النسويّة والإمبرياليّة
فئة : مقالات
تحتل المرأة في المجتمعات التقليدية الموقع الأدنى، كونها تعيش وضعاً مركباً من الاستبعاد والتهميش والدونية يختلف في نوعه ودرجته عن وضع المرأة الغربية. ولا يستقيم أمر الفكر النسوي بانتقاء مشكلة بعينها وتعميمها، باعتبارها المشكلة الوحيدة لدى جنس النساء، بدون معالجة وضع المرأة ضمن الحراك العام للمجتمعات البشرية، فذلك الحراك هو الذي يحدّد درجة أهمية المشكلة في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذه الثقافة أو تلك. والتعميم الزائد لمقولات الفكر النسوي، يدفع بها إلى التسطيح، والتبسيط، ويجعلها مقولات وصفية تفتقر إلى المعنى الحقيقي الذي تخلعه عليها حركة المجتمع؛ فكل تجريد لها يفضي بها إلى قطع الصلة مع الموضوع الذي يفترض أن تكون منبثقة عنه، ومرتبطة به؛ فالتعميم القسري للمفاهيم الشائعة في الخطاب النسوي الغربي سيفضي إلى لاهوت نسوي منقطع عن الحركية النسوية الهادفة إلى تحرير المرأة اجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا. ولعل كل هذا هو الذي دفع بالفكر النسوي خارج الفضاء الغربي لإثارة أسئلة كثيرة حول قضية المرأة، واقتراح معالجات لها صلة بالثقافات الوطنية والقومية، ومرتبطة بالخلفيات الطبقية والدينية للنساء خارج المجال الغربي.
انتقدت المفكرة والناقدة الهندية "غاياترى سبيفاك" محاولات النسوية الغربية التحدّث بالنيابة عن النساء خارج الفضاء الغربي، وتأسّفت كثيرا أن يتم إعادة إنتاج المقولات الإمبريالية من خلال النقد النسوي، فقد تخطّت الإمبريالية، والكتابة النسوية الغربية، على حد سواء، حدود المسؤولية، حينما انتدبتا نفسيهما للحديث بالنيابة ليس فقط عن المجتمعات التقليدية، والنساء فيها، إنما فرض مفاهيم تحليلية، وإثارة قضايا جدالية متصلة بالفكر الغربي، وتطبيقها بنوع من التعسّف على مشكلات المجتمعات التقليدية، ومنها قضية المرأة. وأدرجت ذلك ضمن "دراسات التابع" مؤكدة بأن وعي التابع يمتثل لتأثيرات النخبة الاستعمارية، وتلك التأثيرات النفسية تصوغه بسبب قوتها، وهيمنتها، فيتعذر استعادته بصورته الحقيقية، بل لا حقيقة له، لأنه وعي مستعاد عبر تمثيل قوة النخبة، وثقافة الاستعمار، ولهذا فهو منزلق دائما عما ينبغي أن يدل عليه، إلى ذلك فهذا الوعي يتجلّى مطموساً وممحواً في لحظة تجلّيه. وباختصار فهو وعي مشوّه، وزائف، ومنبثق ضمن استراتيجيات خطاب أقوى يستحيل اختزاله.
ثم طرحت "سبيفاك" إمكانية فك شفرات كلام "التابع" من خلال فكرة التمثيل الاستعماري له، لكنها ذهبت إلى البعد الخاص من الموضوع عبر كشف طقوس حرق النساء لأنفسهن أثر موت رجالهن، وهو طقس معروف في الهند باسم (Sati) فثمة تضافر بين المهيمنات الكبرى للنصوص الدينية الهندوسية المشجعة على حرق المرأة، وبين فكرة تبعية المرأة للرجل بفعل هيمنة الثقافة الذكورية، ثم الهيمنة الأبوية، والهيمنة الاستعمارية، ومادام صوت التابع- وهو هنا المرأة التي وجدت أن فكرة الحرق تعبير عن الوفاء- مخنوقا وسط دوائر متداخلة من الحجب والمنع، فهو إذن صوت صامت، ومحكوم بالفشل، والإخفاق، لأن قوة المتبوعين، سواء أكانت تقاليد دينية، أم ثقافة أبوية، أم ثقافة استعمارية، تحول دون انبثاق صوت التابع، ولكنها تقترح حلّا لا يقف أمام هذه النهاية، ويتمثل باستعادة وعي التابع عبر الصوت المنبثق من صلب الجماعة، لكي ينوب عنه في التعبير، وذلك بحد ذاته يعيدنا إلى فكرة التمثيل نفسها، بما فيها التي طرحها ماركس بخصوص عجز الشرقيين عن تمثيل أنفسهم، وينبغي أن يُمثلوا.
نسجت الحكم العطائية بلاغتها من خلال المزاوجة بين المتعة الفنية الجمالية والفائدة المعرفية والتربوية، عن طريق تحديد المقصدية المرجوة من الخطاب الصوفي
جرى تواطؤ، بسبب السياسات الاستعمارية على أن التابع غير قادر على تمثيل نفسه، ولابد أن تمثله السلطة الاستعمارية، ثم النخبة المحاكاتية التي زرعتها الحقبة الاستعمارية، ولهذا تتناقص الإمكانية أمام التابع، ليقول شيئا حقيقيا إلى أن تتلاشى. وكل هذا يدفع إلى الوراء بمشكلة المرأة في المجتمعات التقليدية التي عرفت التجربة الاستعمارية، ويدفع إلى الأمام بمشكلة المرأة الغربية؛ لأن الثقافة الاستعمارية تأتي حاملة معها فرضياتها، ومفاهيمها، بل ومشكلاتها، ونماذجها التحليلية، وتريد فهم بنية المجتمعات التقليدية في ضوء تصورات مستعارة من سياق الثقافة الغربية. وفي نهاية المطاف، لا تصح معالجة مشكلة اجتماعية أو ثقافية بوسائل غير منبثقة من السياق الحاضن لها، وفيما يخص تعميم الفكر النسوي في المجتمعات التقليدية ترى كثير من النساء أنهن أصبحن موضوعاً لسجالات ثانوية في أهميتها، بالنسبة إليهن، فيما يواجهن صعابا جمة جرى إهمالها، وتخطّيها، بل والتنكّر لها، لأنها ليس من صلب التفكير النسوي الغربي الذي توهم بأن مشكلة المرأة الغربية تختزل سائر مشاكل النساء في العالم بأجمعه.
سقط الفكر النسوي الغربي في قضية التعميم؛ فمن اليسير أن تنزلق التحيّزات العنصرية إلى تعميمات بخصوص أوضاع النساء الغربيات اعتماداً على مقولة مصطنعة ومثيرة للنزاع العميق من مثل "نساء العالم الثالث"؛ فحياة النساء سوف تستمر في شغل أماكن هامشية مفهومياً. ومن الوارد في العالم الثالث أن يتهم المذهب النسوي، حتى من قبل نساء يصفن أنفسهن بأنهن نسويات، بأنه ظاهرة من العالم الأول يجري إسقاطها على نحو غير ملائم على العالم الثالث، فأحد المصادر الأساسية للتوتر يكمن في إدراك أن النسوية الليبرالية في العالم الأول فردانية على نحو مزعج، لأنها تحاول وضع حاجات النساء الأفراد فوق، وبالتعارض مع، حاجات مجتمعاتهن.
إن اجتزاء قضية المرأة من خضم قضايا متشابكة، واعتبارها المشكلة الأساسية، يجردها من أهميتها، ولا يفلح في وضع حلّ مناسب لها، لأن الحلّ الشامل يقتضي معالجة لكافة المشاكل المحايثة لها، والمرتبطة بها، فمشكلات النساء تتباين تبعا لمواقعهن الطبقية، والأسرية، والتعليمية، ثم تبعا للانتماءات العرقية، والمذهبية، والقبلية، فتحيزات العرق، والمذهب، والقبيلة، فضلا عن قضايا الأقليات بسائر أشكالها، تتحكم في مصائر النساء، واختياراتهن، ومواقعهن، بدرجة لا تقل أهمية عن قضية الجنوسة، بل تفوقها أهمية في كثير من الأحيان في المجتمعات التقليدية، حيث يُنبذ المرء فقط، لأنه ينتمي إلى هذا المذهب، أو العرق، أو ذاك، ناهيك عن الأقليات التي يختزل وجودها إلى جماعات منبوذة، ودخيلة، وغير مؤتمنة.