النسويّة الإسلامية: عوائق التجديد الفكري والتحديث المجتمعي
فئة : مقالات
يعدّ مصطلح النسوية من المفاهيم الحديثة نسبيًّا في الغرب، بالموازاة مع تطور الوعي المجتمعي الحقوقي للمرأة في بدايات القرن التاسع عشر، والذي تعالت خلاله الدعوات المنادية والمطالبة بضمان حقوق عادلة للمرأة وبالاعتراف بحقوقها مساوية للرجل في كل مستويات الحياة، وخاصة بعد التهميش الذي طال المرأة قبل تلك الفترات التاريخية.
لقد تطوّرت فكرة تحرير المرأة ومنحها حقوقها كاملة منذ تلك الفترة، وتشكلت جمعيات ومراكز بحوث وحركات اجتماعية لهذا الغرض، حيث اشتغلت على الدفاع عن هذه الحقوق وضمان استمراريتها وترسيخها ثقافةً مجتمعية تتجاوز الممارسة السياسية والاجتماعية إلى ممارسة ذاتية تعبر عن عدد من حقوق المرأة في الفضاء العام كما في الفضاء الخاص.
وفي هذا السياق يحضر تعريف جيردا ليرنر للوعي النسوي باعتباره يشير إلى وعي النساء بأنّهن ينتمين إلى فئة ثانوية مستضعفة، وأنهنّ تعرضن للظلم والأذى جماعيًّا بوصفهنّ فئة، وأنّ وضعهن الدوني في المجتمع ليس أمرًا طبيعيًّا بل هو محدّد اجتماعيًّا، .... وفي استطاعتهنّ طرح رؤية بديلة للنظام الاجتماعي تتمتع فيه النساء والرجال على السواء بالاستقلالية وحق اتخاذ القرار....[1]
واستمرت الجهود الرامية إلى إنهاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تلتها العديد من الاتفاقيات من أجل أن تتمكن المرأة من المشاركة إلى جانب الرجل في عملية التنمية بكافة أشكالها.
حاولت العديد من الدول العربية الانخراط في هذه الاتفاقيات مع شيء من التحفظ بسبب تضارب بعض بنودها مع قوانين المجتمعات العربية وأعرافها، فيما امتنعت دول أخرى تمامًا عن التصديق والانخراط فيها.
وعلى غرار العالم الغربي عملت عوامل عديدة تاريخية واجتماعية وثقافية بشكل مباشر أو غير مباشر على طرح قضية المرأة وحقوق المرأة بقوة داخل المجتمعات العربية، ولم تعد مجرّد قضيّة نظرية يفتح حولها النقاش المحدود ويختم بإصدار التوصيات. بل إنّها استطاعت في بعض الدول أن تقفز إلى حقيقة ملموسة وتتحول إلى تغييرات جذرية وقوانين مفعّلة لصالح المرأة.
وبالموازاة مع ظاهرة التديّن التي اجتاحت كل مجالات الحياة في العالم العربي، بدأ يظهر مفهوم النسوية الإسلامية وليس العربية، وهي تسمية مستحدثة أصبحت متداولة في المجال الثقافي الفكري، بين مؤيد للتسمية على أساس أنّ الدين الإسلامي أعطى حقوقًا للمرأة لم يتم استثمارها، وبين رافض لها لتعارض النسوية كما هي بالغرب مع الدين الإسلامي حيث رأى أصحاب هذا الاتجاه أنّه لا يمكن تركيب "الإسلامية" على "النسوية".
لكن ما يمكن تأكيده بعيدًا عن هذا السجال هو أنّ الحركة النسوية الإسلامية لم تعد ظاهرة مؤقتة أو عارضة تطلّبتها ظروف المرحلة، ولكنها أصبحت تشكل خطابًا تحمله بعض التيارات الحقوقية التي تربط بين الدين أو الإسلام تحديدًا وبين حقوق المرأة داخل المجتمعات العربية خاصة.
النسوية الإسلامية من وجهة نظر نسويات عربيّات:
لقد ارتبط الخطاب النسوي بداية بفكر التنوير الذي ساد الغرب مع موجات الحداثة وتوجهاتها العقلانية والتي ارتبطت أيضًا بالعلمانية بشكل كبير، بحيث شكلت ثورة الحداثة أساسًا وبداية لتبلور خطاب نسوي يتماشى ومبادئ حقوق الإنسان ومسلسل الإصلاح الذي شمل السياسة والاقتصاد والفكر وكل جوانب الوجود الاجتماعي.
وبالعالم العربي قد لا نكون مجازفين عندما نعلن أنّ الأدبيات المرتبطة بقضايا تحرّر المرأة في فكرنا المعاصر، لم تكن في مستوى المنجزات الإصلاحية الأخرى الموصولة بإشكالات السياسة والثقافة والمجتمع، بل إنّنا نجد لذلك تفسيرًا في الطابع الخاص الذي تميزت به أسئلة المرأة وقضاياها في تاريخنا ومجتمعنا وموروثنا الرمزي، ... فلم يكن من السهل داخل محيط تاريخي يتّسم بمظاهر التأخر التاريخي الشامل، أن يتجه التفكير لبناء اجتهادات مناسبة لمشروع التحرّر الذي شكّل المنطلق الأساس في مشروع النهوض العربي، في موضوع يصعب فصله عن تركيبته التاريخية والثقافية المعقدة.[2]
وبعيدًا عن التوجهات الحقوقية النسوية العلمانية، حاولت تيارات مختلفة بالعالم العربي والإسلامي أن تستلهم فكرة حقوق المرأة من الغرب وحاولت تبيئتها مع المجتمعات العربية الإسلامية، بحيث لا تتعارض مع الدين وفي الوقت نفسه تعطي حقوقًا للمرأة، في مجتمعات ذكورية بامتياز، تعيش فيها المرأة إنسانًا ومواطنًا من الدرجة الثانية وفي ظلّ وجود ظلم وإجحاف مجتمعي بحقّ المرأة.
ومما لاشك فيه أنّ ظهور مفهوم النسوية الإسلامية استعان بالمناخ السائد وبالعديد من العوامل والاعتبارات السياسية والإيديولوجية والثقافية داخل المجتمعات العربية، والتي أصبحت تربط بين كل المفاهيم والإيديولوجيات والدين، بحيث أصبحنا نتحدث عن اشتراكية من منظور إسلامي، وحقوق إنسان إسلامي وديمقراطية إسلامية وغيرها من المفاهيم التي تمّت محاولة أسلمتها، أو محاولة التقريب بينها وين الاسلام وإبراز عدم تعارضها مع الدين الإسلامي. وهنا لابدّ من طرح السؤال: هل مصطلح نسوية إسلامية مصطلح صحيح؟ وهل يوجد انسجام بين النسوية والدين؟
لقد ساعد على ظهور الحركات النسوية الإسلامية، تنامي الحركات الإسلامية التي نجحت في ضم نساء إلى صفوفها، وأصبحت تعترف بإمكانية وجود دور فعال للمرأة داخل المجتمع، بالإضافة إلى وجود جيل نسائي جريء في مواقفه وطروحاته التي وإن لم تتجاوز ربط الدين بالحقوق إلا أنّها نادت بحقوق نسائية اعتُبِرت ولزمن طويل من المحرّمات التي لا يجب الحديث عنها. وهكذا نشأت نسويات إسلامية بدول عربية عديدة بما فيها العربية السعودية وأندونيسيا وإيران، بل وحتى في دول تعيش بداخلها أقلية مسلمة.
ويمكن القول إنّ التجربة النسوية "الإسلامية" لم تلبث أن وجدت في فضاءات الحرية الغربية مجالاً واسعًا للتعبير عن مواقف وخبرات لفتيات مسلمات هاجرن من مجتمعات إسلامية إلى مجتمعات الغرب، الأوروبي الأميركي، حاملات معهنّ من مواطنهن الأصلية وبيئاتهن المحلية أو الوطنية السابقة، أفكارًا وتقاليدَ وخبرات كان من نتائج احتكاكها وانخراطها في الحياة الجديدة تشكّل نزعات نسوية رافضة لجملة "التراث الثقافي" الذي نشأن عليه، ومسوّغة بموقف غاضب ذي متعلقات لاهوتية أو فلسفية... ومن أبرز ممثلات هذه النزعة البنغلاديشية تسليمة نسرين، والأوغندية إرشاد منجي، والصومالية إيان حرسي علي، والتركية كيليك.[3]
وتستخدم النسويات المسلمات الدين الإسلامي في دفاعهنّ عن حقوق المرأة على أساس أنّ في الإسلام حقوقًا تضمن العيش الكريم للمرأة كما هو الشأن بالنسبة إلى واحدة من أشهر النسويات في العالم، ويتعلق الأمر بأمينة ودود الأمريكية المسلمة المعروفة بمواقفها الجريئة وغير المألوفة في تعاملها مع حقوق المرأة من منظور إسلامي. وتنطلق في دراساتها وطروحاتها من القرآن تبريرًا وتدعيمًا لكل ما تتبناه من أفكار تتماشى ومناخ الحداثة التي تربّت في كنفها ولا تبتعد عن الدين في الوقت نفسه. بل لطالما اعتبرت أنّها تحاول التوفيق بين مبادئ الشريعة الإسلامية والقيم الحديثة، مع إيمانها في الوقت نفسه بأنّ حقوق المرأة مكفولة في الإسلام قبل ظهور حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها بالعالم الغربي، وإذا كانت مجموعة من الممارسات التي اعتمدتها الرسالة المحمدية قد جاءت متناغمة مع العصر والمجتمع الذي وجدت فيه فإنّه قد حان الوقت لإصلاح إسلامي يتماشى والعصر الحديث.
أخذت الناشطة النسوية أمينة ودود طريقًا مختلفاً في تقريبها بين النسوية والإسلام، وقامت بممارسات دينية لاقت احتجاجات وانتقادات من قبل الإسلاميين المحافظين، حيث كانت أوّل امرأة تؤمّ المسلمين في صلاة الجمعة وكان من ورائها نساء ورجال في صفوف مختلطة، ونساء بدون حجاب، كما كانت أوّل امرأة قامت برفع الأذان، في أحد الكنائس في نيويورك بعد أن رفضت المساجد استقبالها. واعتبر أمينة ودود أنّ الإسلام مجال شاسع للتأويل وللإصلاح.
وتصرّح كل رموز النسوية الرافضة بأنّ فضاءات الغرب الإنسانية أتاحت لهن مساءلة المقدس ومحاورته والدخول في حالة "سجال" معه، وأنّ الحرية التي ينعم بها الغربيون ويتمتع بها المسلمون الذين التحقوا بعالمهم الحرّ تأذن لهن بأن يقلن ما لا يمكن لهنّ قوله لو أنّهن كنّ أو بقين "داخل السرب". وفي حدود هذا الواقع الفذ تعلن هذه الرموز جميعًا أنّ قضيتهن النسوية ليست في نهاية التحليل إلا وجهًا رئيسيًّا من وجوه عملية ضخمة هي عملية "إصلاح الإسلام".[4]
وبالمغرب أيضًا توجد حركة نسوية قوية، حيث شكلت حقوق المرأة موضوعًا للنقاش ولنضال العديد من الحركات النسائية واستطاعت المرأة المغربية تحقيق العديد من المكاسب التي توّجت بإصدار قوانين لصالح المرأة. غير أنّ النسوية المغربية تبقى متواضعة مع مثيلاتها في دول عربية وأجنبية أخرى.
وعلى غرار النسويات بالعالم الغربي ففي المغرب تؤمن النسويات بأنّ وضع المرأة المسلمة في الدول العربية والإسلامية وضع مأساوي ويستحق تسليط الضوء عليه لتحرير المرأة من تبعات التقاليد والأعراف التي يتم ربطها بالإسلام، وعلى هذا الأساس اعتبرت الناشطة النسوية أسماء المرابط التي تترأس مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام بالمغرب، أنّ القضية النسائية ليست من القضايا الشكلية فقط أو هي مجرّد ترف فكري في ظل ما تعانيه المرأة. وتناولت أسماء المرابط قضايا مهمة وكانت جريئة في تناولها لمواضيع ظلت من الحقوق المكتسبة للرجل والتي لا يجوز المساس بها أو النقاش فيها، حيث اعتبرت أنّه يجب التفكير بشكل مختلف في موضوع الولاية والقوامة، وإقرار المساواة بين المرأة والرجل بالرغم من وجود عائق الرفض المجتمعي ورفض تجديد الخطاب الديني الذي لم يعد ملائمًا للتحوّلات الاجتماعية التي يجب الاعتراف بها، واعتبرت أيضًا أنّ الحجاب ليس من أركان الإسلام، واللفظ الوارد في القرآن ليس هو الحجاب المعروف اليوم، والذي صار مفهومًا إيديولوجيًّا وخاصة مع حركة الإخوان المسلمين في مصر، وتفسيره في القرآن يعطي الحق للمرأة في أن ترتديه أو لا ترتديه وليس رمزًا للتدين، فضلاً عن أنّه لا يجب أن يكون من الأولويات في النقاش، وأنّ هناك أولويات أهم وعلى رأسها العلم والعدل والتربية... ونادت بعدم التمييز بين المرأة والرجل في الصلاة في المساجد، وأنّ الاختلاط ليس عيبًا ولا حرامًا، والدليل أنّ الاختلاط كان مسموحًا به في عصر النبوة.
ولا تبتعد أسماء المرابط عن الدين الإسلامي في دفاعها عن المرأة بل ترى أنّه حان الوقت ليعي المجتمع، نساءً ورجالاً، بحقيقة دينهم بعيدًا عن التأويلات المجحفة في حق المرأة، ويجب التمييز بين القرآن والسُنّة وتأويلات الفقهاء، وإذا كانت كل هذه المصادر تصل حد التقديس فإنّ هذا لا يمنع من القيام بنقد ذاتي ووضع اليد على مكامن الخلل التي جعلت المجتمعات العربية والإسلامية والفقهاء ينظرون للمرأة بدونية انطلاقًا من مصادر التشريع، مع أنّ المرأة زمن الدعوة المحمدية كان لها الحق في المشاركة في كل مناحي الحياة المجتمعية والسياسية، كما أعطاها الإسلام الحق في الإرث في الوقت الذي كانت محرومة منه آنذاك. والآيات القرآنية صريحة وواضحة في هذا الإطار. ويقول الله عز وجل "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض"[5] فلماذا نحرم المرأة من الحقوق ونقصرها على الرجل بعيدًا عن روح الدين الإسلامي؟، في حين نجعل من المرأة مجرد كائن ثانوي، وبضاعة للزواج والنكاح والاستمتاع، وهو ما يتم تربية الأجيال التالية عليه مع إعادة تكريس اللامساواة واللااحترام للمرأة باعتبارها كائنًا له كافة الحقوق كالرجل، وتجاوز التفسيرات التأويلات الذكورية الأبوية السائدة إلى اليوم.
وما يميز النسويات الإسلاميات أنّهن لا ينفين أهمية الدين الإسلامي في استخلاص حقوق المرأة ولا يجدن أي تناقض بين الحقوق والدين، فالقرآن كتاب ونصوص مقدسة ولكنه يمكن تأويله على حسب التحوّلات التاريخية والاجتماعية.
لكن ما هو المنهج "النضالي" الذي تتبعه هؤلاء "النسويات المسلمات"؟ إنّه مبدأ إعادة تأويل النصوص الدينية بحيث يصح أن يؤدي هذا التأويل إلى أيّ نتائج، ومن دون أي تحديد مسبق. وذلك يعني أيضًا أنّ من حق هؤلاء النسوة المسلمات أن يعترف بهن "عالمات" وأن تؤخذ آراؤهنّ الاجتهادية في الحسبان والاعتبار من قبل الهيئات الدينية، حيث لم يحدث هذا الأمر أبدًا من قبل. بتعبير آخر تنطوي هذه الحركة النسوية الإسلامية على مبدأ حق المرأة في أن تستملك النص الديني وتستنطقه بنفسها من أجل إبراز النزعة التقدمية المؤكدة لحقوق النساء الأساسية ولحقهن في تفسير كلام الله...[6]
لقد حاولت النسوية الإسلامية أن تؤكد على فكرة جوهرية وهي أنّ المرأة المسلمة قادرة على أن تتحرر دون أن تلجأ إلى محاكاة النسوية الغربية وذلك انطلاقًا من مصادر التشريع ومحاولة تكييفها مع تطور المجتمعات اليوم بشكل يجعلها تتماهى وحقوق المرأة الغربية. وهنا يطرح السؤال إلى أي حد تمكنت النسوية الإسلامية من أن تخلق لنفسها هوية خاصة بها وأن تنجح في طروحاتها واجتهاداتها؟
نقد النسوية الإسلامية بين مؤيّد ومعارض:
طرح مفهوم النسوية منذ بداية ظهوره الكثير من السجال بين مؤيد ومعارض لوجود نسوية إسلامية، حيث ظهر موقف معارض لوجود نسوية إسلامية لتعارض النسوية مع الإسلام على اعتبار النسوية مفهومًا مستوردًا من الغرب يهدف إلى تحرر المرأة وليس تحريرها، وأنّ الدين الإسلامي أنصف المرأة ومنحها حقوقًا كافية ولا نحتاج اللجوء إلى استيراد مفاهيم غريبة عن ثقافتنا الدينية والإسلامية قد لا تخدم الأمّة الإسلامية. أما الموقف الثاني فأيّد وجود حركة نسوية تراعي من جهة مواثيق حقوق الإنسان الدولية وفي الوقت نفسه خصوصية العالم الإسلامي وخاصة أنّها نسوية تمزج بين الدين والقوانين الوضعية، وتنطلق من مبادئ المساواة والعدالة وتكريم المرأة انطلاقًا من أسس إسلامية.
تبقى الحركة النسوية الإسلامية متواضعة مع مثيلتها الغربية وخاصة على مستوى تحديد معنى المفهوم وعلى مستوى العمل على ترسيخ مبادئها داخل المجتمع، ويعاب على النسويات الإسلاميات أنّهن لم يتمكن من وضع تعريف وشرح دقيق لمفهوم النسوية الإسلامية، بالإضافة إلى عدم وجود أنموذج واحد للنسوية الإسلامية بكل الدول العربية والإسلامية فهي تتراوح بين الاعتدال والمزج بين الأنموذجين الغربي والعربي الإسلامي وبين رفض الغربي ومحاولة إيجاد أنموذج إسلامي صرف. بل إنّ هناك نماذج نسوية تتعامل بانتقائية مع ما ينسجم مع توجهاتها في حين تعتبر الباقي غريبًا عنها ولا يجوز العمل به.
إنّ وجود نسوية إسلامية بالمعايير الحالية يدفعنا إلى التساؤل حول طبيعة تعامل الباحثات النسويات وخاصة المتشددات منهن مع مفهوم الحداثة ومع الدين وتوظيفه للدفاع عن قضية تعد عالمية ودينية بدرجة كبيرة، حيث أدى البحث عن حداثة داخلية إلى إنتاج أنموذج هجين للنسوية. وهذا ما جعل بعضهم يرى فيها مجرد رد فعل على وجود نسوية غربية ودفاعًا عن الهوية الدينية التي يجب أن تطبع كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة بالدول التي تتبنى تطبيق الشريعة الإسلامية في أنظمتها. وهذا يعني وجود إشكال حقيقي إذا حاولنا مقاربة النسوية الإسلامية من خلال مفهوم الحداثة بشكلها الغربي بكل تجلياتها من ديمقراطية وتعددية وعقلانية ومواطنة ومساواة وعدالة وعلمانية وغيرها....
وهناك رأي آخر رأى أنّ وجود نسوية إسلامية من شأنه الدفاع عن صورة المرأة المسلمة، وتغيير الصورة النمطية للغرب عن الإسلام وفي الوقت نفسه تحسين وضعية المرأة من خلال منحها حقوقًا انطلاقًا من أسس دينية وهو ما من شأنه أن يلقى قبولاً داخل المجتمعات المسلمة المحافظة، خاصة وأنّ المجتمعات العربية الذكورية ترفض التنازل عن الحقوق المكتسبة للرجل منذ القدم إلى جانب رفض نسبة مهمة من النساء التغيير الذي تحمله النسوية الإسلامية المعتدلة وترفض الخروج من عباءة الرجل وحمايته.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك فئات واسعة تعتبرها ترفًا فكريًّا وتأثرًا بالحركة النسوية الغربية. وربما يكون استشراء ظاهرة التكفير وظهور العديد من الأصوات المحافظة المطالبة بالعودة إلى نهج السلف الصالح بكل تفاصيله وعودة المرأة إلى فضائها الخاص قد زاد من رغبة النساء الالتفاف حول النسوية الإسلامية التي تضمن لهنّ قدرًا من الشرعية في تناولهنّ لقضايا المرأة والدفاع عنها من خلال إلباسها لباسًا دينيًّا.
غير أنّه يمكن القول إنّ ما زاد من تعقيد الأمر هو أنّه يتم تناول موضوع المرأة في غياب أي مجهود تأويلي يتجاوز معايير المجتمع وتقاليده، ويحصرها في فترات تاريخية محددة، بعيدًا عن أي اجتهادات تتجاوز نظرة المجتمع للمرأة وتميز بين ما هو ديني وبين ما هو ثقافي وتاريخي. ويلاحظ أنّ الموروث الثقافي (العادات والتقاليد) له أولوية على المفهوم الإسلامي بين الناس، مما أدى إلى نشوء خلل في تركيبة البناء الفوقي للمجتمع الإسلامي، وظهوره بمظهر قد لا يمت للإسلام بصلة في بعض الأحيان. وتأتي نظرة المجتمع الشرقي إلى المرأة ضمن هذا الإطار، حيث يبتعد السلوك الاجتماعي عن السلوك الإسلامي الصحيح.[7]
وتطرح أيضًا إشكالية النسوية الراديكالية التي تنادي بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة وترفض أي نقاش حول الحجاب وتعدد الزوجات وعدم المساواة في الإرث متجاوزة بذلك كل إكراهات المجتمعات العربية التقليدية على مستوى العقلية الذكورية أو على مستوى عوائق الأمية والبطالة والفقر والتبعية الاقتصادية للرجل، على عكس النسوية الإسلامية التي حاولت وتحاول التوفيق بين الديني والزمني.
وهنا يطرح السؤال حول مدى تمكن النسوية الإسلامية من توحيد صفوفها وعولمة خطابها، خاصة مع وجود تمايزات على مستوى الدول ذات الأغلبية المسلمة من جهة والدول ذات الأقليات المسلمة من جهة أخرى، ونجد هذا التمايز أيضًا على مستوى الشرق والغرب، حيث يوجد فرق شاسع في التعامل مع قضايا المرأة بسبب تأثر النسويات الإسلاميات بالبيئة التي ينتمين إليها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقر بوجود توجهات أيديولوجية مختلفة للنسويات الإسلاميات ولم تتمكن من أن تتوحد داخل إطار واحد، وتنادي بالمطالب والأفكار نفسها، وأن تصنع لنفسها هوية خاصة وخصوصًا أنّ أنصار النسوية الإسلامية يؤمنّ بأنّ المرأة العربية لا تتماهى ونظيرتها الغربية بسبب الخصوصية الثقافية والتاريخية.
إنّ العمل النسوي لا يزال يتلمس طريقه، ولا يمكن أن تتغير نظرة المجتمعات العربية للمرأة دون تبيئة حقيقية للأفكار التنويرية، وتغيير الخطاب الإسلامي السائد، والذي يقلص دور المرأة ويحجمه في دورها من حيث هي زوجة وأم وأخت وابنة، مع أنّ آيات القرآن تتحدث عنها باعتبارها كائنًا إنسانيًّا له حقوق وواجبات كمثيلها الرجل.
ولا يجب إغفال أنّ التجديد الفكري حول النسوية هو أيضًا يتأثر بالمناخ العام لوضعية الفكر الإسلامي عامة، كما يتأثر بالمناخ الفكري والثقافي السائد، ولذلك تتزايد مطالب التجديد كلما كانت الساحة الفكرية تسمح بذلك، وتتراجع كلما تراجعت مطالب التجديد الديني.
[1] شارلين ناجي هيسي ـ بايبر باتريشا لينا ليفي "مدخل إلى البحث النسوي ممارسةً وتطبيقًا"، ترجمة هالة كمال، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2015، ص 15
[2] كمال عبد اللطيف، "المرأة في الفكر العربي المعاصر، نحو توسيع قيم التحرّر"، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2010، ص 19
[3] فهمي جدعان، "خارج السرب، بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحريّة"، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، 2012، ص 25
[4] فهمي جدعان، "خارج السرب، بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية"، مرجع سابق، ص 223
[5] الآية 71 من سورة التوبة.
[6] فهمي جدعان، "خارج السرب، بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية"، مرجع سابق، ص 41
[7] د. صلاح عبد الرزاق، "مقالات في المرأة المسلمة والمرأة في الغرب"، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، 2010، ص 41