النص الإلهي والملحقات البشرية
فئة : مقالات
ثمة عقبة كبيرة تفرضها آليات التنميط والتقعيد الديني على المُريدين لأتباع دينٍ بعينه، لناحية إخراج الدين من أفقه الاستبصاري إلى ما يُمكن تسميته بـِ (مَوْضَعة) الدين داخل الجماجم؛ جماجم بعينها دون سواها، واعتبار تلك الجماجم مثار تقديس واهتمام زائدين عن الحاجة. بالتقادم حال الدين إلى طبقتين؛ طبقة موجودة في النص الديني ذاته (النازل من أعلى)، بصفته مُعبّراً عن الإرادة العليا للإله ورؤيته الوجودية للعالَم المُتعيَّن (وما يحتمله من انوجادات للإله والإنسان والطبيعة) وللعالَم الموعود (إضافة إلى الانوجادات السابقة). وطبقة أخرى موجودة في تعاليم تلك الجماجم (الصاعدة من أسفل) التي استنسخت تعاليم الله وموضعتها في نصوص أتت كملحقاتٍ للنصّ الأصلي.
طبقتا النص:
ـ الطبقة الأولى: النص الإلهي (النزول من أعلى)
في هذه الطبقة يبدو الله (في النصوص المُقدّسة) كاشفاً عن إحداثية الوجود الإنساني، بما يشمل ذلك وجود الله ذاته وموقعه في هذا العالَم، ووجود الإنسان أيضاً، ووجود الكون أو الطبيعة، والعلاقة التشابكية (الاتصالية والانفصالية) بين هذه الأقانيم الوجودية. فالصيغة الإبيمستولوجية للمعرفة الإلهية تتخذ طابعاً أنطولوجياً؛ فالله إذ يُقارِب ـ وإِنْ كانت اللغة المموضعة للخطاب الإلهي لغة بشر- فإِنَّهُ يُقارِب أنطولوجياً ولكن بأدواتٍ إبستمولوجية. ولكن انتقالاً بالنص الديني من سياقاته العلوية إلى سياقات الأرض السفلية، جعل هذا النص على تماسّ حقيقي ومباشر مع الجمجمة البشرية ومساراتها الأرضية، لذا لَزِمَ عند حدٍّ مُعيّن (لا سيما بعد انقضاء الروع اللاهوتي والمدّ العلوي) إحداث تغيير طفيف على مسارات هذا النص، وذلك بجعله ملائماً للشرط الموضوعي للوجود الإنساني على هذه الأرض، لذا عُمِدَ بالتقادم إلى تأسيس ـ بوعي أو بدون وعي- شبكة من المعنيين بشأن نقل النص الإلهي من مرحلة الكمون اللاهوتي الصرف إلى مرحلة التجلّي الناسوتي، لذا بدأت حملة لتفكيك هذا النص وفقاً لمقتضيات الوجود الإنساني، وفي نهاية المطاف تمَّ اعتبار (طوعاً وكرهاً) مجموعة المعنيين بالشأن الديني أوصياء على النص الديني، وهذا ما سأفصّله في الطبقة الثانية من طبقات النص الإلهي.
ـ الطبقة الثانية: المُلحقات البشرية (الصعود من أسفل)
في هذه الطبقة يتم متح النص الإلهي، والاستنارة بما ورد به من تعاليم وجودية، لناحية إقامة الحياة وعمارة الأرض وإسناد الفعل الحضاري، إذ حال النص الإلهي (المُموضَع في الكتب المُقدسة) إلى المصبّ العظيم الذي تتدفق إليه كل المياه الدافقة من قمم الجبال؛ فالحجة الكبرى هي النص الإلهي، إذ يُستعان به على الوجود. وكما أشرتُ من قبل إلى أن الله إذ يُقارِب، فإنه يقارب أنطولوجياً ولكن بأدواتٍ إبستمولوجية، فإنَّ المُلحقات البشرية لذاك النص تُقارب هي الأخرى، ولكن ليس من ناحية أنطولوجية، بل إنها تعمل (مستعينة باللغة/ أداة مشتركة مع النص الإلهي) على مقاربة إحداثية الوجود (الله/ العالَم/ الذات) مقاربة مُتعدّدة المستويات؛ فكرية، ودينية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية... إلخ. (1)(1) وهنا لا بد أن أشير إلى جملة من الاستحقاقات، فيما يتعلق بهذه الطبقة:
أولها : تحويل الطبقة الثانية (الصعود من أسفل) إلى طبقة أولى والطبقة الأولى (النزول من أعلى) إلى طبقة ثانية؛ أي تحويل النص الإلهي إلى اهتمامٍ ثانٍ، حتى وإنْ كانت الانطلاقة التنويرية منه. فالمُمَوْضِع للنص الإلهي (= المُفسِّر/ المُؤوِّل/ الشارح/...إلخ) يعمل على تقديم رؤيته على النص الإلهي؛ فهي الشارحة له والمُبينّة لأحكامه، لذا تصير هي الأساس والنص هو التابع؛ فالدفاع لا يتم عن النص الإلهي بقدر ما هو عن وجهة نظر الذات المُمعنة في هذا النص، إذ يسود اعتقاد مفاده (قداسة) النص الإلهي وإخراجه من دائرة العيان الإنسي، إلا أن الحاصل هو عكس ذلك، إلا لناحية - بوعي أو بدون وعي- إحالة النص الإلهي إلى الأرشيف المُقدَّس.
ثانيها: منح الشرح أو المتن الإضافي (على النص الإلهي الأصلي) صبغة القداسة التي تُمْنَح أساساً للنص الإلهي، مع انتقال الفاعلية على أرض الواقع للشرح أو للتأويل، وليس للنص. وهنا أشير إلى تعدّد القداسات والطبيعة الضدّية التي تجمع بينهما على التخوم؛ تخوم النص الإلهي. فالمقاربات إذ تستدعي النص الإلهي، فإنها تستدعيه ليس لأصالةِ قداسته؛ إنما لإثبات قداسة الشروحات والمتونات التي حالت الآن إلى فاعلية حقيقية على أرض الواقع. وإذا صدف أن اختلف (المتن س) عن (المتن ص) في مقاربة النص الإلهي، فإنَّ القداسة المبدئية هي (للمتن س) ـ وليس للنص الإلهي بحدّ ذاته؛ فهو الآن خارج الفعل التاريخي الواقعي-، على حساب (المتن ص)، وأي التقاء للمتنين (س) و( ص) على التخوم، سيجعل منهما مثار دناسة؛ كُلٌّ من قبل الآخر .
ثالثها: في غمرة الانشغال بمنح صكوك القداسة لِمُلْحَقَات النص الإلهي (التآويل والتفاسير والشروحات)؛ فقد غدا هذا النص ـ أعني النص الإلهي- مجرد نصٍّ ثانوي، لحساب نصّ رئيس (= التفاسير/...إلخ). وهذا عنى من ضمن ما عنى أنَّ الحالة البِكر للوجود الإلهي في العالَم والنشوة الإبهارية التي رافقت هذا التجلّي في العيان الإنساني، لا سيما ساعة نزول الوحي، لم تعد لها تلك الأهمية في المخيال الفاعل؛ فهو مخيال مُجزَّأ ينتصر لتآويله وشروحاته، وينبهر باللحظة التاريخية لانبثاق (شرحه/ تأويله/ تفسيره)، بصفتها لحظة مُطلقة؛ لحظة تتعالى على السياق التاريخي للزمن، وَجَبَ تقديسها طرَّاً. فالنشوة الغاشمة هي للذات المموضعة للنص الإلهي والمُقعّدة له، وليس للإله، فهو ـ والحال هكذا- مُجرّد من صفته الفاعلية في الوجود. وأي تفعيل للإله من قبل الذات هو من قبيل الاستناد عليه في تدعيم وجهة نظر الذات وتآويلها، فالقداسة هَهُنا تتجلّى تِباعاً على مستويين؛ أحدها (فاعل) وهو للذات وتآويلها؛ وثانيها (غير فاعل) وهو للإله ولنصّه الأصلي. إنَّ قداسة الله هي قداسة احتياطية، وليست أصيلة في المخيال الذاتوي الفاعل تعاملاً مع شروط واشتراطات النص الإلهي، فهو يُقارِب (أي الإنسان) تعزيزاً لقداسة مطمورة في أعماق الذات، لناحية أنها تطمح إلى إخراج ذاتها من لبوس التاريخي إلى أفق المُفارق للبشري، وذلك من خلال إصباغ هالة قدسية على نتاجاتها. وفي تعاملاتها مع النص الإلهي ـ بصفته أصلاً لاهوتياً مُفارقاً للناسوت الإنسي- فثمة تربة خصبة يُمكن لها أن تستوعب بذرة قداستها، لذا تحرص على خوض قتال شرس وعنيف (إلى درجة الاقتتال والاحتراب) بإزاء الحفاظ على مُكتسباتها مع هذا النص.
إذن، ثمة طبقتان في التعامل مع النص الإلهي، الأولى (النزول من أعلى) مُتعلقة بالفيض الأول، البِكر لهذا النص، بصفته ناطقيةً قصوى للذات الإلهية، وإِنْ تقعدّت في لغةٍ من إبداع بني البشر؛ والثانية (الصعود من أسفل) مُتعلقة بلاحقات النص الإلهي من شروحات وتفاسير وتآويل واستنطاقات وغيرها من الاجتهادات، مع الاحتمالات القُدسية ـ كما أسلفت في توضيح ذلك- المُتعلقة بكلّ طبقةٍ على حدة.
وهكذا تتحدّد الصيغة التأطيرية لاستدعاء النص الإلهي إلى أرض الواقع، وذلك باتخاذها مساراً عكسياً؛ فهو استدعاء (عِبْرَ) وليس استدعاءً (أصيلاً)؛ استدعاء (مُفَلْتَر)، (مرهون بـِ). فالملحقات البشرية (= الطبقة الثانية) للنص الأصلي تصيرُ (أُسَّاً لاهوتياً)، ويصيرُ النص الإلهي (لاحقاً ناسوتياً). وهكذا يُوضع النص الإلهي (= الطبقة الأولى) على الرفّ لغايات تزويقية وتزينية من قبل أشدّ أتباعه إخلاصاً، وتتصدر المُلحقات ـ على النص الإلهي- الجلسات والندوات والحوارات، وتصبح أساساً مرجعياً يُستند إليه في بلورة السياقات المعرفية الثقافية، وتشكيل شبكة هائلة من المفاهيم حول قداسة هذه الملحقات.
وعليه، تتخذ العملية برمّتها وضعاً عكسياً؛ فـَ (النزول من أعلى) تقلُّ قداسته ـ وإنْ كان مصدره الذات العليا- كلما لامس الأرض وتمّت عمليات "فلترته" والتعامل معه ضمن أدواتٍ معرفية مُتعدّدة. و (الصعود من أسفل) تزيد قداسته ـ وإن كان مصدره الذات السفلى- بالتقادم، إلى درجة الحلول مكان النص الإلهي؛ فالفاعلية على أرض الواقع، هي للطبقة الثانية؛ طبقة التآويل والتفاسير...إلخ؛ طبقة (الصعود من أسفل)، وكأنَّ ثمة رغبة إنسية عارمة (وإنْ تطامنت في تجلّياتها إلى الرضوخ والاستسلام النهائي للنص الإلهي) إلى تقديس الذات المُدنّسة، وذلك بإلباسها لباساً لاهوتياً، حتى وهي تُعاقر الناسوت الأرضي وإحداثياته المُلوّثة.