التأويلية في مرحلة معينة، وصارت هذه الفكرة هي المنظمة لمختلف الاهتمامات الفلسفية، سواء لمحمد محجوب أو للعاملين معه من الذين يشتغلون في الدراسات العليا على رسائل الماجستير وعلى أبحاث الدكتوراه، ثم الباحثين المتقدمين الذين استطاعوا أن يعملوا في ترجمة النصوص أو في التأليف؛ فصارت تقريباً منذ بداية الألفينيات منتظمة في تعليم تخصصي كرّس مجال التأويلية في الجامعة التونسية كمجال قائم بنفسه، والذي لم يكن موجودًا في الحقيقة، ولعله غير موجود في معظم الجامعات العربية، سواء في الدراسات العليا أو في التمهيد للإنتاج الفلسفي في هذا المجال القديم-الجديد. صارت هناك هوية شخصية خاصة بهذا النوع من العمل. ولا يخفى طبعاً، أن الأساس في الانشغال بالتأويلية هو دائما مادة فكرية أو تاريخية أخرى تسبقها؛ أعني مثلا فلسفة هايدغر أو الفلسفة الحديثة أو فلسفة أفلاطون أو أرسطو. التأويلية في حدّ ذاتها ليست لها أهمية إلا بالمادة الفلسفية التي تشتغل عليها. لذلك، فهي تحمل معها هذه المادة، ولكنها لا تُرى، بل ما يُرى للقراء وللمتابعين هو الصيغة النهائية التي تخرج بها، والتي تنتزعها من مادتها الأولى. أما هذه المادة التي تحملها من خلال ما يسميه محمد محجوب الاشتباك مع النصوص، فلا تظهر إلا قليلا، حيث إن المضمون الأساسي للعمل التأويلي هو مضمون فلسفي (أو غير فلسفي) سابق يقتضي معرفة ثابتة بتاريخ الفلسفة وبتاريخ الفكر، وبالتراث الفلسفي القديم، والتراث العربي الإسلامي، والفكر الحديث والمعاصر.
إنما هي مهمّة ثقيلة الحقيقة، وليست مجرد عنوان شكلي يوضع على البحوث كيفما اتفق، وهي مهمة صعبة وثقيلة اضطلع بها محمد محجوب في الجامعة التونسية، وكانت لها سوابق هنا وهناك. وحينما سنحت المناسبة لتكريمه في ذلك الوقت الذي تحدثنا عنه، كانت فكرة التأويلية، في أفق استقبال القراء، هي الفكرة الأنسب والأكثر راهنية؛ لأنها سياقٌ تأليفيٌّ أولاً، ولأنها جامعة لمختلف البحوث، ومختلف الأنشطة التي اضطلع بها طيلة مسيرته الجامعية. إن الأولية التي تتمتع بها التأويلية يمكن تفسيرها بثلاثة أصناف من الأسباب:
الصنف الأول؛ أن التأويلية لها القدرة على توفير لغة مشتركة بين الباحثين والمفكرين. اللغة المشتركة هي نمط من koine، بالعبارة اليونانية، هي سياق جامع نشأ بالتدريج، ثم صار الآن عنواناً لمجامع فلسفية، وأنشطة كثيرة، ومنشورات أيضا. هذا العنوان ليس تخصصاً دقيقاً جامعيًّا فقط، ولكنه أيضا هو نوع من الإطار الموجه للبحوث ولتكوين الباحثين أيضا، وللإنتاج الفلسفي بالمعنى الحصري؛ وذلك أنه يصعب أن تجد في العناوين الفلسفية المتوفرة في السياق التداولي العربي، ما يمكن أن يجمع مثل الفلسفة التأويلية ونظيراتها؛ أقصد مثلا الرافد الفينومينولوجي الأساسي لهذه الفلسفة، وكذلك المصادر الأساسية من تراث تاريخ الفلسفة الحديثة، وأيضا المدارس المعاصرة القريبة منها: الكانطية المحدثة، الفلسفة التحليلية، النظرية النقدية، النظرية الأدبية، اللاهوت وفلسفة الدين وغير ذلك. هنالك مجال كبير جدًّا واسع يستطيع استقطاب الباحثين وتكوينهم على مستوى رفيع.
السبب الثاني/ الداعي الثاني؛ أن التأويلية هي عابرة للتخصصات، وعابرة أيضا للفلسفات، وللمذاهب والنظريات، وهي فكر كما ذكر الدكتور درويش في البداية، يحتمل الآخر، ويعطي الحق للآخر. وحين كنت أفكر في الصيغة الأنسب لتقديم هذا الكتاب، وجدت أن القدرة على احتمال الآخر في نوع من التنافس الفلسفي الحر، غير متيسرة دوما للأسف الشديد، من ذلك مثلا ما نراه في كثير من الأوساط الجامعية، من نزوع بعض التيارات الفلسفية إلى إقصاء غيرها. وكأنها توجد من حيث لا تتحمل أن تدخل في نوع من الاشتراك ونوع من التفاعل مع التخصصات النظيرة لها، عكس ما حدث تماما في المجال التأويلي الذي لم يعلن عن نفسه أبدًا أنه عدوٌّ لأيّ تخصص آخر، ولم يعلن عن نفسه أنه ينوي استبعاد أو إقصاء أي فكر، ولكن هل رأيتم ندوة أو مؤتمرًا فلسفيًّا يكون فيه الجمع بين متخصصين في الفلسفة التأويلية أو الفلسفة الفينومينولوجية أو غيرها، وبين نظراء لهم من التخصصات الأخرى؟ قد لا يوجد من ذلك إلا القليل النادر؛ ربما لأنه ليس هناك تقبل متبادل بين الباحثين في المستوى الأكاديمي بعدُ. فإذن الفكر التأويلي فكر متسامح يرى نفسه جزءًا من الآخر، جزءًا من الآخرين، يتفاعل معهم، ويستمد مادته الأساسية من المناظرة، والجدل، والحوار الذي يقيمه مع المحاورين أو المخاطبين له دوماً. أنوّه بهذا الشرط الأخلاقي، فكأنّ التأويلية أخلاقية أيضاً Hermeneutica moralis بالمعنى الذي راج في عصر الأنوار، حيث تنطوي على شروط أخلاقية في التفكير من درجة عليا.
- السبب الثالث، هو أن التأويلية فرصة ونوع من العمل يدرب الباحثين والمفكرين على العمل المثابر والصبور، لكونها تتعلق بنوعية صعبة من النصوص، لا فقط النصوص الفلسفية النظرية، وإنما كذلك النصوص الدينية والعلمية والأدبية، وتلك الآتية من التقاليد الفيلولوجية، وكذلك مختلف أصناف النصوص المتداولة، فهي تتشابك معها باستمرار. ولذلك، يصعب أن نقف في التأويلية على نوع من التخصص الفلسفي الخالص، وإنما هو تخصص مختلط بغيره بالضرورة، يأخذ المادة من نظرائه أيضا، وهذا يحتاج إلى استعداد وإلى نوع من الحساسية الفلسفية الخاصة.
هذه ملاحظات حاولت من خلالها أن أبيّن أهمية الانتساب الذي يعلن عنه هذا الكتاب إلى التقليد التأويلي وعلاقته بأعمال محمد محجوب، وهو يفسَّر بهذا السبب لكونه يفكر دائما في توسيع الأفق وفتحه إلى أقصى الحدود؛ كذلك أجد أن الدافع إلى اختيار هذا العنوان الذي طرحناه ليس دافعاً تقنيًّا صناعيًّا، يعني ليس المقصود هو أن يقع تقديم جملة من البحوث في تاريخ التأويلية من طرف متخصصين بالمعنى الدقيق؛ لسبب بسيط ربما لأنه لم تتشكل بعدُ في المجال البحثي العربي، هذه النوعية من التخصصات الدقيقة التي تستأثر بمجموعة من المناهج والتطبيقات على نصوص بعينها؛ فقد يكون هذا الاهتمام موجودًا عند البعض ولكنه محدود فلسفيًّا. إن المقصود بالعنوان – "التأويليات وتاريخها" – هو إثارة الانتباه إلى راهنية المسألة التأويلية بشكل عام وعلاقتها بتاريخها وكيفية كتابة هذا التاريخ. وقد كنت انتبهت إلى هذا الأمر، حينما كُلّفتُ بالاضطلاع بالتدريس في نطاق ماجستير "التأويلية وتاريخ الأنساق" (جامعة تونس المنار – المعهد العالي للعلوم الإنسانية، أسسه واشرف عليه محمد محجوب) منذ قرابة العقدين من الزمان، ثم الابتداء بكتابة بعض الأبحاث في الغرض، انتبهت إلى أنه لا يمكن أن تكون هناك تأويلية بالمعنى المجرد؛ بمعنى يقرب من الهواية الفلسفية التي تكتفي بالتعامل مع النصوص والأفكار دونما ثقافة متينة من المعارف والعلوم المختلفة. التأويلية دون معرفة لتاريخها لا معنى لها. ولذلك، ذهبت مباشرة في ما أذكر إلى المصادر المادية لهذه الفلسفة: شلايرماخر، المؤسس، ودلتاي، وإلى تقليد المدرسة التاريخية والتقليد الألماني عامة؛ لأنه هو التقليد الأساسي الذي تستمد منه التأويلية أفكارها وفرضياتها ومناهجها؛ فعلاقة التأويلية بتاريخها عنوان عام نموذجي وأساسي. والمداخلات التي نُشرت في الكتاب بعضها نوع من العناية بهذا المحور بشكل مباشر؛ منها المقال الافتتاحي الذي شرفنا به الأستاذ جان غرايش J. Greisch من باريس، الأستاذ السابق بالمعهد الكاثوليكي في باريس، أمد الله في أنفاسه، ولا يزال الآن أحد من الورثة الكبار للتقليد التأويلي الأحياء من تلامذة ريكور، وقد شرّفنا بالمقال الذي أسهم به في هذا التكريم، وعلاقته بالدكتور محجوب معروفة، حيث تشكلت بين جان غرايش وبيننا في تونس، علاقة مودة مع هذا الرجل وهذا الفيلسوف المحترم، فكان المقال الافتتاحي في هذا المعنى، في إعادة تفكير حية؛ لأنه كُتب خصّيصاً لهذا التكريم، ولا أزال أحتفظ بالنص الفرنسي، لا أدري هل نشره أم لا، في الأثناء، ولكنه كان في السنتين أو الثلاث الماضية خلاصة فكره في نهاية المطاف، وخلاصة تجربته، ورؤيته لمعنى التأويلية ووظيفتها اليوم، ولتاريخها أيضاً، حيث نجد هذه المراوحة بين المحاولات التاريخية من أفلاطون صعودًا إلى اليوم، وصولًا إلى ما يقترحه من أنموذج سماه "الوظيفة ميتا"، وهو الأفق التجاوزي للقول التأويلي كجنسٍ أو كتنويع أخير من تنويعات القول الميتافيزيقي. نجد كذلك من المحاولات والاجتهادات الفكرية التي تضاف إلى محاولة غرايش، محاولة فتحي التريكي في الحقيقة وما بعد الحقيقة كإضافة لا من داخل التقليد التأويلي، ولكن من داخل الجدل الراهن حول مفهوم الحقيقة الذي هو مهم في التأويليات، لا سيما علاقته بالخطاب والمعنى، ولكن من خلال ما يعرف اليوم بما بعد الحقيقة على نحو مختلف الما بعديات التي صارت من عناوين الجدل الفلسفي اليوم المنبئة بالنهايات. أما محمد محجوب، فقد انتخب لتقديم تصوره لكتابة تاريخ التأويليات معالجة المنظور الإغريقي، حيث تكون التأويلية حسب عبارة ريمي براغ Brague R. "بابًا للإقبال على العالم الإغريقي" من خلال نظر هيدغر في مفهوم الحقيقة (آليثيا) كما نطقت في الإغريقية، وتقلبت بين مواضع شكلت محور تطورات مفكر الغابة السوداء وممكناً من ممكنات التأويلية الأنطولوجية وتصاريفها من خلال مناقشة المشكل الذي رافقه طيلة حياته حتى في ما بعد المنعطف وما بعد كتاباته الأولى.
إن التفكير مع الفلاسفة المعاصرين، انطلاقا من قراءة ومن علاقة حيّة بالفكر اليوناني، أمر يكاد أن يكون مفقوداً تماماً في أيامنا، فإذن الفضل لمحمد محجوب أنه يحافظ على شيء صار نادرًا جدًّا اليوم، وهو المحاورة المباشرة مع التراث الإغريقي، لا على أساس أنه من تراث الماضي المنقضي، بل على أساس أنه جزء من يومنا الفلسفي. أقول هذا الكلام، وأنا أرى الباحثين اليوم في الدراسات الفلسفية من الجيل الشاب خاصة وقد فقد إمكان التعامل، مجرد التعامل، مع التراث الفلسفي، لا القديم فحسب، بل الوسيط، وحتى التراث الحديث صار حضوره باهتاً على حساب الغلبة المتزايدة للدراسات المعاصرة ذات النبرة الهجينة شبه الفلسفية شبه الحضارية والثقافية. وفي السياق نفسه، ساهم عماد عماري في الجدل حول تأويليات الحدثية، هذا الجدل الذي ساهم في إرسائه أيضاً محمد محوب بنشر ترجمة كتاب هايدغر الذي هو عبارة عن دروس الفصل الصيفي 1923 بعنوان: أنتولوجيا (تأويليات الحدثية)، والذي صدر أيضاً عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود منذ سنوات قليلة، وشكل حدثاً فلسفيًّا في الحقيقة، لم يُنتبه إليه طبعاً إلا قليلاً؛ لأن الاهتمام عند المفكرين والمثقفين هو دائماً بأشياء أخرى، من الراهن والمباشر والعابر، لا بالأحداث الفكرية؛ أي بالنصوص التي تصنع هذه الأحداث، وأيضا ضاعت منا الفرصة مرة أخرى، أن نحتفل بمئوية هذا الكتاب في السنة الماضية، لا أدري إن خطرت هذه الذكرى على بال أحد؛ ففي سنة 2023 تكون قد مرت مائة سنة بعد "تأويليات الحدثية"، هذه الفكرة وهذا الحدس الفلسفي الفذ الذي هو الحدس الرئيس لفلسفة هايدغر الشاب التي أرى فيها شخصيًّا فلسفته الحقيقية دون ما تلاها.
أما المحوران، الثاني والثالث، في هذا الكتاب، فيتعلقان تباعاً بأمرين لا يتصلان مباشرة بتاريخ التأويلية، وإنما يتصلان بها بطريقة مُداورة، أو بطريقة غير مباشرة؛ الأول هو المحور الذي يتعلق بالنماذج التأويلية بالمعنى الأعم، مثلما نرى في تصور سعيد توفيق، الذي تخير نموذج السيرة الذاتية، وهو نموذج حيّ، وطريقة خاصة في الكتابة وفي تقديم الفكرة الفلسفية، وعرض التجربة الشخصية على شكل فلسفي؛ والأنموذج الثاني هو فكرة "الإبدال" Paradigm من المنظور الفيلولوجي كما اقترحها محمد الحيرش، في سياق إحياء لتقليد عريق يحتاج إليه الجهد التأويلي بالأخص كعمل على النصوص وعلى اللغة بشكل مباشر، ثم أنموذج "الغيرية" عند عبد العزيز بومسهولي كتجربة فكرية أساسية هي محك حقيقي لمختلف التجارب التأويلية، ومنها الترجمة بوجه خاص. كلها خبرات فينومينولوجية، ولكن بعضها تطبيقي مباشر، وبعضها مستأنف من نصوص، وتقاليد ثقافية ومعرفية راسخة.
وأما المجموعة الأخيرة من المقالات، فهي التي سميتها "تنويعات" variations، على النواة التأويلية الثابتة لهذا الكتاب، ولكن هذه التنويعات أتت، إما من باب الحداثة وممكناتها مثل مقالة محمد البوبكري من خلال الجدل بين هابرماس وغادامر مثلاً، أو من باب الدين، وهو المقال الذي تقدمتُ به كقراءة في نمطين من "الحديث" عند شلايرماخر: حديث النفس وما يمكن أن يستفاد منه لتأسيس تجربة فكرية جديدة للذات على قاعدة غير ميتافيزيقية وغير مثالية، والحديث في الدين الذي يخاطب به الفيلسوف الشاب معاصريه من منكري العقيدة والإيمان. لا ننسى أن شلايرماخر ليس فقط مفكر التأويلية، ولكنه أيضا مفكر الدين ومصلح اللاهوت في العصر الحديث. أما التنويع الأخير، فهو الذي يرتبط بالمقالات الأربعة الأخيرة، المجموعة في نهاية الكتاب، والمتعلقة كلها بالنص القرآني، إما بتأويلية هذا النص عموماً كنص تأسيسي، أو بالتركيز على محور بعينه وقراءته قراءة مباشرة، أو بتطبيق قراءة تاريخية للفرق الإسلامية عليه، وأقصد هنا في المقام الأول مداخلة المرحوم الذي أهدينا هذا الكتاب إلى روحه، رسول محمد رسول، الباحث العراقي الذي فقدناه في الأثناء، وتحدث عن بناء التجربة التأويلية في الإسلام المبكر، أو كذلك من خلال قراءة في القصص القرآني عند فيصل الشطي، ورؤية معاني التأويل وتجلّياتها في المتن القرآني كما يفعل عادة صابر مولاي أحمد بطريقته المعروفة، وأخيرًا من خلال معالجة العلاقة بين القراءات والفرق كما قدم ذلك المنجي الأسود في فحص دقيق للحيثيات التاريخية للمسألة التأويلية في الإسلام؛ فقد اشتغل هؤلاء على النص القرآني كبنية أساسية وأصلية للتجربة التأويلية تنظيرًا وتطبيقًا في الوقت نفسه.
بذلك، أكون قد أتيت على مختلف مفاصل هذا العمل التكريمي من خلال تعقب الحركة العامة للكتاب، ومضمونه ومختلف محاوره. والفكرة التي حركته هي فكرةٌ غايتها الأولى والأخيرة إثارة الانتباه إلى راهنية المسألة التأويلية، والإسهام كلٌّ على قدر استطاعته في تكريم الأستاذ محمد محجوب، على ما بذله طبعاً من الجهد الذي صار مكسباً للجميع، وما له من الفضل في تأسيس هذا السياق، أو تجديده، وفي دفع العقول والكفاءات الشابة بوجه خاص، للاشتغال عليه.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا لك، سأحاول فقط التوقف عند ثلاث نقاط رئيسة تناولتها في مداخلتك، مع التأكيد أنك الأعلم بالكتاب، بحكم أنك من حرّره واشتغل عليه.
تتعلق المسألة الأولى بعمل الدكتور محجوب، الذي لا يقتصر على التأويل أو على المدرسة التأويلية فحسب، بل يشمل تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة أيضًا. وهذا ما يجعله امتدادًا لما يمكن أن نسمّيه تقليدًا تأويليًّا. وكما نعلم، إذا كان فهم الذات هو النموذج الأعلى في الفلسفة التأويلية، فإن هناك تأكيدًا من فلاسفة وهيرمينوطيقيين أن فهم الذات لا يتحقق إلا من خلال فهم الآخر؛ أي إن معرفة الذات لا تكون إلا عبر معرفة الآخر. وبذلك، لكي يكون المرء تأويليًّا، ينبغي ألا يقتصر على التأويل فقط، بل عليه أن ينفتح على آفاق أخرى، حيث يصبح فهم التأويل ذاته أكثر عمقًا من خلال الخروج منه إلى سياقات أوسع، دون أن يكون ذلك إفقارًا له.
ترتبط المسألة الثانية بالبعد الأخلاقي الذي تحمله الفلسفة التأويلية، والذي يتجلّى في سعيها إلى توفير لغة مشتركة للفهم، غير أن هذه الفلسفة باتت أيضًا عنوانًا للانقسام في المشهد الفلسفي العالمي، حيث نلاحظ وجود تيارين أساسيين يتصارعان مؤسسيًّا، ومعرفيًّا، وفكريًّا، بل وأحيانًا على مستوى التأثير الأكاديمي ذاته. هذا ما عايشته وأعايشه شخصيًّا في ألمانيا، التي يُفترض أن تكون إحدى معاقل الفلسفة الهيرمينوطيقية، لكن هذه الفلسفة تتعرض فيها، مع ذلك، أحياناً للإقصاء أو يتم إنكار انتمائها إلى الفلسفة من الأساس. لدينا هنا، من جهة، الفلسفة التأويلية القارية، ومن جهة أخرى، الفلسفة التحليلية أو ما يُعرف بالفلسفة الأنجلوسكسونية. وهذا الصراع تتحمل مسؤوليته جميع الأطراف؛ إذ ليست الهيرمينوطيقا وحدها ضحية لهذا الوضع، بل ساهمت فيه أيضًا، بوعي أو بغير وعي.
هناك نظرة غير إيجابية أحيانًا إلى الهيرمينوطيقا، حيث يُتهم بعض أنصارها بأنهم يعارضون الفكر العلمي، أو أن التأويل لا ينسجم مع المنهجية الصارمة للعلم. وعلى الرغم من أن الفلسفة الهيرمينوطيقية تسعى إلى استيعاب الآخر وخلق لغة مشتركة تتجاوز التخصصات، لكن التحديات المؤسسية والمعرفية تجعلها عرضة للنقد أو حتى للتهميش.
أما المسألة الأخيرة، فتتعلق بتاريخ التأويل وعلاقته بالبدايات الجديدة. فكما نعلم، لا يمكن الحديث عن التأويل دون أن نأخذ في الحسبان ماضيه وسيرورته التاريخية، ولكن، في الوقت ذاته، يظل التأويل مشروعاً متجدّدًا يبحث دائمًا عن انطلاقة جديدة. وهنا، يمكن الحديث عن فكرة "التجاوز"، بالمعنى الهيغلي؛ أي تجاوز الماضي باستيعابه وبالاستناد إليه، لا بإقصائه أو بالتقليل من قيمته.
هناك اعتقاد شائعٌ أن المعرفة الفلسفية لا تقوم على التراكم، بخلاف المعرفة العلمية التي تبني على تراكم معرفي واضح. هذه رؤية فؤاد زكريا، على سبيل المثال، في كتابه "التفكير العلمي. لكن يمكن المحاججة بعدم صحة أو دقة ذلك الاعتقاد؛ إذ إن الفلسفة، على الرغم من طبيعتها المختلفة، تراكم المعرفة بشكل يفسح المجال دائماً لبدايات جديدة، ولكن في علاقة تكاملية مع الماضي، وليس بقطيعة معه. وربما هذا هو جوهر الاختلاف بين الفكر الفلسفي والفكر العلمي، حيث يقوم العلم أحياناً بإحداث قطيعة مع الماضي من خلال تبني نموذج إرشادي جديد، كما يقول توماس كون، بينما الفلسفة تتجاوز الماضي عبر استيعابه والاستناد إليه.
وهنا، تبرز إشكالية العلاقة بين التأويل والماضي: كيف يمكن أن يكون التأويل انفتاحاً على الماضي دون أن يصبح ارتدادًا إليه؟ كيف يمكن أن يستفيد منه دون أن يكون مجرد تكرار له؟
سأتوقف هنا، وأترك الكلمة للدكتور عبد الله السيد ولد أباه، وهو من موريتانيا العزيزة على قلوب التونسيين وغير التونسيين. والدكتور عبد الله السيد فيلسوف وباحث أكاديمي موريتاني، فيلسوف وباحث وكاتب وأكاديمي، حاصل على دكتوراه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من جامعة تونس عام 1992، ويعمل حاليا أستاذًا في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة نواكشوط في موريتانيا، كما يعمل أستاذًا زائرًا في جامعات أخرى خارج البلاد. من بين كتبه كتاب "الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة"، وكتاب "التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو"، وكتاب "الثورات العربية الجديدة المسار والمصير". تفضل دكتور عبد الله.
د. عبد الله السيد ولد أباه:
شكرًا جزيلاً د. حسام، والشكر طبعاً لأستاذنا محمد محجوب، وللأخت العزيزة ميادة، وللصديق العزيز فتحي إنقزو أيضاً.
وأنا أحضر معكم من مدينة أصيلة المغربية، أتذكر هذا الصرح الكبير الذي هو صرح بيت الحكمة، وأتذكر الندوات الفلسفية العديدة التي حضرتها في هذا الصرح، أيام تولّي إدارته أستاذنا كلّنا المرحوم عبد الوهاب بوحديبة. وهذه فرصة للترحّم عليه وتذكره، وهو الأستاذ الكبير الذي تعلمنا منه الأشياء الكثيرة، ومنها هذا المنحى التأويلي الذي كان خاصًّا به. وعلى الرغم من أن أستاذنا محجوب لا يحبذ أن نتحدث عنه، فإنني أقول عندما قدمت إلى الجامعة التونسية في الثمانينيات، كان هناك اتجاهان كبيران؛ اتجاه يتمحور حول الكلاسيكيات الفلسفية، وهو اتجاه قوي ومتجذّر، ولا شك أنه شكل إحدى الميزات الإيجابية في المدرسة الفلسفية التونسية. والاتجاه الآخر، ابستمولوجي نقدي، والذي برز بقوة في المدرسة الفلسفية التونسية. وكان محجوب تقريباً الوحيد الذي بدأ مبكرًا هذا "التبشير" بالفلسفة التأويلية. وقد اطلعت مبكرًا على أطروحته للدكتوراه حول قراءة هيدغر لفلسفة أفلاطون. وأثار انتباهي هذا الاهتمام المبكر، وأنتم تعرفون أن هيدغر هو نقطة التقاء الفيلولوجيا والهيرمينوطيقا. وكان هذا الاهتمام المبكر بفلسفة هيدغر وبالمنحى التأويلي خصوصية كبرى للأستاذ محجوب. وكان وقتها هو الوحيد الذي يهتم بهذه الأشياء، ثم تولّى الإشراف على عدد من المؤسسات التربوية والتعليمية، سواء في الكليات أو في المدارس، فبدأ الاشتغال على هذا المنحى التأويلي. ورغم أن الأخ فتحي تحدث عن اهتمامات أخرى لمحجوب الذي كتب عن الفارابي وهوبز وأفلاطون وأرسطو، فإنه حتى في تناوله لهذه المناحي الأساسية في داخل الفلسفة، ظلّ دائماً يتمتع بهذه العين التأويلية. وأنا هنا أشبّهه برجل أحبّه وأقدّره كثيرًا، وهو بول ريكور الذي تناول كلّ تاريخ الفلسفة تقريباً، وكل الإشكاليات الفلسفية، ولكنه ظلّ محافظاً، في كل هذه الكتابات، على منحاه التأويلي، على ما سماه الجمع بين الفيلولوجيا والهيرمينوطيقا. في الحقيقة، أنا أتحدث عن مجال لم يتحدث فيه صديقي فتحي إنقزو، وهو هذا المنحى التأويلي، هل كان له حضور وتأثير في الفكر الفلسفي العربي؟
في اعتقادي الشخصي، أن أحد جوانب الخلل في الخطاب الفلسفي العربي، هو إهماله لهذا المنحى التأويلي، رغم أن هذا الخطاب منذ البداية تركز على مسألة الهوية والذاتية، أو ما سمي في الأدبيات الرائجة بالتراث والحداثة إلى آخره، منذ بداية من الثمانينيات مع كتابات طيب تيزيني والجابري وحسن حنفي إلى آخره. ورغم أن حسن حنفي كان على اطلاع جيد ببعض جوانب الفلسفة التأويلية، فإنه لم يستخدم هذه الأدوات النظرية في إعادة بناء الإشكالية التأويلية للنص، التي كما قلت هي إشكالية بامتياز.
طبعاً، المنحى الكبير الذي استخدمه الفلاسفة العرب المعاصرون، أو ما سماه بول ريكور بالتأويليات التشككية التي تتمحور حول النقد، سواء بالمعنى الإبستيمولوجي أو حتى بمعناه التاريخاني؛ أي البحث عن المسافة التي تفصل المؤول عن النص الأصلي. هذا المنحى النقدي التشككي مهمٌّ وأساسي بالنسبة إلى ثقافة لا زالت تعطي الأولوية لمصادرها الأصلية، ولكنه ليس سوى جانب واحد من جوانب التأويلية. هناك تأويليات أخرى؛ التأويلية الإبداعية، التأويلية الشعرية الإنشائية، تأويلية التقليد والانتماء التي كرسها غادامر، وهناك التأويلية الأنطولوجية الواسعة التي كرسها هيدغر. كلّ هذه المناحي التأويلية ظلت ضعيفة وهشة وغائبة في الفكر الفلسفي العربي. وفي اعتقادي، إن جانباً أساسيًّا من قصور وخلل هذا الفكر الفلسفي متولد عن فقر هذه المادة التأويلية التي ظلت ضعيفة في الخطاب الفلسفي العربي.
وبإصدارها هذا الكتاب، إضافة إلى مجلة التأويليات، وكذلك الترجمات التي نشرتها، ومنها بعض الترجمات لصديقنا فتحي، بالإضافة إلى كتاباته أيضاً حول الفينومينولوجيا وحتى شلايرماخر، أسهمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود في سد فراغٍ كبيرٍ في الثقافة الفلسفية العربية. وفي اعتقادي الشخصي، أن هناك منحيين ضروريين، يجب أن يكون بهما الاهتمام داخل الفلسفة العربية، وهذا ما نؤكده من خلال جهود أستاذنا محمد محجوب، ومن خلال هذا الكتاب الممتاز الذي قدم لنا بصفة دقيقة وجليّة ومعمقة الإسهامات التأويلية الفلسفية الكبرى في الفكر الغربي.
المنحى الأول الذي يجب أن نركز عليه، هو وضع مادة أو عدة تأويلية جديدة للنص. فرغم كل المحاولات التي تمت في السنوات الأخيرة، وأنا أعرف بعض المشتغلين بالمنحى التأويلي ومن غير الفلاسفة، مثل نصر حامد أبو زيد، تحدث عن نمط من الهيرمينوطيقا، وهناك بعض المفكرين الإيرانيين الذين تحدثوا عن هيرمينوطيقا دينية جديدة بالنسبة إلى الإسلام، ولكن رغم كل ذلك، ظلَّ هذا المنحى دائماً فقيرًا، بينما نجد في التراث التأويلي الغربي أدوات جديدة قابلة لأن نستمد منها الكثير. أنا هنا فقط أشير بصفة مختصرة إلى ثلاثة عناوين كبرى؛ أشير مثلاً إلى الكتاب الذي ذكره د. حسام، وهو كتاب الحقيقة والمنهج لغادامر، وفي هذا الكتاب فعلاً، هناك إطارٌ فلسفي ومنهجي جديد لقراءة التقليد بدلاً من التراث. وفي اعتقادي إن مفهوم التراث مفهوم مضلّلٌ؛ إذ يضعنا أمام مشكلة لا حلّ لها، وهي مشكلة العلاقة بما أعتقد أنه تركة من الماضي، بينما في الحقيقة عندما ننظر إلى هذا النص من منظور التقليد، فإننا ننتقل إلى إشكالية جديدة هي إشكالية الانتماء والمسافة حسب ريكور، وهي إشكالية تفتح آفاقاً أخرى بديلة عن هذا الأفق الفقير الذي رسخته تأويلية التراث.
المنحى الثاني الذي يمكن أن نستمد منه أيضا الكثير، هو التأويلية الوجودية التي بلورها هيدغر، وقد أحسن أستاذنا محجوب ترجمة نصوص حداثية لهيدغر، والتي نبّهنا الأخ فتحي إلى أننا عشنا مئويتها في السنة الماضية. هذه التأويلية الوجودية، في مقابل النص والتقليد، هي تأويلية رحبة؛ لأنها تبين لنا أن النص ليس فقط عالماً من العلامات والرموز، وإنما هو نصٌّ أوسع حتى من المقروء. وهذا المنحى الوجودي منحى أساسي، وأعرف أن البعض قد حاول أن يستثمره في قراءة بعض نصوص التصوف الإسلامي، لكن في اعتقادي لايزال هذا المنحى ضعيفاً.
أما التأويلية الثالثة، فهي نصوص بول ريكور، وخصوصاً كتبه التأويلية، التي نشر بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، وأرى أن هذه النصوص هي الأكثر ملاءمة لنا؛ إذ توفر أدوات جديدة لقراءة النص. إذن المرحلة الأولى، هي استثمار الأدوات والمادة التأويلية في قراءة النص من منظور علاقته بالتقليد العربي الإسلامي.
المنحى الثاني وهو منحى لا شك أنه مهم، أعتقد أن الكتاب لم يتطرق إليه بما فيه الكفاية. مع الإشارة إلى النص الذي كتبه أستاذنا فتحي التريكي، فإنني أرى، كما أشار الدكتور فتحي في مداخلته، أن هذه التأويلية تمثل نمطاً من الفعل الأخلاقي، وكان ريكور يسميها "نمطاً من الضيافة"؛ أي إن التأويلية هي شكل من الضيافة، فعندما نمارس التأويل، فإننا نمارس الضيافة كمفهوم أخلاقي قوي. وهذه التأويلية اليوم هي بالضرورة إعادة بناء لهذا المنظور القيمي والأخلاقي في التقليد الإسلامي. بمعنى آخر، الأمر لا يتعلق فقط بإعادة فهم النص، وإنما بإعادة تشكيل نمط العيش ونمط الوجود المترتب على علاقته بهذا النص؛ أي إن هذه التأويلية هي تأويلية بمنظور الأخلاقي، تعيد إنتاج ذاتيتنا، وشروط عيشنا، وشروط وجودنا التاريخي. وعندما نتحدث عن الأخلاق هنا، فإننا لا نشير إلى الممارسة السلوكية الأخلاقية فحسب، بل إلى البعد الإتيقي العميق. وفي اعتقادي، هذا البعد الإتيقي الأخلاقي يمكن أن يُؤسَّس على نمط جديد من التأويلية، يعيد بناء النص وفق شروط وجودنا الراهنة.
هذان المنحيان من التأويلية، في اعتقادي، لا يزالان غائبين وضعيفين في سياقنا الفلسفي العربي المعاصر. لذلك، أرجو أن يكون هذا الكتاب بداية توجه جديد للفكر الفلسفي العربي. ولا عجب أن تكون تونس سباقة إلى بلورة هذا النهج الجديد في الكتابة الفلسفية والنظر الفلسفي، على أن تتم تبيئته داخل الساحة الفلسفية العربية، انطلاقاً من التعريف بهذه الأدوات وهذه الأدبيات، وأيضاً عبر تطبيق هذه النصوص من خلال التأويليات التطبيقية، التي لا تزال ضعيفة ومحدودة للغاية في فكرنا الفلسفي العربي. وشكرًا جزيلاً.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، د. عبد الله، على مداخلتك القيمة. لديّ تعليق واحد يتعلق بالمحور الأساسي في مداخلتك، وهو أن أحد جوانب الخلل في الفكر الفلسفي العربي يكمن في عدم الاهتمام بالهيرمينوطيقا. ربما يعود ذلك إلى أن هذا الفكر كان سياسيًّا وسياسويًّا كثيرًا؛ بمعنى أنه كان وما زال مشغولًا بالتغيير، لا بالفهم، على طريقة ماركس، مشغول بالتقييم لا بالوصف، مشغول بالمحاكمة لا بالتحليل. وأنت تعلم أن غادامر ربما ليس هو المثال الأفضل لأخذه، في هذا الصدد، وله مقولة شهيرة في هذا المجال، انطلاقا من التجربة الهايدغرية مع الفكر النازي، حيث يقول: "السياسة مقتل الفكر أو مقتل الفلسفة"، وبالتالي ينبغي الابتعاد عن السياسة لنتفلسف. وإذا بنينا ذلك على فكرة التماسف أو المسافة التي تحدث عنها ريكور، فربما نحن دائماً في حاجة إلى مسافة نقدية عن هذا الواقع، لكي نفهم الواقع، ونؤوله. أما إذا كنا فقط في قطب الانتماء، دون أخذ هذه المسافة، فيصعب التفلسف حينها من دون هذه المسافة النقدية. وإضافةً إلى عدم الاهتمام بالهيرمينوطيقا، إن فكرة التأويل حتى الآن هي السائدة في المجال الثقافي العربي، في اللغة العربية والمجال الثقافي العربي، مأخوذة من العصور الوسطى. ماذا يعني التأويل في اللغة العربية والثقافة العربية عمومًا؟ يعني الانتقال من معنى حرفي إلى معنى مجازيٍّ. وهذا ما نجده في تعريفات ابن رشد، ابن عربي، واللغويين. غير أن التأويل في الفلسفة يختلف جذريًا عن هذا التصور؛ إذ يرتبط بالكلّي وعلاقته بالأجزاء، وهو ما يسمى بالدائرة التأويلية. عند فهم أي نص، هناك جدلية مستمرة بين فهم الأجزاء وفهم الكل، فنحن نفهم الجزء في ضوء تصور عام للكل، ثم نعيد النظر في فهم الكل بناءً على فهمنا للأجزاء. وهناك بعدٌ آخر للدائرة الهيرمينوطيقية، وهو العلاقة بين الفهم والفهم المسبق. فنحن لا ننطلق من نقطة صفر، ونزعم الموضوعية، بل يأتي فهمنا دائمًا مشحوناً بخلفيات وتصورات مسبقة، ليست ثابتة، بل تتغير وتتطور بفعل القراءة والتأويل المستمر، وهكذا دواليك.
للأسف، هذا الفهم العميق للتأويل لا يزال غائبًا عن الحقل الثقافي العربي، حيث يُنظر إلى التأويل على أنه مجرد عملية استخلاص لمعنى مجازيٍّ ما لكلمة او جملة أو عبارةٍ ما. في حين أن مفهوم التأويل يتجاوز ذلك إلى البحث في تعددية المعاني وفتح آفاق جديدة للفهم.
ومن اللافت أن مصطلح "التأويل" ورد في القرآن أكثر من ورود مصطلحات أخرى مثل "التفسير". ومع ذلك يظل موضع ريبة. ربما لأن التأويل يفترض تعددية الفهم، بينما النزعة السلطوية تحاول فرض قراءة أحادية للنصوص. وبالتالي من يريد أن يفرض رأيه لن يقول إن هذا تأويلي، وإنما يقول هذا فهمي أو هذه معرفتي أو هذه رؤيتي.
لدينا متحدث متميز آخر، الدكتور عماد عماري، وهو أحد التونسيين المتخصصين في هذه المسألة، كونه متخصصاً في الهرمينوطيقا، لا يعني أنه ليس له اهتمامات أو مجالات أخرى؛ لأن الفلسفة أو الفيلسوف أو حتى المفكر بالمعنى العملي والنظري للكلمة لا يمكن أن يحجر عليه في تخصص واحد، وإلا كان يعني شيئًا آخر. أسهم د. عماد عماري في هذا الكتاب أيضاً، وهو أستاذ أول مميز درجة استثنائية بالتعليم الثانوي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة بكلية آداب جامعة صفاقس، وعلى الماجستير في التأويلية وتاريخ الأنساق بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، وعلى الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، باحث في مجال الإثنولوجيا والتأويليات المعاصرة، له مؤلفات لكن الأبرز فيها: المنعطف الهيرمينوطيقي للفينومينولوجيا؛ تأويلية القلق في فلسفة هايدغر، وله أبحاث كثيرة محكمة، وفي اختصاص الهيرمينوطيقا، سأذكر فقط البحث الأخير، الذي أسهم به في الكتاب، وهو التأويليات الحدثية: مدخل أساسي إلى فكر هايدغر، تفضل د. عماد.
د. عماد عماري:
كلمة شكر: إلى العزيزين د. حسام الدين درويش منسق الندوة، ود. ميادة الكيالي مديرة دار النشر مؤمنون بلا حدود على هندسة هذا اللقاء. تتمحور مداخلتنا حول محمد محجوب والتأويلية، وقد ارتأينا مقاربة هذه العلاقة من خلال ثلاثة مداخل أساسية: أولًا: الأعمال التونسية حول هيدغر بوصفها تأريخ لنشأة السياق التأويلي في تونس؛ ثانيًا: الترجمة والتأويل أو في ماهية "الترجمة المفكرة"؛ ثالثًا: تأويليات الحدثية بوصفها مدخلاً أساسيًّا إلى فكر هيدغر، وهي موضوع مقالنا الوارد ضمن الكتاب المحتفى به التأويليات وتاريخها نحو بدايات أخرى.
المدخل الأول: يتعلق بهيدغر؛ ذلك أن هذا السياق التأويلي في تونس كان ثمرة لمسيرة طويلة أن يجد هيدغر حُظوةً خاصّةً في البلاد العربيّة، وداخل الجامعة التونسيّة على وجه الخصوص، فهذا اهتمامٌ يجد لبنته الأولى مع محمّد محجوب منذ ثمانينيّات القرن الماضي وأطروحته حول القراءة الهيدغريّة لأفلاطون تحت إشراف تلميذة هيدغر أوديت لافوكريار، بل تعود أولى خطواته إلى ما قبل هذا التاريخ، مع أوّل بحوثه حول مشكل العلاقة بين شطرَي المنظومة البارمِنيديّة، الحقيقة والظنّ (يذكر محمد محجوب أنّه كان مديناً بهذه الخطوات الأولى إلى توجيهات أستاذته الفيلسوفة أنتونيا سولاز Antonia Soulez، وما أنفقته من وقت عام 1974 من أجل تحفيزه على الإقبال على النصوص الإغريقيّة، وترجمة بعض شذرات منظومة بارمنيدس إلى الفرنسيّة)، ثمّ يأتي صدور كتابه هيدغر ومشكل الميتافيزيقا، الذي كان، في تقدير صاحبه، من أوّل الكتابات العربيّة الجادّة حول هيدغر. كان هذا الكتاب، مُذ أن كان مخطوطاً يتداوله طلبته القدامى، "لا فقط الرابطَ التاريخانيّ مع هيدغر، بل الإطار المنهجيّ لتأصيله"، وهو ما أثمر لاحقًا اهتمامات تأويليّة وفينومينولوجيّة، سواءٌ تعلّقت رأساً بهيدغر(نشير هنا إلى كتاب: فتحي المسكيني، نقد العقل التأويليّ أو فلسفة الإله الأخير، مركز الإنماء القوميّ، بيروت، 2005.) أو بعلاقته بغيره من الفلاسفة شأن هوسّرل (نحيل هنا على كتاب: فتحي إنقزّو، هوسّرل ومعاصروه: من فينومينولوجيا اللغة إلى تأويليّة الفهم، الرباط/ بيروت، المركز الثقافيّ العربيّ، 2006.) ولكنّ هذا الشغف بهيدغر لم يتوقّف عند هذه الأعمال، بل ازداد تنوّعاً مع من جاء بعدهم من طلبة محمّد محجوب الذي أشرف على أغلب الأطروحات التي دارت حول هيدغر، سواء من حيث العلاقة بين المنطق والفينومينولوجيا، أو من جهة نقد التراث الغربيّ ومعضلاته الميتافيزيقية، أو من خلال الصياغة النقديّة الهيدغرية لعلاقة اللغة بالميتافيزيقا عند هيغل أو من خلال القراءة الهيدغريّة لنيتشه، أو من خلال مفهوم الزمان داخل دروس الشباب الهيدغريّة، أو تأويليّة القلق في فلسفة هيدغر الأوّل، وجميعها أطروحات تمت تحت إشراف محمد محجوب.
المدخل الثاني: الترجمة والتأويل
لما كان الفهم (verstehen)، الذي هو نواة كل عمل تأويلي، قد أفلح، في نظر آبل، في أن يصير مع التقليد الألماني مفهوماً رئيساً، فإن استدعاء هذا المفهوم خارج ذاك التقليد هو، حسب عبارة رشيقة لجون غريش ليس إلا "بضاعة تهريب". وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار المترجم "مهرّب"، ويمكن اعتبار محمد محجوب "مهرّب كبير؛ لأنه يحاول أن ينقل داخل لغتنا كل ذلك الثقل الذي تمثله وتقوله ثقافة الآخر.
بين الترجمة والتأويل وشائج قوية، وكان بالإمكان أن نأتي على هذا الإشكال من خلال ريكور على اعتبار أن محمد محجوب قام بترجمة أحد أهم نصوصه التأويلية، وهو كتاب مقالات ومحاضرات في التأويلية (منشورات دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2013، ص 17.) والطريف في هذه المحاولة التي قدمها الأستاذ محمد محجوب ليُسكن ريكور المسكن العربي، أنها تقدم لنا مقترحات جديدة لبعض المصطلحات الهيدغرية مثل "المعرف"، و"الأنترادنيوية" (Intra-mondaine) وعبارة "الكيانية Existential)، ولكننا نأتي إليه من خلال أحد أعلام التأويلية الكبار، وهو هيدغر. لقد كان السؤال الملح بالنسبة إلى محمد محجوب هو هل يمكن "إنطاق العربية بهيدغر"؟ (راجع: مارتن هيدغر، الأنتولوجيا: تأويليات الحدثية، ترجمة وتقديم وتعليق محمد أبو هاشم محجوب، بيروت، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2019، ص16، وهي ترجمة عربية للدرس الفرايبورغي الأخير لهيدغر في صيف 1923 والذي يعدّ من أهم المداخل الأساسية لفهم فكره. ونحن مدينون للأستاذ محمد محجوب بهذا الجهد الاستثنائي من أجل نقل هذا العمل إلى العربية. ولا غرابة في أن يشهد له بذلك كبير الباحثين الهيدغريين والمساعد الشخصي لهيدغر فريدريش فيلهالم فون هرمان، وقد رأى في هذه الترجمة فتحاً لطريق فهم مصنف الوجود والزمان أمام دارسيه وقرّائه الناطقين باللسان العربي.)
ولما كانت الترجمة أحدَ المواضع الرئيسة للتفكّر الفينومينولوجي، فضلًا عن كونها ترجمة مفكّرة من حيث هي ممارسة أصيلة للتأويل، ومن حيث هي عِشرةٌ للنصوص لا حيلة لصاحبها إزاءها إلّا حدسه، فإن "إنطاق العربيّة بهيدغر"، لا بدّ من أن يصدر عن عزم مترجم يرى جوهر عمله "في إنطاق النفس بأقصى إمكاناتها فيها وأخفى مواردها عنها"؛ ذلك أنّ شأنه لم يكن وراثةَ معجميّة الفيلسوف، بل "وراثة ممكنها؛ أي إنطاقها بما يجعل إصغاء آخر إليها ممكناً، وهذا، على حدّ قوله، بعض فضل هيدغر علينا". على هذا الأساس، فإنّ "أمانة الترجمة لا تُقاس بمدى حرفيّتها، بل تُقاس بمدى ما تنطق عن الشيء الذي في النصّ، لا عن الكلمة الصمّاء عن الشيء". لقد صار الأفق التأويليّ الجديد هذا نهجاً أساسيًّا في الترجمة التونسيّة للأثر الهيدغريّ، من حيث إنّ "التفكير اقتفاءٌ لأثر"، ومن حيث إنّه "ينصرف نحو استقراء خفاياه ومستغلقاته بفهم مستحدث لا يعود فيه النصُّ الأصليُّ منقطعاً عن فعّاليّة المترجم وعنايته". وبالفعل، لم يعد غرض المترجم العثور على المقابل اللغويّ، كما دأبت على ذلك الترجمات الكلاسّيكيّة، بل "تحصيل المضاهي، قدر الإمكان". ومن ثمّ، نجد في إحداث عبارات "الموجد" (Dasein)، والعهد (Ereignis)، والخلوة (Lichtung) منذ ثمانينيّات القرن الماضي، أولى أمارات النهج التأويليّ هذا في ترجمة هيدغر، وهو "لا يتفرّد باقتراح مصطلحات جديدة وحسب، بل يفكّر هذه المصطلحات في سياق العرض باتّساق مدهش في خضم الاستسهال المعمّم". ونحن نستشعر من تهيّب المترجم شيئًا من تهيّب هيدغر نفسه من جسامة أمر الترجمة وخطرها على النصوص العظيمة. على هذا الأساس، تتحدّد ماهيّة الترجمة في أفق نصوص هيدغر بما هي "ترجمة مفكّرة" تسعى إلى وراثة المعاني من الداخل ولكن في لغة أخرى.. فــ "الفيلسوف، يقول محمد محجوب، ليس إلّا مترجمًا يرفض الرجوع بترجمته إلى الأصل المترجَم، وهو ليس إلّا مؤوِّلًا يرفض العودة من تأويله إلى نصّه الأصليّ قبل التأويل، هو مُهرِّبٌ لا يريد إرجاع ما هرّب، وهو واسطةٌ لا تكشف عن وجهها الأصليّ. ما يكون الفيلسوف ساعتها؟ إنّه هذا الذي يتقدّم بلا وجه" (راجع: محمّد محجوب، في استشكال اليوم الفلسفيّ: تأملاتُ في الفلسفة الثانية من أجل إعادة التأسيس، كلمة للنشر والتوزيع، تونس 2021، ص 61.)
المدخل الثالث: تأويليات الحدثية بوصفها مدخل أساسي إلى فكر هيدغر(نص مقالنا المدرج ضمن الكتاب)
نعود في هذا المقال إلى أحد النصوص الأساسية والمبكرة لمارتن هيدغر (الأنتولوجيا: تأويليات الحدثية)، والذي أقدم على ترجمته مؤخرًا الأستاذ محمد محجوب بوصفه من أوفق المداخل إلى فكر فيلسوف الغابة السوداء، ويمثل الدرس الفرايبورغي الأخير لهيدغر صيف 1923. وإذ نعود إلى هذا الدرس، فإنما بغرض العثور داخله على دلالة بكر للتأويل تجعل منه تحيّرًا حدثيًّا يحتاج أن نكابده قدر الإمكان وتيقظاً جذريًّا يفتحنا على بدايات أخرى. وترجمة الأنتولوجيا تأويليّات الحدثية، تمثّل، في نظر صاحبها، مقدّمة مهمّة لفهم نشأة الفكر الهيدغريّ وتطوّره في علاقةٍ بطرح مسألة معنى الوجود مثلما تبلور في كتاب "الوجود والزمان"، بل هي بمنزلة "المدخل الأوفق لفهم الفينومينولوجيا التأويليّة للدازاين التي أعطت ميزان الأنتولوجيا الأساسيّة ومسألة معنى الوجود، وإيقاعهما، في هيدغر الأول (من 1919 إلى 1929)". وليست هذه بالترجمة العربية الأولى لهذا النص، فقد سبق أن نقل عمارة الناصر هذا النص عن الفرنسية تحت عنوان الأنطولوجيا: هيرمينوطيقا الواقعانية (منشورات الجمل 2015) غير أن الجدير بالاهتمام في ترجمة محمد محجوب أنها ترجمة عن النص الألماني، وهي تقترح علينا حزمة جديدة من العبارات المستحدثة من قبيل "الحدثية" و"التالد" و"الكياني" وغيرها... و"الحدثية" هي خيار أسعفنا به المترجم للإيفاء بالمفهوم الألماني (Faktizität). (راجع: مارتن هيدغر، أنتولوجيا تأويليات الحدثية، ص85، هـ29) ولعل أول وجه من وجوه تبرير هذا الاستعمال يجده المترجم في دلالة اللـفظ الألماني (Ausdrucklichkeit)؛ أي العبارية المطابقة لنمط وجود الموجد؛ إذ يقول: "الحياة الحدثية حدثية على جهة تعبيرها المطابق لخاصية وجود الموجد، هي حدثية من جهة كونها معبّرة، وهو ما جعلنا نجد في جذر "حدث" المحيل على الحديث، فضلا عن الحدوث وما يحدث، ما شجعنا على "نحت" الحدثية وتفضيلها على ما يعرض من الترجمات الجاهزة، ولا سيما الترجمة "بالواقعانية" و"الواقعة" و"العيان" واشتقاقاتها. وفوق ذلك، إن Faktizität لا تشير في الألمانية إلى أيّ واقعية أو واقعانية، وإنما تشير إلى العُروض (ما يعرُض = Zufall)، وإلى القدر (الذي يقدّر = Fugung)."
والمقال محاولة لارتسام بعض ملامح هذا الأفق الهيرمينوطيقي الجديد الذي أفلح هيدغر في تخريجه من خلال استحداث مفهوم بكر للفينومينولوجيا يعيد تصريفها على نحو تصبح معه سلوكاً موجّهاً متحررًا ومفتوحاً من شأنه مساعدة الموجد على التيقظ الجذري. وإذا كان أسلافه قد جعلوا من الهيرمينوطيقا مذهباً أو نظرية أو طريقة لفهم موضوع ما، وجعلوا منها فلسفة من أجل تحليل وتفسير وتأويل الكتب المقدّسة والأعمال الفكرية والأدبية والجمالية، فإنّ ما يؤكد عليه هيدغر صراحة هو أنّ الهيرمينوطيقا ليست تكلّفاً أو اختراعاً اصطناعيًّا مخادعاً، بل ليست هي الفلسفة إطلاقاً، وإنما هي "شيء تمهيدي"، يحتاج أن نمكث فيه وأن نكابده قدر الإمكان، وكأن الفلسفة معه تتخلّى بذلك عن موضوعاتها وأهدافها القديمة لتتسلّح برؤية جديدة ليست إلاّ صرخة قلق في وجه الفلسفة؛ وذلك تجنّباً لتكرار القضايا أو التبنّي الآلي للمبادئ أو الإيمان بدوغمائيات مدرسية؛ إذ لا شيء أخطر من الاعتقاد الساذج واتباعه والسّير على خطاه. وتلك إشارات مهمة حول طبيعة هذا الأفق الجديد الذي يفترعه هيدغر، والذي ستُلقى داخله الأسئلة الكبرى للفلسفة حول الوجود والحياة والعدم والموت والزمانية...لقد صارت الهيرمينوطيقا معه يقظة وجدانية متأهبّة، وتحيّرًا أساسيًّا من شأنه أن يدفع الموجد إلى ملاقاة نفسه على نحو جذري. ولما كانت الفينومينولوجيا في نظره "لا يمكنها أن تُتملّك إلا فينومينولوجيا"، فإن ما تسعى إليه هذه المحاولة هو الاغتنام من بعض وجوه هذا الأفق الهيرمينوطيقي الجديد الذي يراهن عليه هيدغر بعد أن صار "كلّ منا معنيّ بهذه الرجة والخلخلة التي تحاول هيرمينوطيقا الحدثية بثها"؛ إذ بذلك فقط يمكن لنا أن نفتح دروباً جديدة للفكر ونأمل في ولادة بدايات أخرى.
وهكذا يضعنا هيدغر منذ درس 1923 أمام منعطف مزدوج: منعطف هيرمينوطيقي للفينومينولوجيا (الخصومة مع هوسرل) ومنعطف فينومينولوجي للهيرمينوطيقا (الخصومة مع ديلتاي). ويمكن اعتبار محاضرات 1923 من هذه الزاوية مرحلة ما قبل التاريخ البعيد لكتاب (الوجود والزمان)؛ وذلك حتى نفصلها عن المرحلة اللاّحقة (1924-1928) التي يمكن عدّها مرحلة ما قبل التاريخ القريب لهذا الكتاب. لقد كان الهاجس الهيدغري في هذه الفترة هو التعرّف على الحياة الحدثية للموجد (Dasein) من خلال هيرمينوطيقا مطعمة بالفينومينولوجيا. وتأتي الهرمينوطيقا ضمن هذا السياق، لا بوصفها معرفة، وإنما بما هي تعرف وجودي أنطولوجي على العالم. وإذا كان هيدغر يعترف في هذه المرحلة بالتباس هذا المعنى الذي "للمعيش"، فإن المهم بالنسبة إليه استبعاد التفكير فيه بالعودة إلى "أنا" تشكل مركز ثقل ميتافيزيقي. إن إمكانية زحزحة هذه المركزية هي منقوشة بلا ريب داخل عبارة Erlebnis نفسها، التي لا تحيل بتاتاً إلى فكرة الأنا، وإنما إلى فهم للحياة بوصفها ظاهرة أصيلة لم تعرف الواقعية النقدية كيف تراها ولم ترغب المثالية في رؤيتها.
يتعلق الأمر إذن، بالبحث عن وضعية مواتية من أجل النفاذ إلى معنى الحياة. هذه الوضعية هي بلا ريب، في نظر هيدغر، "الهرمينوطيقا". غير أننا بحاجة إلى مفهوم جديد للهيرمينوطيقا يقطع مع معناها السائد الذي كان يشتغل داخل المقاربة الإبستمولوجية لديلتاي. فالهيرمينوطيقا، بالنسبة إليه، ليست أبدًا علماً نظريًّا أو "نظرية عامة في التأويل"، وإنما بعد داخلي للحدثية نفسها. هذا الوضع الهيرمينوطيقي الجديد ينبغي أن يكون، إذن، في خدمة "التيقظ الذاتي للموجد". بناء على ذلك، فإنّ موضوع التأويل هو الموجد، وهو يجدّ في طلب ماهيته ويبحث عن درب يقوده نحو نفسه. وإذا كان مصطلح "أنطولوجيا" قد ظهر داخل الدرس الأخير لسداسية صيف 1923، فإنّ ذلك قد بقي على نحو شبه عرضي في عنوان هذه الدروس، وهو لا يزال في أفضل حالاته مهمة أو مسار بحث. وهكذا، فإن "هيرمينوطيقا الحدثية" تبقى المطمح الحقيقي لهيدغر في دروسه الأولى. وإذا كان غرض الاستشكال الهيرمينوطيقي لدروس 1923 هو موجدنا المخصوص، فإنّ ذلك من أجل أن نُربّي فيه تيقّظًا جذريًّا يساعده على ملاقاة نفسه داخل الإمكان الحاسم الذي يستزيد من شفافيته على قدر القبض التأويليّ على الحياة الحدثيّة ورفعها إلى مرتبة الفهم. لم يكن ذلك ممكنًا إلّا بفضل استحداث مفهوم بكر للفينومينولوجيا؛ إذ "في صلب الفينومينولوجيا أوّلاً نبت مفهومٌ مناسبٌ للبحث".
وفي الُمحصّلة، فإنّ هواجس الورشة التأويلية التي ينخرط داخلها محمد محجوب تَصدر أغلبُها عن حدوسٍ لا يريد لها أصحابها أن تكون محكومة بمنطق "العجيبة المتحفّية" ولا بمنطق السبق "البطوليّ"، بل ينبغي أن تصدر عن همٍّ فكريٍّ في سبيل إيجاد سياق مغاربيّ طال انتظاره، وهي خطوة واعدة من أجل قيام جدل فلسفيّ حقيقيّ بين الفلاسفة المغاربيّين ينهض بالزخم الفكريّ والمعرفيّ هذا نحو شرعيّة الانتماء إلى العالميّة؛ ذلك أنّ استدعاء هيدغر أو غيره من أعلام التأويلية الغربية ينبغي ألّا يجري في حدود السياقات التي ينتمون إليها، بل ينبغي جلبهم إلى سياقاتنا من أجل استشكال اليوم الفلسفيّ الذي هو يومنا؛ إذ يبقى جوهر الفلسفة "الحنينَ"، وفق عبارة نوڤاليس، من حيث إنّه استحضارٌ لأوطان الماضي وابتناءٌ للمستقبل من خلال ذلك الاستحضار.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً لك، سأقتصر في تعليقي على ثلاث إشاراتٍ مقتضبةٍ:
أولًا، أمسكت نفسي عن التعليق على مسألة أن الهرمينوطيقا ليست فلسفة، عندما ذكرها د. فتحي إنقزو، وها أنت تكررها. مع العلم أنني بعد يومين، سأقدم محاضرة بعنوان: "الهرمينوطيقا هي الفلسفة"، ليست فقط فلسفة، وإنما هي الفلسفة. لكن ليس هناك مجال للخوض في هذا النقاش الآن.
ثانياً، ذكرتَ د. محجوب بوصفه مترجماً ومؤولاً، وأشرتَ إلى رؤية بول ريكور التي ترى أن الترجمة هي أنموذج للفهم والتأويل، بل وحتى اعتبار الفهم نفسه نوعًا من الترجمة الداخلية، وفق لغة ريكور. أما النقطة الثالثة والأخيرة، فهي شهادة منّي بأن الدكتور محمد محجوب قد سعى، سواء بعمله التأويلي المباشر أو الترجمي، إلى أن يفعل في اللغة العربية ما فعله كانط الذي جعل الألمانية تتكلم الفلسفة، أو جعل الفلسفة تتحدث بالألمانية. فالدكتور محجوب أسهم في جعل العربية تنطق بالهيرمينوطيقا، وجعل الهرمينوطيقا تتحدث بالعربية، وهذا له شأن عظيم لو تعلمون. فحين نتحدث عن النهضة العربية في العصور الوسطى، وارتباطها العميق بمسألة الترجمة، ندرك أهمية أن نجعل اللغة تستوعب الفلسفة، وهو عمل جليل.
الكلمة الآن للدكتور محمد أبو هاشم محجوب، وهو أستاذ التأويلية وتاريخ الفلسفة في جامعة تونس المنار، والمشرف على مشروع التأويليات في مؤسسة مؤمنون بلا حدود. وهو يهتم تأويليًّا بشؤون الفكر العربي القديم والمعاصر، ويتمحور تفكيره حول شروط معاصرة الفكر العربي للفكر العالمي. وهو رئيس مجلة حوليات الفينومينولوجيا والتأويلية، ومجلة تأويليات، وعضو الهيئة الاستشارية لمجلة لوغوس، ولمجلة العربية والترجمة. وقد شغل ويشغل أستاذنا محجوب مكانة بارزة ومناصب رفيعة في المؤسسات الأكاديمية والبحثية التونسية والعربية.
لن أطيل أكثر من ذلك، تفضَّل دكتور محمد.
د. محمد محجوب:
أودّ في البداية أن أقدّم عبارات الشّكر:
- للأصدقاء الذين أهدوا لي أعمالهم هذه في نطاق ندوة تحمل العنوان نفسه، كانت مبرمجة للانعقاد وحالت دون ذلك ظروف الكوفيد: أذكرهم واحدًا واحدًا:
- للأساتذة الدكاترة: جان غرايش (فرنسا/ اللوكسمبرج)، عماد العماري (تونس)، فتحي التريكي (تونس)، محمد الحيرش (تطوان – المغرب)، عبد العزيز بومسهولي (المغرب)، سعيد توفيق (مصر)، محمد البوبكري (تونس)، فتحي انقزو (تونس)، رسول محمد رسول (رحمه الله من العراق)، فيصل الشطي (تونس) صابر مولاي أحمد (المغرب)، المنجي الأسود (تونس).
- للصديق العزيز الأستاذ فتحي إنقزو أستاذ الفلسفة في جامعة سوسة، والآن في جامعة محمد بن زايد بأبو ظبي، الذي حرص، بعد التداول في الفكرة مع د. مولاي أحمد صابر، على تجميع المقالات وتنضيدها، وأشرف على تحريرها وتقديمها التقديم اللائق، وعلى التصدير لها، وترجم مقالة الفيلسوف الصديق جان غرايش، والتي وردت في بداية الكتاب، وقدمت صورة تأليفية ذكية حول وضعية التأويليات اليوم.
- لمؤسسة مؤمنون بلا حدود، ورئيسها السابق الصديق محمد العاني، وهي التي رعت مشروع التأويليات منذ العام 2014، ثم لدار النشر مؤمنون بلا حدود ولمديرتها الدكتورة ميادة مصطفى الكيالي، التي استقبلت الكتاب وسهرت على إخراجه ونشره وتوزيعه في هذه الصورة الأنيقة والرفيعة.
- للصديق العزيز حسام الدين درويش الذي يدير هذا اللقاء بحنكته المعروفة وبنفاذ بصيرته. شكرًا له على صبره على قراءة كل هذه الكتب التي نراه يدير الحوارات حولها بصفة دورية منتظمة.
- لبيت الحكمة، أكاديميتنا العتيدة، ولقسم العلوم الإنسانية والاجتماعية بها، على قبول إيواء هذا اللقاء ووضعه تحت إشرافها المشترك؛ فشكرًا للأستاذ محمود بن رمضان رئيس المجمع، وللأستاذ عبد الحميد هنية، رئيس القسم، على هذا الكرم.
لا يمكن أن يكون حديثي في هذا اللقاء إلا حديث الشهادة، ولكني سأُعرض عن تقديم شهادة ذاتية تتعلق مثلا بمراحل اهتمامي بالتأويليات، أو بسياقات هذا الاهتمام، وما قد يرتبط به من الأخبار. وسأحاول عوضاً من ذلك أن أقدم شهادة عن الوجوه التي بدا لي من خلالها أن التأويليات قد تمثل بداية أخرى للتفكير لا في السياق العربي المعاصر فقط، وإنما كذلك في السياق العالمي، وأنها لذلك تحتاج إلى أن تستأنف لنفسها بداية قد لا تكون مجرد جري على منهج، وتطبيق لتقنية. سأختصر القول هنا في ثلاث ملاحظات، ربما أمكننا أن نناقشها اليوم أو مستقبلاً:
*- الملاحظة الأولى
الكلّ يتحدث اليوم عن كونية التأويليات، وعن طابعها الكلي (وهذا أمر من شانه أن يطرح أسئلة عديدة؛ لأن هذا الطابع الكلي قد يفرض على فن التأويل نوعاً من هيمنة الأنموذج التي سرعان ما تلتحق بمنطق الحقيقة الملزم، ضد منطق المعنى: من المفيد هاهنا التذكير بأن التأويليات لم تتكون في صيغتها الحديثة إلا بعد أن وسعت من مجال موضوعها من "قراءة النص المقدس" إلى قراءة أي نص من النصوص. إننا نعين عند الفيلسوف الألماني شلايرماخر ولادة هذا النمط الممتد من فن التأويل الذي أصبح لا يهتم بتقنيات فهم النّصوص المقدسة فقط، وإنما يوسع التأويل إلى جميع أصناف الخطاب. ماذا يعني ذلك؟ هو يعني – وهذا أمر يهمنا نحن بشكل خاص؛ لأنّنا في اختصام تأويلي مع النصوص المقدسة منذ البداية - هو يعني أنّ الكلام المقدّس هو كلام يجري عليه ما يجري على كل كلام عموما. إننا نرجع إلى شلايرماخر هذا التوسيع الموضوعي (المتعلّق بالموضوع)، والذي نتج عنه استنباط إشكالية جديدة لم تعد تتعلق بالحقيقة، لم تعد تتعلق بمدلول النصوص وبمعايير تعيين ذلك المدلول، وإنّما باتت تتعلق ببنية فهم النصوص؛ أعني بهيئة الذات التي تقرأ وتتلقى المعنى أو الرسالة.
كلنا يعرف على الأقل نصّيْ الغزالي (قانون التأويل) وابن رشد (فصل المقال). وكلنا يعرف أن هذين الفيلسوفين قد جعلا التأويل أمرًا موكولاً في النهاية إلى ما يفهم من عادات لسان العرب في الكلام (وهي عادات محددة عند ابن رشد، ولكنها كثيرة لا تنحصر عند الغزالي). لا يهمني الموقف التقليدي لترجيح رأي على رأي، وإنما يهمني أن كليهما قد أوكل معيار التأويل إلى عادة كلام العرب. إن تحكيم "عادة الكلام" واعتباره معيارًا على المقصود من النص المقدس هو ما أخرج به: فكأنما يصبح التأويل ممكنا؛ لأننا نمارسه يوميًّا في لعبة القصد والفهم اليومية: ابن رشد يراه ممكناً، والغزالي، للسبب نفسه، يرى التوقف فيه أسلم. ولكننا نقفز على هذه البداية التي تؤسس، قبل الأوان، الإمكانية "التداولية" للتأويل، لنحيل مباشرة على التأسيس الحديث للتأويلية لدى شلايرماخر. سؤالي الهيرمينوطيقي هو بكل بساطة سؤال عن المستقبلات الممكنة للماضي: وهكذا أفهم شخصيًّا عبارة "البدايات الأخرى" الواردة في عنوان المجموع: التأويليات وتاريخها: نحو بدايات أخرى. إنّ هذه الخصومة التي علقت استغلاق النص القرآني أو "التباسه" (ambiguïté)، أو ازدواجية معناه، أو مثنويته (duplicité) كما سيقول الفيلسوف التونسي المنسي: محجوب بن ميلاد، على حسم التداول اليومي للمدلولات، إنما تمثل ابتداء آخر لم تتم مواصلته، رغم أنه يفضي إلى تأويلية تعلق على النص، لا على أكسيومات الإيمان، دلالة النص وعلاقتنا به.
الملاحظة الثانية:
تتعلق بما أسمّيه "الفرصة التأويلية": L’opportunité herméneutique، وهي الفرصة التي يجد الفكر العربي اليوم نفسه أمامها بعد كل تجارب الفشل في قراءة نفسه، أو إعادة قراءة نفسه ضمن مشاريع القراءة المختلفة، والتي تلتقي كلها في موقف التطبيق لمناهج. إن المعضلة هنا هي أننا لا نتبين أن البقاء ضمن منطق التطبيق لا يمكن أن يجدد المعرفة ولا الموقف المعرفي ولا الموقف التّاريخي. إننا ننسى دائماً أن الكتاب الذي افتتح اللحظة الفلسفية للحداثة قد حمل عنوان: مقال في المنهج.
إن تعاملنا مع الفلسفة لم يغادر إلى اليوم مقالات الطريقة وأحاديث المنهج؛ أعني أنه ما يزال يتردد في ما قبل التفلسف. لا أقول هذا استنقاصاً من المنهج، ولا تهويناً من قيمته، وإنما أقوله لأنه آن الأوان لكي نتفلسف واقعا في ما بعد المنهج، وما بعد الاحتياطات التقنية المختلفة. آن الأوان لكي يصبح المنهج من موضوعات التفكير لا من المسبقات عليه. حان الوقت لكي يتحول التفكير من تطبيق للمنهج إلى خلق له أثناء التفكير. ولعلّ أول الموضوعات التي يتعين مساءلتها هو حدود الانتساب إلى التاريخ: هل نحن فقط أثر منه؟ أليس من الغريب أن يكون مفكرونا الفلاسفة في كثير من الأحيان من المؤرخين (العروي/ جعيط/ قسطنطين زريق) أعني من مفكري "العبرة"؟ أليس من الغريب أن يتحول عنصر من عناصر الوعي التأويلي وأدواته إلى مرجعه الوحيد؟ من حاول في فلسفتنا العربية اليوم، أن يتجاوز الطرح التاريخي والحضاري؟ ألا يخشى من ذلك التباس التفكير بالإيديولوجيا حين يكون دور الفلسفة الحقيقي هو تكذيب أوهام الإيديولوجيا؟
إن الفكر العربي هو اليوم أمام ما أسميه الفرصة التأويلية التي يمكن إجمالها في استئناف النصوص من أجل فتحها على إمكانات مفهومية ونظرية أخرى. إنني أسمي هذا الاستئناف "الاستئناف الصفري"، تسمية أخرى للـ tabula rasa الديكارتية.
الملاحظة الثالثة:
وهي ملاحظة تتعلق بالتطبيق اليومي للتأويليات ضمن الترجمة. وقد كنت صغت هذه الملاحظة كما يلي: ما نزال إلى اليوم، نستخدم ونعوّل على ترجمات عربية وسيطة للنصوص الإغريقية القديمة. ولا يطرح علينا ذلك أي إحراج، رغم أننا لا ننفك نلاحظ تجدد الترجمات بشكل يومي لنفس تلك النصوص في اللغات الأوروبية؛ فما الذي يعبر عنه تجدد تلك الترجمات من جهة، وعدم تجددها في ثقافتنا من جهة ثانية؟
مع نشأة الجامعات العربية، ومنها الجامعة المصرية خاصة، والجامعة اللبنانية، ظهرت فجأة، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، ولكن خاصّة في القرن العشرين ترجماتٌ لنصوص فلسفية حديثة، طرحت علينا أسئلة نظرية شاقة جدًّا: ويمكنني تقريباً توصيف مدار هذه الأسئلة في التشخيص التالي: إنّ النّظر في الترجمة الفلسفية "في السياق العربي" يستدعي أن نعاين اختلاف الحال في لغة لم يواكب فيها التطور النظري نفس الاستشكال الفلسفي الذي تريد ترجمته، مما يضطرها إلى أن تحاور نفسها أولا، توسيعاً لإمكانات تلقّ يتيح لها تمثل مفاهيم فلسفية لا مقابل لها ولا جوار معها فيها. إن مترجم الفلسفة في لغتنا العربية مضطر إلى ابتداع ظل له، زادُه لغة قديمة قائمة، ومعرفة حديثة ومعاصرة، ولكنها صامتة، فينتقل المترجم بين فلسفة يعرف مفاهيمها ويتمثلها في لغتها، ولغةٍ لم تنطق بتلك المفاهيم ولم تتمثّلها أصلاً، ليُنطقها بها، وفي ذلك تتمثل الترجمة الفلسفية: إنها ليست محنة الآخر، إلا لأنها قبل ذلك محنة النفس.
إن هذه الأطروحة هي التي أردت الانتهاء إليها واستشكالها تأويليًّا: هل يمكننا أن نترجم من دون سياق للترجمة؛ أعني من دون خلق ثقافة تتلقى هذا المترجَم وتفهمه؟
إن ترجمة نصوص الفلسفة، ليست فقط ترجمة بيداغوجية لها، ولكنها خاصة ترجمة تبني شروط إمكانها؛ أعني شروط إمكان قول في ثقافة لم يولد فيها: ولذلك على المترجم، في السياق العربي، أن يبتدع ظلًّا له، يكلفه في كل مرة بأن يكون مختبرًا لتطور للمفهوم في التاريخ يذكّر بمراحله، ويفترض معرفة تلك المراحل شرطاً لقول راهنه: إن أكثر ما يعوق ترجمة المفهوم "الراهن هو عدم الوعي بما يحمله في طياته من طول" مصابرة المفهوم. ولعل أكثر ما يعسّر ذلك الوعي هو أن اصطباره لم يكن في أحشاء حاضنة ذاتية، وإنما قارب أن يكون في داخل "أنبوب". مثل هذا الوضع ممكن ويحدث بين جميع الحضارات، لكن الصعوبة حقًّا هي في ترجمته إلى لغة لم تحمل به: وفي هذه الحال، فإن ترجمته تقتضي كذلك ترجمة ذاكرته. لا يتعلق الأمر باختراع ضرب من الكلمات المنتفخة بالذاكرة، فهذه الكلمات لا توجد، وإنما هو يتعلق بخلق سياق يكون النطق فيه بتلك الكلمات نطقا بمعانيها واضطلاعاً بتاريخها أيضا.
سيبقى رغم كل شيء، هذا السؤال: كيف يمكن خلق هذا السياق؟ سأجيب باقتضاب شديد: إن خلق ذلك السياق هو المقصود بمحنة النفس: إنه عمل تأويلي لا نبحث فيه عن معنى أول، بقدر ما نبحث ضمنه عما يمكن – ضمن أنفسنا - رفعه إلى مقام جديد من الأولوية: أعني الراهنية، راهنية أنفسنا، التي وحدها تقدر على قراءة ما يفد عليها.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً دكتور محمد. أراك بدأت بالحديث عن الخصوصية الثقافية، وهنا يأتي الجدل الدائم بين الكوني والخاص، وإمكانية وكيفية وضرورة الجمع بينهما. وأنت تجسد كيف يمكن للثقافي الخاص أن يتكامل مع الكوني التأويلي.
أودّ الإشارة إلى مسألتين:
المسألة الأولى: كانت لدي ملاحظة نقدية حول التعريف الشائع للتأويل، والموجود في ثقافتنا منذ العصور الوسطى، والذي تبناه ابن رشد وابن عربي والغزالي إلخ. فهذا المفهوم ما زال يُستخدم حتى الآن دون أخذ التطورات المعرفية الجديدة في الاعتبار. بالطبع، كان ذلك في أفق زمانهم وفي وسطهم المعرفي، لكنني لم أنتبه إلى إمكانية استئناف هذا المعنى. هنا لا أختلف معك، بل أوافق تمامًا على الإضافة التي طرحتها، وهي أن هذا قد يفتح أفقًا جديدًا. كيف يمكننا أن نجعل المجال التداولي الذي يتجاوز هذه الذات التي تريد أن تتحكم في التأويل؟ يمكن أن يكون هذا بمعنى ما معيارًا نتابع من خلاله. وهذه فكرة مهمة جدًا.
المسألة الثانية: تحدثت عن الفرصة التأويليّة والاستئناف، وفي الحقيقة، رأيت من بعيد شبحًا لاستعادة ما في نقد المنهج؛ بمعنى أن المنهج يفترض مسبقًا النتائج التي يمكن أن تتمخض عنه. والمنهج ليس مجرد أداة محايدة يمكن أن تنتج ما شئت، بل هو أداة معرفية محددة. عندما نطبق المنهج، نجد أن النتائج تتكرر مهما كان الشخص أو الواقع أو الظرف، فنعود ونكرر المقولات نفسها حول الطبقات والصراع الطبقي والوضع الاقتصادي، وهكذا. هذا هو المأخذ الأساسي على المنهج بهذه الطريقة. وبالتالي، أنا أميز بين المنهج والمنهجية، فالمنهجية دائمًا مطلب، لكن المنهج بهذا المعنى لا يعدو أن يكون أداة مغلقة. في رأيي، يجب أن نتجاوز المنهج ليشمل ما بعده. ولا ينبغي لما بعد المنهج أن يُلغي ما قبله، بل ينبغي أن يتجاوزه كما قلنا بالمعنى الواسع، في إطار أكبر وأرحب، مما يفتح آفاق المستقبل بدلًا من الانحباس في الماضي.
المسألة الثالثة والأخيرة تتعلق بفكرة الاستئناف الصفري. فالمعرفة أو الرؤية في هذا السياق لا تبدأ من الصفر. ليس هناك نقطة بداية يمكن أن نقول إنها صفر، وإنما هناك دائمًا ما يُبنى على تراكم تاريخي.
د. محمد محجوب:
كلامك صحيح، لا يوجد استئناف صفري، ولكن ينبغي أن نضع أمامنا كما يقول الفيلولوجيون قدوية ديكارت، وهذه القدوية تعطينا أن الاستئناف الصفري وهذه البداية الصفرية هي الصفرية منهجيًّا. لم يلغ ديكارت المعارف التي قرّر أن يستأنفها من الصفر، هي كانت موجودة، ولا يستطيع لا هو ولا غيره أن يلغيها، ولكن ذلك ممكن منهجيًّا عندما يقرر أن يبتدئ منهجيًّا من الصفر. نحن محتاجون في التفكير إلى أن نبني هذه الأشكال، وإلى أن نبني هذه الفرضيات التي ننطلق منها، منهجيًّا، هذا هو المقصود.
د. حسام درويش:
أشكر جزيل الشكر كل من شارك معنا في هذه الندوة الفكرية الحوارية والاحتفائية بفيلسوفنا وصديقنا العزيز الدكتور محمد محجوب، وأسهم في إنجاحها مشاركةً أو إعدادًا أو تنظيمًا أو حضورًا. ونتطلع، في مؤمنون بلا حدود، إلى استمرار الحوار معه حول أعماله، المؤلفة والمترجمة، الصادرة حديثًا أو مستقبلاً.