النسويّة حقلاً معرفيّاً بيْنيّاً
فئة : مقالات
النسويّة حقلاً معرفيّاً بيْنيّاً
النسويّة تعريب لكلمة féminisme/feminism، وهي متأتّية من الجذر feminin الذي يعني جنس الأنثى. وأمّا أصل الكلمة، فيرجع إلى اللّاتينيّة femina. والراجح أنّ هذا اللّفظ دخل في التاريخ الحديث إلى اللّسان الفرنسيّ في المعجم الطبيّ أوّلا، ثمّ ظهر في عمل أدبيّ نُشِرَ تحت عنوان: «الرجل- المرأة» سنة 1872. وكان يُشار بهذا الاستعمال إلى النساء اللّواتي يتشبّهن في تصرّفاتهنّ بالذكور. وستطبعه، بعد عقد من الزمان، الكاتبة الصحفيّة الفرنسيّة المدافعة عن حقّ المرأة في الانتخاب Hubertine Auclert بعمق نضاليّ وإيديولوجيّ صريح[1]. وشرعت الأصوات المطالبة بتصحيح أوضاع المرأة في الخروج من المحاولات الفرديّة والتجمّع في كيانات وتكتّلات وجماعات ضغط، فتأسّست في 1891 «الفدراليّة الفرنسيّة للمجتمعات النسويّة» (FFSF). وعقدت مؤتمرها السنويّ الأوّل عام 1892 الذي لاقى تغطية إعلاميّة واسعة. ونشطت حملات الدعاية لصالح تحرّر المرأة في البلدان الأوروبيّة حتّى اكتسب مصطلح النسويّة شرعيّة التداول اللّسانيّ والاجتماعيّ على نطاق واسع. وممّا يُذكَر في هذا المجال أنّ مجلّة «المجلّة السياسيّة والبرلمانيّة» الفرنسيّة أنجزت بداية من شهر آب/أغسطس 1896 وعلى امتداد أربع سنوات تقريباً[2] سلسلة من المقالات حول النسويّة في كلّ من إنجلترا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وألمانيا وأستراليا.
بالإمكان القول إنّ المطالبة بحقوق المرأة في العصر الحديث ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالتحوّلات الاقتصاديّة التي عرفتها أوروبّا وتركت آثارها في الأسرة عموما والمرأة على نحو خاصّ، كما كان لاتّجاهات تحرير الوعي من سلطان الثقافة ما قبل الحداثيّة دور مهمّ في هذا الإطار. ولكنْ، من المستحسن هنا إقامة الفرق بين خطاب تحرّريّ حقوقيّ يدعو إلى إنصاف المرأة من جهة، والإيديولوجيا النسويّة التي تستهدف الإطاحة بالبنى الأسريّة والدينيّة والاقتصاديّة والثقافيّة السائدة التي أعطت الحياةَ الفرديّة والجماعيّة والأنظمة المعياريّة والقانونيّة المتحكّمة فيها معقوليّتها. فبهذه الإيديولوجيّا الكفاحيّة تكوّنت شيئاً فشيئاً أسس معرفة خاصّة بالمرأة لها أدواتها البحثيّة وأسئلتها ورهاناتها.
فالنسويّة اصطلاحاً، وفي سياق ما نحن بصدده ليست حركة اجتماعيّة حقوقيّة تنتصر للمرأة، ولا هي اتّجاه إصلاحيّ يرمي إلى تحسين وضعيّتها في المجتمع. إنّ مِثْلَ هذه الأنشطة متواترة في التاريخ الاجتماعيّ وفي سائر الحضارات. وهذا يدفعنا إلى القيام بالتدقيق التالي: النسويّة حقل من حقول المعرفة الاجتماعيّة والإنسانيّة لا تَحْضُر فيه المرأة إلّا باعتبارها موضوعا للتفكير والكتابة. وعلى هذا الأساس، نشير بمصطلح النسويّة إلى وجود معرفة لها من الخصائص ما يجعلها مستقلّة بموضوعها، وهو ما نفسّر به تأخُّرَ ولادة هذا المصطلَح وعَدَمَ مُرافقته ظهورَ الحركات والاتّجاهات الإصلاحيّة والتحرّريّة؛ فهو عنوان لمعرفةٍ، وليس لحركة اجتماعيّة. وقد انتبه بعضُ الذين اهتمّوا بتاريخ هذا المصطلح إلى هذا الأمر، ففسّروا تأخُّرَ ظهوره بعدم عناية العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة بالمرأة مبحثاً من مباحثها؛ ومِن الذين عالجوا النسويّة من هذه الزاوية عائشة التايب التي قالت وهي تستعرض الأسباب التي أجّلت بروز المرأة مبحثاً علميّاً من مباحث العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة إنّ «عمليّة التفكير والبحث العلميّ في قضايا المرأة وفي علاقتها بالرجل ظلّت معطّلة بحكم عدم طرحهما كموضوع إشكاليّ إلى فترة متأخّرة من تاريخ العلوم، ممّا تسبّب في شبه غياب لمبحث المرأة من دوائر الجدل العلميّ والنقاش المجتمعيّ بشكل عامّ»[3].
فالمسألة إذن تتعلّق بالنسويّة قطاعاً من قطاعات المعرفة التي همّشها الدارسون، وإنْ كانوا قد تطرّقوا إلى قضايا قريبة منها: «بالرغم من الاهتمام المبكِر للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وعلم الاجتماع تحديدا بقضايا اجتماعيّة حسّاسة متّصلة بشرائح اجتماعيّة معيّنة مثل الطبقات العمّالية وشرائح المهمّشين والمَقصيّين في المجتمعات الحديثة والمعاصرة، فقد ظلّ الخوض في قضايا المرأة والظاهرة النسائيّة بشكل أعمّ موضوعا لم تجرؤ العلوم الإنسانيّة على خوضه إلّا مؤخّراً»[4].
وجدير بالتنويه أنّ المرور من أفق المطالبة بالحقوق إلى أفق التنظّم الإيديولوجيّ، ومنه إلى أفق المعرفة قد استغرق زمنا لعلّه يقترب من القرنيْن، إن وضعْنا في الحسبان أنّ القرن الثامن عشر هو المدى الزمنيّ الحديث الذي وُلِد فيه الوعي بأنّ للمرأة وجوداً إنسانيّاً ينبغي الاعتراف به. وما يعنينا من كلّ هذا هو الأفق الثالث الذي تشكّلتْ فيه قضايا المرأة تشكّلاً معرفيّاً. والغالب على الدراسات المهتمّة بهذا الأفق الذهابُ إلى أنّ سبعينيات القرن العشرين هي التي نشأ فيها بوضوح هذا الأفق؛ ففيها أضحى للمعرفة المختصّة بقضايا المرأة عناوين تتميّز بها من غيرها. ولعلّ أوّل ما صيغ لها من العناوين عنوان «الدراسات النسويّة» قبل أنْ تُنحَت مصطلحات أخرى مثل «النوع الاجتماعيّ» و«الجندر».
وينبغي الإشارةُ في هذا الصدد إلى أنّ ما يُطلَق عليها الموجة النسويّة الثانية التي ظهرت في الستّينيات من القرن الماضي قد طُبِعتْ بمَيْسميْن خاصّيْن؛ أمّا الأول، فتجلّى في النقد اللّاذع الذي طال المسيحيّة رأساً، وباقي الأديان قياساً، تحت تأثير الاتّجاهات الحقوقيّة المدنيّة التي شجّعتْ على ترويج خطاب يتّهم الأديان بسبب ما وفّرتْه من فُرَصٍ لإنشاء هيمنة ذكوريّة وبناء مجتمعات بطريركيّة. وأمّا الميسم الثاني، فعلامتُه أنّ الجامعات الأوروبيّة شرعت في استقبال الدفعات الأولى من النساء في الدراسات العليا في مجال التخصّصات الدينيّة. وما يستحقّ التسجيل هنا هو أنّ هؤلاء الباحثات المؤسِّسات «حَصّلنْ الكفايات الضروريّة في اللّغة والهرمينوطيقا من أجل قراءة النصوص الدينيّة وتَمَثُّل سياقاتها التاريخيّة المعقّدة»[5]. وقد تَمَكّنَّ بما اكتسبْن من تكوين أكاديميّ من الكشف عن الكيفيّات التي بُنيَ بها التاريخ البطريركيّ وأُخضعتْ داخله المرأة لهيمنة الرجل. والمُتابع لهُنّ وهنّ يمارسْن فِعلَ القراءة يرى أنّ الخبرة التي اكتسبْنها في مجال الهرمينوطيقا يَسّرت لهنّ السبيل فقرأن «ما بين السطور قصد الظفر بالبنى والدلالات الخفيّة، والمفاهيم الدينيّة، والتأويلات التي أثّرت في وضعيّة المرأة»[6]. واكتشفن، بواسطة ما تَجهَّزْن بهمن وسائل بحثٍ، الكيفيّة التي أضحت بها بُنَى السلطة الذكوريّة مندسّة في النصوص ومتحكّمة في المنظومات القيميّة إنتاجاً وتوجيهاً. وبهذا، يُمْكن أن نقولَ إنّ دخول المرأة ميدانَ المعرفة المتخصّصة في الحقل الدينيّ وحيازَتها منهجيّات البحث العلميّ كانا بمثابة التحوّل النوعيّ في مسار تشكيل معالم الدراسات الجندريّة.
وإذا كانت موجة ستّينيات القرن العشرين قد فتحت مَدارج البحث العلميّ المتخصّص أمام المرأة، فإنّ السبعينيات شهدت ما يجوز تسميته الاعترافَ الأكاديميّ الرسميّ بالنسويّة حقلاً معرفيّاً. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة وقع اعتماد أوّل برنامج لدراسات المرأة، حيث تمّ في كثير من المؤسّسات الجامعيّة الإعلان عن تدشين أقسام خاصّة بهذا الحقل الجديد. وتزامن هذا الحدث العلميّ بإصدار دوريّات في النسويّة مثل مجلّة «دراسات نسويّة» Feminist Studies التي ظهرت سنة 1972، ومجلّة «علامات» Signs التي ظهرت سنة 1975. ولمّ تمرّ إلّا سنوات معدودات حتّى صار مصطلح النوع الاجتماعيّ (الجندر Gender) عنواناً من العناوين التي تشهد للنسويّة بالحضور القويّ في المجتمع الأكاديميّ؛ ففي سنة 1986 اختار القائمون على إحدى الدوريّات أن يكون عنوان مجلّتهم دالّاً على أنّ مبحث المرأة أضحى تخصّصاً يفرض نفسه على الباحثين: «الجندر والمجتمع» Gender and Society.
ولمّا كان الانتقال بالمطالبة بحقوق المرأة من مستوى «الشارع» إلى مستوى الأكاديميا يستغرق وقتاً شأنه في ذلك شأن سائر الأنشطة الأخرى، لاحظ الدارسون هذا البطء حتّى في الدول التي عرفت فيها المسألة الحقوقيّة عامّة وقضايا المرأة خاصّة حيويّة كبرى. وهذا ما ينطبق على بلد مثل فرنسا؛ فهي «وبالرغم من أهميّة وحجم التحرّكات النسويّة بها، فإنّ مسار التمأسس العلميّ والأكاديميّ للدراسات حول المرأة ظلّ متعثّراً وبطيئاً، ولم يواكب أجيج أصوات نسائها المتظاهرات، إذْ ظلت المبادرات العمليّة لإنشاء وإقحام دراسات المرأة والنوع الاجتماعيّ في الحقول العلميّة محدودة إلى عهد قريب، ولم تتبلور دراسات النوع الاجتماعيّ خاصّة كحقل علميّ قائم الذات إلّا مع نهاية التسعينات»[7]. ولكنْ، من المهمّ أن نلاحظ أنّه رغم التأخّر في تَرقية المطالب الخاصّة بحقوق المرأة إلى مَعرفة أكاديميّة، فإنّ اللّحظة التي صارتْ فيها كذلك كانت أشبه بالغزو الذي اجتاح المؤسّسات الجامعيّة وأعطى في وقت قياسيّ النسويّةَ هُويّةً علميّة، بل إنّ المساعي لم تكن حثيثة فقط لتركيز حقل النوع الاجتماعيّ في شبكة المعرفة المختصّة، ولكنْ لإدراج الجندر في برامج التدريس الجامعيّ[8].
وما يُستفاد من هذا العرْض السريع للنسوية تاريخاً وسياقاتٍ واصطلاحاً أنّها حقل من الحقول المعرفيّة جاء ليُحَوِّلَ الحركات النضاليّة والخطاب الإيديولوجيّ المرافق لها إلى أفق أكاديميّ. إنّها إذن التعبيرُ العلميّ عن كلّ ذلك. ومِنْ خصائص هذا الحقل أنّه حقل بيْنيّ تتقاطع فيه العلوم والمناهج «بما يمَكّن من مقاربة الجوانب المختلفة للقضيّة محلّ الاهتمام وهي حياة المرأة وخبراتها ورؤاها. ويدخل ضمن اهتمام الحقل دراسة الأنساق الاجتماعيّة والثقافيّة للنوع الاجتماعيّ؛ والعلاقة بين القوّة وبين منظومة النوع، والتقاطع بين هويّة النوع الاجتماعيّ والهويّات والمواقع الاجتماعيّة الأخرى مثل العرق والطبقة الاجتماعيّة والاقتصاديّة»[9].
ويبدو أنّ الإنتاج العلميّ لهذا الحقل تَراكَمَ بسرعة وتوسّع حتّى شمِلَ أغلب أنظمة المعرفة أصولاً ونتائجَ. ومِنْ مَزايا تَمَوقُعِها في منطقة تقاطع الاختصاصات أنّها كانت تستخدم ما لدى تلك الاختصاصات من أدوات عَمل دون مشاكِلَ تُذْكَر. وهو ما يُلَاحظُ في النتائج المستخلَصَة من التفاعل الواقعِ بين الدراسات الدينيّة ودراسات المرأة، خاصّةً لمّا تمّ الربط بين النسويّة والماركسيّة والدراسات النقديّة والنظريّة النقديّة كما تَجسّدَ ذلك على نحو خاصّ مع مدرسة فرنكفورت ومفكّرين لامعين تحرّكوا لاحقاً في مدارها مثل هربرت ماركيوز Herbert Marcuse وماكس هوركهايمر Max Horkheimer وثيودور أدورنو Theodore Adorno. لقد ساعدت الماركسيّة دراساتِ المرأة في مسألة مهمّة تتعلّق بتفسير المعطَى الدينيّ بالاجتماعيّ والماديّ؛ وذلك حين بيّنت كيف «ضَمّنت البورجوازيّة قيمَها الدينيّة في الثقافة بهدف السيطرة على الطبقة العاملة، ثمّ وسّعت النظريّةُ النقديّة والنسويّة هذا التحليل الطبقيّ ليشمل العرق والجنس...»[10]. وإذا وضعْنا في الاعتبار ما أفادتْه النسويّة من لاهوت التحرّر في أمريكا الجنوبيّة، كما سنوضّح لاحقاً، في مجال تكريس التحليل الماديّ لفضح اللّاهوت التاريخيّ الذكوريّ، فَهِمْنا على نحو مُعَمَّق معنى أنْ تكون النسويّة معرفةً بَيْنيّة.
وما يلفت النظر في هذا المستوى هو سرعة انتظام الكتابات النسويّة داخل سياق معرفيّ موحَّد واتّخاذها هويّة معرفيّة تُميّزها من أنساق معرفيّة أخرى. واكتسبت هذه الكتابات في وقت قياسيّ نسبيّاً الشروط التي أضحى لها بها نظريّةٌ في إنتاج المعرفة النسويّة. وهكذا صار الدارسون يتحدّثون عن الإبستيمولوجيا النسويّة. وإذا كانت الإبستيمولوجيا هي «الدرس النقديّ لمبادئ مختلف العلوم وفرضيّاتها ونتائجها الرامي إلى تحديد أصلها المنطقيّ، قيمتها ومداها الموضوعيّ... بشكل بعْديّ»[11]، فالحاصل من هذا أنّ مَنْ يستخدم مصطلح الإبستيمولوجيا النسويّة يَفترض قبل ذلك أنّ النسويّة علم مكتمل البناء، وهو كسائر العلوم يخضع بَعْديّاً للدراسة النقديّة.
وعموماً، نقول إنّ هذا الاصطلاح فَرض نفسه على الجماعات العلميّة حتّى صيغت له التعريفات التي تحدّد موضوعه ومجاله. نقرأ في موسوعة ستانفورد للفلسفة أنّ الإبستيمولوجيا النسويّة تعالج «الطريقة التي يؤثّر بها الجندر في تمثّلنا للمعرفة وفي كيفيّة إنجاز البحث والاستدلال، وتكشف عن استبعاد التصوّرات المتعلّقة بالمعرفة بناءً واكتساباً وممارسةً واستدلالاً ذات الصلة بالنساء والطبقات المهمّشة»[12]. وليس من المبالغة الذهابُ إلى أنّ هذه الإبستيمولوجيا النسائيّة فرضتْ نفسَها «تحدّياً ضدّ النماذج المعرفيّة السائدة»[13] من خلال إلحاحها على فكرة مركزيّة في خطابها، وهي أنّ هذه النماذج المعرفيّة غيّبتْ وجهة نظر المرأة. فثمّةَ إذن نظريّة ناشئة تُقدِّمُ نفسها منافِساً جديّاً لمناويل إنتاج المعرفة التقليديّة وللأسس التي أُقيمت عليها العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة على نحو خاصّ. ونظراً إلى ما في هذا التحدّي من وجاهة أدرجَه بعضُ الدارسين ضمن التحدّيات التي يواجهها علم الاجتماع اليوم. ونَذكُر في هذا المجال أنّ إيمانويل فالرشتاين Immanuel Wallerstein (1930-2019) أحد أبرز علماء الاجتماع المعاصرين والرئيس السابق للجمعيّة الدوليّة لعلم الاجتماع مِن الذين تصدَّوا لدراسة النسويّة من جهة كونها تمثّل تحدّياً من تحدّياتٍ ستّةٍ ينبغي على علم الاجتماع مواجهتُها. وتوقّف فالرشتاين عند أبرز اعتراضات الخطاب النسويّ على المعرفة التي راكمها علم الاجتماع حول المرأة، وهي أنّ في ما أنتجه تحيّزاً ذكوريّاً يتراءى بوضوح «في استبعاد النساء وعدم النظر إليهنّ باعتبارهنّ فاعلات في تقرير مصير الإنسانيّة معتمداً افتراضات غير واقعيّة لإقامة تمييز على أساس النوع بين الجنسيْن»[14]. وبمثل هذا الاعتراف بكوْن النسويّة افتكّت موقعاً لها في النسيج المعرفيّ وصار لإنتاجها النظريّ ما به يستحقّ أنْ يُعالَج تحت سقف الإبستيمولوجيا، يصبح النظر إليها باعتبارها إضافة نوعيّة للخارطة المعرفيّة أمراً لا جدال فيه.
وقد تكون نقطة قوّة هذا الحقل وضعفه في آنٍ هو أنّ المرأة فيه ذاتٌ باحثة وموضوعُ بحث؛ فأنْ تتصدّى المرأة لقضيّتها من داخل الأطر الأكاديميّة، فأمر لا يُمْكن إلّا تَعظيمه؛ لأنّها إذْ تخوض هذه المغامَرة تُوفِّر للعلم إمكانيّةً أخرى لمراجعة رصيده وأدواته ومناهجه ونقده وتطويره. إنّ تأنيث المعرفة في هذا الباب مسألة حيويّة وضروريّة حتّى لا تظلّ نتائجها وتوظيفاتها لصالح الرجل الذي استحوذ عليها مذْ نشأت بين يديْه، واستمرّ في استثمارها وتوجيهها إلى حيث يريد. وأمّا أنْ تتصدّى الذاتُ الباحثة لذاتها موضوعَ بحْثٍ في إطار إستراتيجيا ردّ الاعتبار والإطاحة بالقراءة الذكوريّة، فقد لا يَكُون ما تقوم به تحت السقف الأكاديميّ حائلاً دون تسرُّبِ الذاتيّة في القراءة وتوجيه المعرفة وجهة إيديولوجيّة تنتصر لقضيّة المرأة انتصاراً «انتقاميّاً» متستّراً بغطاء العلم. والراجح أنّ الأعمال النقديّة التي ما فتئت تتكاثر لتقييم المُنجَز النسويّ ذي العمر القصير نسبيّاً، كما سبقت الإشارة، يأخذ جزءاً من مشروعيّته من تموقعه في هذه المنطقة الحرجة، حيث يتلاقى الذاتيّ بالموضوعيّ، والمعرفيّ بالإيديولوجيّ.
ونضيف إلى ما تقدّم ما نعتقد أنّ المعرفة النسويّة الغربيّة ابتداءً تشتهر به، وهو انخراطُها في قراءة المسيحيّة نصوصاً وما أفرزتْه تفسيراتُ رجال الدين من ثقافة اجتماعيّة وأخلاقيّة وسياسيّة وقانونيّة قراءةً «تصحيحيّة». فالدين إذن مادّةُ بحثٍ أساسيّة بالنسبة إليها. وقد تَكُون الركنَ الصلب الذي استقام بفضله كلّ البناء النظريّ الذي منح النسويّة وضْعَها العلميّ. ويُعتَبر ما استقرّت تسميتُه باللّاهوت النسويّ feminist theology سياقاً معرفيّاً ذا طبيعة نقديّة استطاعت الباحثات في النسويّة أن يفرضْنَه وأنْ يُزعزعن به علم اللّاهوت المسيحيّ المهيمن على الدراسات الدينيّة من المكاسب الكبرى التي أعطت النسويّةَ هُويّتَها الثقافيّة والأكاديميّة.
ولكنْ، من المهمّ توضيحُ مسألة في هذا المجال وهي أنّ اللّاهوت النسويّ لم يهدف إلى نقض المسيحيّة ديناً والاندماج في مَجرى الدراسات الدينيّة العَلمانيّة تحت عنوان العقلانيّة والوضعانيّة. إنّها تتوسّط السياقيْن النقديّ العَلمانيّ من ناحية، واللّاهوتيّ التاريخيّ من ناحية ثانية. وهو ما يعني أنّها لا تخوض معركة ضدّ الدين، وإنّما ضدّ تأويل ذكوريّ له، وهي، في ذلك، تستفيد ممّا توفّره الدراسات النقديّة العقلانيّة من وسائل بحث وموضوعيّة. ومَنْ ينظر في كتابات النسويّات الرائدات يجدْ أنّهن يسعيْن إلى أن يتميّز مشروعهنّ بكونه «ينقل النقد النسويّ وعمليّة إعادة بناء برادايمات الجندر إلى داخل الحقل التيولوجيّ»[15]. فحركتهنّ النقديّة تقع داخل الدين وليس خارجه، وداخل الإيمان وليس ضدّه. والأسئلة التي لا تغادر ميدان بحثهنّ تدور باستمرار حول كيفيّة تعرية ما يقبع خلف «الدوافع اللّاهوتيّة التي تشرعن هيمنة الذكور وتبعيّة الإناث، مثل استعمال اللّغة الذكوريّة على وجه الحصر للدلالة على التخاطب مع الله، وهو ما يعطي انطباعاً بأنّ الذكور هم الأكثر شَبَهاً بالله من النساء، وأنّهم وحدهم القادرون على تمثيل الله في الكنيسة والمجتمع باعتبارهم زعماءَ، في حين أنّ النساء خلقهنّ الله ليكنّ تابعات للذكور، ويكنّ آثمات إنْ هنّ رفضن هذه التبعيّة»[16].
وتحت هذا السقف تتنزّل جهود النسويّات من أجل إدراج كتاباتهنّ ضمن ما يُعْرف بلاهوت التحرّر. وخُضْن لتحقيق هذا الهدف مُواجهات مع الاتّجاه التأويلي العامّ الذي يذهب إلى أنّ اللّاهوت الأكاديميّ ينبغي أنْ يكون محايداً وموضوعيّاً، فلا ينحاز عاطفيّاً إلى هذه القضيّة أو تلك. وهو، إذْ يتمسّك بالحياد الموضوعيّ، لا يَعُدُّ «التفسير النسويّ للكتاب المقدّس أو إعادة صياغة المفاهيم المسيحيّة المبكّرة موضوعات لاهوتيّة وتاريخيّة ذات ثقل يليق بالدراسات اللّاهوتيّة الأكاديميّة الجادّة»[17]. وما يحتجّ به هو ما يبديه اللّاهوت النسويّ من انحياز تتعرّض به المعرفة للاستخدام غير العلميّ. ونظرا إلى أنّ «المنهج التفسيريّ النسويّ يأتي مدفوعا بالحركة النسائيّة ويعترف علنا بولائه لها، فإنّ اللّاهوتيّين الأكاديميّين يَعُدّونه بدعة وقتيّة رائجة، ويروْن أنّه لا يشكّل قضيّة تاريخيّة- لاهوتيّة مهمّة في الدراسات التاريخيّة النقديّة»[18]. فالمقهورون الذين يحتاجون حقّا إلى تأويل ينتصر للعدل والإنصاف والتحرير هم الجوعى والمفقَّرون والذين يقعون تحت نَيْر الميز بسبب وجودهمّ الأقلّيّ. وأمّا أنْ يكون لاهوت التحرير لاهوتاً للمرأة فحسْب، فلن يكون في أحسن الأحوال إلّا استثماراً جزئيّاً للكتاب المقدّس وخدمة منحازة لقطاع من قطاعات المجتمع على حساب قطاعات أخرى.
وإذا وضعْنا في الاعتبار أنّ أطروحات لاهوت التحرّر، كما ظهرت أوّل مرّة في أمريكا الجنوبيّة، كانت تستهدف إنتاج معرفة ذات عمق اجتماعيّ واقتصاديّ باعتماد أدوات التحليل الماركسيّ، فهمْنا إلى حدّ ما بعضاً من المنطق الذي يحتمي به لاهوتيّو التحرّر الاجتماعيّ وهم يستبعدون المرأة منه من ناحية، وفهِمنا من ناحية أخرى سبب بعض الاعتراضات على استخدام منطلقات هذا اللّاهوت وأهدافه في الولايات المتّحدة الأمريكيّة الليبراليّة. وقد لا نستغرب حينئذ حين نجد مؤسّسي لاهوت التحرّر لا يُدرجون المرأة في أفق تفكيرهم. فالكاهن البيروفيّ جوزتافو غوتياريز Gustavo Gutiérrez الذي يُنسَبُ إليه ابتداع مصطلح «لاهوت التحرّر» في بداية خمسينيات القرن العشرين لا يَمنَحُ المرأة في أحد أشهر تآليفه النظريّة وهو كتاب «لاهوت التحرّر: التاريخ والسياسة والخلاص»[19] أيَّ مساحة للبروز بصفتها من المضطهدين والمسحوقين اجتماعيّاً واقتصاديّاً.
ولكنّ هذا المَطْعن تصدّتْ له النسويّة باعتماد الحجّة نفسها التي اعتمدها اللّاهوت الأكاديميّ، وهي أنّ «الاعتراض على اللّاهوت النسويّ وعلى الحركة النسويّة يُغفِل حقيقةَ أنّ النساء والأطفال الذين تعولهم النساء يشكّلون أكثر من نصف تعداد الفقراء والجوعى في العالم»[20]، بل إنّ «النساء والأطفال لا يشكّلون أغلبيّة المقهورين فحسب، ولكنّ النساء الفقيرات ونساء العالم الثالث يعانين من القهر الثلاثيّ المتمثّل في التمييز الجنسيّ والتمييز العرقيّ والتمييز الطبقيّ»[21]. وهذا يؤدّي إلى استنتاج يعصف بحجّة اللّاهوت الأكاديميّ مفاده أنّه «إذا كان اللّاهوتيّون التحريريّون يتّخذون خيار الانحياز للمقهورين نواة لمساعيهم، فعليهم أن يَعُوا حقيقةَ أنّ هؤلاء المقهورين هم النساء»[22].
وربّما كانت الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخ المقدّس ومنزلة المرأة فيه ستكون أكثر جرأة وحدّة ممّا سارت عليه في اتّجاهها العريض لو نجحت بعضُ الأصوات التي ارتفعت وأخمِدتْ سريعاً في أواخر القرن التاسعَ عشر مِنْ إقناع المضطهدات والتنظيمات الراعية لهنّ بوجاهة ما تَطرحه. لقد رأت أنّ الكتاب المقدّس تدخّلت في كتابة نصوصه الخاصّة بالمرأة إرادةُ الرجل، ومِن هنا وجب العمل على اجتثاث آثار التدخّل الذكوريّ في الكتاب المقدّس. ونستحضر في هذا المقام ماتيلدا جوسلين جاج Matilda Joslyn Gage وكتابها «المرأة والكنيسة والدولة»، وإليزابيث قادي ستانتون Elizabeth Cady Stanton في كتابها «امرأة الإنجيل». فأمّا ماتيلدا جاج، ففقدت موقعها في حركة حقوق النساء بسبب قولها إنّ الرجل هو الذي سلب المرأة حقوقها وليس الله، وأمّا إليزابيث ستانتون، فوقع شطبها من «الحركة النسائيّة للتصويت» Women's Suffrage Movement رغم دورها الرياديّ فيها بسبب قولها إنّه لا يُمْكن التعويل على المسيحيّة لتمكين المرأة من حقوقها. فاللّاهوت النسويّ في بعض مقاصده لاهوت لتحرير المقدّس من تاريخه. فلا تحرير للمرأة من الهيمنة الذكوريّة إلّا بتحرير الكتاب المقدّس أوّلاً[23].
والحقيقة أنّ الجدل الذي احتدمَ بين الاتّجاه النسويّ العامل في الحقل الدينيّ المسيحيّ من جهة، ومؤسّسي لاهوت التحرّر بالمبادئ التأويليّة التي نشأ عليها في أمريكا الجنوبيّة خاصّة من جهة ثانية، ليس مِن صُلب اهتماماتنا إلّا من جهة ما يُسلّطه مِن أضواء على النسويّة، وهي تفتكّ لصالحها مساحات واسعة مرّة بعد أخرى بفضل كونها مبحثاً بيْنيّاً قادراً باستمرار على إحداث مناطق تقاطعٍ مع كلّ معرفة يُتَوقَّع أن يَكون فيها ما يُثري شواغلها ويوسِّعُ آفاقها. فالغرض من طَرْقِنا هذه المسألةَ إذن هو أن نؤكّد أنّ التأويل النسويّ للكتاب المقدّس، وهو يلحّ على أنْ يكون تحت مظلّة لاهوت التحرّر إنّما يسعى إلى إدراج نفسه ضمن المعرفة، بشقيّْها النظريّ والعمليّ، التي تحرّض على الثورة ضدّ معرفة سائدة كرّست الهيمنة والاستغلال والاستبعاد. فاللّاهوت النسويّ، من هذه الزاوية، لاهوت تحرّر للمرأة وتحرير للمعرفة.
والنسويّة الإسلاميّة رافد من روافد النسويّة في العالَم. ورغم أنّها تأخّرت في الظهور اصطلاحا ومضموناً لأسباب قد نمرّ على بعضها لاحقاً، فإنّ مشروعيّة وجودها إنْ لم تكنْ أوكدَ من مشروعيّة غيرها من النسويّات، فهي، دون ريب، ليست أدنى منها لسبب مباشر على الأقلّ، وهو أنّ الإسلام نصّاً وتأويلاً وتاريخاً من الديانات الكبرى التي مازالت إلى الآن تتحكّم في حياة المؤمنين وتَطْبعها بما رسَخ في الضمائر أنّه الحقيقة الدينيّة المنزّلَة من الله.
وإنْ كنّا في غير حاجة إلى تفصيل القول فيها نشأة وتطوّراً وقضايا نظرا إلى أنّ هذا الأمر لا يدخل في مَطالِب البيْنيّة في الحقل النسويّ، فلعلّه من المفيد أنْ نُقَدِّمَ بعض الإلماعات التي تساعد على تَمَثُّل مشروعيّة وجود النسويّة في السياقيْن الأكاديميّ والإيديولوجيّ الإسلاميّيْن.
وممّا يبدو مفيدا الإشارةُ إليه في هذا السياق، أنّ بعض الفاعلين/ الفاعلات في الفضاء الأكاديميّ الإسلاميّ نشروا جُملةً من البُحوث التي تَركّزَ اهتمامُها على الحفر في تاريخ النساء قبل الإسلام، ولحظةَ الوحي به، وحين انساب في التاريخ، مُستفيدين ممّا تُقدّمُه لهم أدواتُ البحث التاريخيّ والثقافيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. والحاصلُ من الانخراط في هذا المسار أنّه يتعذّر فَهْمُ مَوقِع المرأة في القرآن تبخيساً أو تنويهاً إنْ نُظرَ إليه باعتباره نصّاً مغلقاً مكتفياً بنفسه ومنفصلاً عن السياقات العامّة التي ظَهَرَ فيها منْ ناحية، كما يَمْتَنعُ الوصول إلى مقاصده السامية إنْ وقع الاكتفاء بتفسيره، باعتباره نسيجاً لسانيّاً لا يحتاج إلّا لمهارة الشُرّاح وما تحت أيديهم من أدوات التفسير البيانيّ من جهة ثانية.
وينبغي ههنا تأكيد أمر ونحن نشتغل داخل فصل إجرائيّ خاصّ بالنسويّة الإسلاميّة، وهي تخوض تجربتها مع القرآن في ضوء الهرمينوطيقا، وهو أنّ توظيف الهرمينوطيقا في استدرار المعنى أو توليده وجعْله متناغماً مع تطوّر الفكر الإنسانيّ ومؤدّياً أداء إيجابيّاً مسألة الالتزام بتحمّل أعباء الرسالة والاستخلاف بدأتْ بعضُ آثاره المباشِرة تظهر، إمّا في شكل دروس جامعيّة في بعض الأكاديميّات العربيّة والإسلاميّة أو في شكل أنشطة بحثيّة تسهر على تأمينها مراكزُ بحثيّة، وتتجسّد في ندوات ومنشورات. ولكنّ تَحوُّلَ الهرمينوطيقا إلى همّ أكاديميّ جماعيّ والمراهنة عليها ثقافيّاً لاقتحام عوالِم النصوص المغلقة بقداسات فعليّة أو مصطَنَعةٍ مازال خارج الالتزام المؤَسّسي وبعيداً عن مدار التفكير الإصلاحيّ الجماعيّ. نقصد أنّه لم يتكوّنْ إلى هذا اليوم تيّار تجديديّ مؤثّر تحت مظلّة الهرمينوطيقا. وهو ما يسمح لنا بالقول إنّ التفكير في الدين هرمينوطيقيّاً مازال في طور التجريب؛ لأنّ الطلبَ عليه محدود إمّا للاحترازات الشديدة إزاءَها، كما بيّنّا سابقاً، أو لأنّها مازالت أفقاً غيْرَ مُكْتَشَف اكتشافاً تُضْحي به وسيلة علم بالنص الدينيّ تُنافِسُ الوسائلَ المستخدَمة تقليديّاً.
ومَنْ يتأمّلْ في المساحات التي شرعتْ الهرمينوطيقا تُغطّيها ينتبهْ إلى أنّها ما تزال تقريباً في المرحلة «التبشيريّة» عموماً، وأنّها تتراءى جزئيّةً انتقائيّة إنْ رامَ أصحابُها التطبيق على التراث ونصوصه الحيويّة. وقد نبيحُ لأنفسنا اعتبارَها «هرمينوطيقا كفاحيّة» نظرا إلى أنّها لم تتجاوز مُحاولَةَ أنْ يَكونَ لها مكانٌ وحظّ في النشاط الأكاديميّ والثقافيّ العربيّ.
ومع ذلك، من المهمّ أنْ نشيرَ إلى أنّها أثارت من حولها ضجيجاً في دوائر ضيّقة من المختصّين المتحمّسين لها والمناوئين على حدّ سواء. فقد اشرأبّت نحوها أعناقٌ من هؤلاء ومن أولئك حين وجَدتْ مَنْ يُمارسُ بها قراءة النصّ/التراث على النحو الذي ينفصل به محصول القراءة انفصالاً حادّاً عن المعهود المتداوَل في القراءة السائدة. نَعني أساسا بعضَ الأعمال التي اجتهد أصحابها لإظهارها في شكل مشاريع متكاملة وليس فقط محاولات انتقائيّة وجزئيّة. ولنا في ما قدّمتْه آمنة ودود مثالاً لافتاً؛ فقد عمدتْ إلى استخراج الآيات القرآنيّة الخاصّة بالنساء ومارست عليها نشاطاً تأويليّاً تجهّزتْ له بما توفّره الهرمينوطيقا من أدوات بحث في بيئة أكاديميّة مشجِّعة على اقتحام المُهمَل والمسكوت عنه أو الواقع تحت حراسةِ ثقافةٍ متشدّدة في المحافظة ومتوثّبة ضدّ مَنْ يرغب في منازعتها ما تحتَ يدها ممّا تعتبره حقائق نهائيّة.
إنّ ذهابَنا إلى أنّ مثْلَ هذه المحاولات ظهرت في بيئات أكاديميّة مشجّعِة ليس إلّا استنتاجاً أقمْناه على ملاحظة تتعلّق بنوع الجغرافيا الأكاديّميّة التي احتضنتْ الباحثات المنشغلات بهذا الموضوع. والحقيقة أنّ هذه الملاحظة ساقها يوهانّا بينك Johanna Pink بمناسبة نظره في بعض الميزات التي يختصّ بها هذا النوع من الدراسات، فقد قال: «يعيش كثير من المفسّرين الذين سنشير إليهم اختصاراً باسم النسويّين خارج بلادهم، وبعضهم ممّن اعتنق الإسلام»[24]. وهذه الملاحظة، فيما يبدو، على جانب كبير من الموضوعيّة كما سنحاول البيانَ.
فما يُستفاد من القول إنّ الكتابة النسويّة الإسلاميّة نشأت إمّا خارج مَوْطِن الكاتبة الأصليّ أو لدى من لم تكن على دين الإسلام ثمّ أسلمت فكتبتْ في هذا الحقل، هو أنّ ثقافة البيئة الأمّ لا تُبيح التفكير إلّا في ما يُسْمَح بالتفكير فيه، ولذلك تَكُون الكتابة خارج هذه البيئة إعلانَ تمرّدٍ وتحرّر ابتداءً، وهي إنشاءٌ جديد لعلاقة الإنسان بتاريخه ودينه انتهاءً.
والحقيقة أنّ هذه الملاحظة شدّتْ بعض الدارسين الذين انكبّوا على البحث في ما أضحى يُعْرَف بالنسويّة الإسلاميّة؛ فمِنْ ذلك على سبيل المثال أنّنا وجدنا فهمي جدعان يسلك في تفسيره ظهورَ التيّارات النسويّة خارج بلدانها الأصليّة المذهَب نفسه الذي كنّا بصدد النظر فيه؛ فقد قال معلّلاً ظهورها في غير مَوطن أصحابها الأصليّ: «لعلّه يرجع إلى السمة الرقابيّة الشديدة في الفضاءات العربيّة أنّ تيّاراً نسويّاً راديكاليّاً لم يتبلور حتّى الآن في هذه الفضاءات، لكنّ توافر الحريّة في الفضاءات الغربيّة أتاح لثلّة من النساء أن تعبّر بحريّة أعظم، بل بأقصى مدى من الحريّة، عن آراء ومذاهب لم يكن في مَكَنَتها التعبير عنها بالوسائل العامّة المتداولة في المواطن العربيّة أو الإسلاميّة الأصليّة»[25].
والأمر نفسه ينطبق تقريباً على مَن كتبتْ في القرآن بمنظور نسويّ بعد أن اعتنقت الإسلام. فالراجح أنّها خرجتْ من تجربة إيمانيّة لم تلبِّ ما كانت تنتظره منها، ودخلت تجربةً إيمانيّة جديدة رأتْ أنّها قادرة على تأمين العيش فيها وفق انتظاراتها منها. فكأنّ شرط إنشاء هذه العلاقة بين المسلم وتاريخه ودينه منعقد على إحدى هجرتيْن: هجرة من مكان إلى مكان، أو هجرة من دين إلى دين. ونستحضر في هذا المقام آمنة ودود أنموذجاً للباحثة المهاجرة هجرة دينيّة، وأسماء برلاس (Asma Barlas) أنموذجاً لمن هاجرت هجرة مكانيّة. فأمّا آمنة ودود (1952-) فألّفتْ أشهر كتبها «القرآن والمرأة: قراءة النصّ المقدّس من منظور المرأة»[26] بعد اعتناقها الإسلام. لقد كانت تنتمي لعائلة بروتستانتيّة في ولاية ميريلاند الأمريكيّة قبل أن تعتنق الإسلام في العشرين من عمرها وتستبدل اسمها من ماري تيزلي Mary Teasley إلى آمنة ودود. وأمّا أسماء برلاس، فقد ولدت في باكستان (1950-) ونالت حظّاً واسعاً من التعليم هناك قبل أن تهاجر إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، باعتبارها لاجئة سياسيّة بداية من 1983. وهناك انخرطت في أنشطة ثقافيّة وأكاديميّة متنوّعة، وانصرفت في قسم اهتماماتها إلى القضايا الإنسانيّة والدينيّة، ونشرت في 2002 كتابها المثير «النساء المؤمنات في الإسلام: تفسيرات غير ذكوريّة للقرآن»[27].
ونودّ في هذا السياق، أنْ نُبْديَ ملاحظةً منهجيّة تتعلّق بالنسويّة الإسلاميّة خارج الفضاء الحضاريّ الإسلاميّ مفادها أنّنا لا نعثر على اتّجاه واحد من الكتابة النسويّة، وإنّما على مقاربات يبتعد بعضها عن بعض ابتعاداً جذريّاً أحيانا، وهو ما أَلْجَأ بعض الباحثين إلى جَعْلِها صنفيْن كبيريْن: أحدهما تغلب عليه المغالاة إلى الحدّ الذي يَلوح فيه لا فقط مُدينا التراثَ التفسيريّ الذكوريّ بل أيضاً مُحمّلاً القرآنَ نفسَه ما تعيشه المرأة المسلمة من استبعاد وإذلال وامتهان، وأنّه لا سبيل لتمكينها من حقوقها إلّا بالقطع مع شبكة القيم التي تضمّنها القرآن وتوسّعَ في تبريرها وتثبيتها الفقهُ الذكوريّ، والنهلِ مباشرة من معين الحضارة الغربيّة وممّا وفّرتْه الحداثة للمرأة مِن مَكاسِبَ. والثاني يُحمّلُ مَن تولّى التفسيرَ وإنتاج المعرفة في الإسلام مسؤوليّة السطو على القرآن وتوجيه معانيه ومقاصده نحو الأهداف التي ترغب الجهة القائمة على التفسير في الوصول إليها.
إنّ ما يسعى إليه هذا الاتّجاه إذن، هو سَحْبُ التفسير مِنْ بين يدي هؤلاء، وإزاحةُ كلّ ما تراكَم من أفكار وقيم وأفهام، والعودةُ إلى القرآن مرّة أخرى لإنتاج القراءة البديلة. وكان فهمي جدعان قد وَسَم الاتّجاه الأوّل بــــ«النسويّة الإسلاميّة الرافضة» ووسم الاتّجاه الثاني بــــ«النسويّة الإسلاميّة التأويليّة». ومِنْ شأن هذا الوسْم المنهجيّ أنْ يساعدَ على تمييز الخطاب النسويّ الذي يَقترحُ أصحابُه مُعالجةً جديدة لمشكلات الإسلام القيميّة مع البقاء تحت سقف المقدّس النصّي مِنَ الخطاب النسويّ الرافض الذي يرى أصحابُه أنّ الخروج من تحت هذا السقف والالتحاقَ بالمُنجَز النسويّ الكونيّ والحداثيّ بعيداً عن أيّ ولاء مرجعيّ حضاريّ هو السبيل الوحيدة لإدماج المرأة في مجرى الحياة العصريّة وجوداً وسلوكاً. ورغم أنّ في الأحكام المعياريّة التي ضمّنها جدعان نوعاً من الإدانة لخطاب النسويّات الرافضات، باعتباره خطاباً قائماً على ما أسماه النقد الهدميّ، فإنّه قدّم مبّررات علميّة وثقافيّة لتناول خطابهنّ بالدرس[28]. وأمّا التثمين الأخلاقيّ الذي علّق به تعليقاً سريعا على خطاب النسويّات التأويليّات، فلم يشفع لهنّ بأنْ يكنّ هنّ الأوْلى بدراسة آرائهنّ في تجديد الخطاب الدينيّ، فخرجن من كتابه، وظلّت فيه الرافضات وحدَهنّ موضوعا للدرس. قال في شأنهنّ: «النسويّة التأويليّة هي وحدها التي ترقى إلى مرتبة منظور نسويّ إسلاميّ وإنسانيّ جدير بالزمن الراهن وبالزمن المنظور، مثلما أنّ منهج إعادة القراءة والتفسير أو التأويل هو المنهج الهادي السديد في مقاربة قضايا ومشكلات الإسلام نفسه اليوم وغدا»[29].
واضح مِن رأْي جدعان في النسويّة الإسلاميّة التأويليّة أنّها نسويّة تنْشُط داخل المجال الإيمانيّ وليس خارجه، فهي إذن تَقترح نفسها لبلورة قراءة إسلاميّة تُلبّي مطالِبَ المرأة المسلمة اليوم. وهذا ما يجعلنا نرى أنّ ما تَطْرَحُه على نفسها من رهانات جديرٌ بأنْ يُنظَرَ فيه. وما نستحضره، فيُحفّزنا على متابعة هذا الاتّجاه، أنّ هناك حالةَ انسداد حقيقيّ في الاجتهاد التقليديّ المتعلّق بقضايا المرأة في الإسلام. وحين تَعْمَدُ النسويّة التأويليّة إلى فتْح كُوّة في جدار هذا الانسداد، فإنّها تَمْنَحُ العقل الإسلاميّ المعاصر إمكانيّةَ أنْ يتطوّرَ ويتجدّد من الداخل، وأنْ يجعلَ المرأة شريكاً عضويّاً في عمليّة البناء الحضاريّ.
ولكنْ، على أيّ نحو يَكونُ الكلام على قدرة المشروع النسويّ على فتح كوّة في جدار الانحباس الاجتهاديّ كلاما ذا معنى؟ وما الذي في خطاب النسويّة التأويليّة مِن تميّز حتّى يُنظَرَ إلى هذه النسويّة، باعتبارها الوحيدة «التي ترقى إلى مرتبة منظور نسويّ إسلاميّ وإنسانيّ جدير بالزمن الراهن وبالزمن المنظور» كما سبقت الإشارة؟ وأيّ نوع من الاستعدادات والكفايات تتحوّز بها هذه النسويّة حتّى أمكنَ القول إنّها جديرة بالزمن الراهن والزمن المنظور؟
مِثْلُ هذه الأسئلة ضروريٌّ طرْحُها؛ لأنّ ما تراهن عليه النسويّةُ التأويليّة ليس إحداثَ اختراق ما في بنية الاجتهاد التقليديّ من أجل استئناف الفعْل الحضاريّ الإسلاميّ المُعَطَّل، وإنّما من أجل إعادة تأسيس الفكر الإسلاميّ الذي قامتْ في ضوئه حضارة الإسلام؛ فمعنى استئناف الحركة مِنْ بعد تعطيلٍ أنَّ تَدخّلاً ما قد تمّ لرفع مَوانع الحركة، فإذا رُفِعَتْ عادت إلى سالف نشاطها. وأمّا إعادة التأسيس، فيتضمّن حُكْماً يقضي بعدم الاعتراف بالمسار السابق والإعلان عن تدشين مسار جديد ينطلق من الدرجة الصفر، حيث القرآن نصّاً بِكْراً قبْلَ أنْ يتحوّل بالتفسير المتواتر إلى ثقافة رأت فيها النسويّةُ تحييداً للمرأة واستنزافاً لها واستضعافاً.
[1]- حول هذه المسألة، اُنظر على سبيل المثال: Geneviève Fraisse, Muse de la raison, la démocratie exclusive et la différence des sexes, (Paris: Alinإa, 1989), p. 198
[2]- كانت البداية بالعدد 26 وكانت نهاية السلسلة في العدد 69 من سنة 1900. راجع حول هذه المعطيات وغيرها: Christine Fauré, «La naissance d'un anachronisme: le féminisme pendant la révolution française», Annales historiques de la révolution française, n« 344, (2006), p. 193- 198
[3] - عايشة التايب، «التطوّر العلميّ لحقول دراسات المرأة في العالم العربيّ»، اللّجنة الوطنيّة الأردنيّة لشؤون المرأة: https: //women.bluerayjo.com/ar/node/7256، ص: 6
[4] - نفسه، الصفحة نفسها.
[5]-Katherine Youg, ``Religious Studies'', in: Encyclopedia of Women and Islamic Cultures, Tome 1, (Leiden- Boston: Brill, 2003), p. 424
[6] - Ibid.
[7] - عائشة التايب، «التطوّر العلميّ لحقول دراسات المرأة»، مرجع سابق، ص: 12
[8] - ظهرت في هذا الصدد دراسات ترصد عمليّات الانتقال من الدراسات النسويّة إلى النسويّة في التدريس الجامعيّ في عدد من البلدان. يُراجع حول هذه المسألة الكتاب الجماعيّ الذي أشرفت عليه اليونسكو والمركز الأوروبيّ للتعليم العالي (CEPES): Laura Grünberg (Editor), From gender studies to gender in studies: case studies on gender-inclusive curriculum in higher education, (Bucharest: UNESCO- CEPES, 2011).
[9] - هند مصطفى علي، «دراسات المرأة في الجامعات العربيّة: الواقع والمأمول»، منتدى النسويّة الإسلاميّة: http: //islamicfeminismforum.com/Illuminations/Details?Id=1004. (نظرنا فيه بتاريخ 10 حزيران/يونيو2022).
[10] -Katherine Youg, ``Religious Studies'', Op.Cit, p. 425
[11] - أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفيّة، تعريب خليل أحمد خليل، المجلّد الأوّل، (بيروت- باريس: منشورات عويدات، 2001)، ص: 357
[12] -Stanford Encyclopedia of Philosophy, ``Feminist Epistemology and Philosophy of Science'', https: //stanford.io/3px3r2t. (accessed on 21/6/2022)
[13] - رشيد بن بيه، «الإبستيمولوجيا النسويّة وتأثيرها في إنتاج المعرفة السوسيولوجيّة وفهمها في المنطقة العربيّة»، عمران، عــــ37ــــدد، (2021)، ص: 106
[14] - Immanuel Wallerstein, The End of the World as We Know it: Social Science for the Twenty-first Century. (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1999), p. 238 H
[15] -Rosmary Radford Ruether, "The Emergence of Christian Feminist Theology" in: The Cambridge Companion to Feminist Theology, ed. Susan Frank Passons (UK: Cambridge University Press, 2002), p. 3
[16] - Ibid.
[17] - إليزابث شوسلر فيورنتسا Elisabeth Schüssler Fiorenza، «نحو هرمنوطيقا نسويّة لتفسير الكتاب المقدّس: تفسير الكتاب المقدّس ولاهوت التحرير»، ضمن النسويّة والدراسات الدينيّة، تحرير أميمة أبوبكرــــ ترجمة رندة أبو بكر، سلسلة ترجمات نسويّة (2)، (القاهرة: مؤسّسة المرأة والذاكرة، 2012)، ص: 59
[18] - نفسه، الصفحة نفسها.
[19] - Gustavo Gutiérrez, Theology of Liberation: History, Politics and salvation, Translated by Sister Cardinal and John Eagleson. نُشِر هذا الكتاب الذي يضع الأسس النظريّة للاهوت التحرّر في ليما سنة 1971، ونُشر مترجَما إلى الإنجليزيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة سنة 1973، وفي إنجلترا سنة 1974
[20] - إليزابث فيورنتسا، «نحو هرمنوطيقا نسويّة»، مرجع سابق، ص: 57
[21] - نفسه، ص ص: 57- 58
[22] - نفسه، ص: 58
[23]- يُستحسن العودة في هذا الصدد إلى: Carol P. Christ, ``Feminist theology as post-traditional theology'', in: The Cambridge Companion to Feminist Theology. Op.Cit, p. 79- 96
[24] - يوهانّا بينك، «نحو تفسير جديد للقرآن»، ضمن تأليف جماعيّ: المرجع في تاريخ علم الكلام، تحرير زابين شميتكه Sabine Schmidtke، ترجمة أسامة شفيع السيّد، (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2018)، ص: 1298
[25] - فهمي جدعان، خارج السرب: بحث في النسويّة الإسلاميّة الرافضة وإغراءات الحريّة، (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2012)، ص ص: 14- 15
[26] - Amina Wadud, Qur'an and Woman; Rereading the Sacred Text from a Woman's Perspective, (Oxford: Oxford University Press, 1992).
[27] - Asma Barlas, Believing Women in Islam: Unreading Patriarchal Interpretations of the Qur'an, (Texas: University of Texas Press, 2002).
[28] - من الأسئلة التي وَجّهتْ جدعان نحو الاشتغال بالنسويّة الرافضة ما دوّنه في مقدّمة الطبعة الأولى (2010): «ما علّة هذا الغضب غير المقدّس الهَجوم الذي يستبدّ بهنّ ويدفعهنّ إلى الجنوح للعنف اللّفظيّ والعنف الوجدانيّ في مقاربة المقدّس الدينيّ والجنس الآخر؟»، وتفرّع هذا السؤال إلى شبكة من التساؤلات التي تَفرض معالجات نفسيّة وثقافيّة وتاريخيّة وتربويّة...، خارج السرب، مرجع سابق، ص: 17
[29] - نفسه، ص: 19