النظرية الاجتماعية اليَوم: مَعرفة متنازع عليها
فئة : قراءات في كتب
النظرية الاجتماعية اليَوم:
مَعرفة متنازع عليها
عثمان لكعشمي
استهلال
النظرية الاجتماعية اليوم : معرفة متنازع عليها. طبعاً ليس هذا هو عنوان الكتاب الأصلي موضوع القراءة، فعنوانه الأصلي، كما جاء في نسخته العربية المترجمة حديثاً، هو: "معرفة متنازع عليها: النظرية الاجتماعية في أيامنا"[1]، لستيفن سيدمان. لكننا لو أردنا إعادة ترجمته سنترجمه على نحو عنوان هذه القراءة: "النظرية الاجتماعية اليَوم: معرفة متنازع عليها". لماذا؟ لأن الموضوع الفعلي لهذا الكتاب هو النظرية الاجتماعية. أما عن طبيعة هذه النظرية وشكلها، فإنها معرفة متنازع عليها من طرف المنظرين الاجتماعيين. تلك هي الأطروحة، إذ نتعامل معها هنا كفرضية، التي يدافع عنها الكتاب المعني بالقراءة. لقد كان ولابد من هذه الوقفة العابرة في هذا الاستهلال؛ ذلك أن العنوان بمثابة اسم دال يعكس لنا في كثير من الأحيان مضمون المسمى أو المدلول. فإلى أيّ مدى التزم الباحث بهذه الفكرة في بنية الكتاب، وما الأساس أو الأسس التي تقوم عليها هذه الفكرة؟ لنترك هذا السؤال مفتوحاً إلى حين، ونعد الآن إلى الإشكالية العامة لأطروحة هذا الكتاب.
تتمثل الإشكالية الأساسية لهذا العمل، في العلاقة الممكنة بين ما هو علمي وموضوعي، وبين ما هو أخلاقي وسياسي في النظرية الاجتماعية؛ ذلك أن هذه الأخيرة قد تخلت عن هدفها الأخلاقي والسياسي المتجسد في "الانخراط في العالَم" بوصفها وسيلة للتحليل النقدي والتغيير، وطغت عليها النزعة التخصصية العلمية؛ أي التركيز على مسألة العلمية، مما أدى إلى نوع من الوثنية العلمية. لذا، فإن المهمة المنوطة بالمنظر الاجتماعي اليَوم هي استعادة الغرض الاجتماعي الذي طالما تعالق بالعلوم الاجتماعية، ألا وهو: تعزيز الحرية الإنسانية؛ ذلك أن عالم الاجتماع هو بشكل أو بآخر مرب لعامة الشعب، فمهمته في نهاية المطاف هي تنوير الجمهور، من خلال تعزيز قيم الحرية والتقدم؛ ذلك هو الهدف الاجتماعي من كل نظرية اجتماعية، أو هكذا ينبغي أنْ يكون.
ومن هذا المنطلق، تقدم النظرية الاجتماعية نفسها، أو على الأقل كما يقدمها سيدمان ومن ينحو نحوه، بكونها محط صراع بين ثلاثة آراء ومواقف متضاربة، تمثل ثلاث وجهات نظر، أو مقاربات متعددة: علمية وفلسفية وأخلاقية. أما النظرية الاجتماعية العلمية، فهي تحصر وظيفة المنظر الاجتماعي بوصفه منظراً علمياً في الكشف عن القوانين والمبادئ الاجتماعية من خلال الملاحظة والتجربة الميدانية؛ أيْ من خلال البحث العِلمي. وأما النظرية الاجتماعية الفلسفية، فإنها بالإضافة إلى الكشف عن الحقائق الاجتماعية تسعى إلى وضع نظريات جامعة للفعل البشري، عبر التفكر المفاهيمي الصارم، وكذا تعمل على توجيه عمل الباحثين في هذا الميدان. تلك هي مهمة المنظر الفلسفي. وأما النظرية الاجتماعية الأخلاقية، فإنها تتعامل مع النظرية الاجتماعية كممارسة أخلاقية ونقدية؛ فالمنظر الأخلاقي يعمل باستمرار على تأكيد المعنى الأخلاقي والسياسي للتحليل الاجتماعي. وعلى هذا الأساس، يحاول صاحب الكتاب فحص التوتر الحيوي بين تلك الرؤى العلمية والفلسفية والأخلاقية سالفة الذكر، من خلال تحليل الأهمية المعاصرة للنظرية الاجتماعية، من نشأة التقليد الكلاسيكي إلى صعود النظرية ما بعد التخصصية. فإلى أي حد تمكن الباحث ها هنا من هذا المرمى؟ إننا لا نملك إلا أنْ نختبر هذا الطرح على طول أقسام الكتاب السبعة وفصوله الثالثة والعشرين. لنكتشف ذلك.
I. نشأة التقليد الكلاسيكي
يستهل الباحث كتابه في قسمه الأول بنشأة التقليد الكلاسيكي للنظرية الاجتماعية. ويحدد عالَم الفكر الحديث هذا، في القرون الثامن والتاسع عشر وبداية العشرين، من عصر التنوير وأوغست كونت إلى دوركهايم وماركس وفيبر. يتناول خمس رؤى نظرية أساسية طَبَعت النظرية الاجتماعية الكلاسيكية، عبر أربعة فصول متتالية: فكرة المجتمع: عصر التنوير وأوغست كونت؛ نظرية كارل ماركس الثورية؛ وعود السوسيولوجيا: إميل دوركهايم؛ نظرية ماكس فيبر التناقضية.
-1 يعتبر عصر التنوير تتويجاً للثورة العلمية بما هو تتويج للرؤية العلمية للعالَم. تلك الرؤية التي تقدم نفسها كبديل عن الرؤية الدينية للكنيسة والأرستوقراطية التي سادت في أوروبا قبل الثورة العلمية في القرن السادس عشر. لكن ورغم نظرة دعاة التنوير العلمية إلى الحياة الاجتماعية ودورها في تكون فكرة علم المجتمع، فإنها ظلت إلى حد ما تتراوح بين الموضوعية والتحيزات الذاتية؛ ذلك ما حاول أوغست كونت مجاوزته. فبفضله سيتحول الفكر الاجتماعي إلى علم مستقل قائم بذاته، فهو الذي تدين له السوسيولوجيا باسمها، بل بتأسيسها العلمي: الرؤية السوسيولوجية الوضعانية. وإنْ كانت نظرية كونت وضعانية وتؤكد، مثلها في ذلك مثل دعاة التنوير، على ضرورة فصل الدور العلمي لعلم الاجتماع المتمثل في إنتاج الحقائق الاجتماعية عن دوره الأخلاقي، فإنها أخفقت إلى حد كبير في إقامة هذا الفصل؛ ذلك أن مشروعه السوسيولوجي في العمق هو بشكل أو بآخر بمثابة مشروع اجتماعي إصلاحي. هذا وبغض النظر عن نظرته المقدسة للسوسيولوجيا التي جعلت من هذا العلم ديناً جديداً للإنسان الحديث. مع ذلك، ظل كونت سوسيولوجياً رُؤْياوِياً، وُلِدت رؤيته الأخلاقية من صميم السوسيولوجيا التي دعا إليها.
2- بغض النظر عن الاختلاف الجوهري بين كونت وماركس، فإنهما يشتركان في الكثير من القواسم، خاصة في إيمانهما ببزوغ عصر جديد سيحرر البشرية. لقد آمن ماركس بحماس أن للمعرفة الاجتماعية دوراً مهماً في خلق هذا العصر الجديد. وإنْ كانت نظرة كونت السوسيولوجية إلى الوضع الفرنسي الثائر آنذاك، إبان سياق الثورة الفرنسية والصراع القائم بين التنويريين والنخبة الكهنوتية والنبلاء مالكي الأراضي، تقدمية إلى حد ما، فإنها كانت رؤية محافظة شيئاً ما. على عكس رؤية ماركس الثورية، مع أن ألمانيا لم تختبر قط ثورة شبيهة بالثورة الفرنسية. لقد تمكن هذا الأخير من صياغة نظرية كان يسعى من ورائها إلى فهم المجتمع الحديث من أجل الثورة الاجتماعية. لذا تميز منظوره بوحدة النظرية والتطبيق. كانت جذرية ماركس وراديكاليته موازية مع نظريته الاجتماعية. فماديته التاريخية التي جاء بها كانت عِلماً ثورياً في العمق. لذلك، اتسمت نظرية ماركس الاجتماعية بنوع من التوتر بين رؤيته العلمية ورؤيته الأخلاقية، وليس ذلك بسر؛ لأنه أعلن منذ البداية أن مهمة النظرية أي نظرية، بل كل علم هي تغيير المجتمع. كذلك نظريته. لكن نجاح هذا التغيير الذي يقوم في نظره على ثورة البروليتاريا يحتاج إلى معرفة موضوعية بالتشكيلة المجتمعية الاقتصادية القائمة وكذا بالصراع الطبقي القائم واحتكار الرساميل في يد طبقة بعينها، فضلاً عن حاجته إلى بلورة برنامج لصياغة منطق للثورة الاجتماعية المنشودة، وهو ما عمل عليه في كتابه رأس المال. كل ذلك يحتاج إلى علم موضوعي، أكثر من رؤية أخلاقية عمياء. غير أن ماركس الحالِم هذا، قد تمكن من خداع نفسه عندما اعتقد أن أفكاره الاجتماعية كانت مجرد وحي من العقل العِلمي.
-3 بلغ التقليد الكلاسيكي مع دوركهايم وفيبر ما لم يبلغه مع كل من كونت وماركس؛ ذلك أن هذين الأخيرين وعلى عكس سابقيهما، نظروا كباحثين أكاديميين في علم الاجتماع؛ أي إنهم تعاملوا مع الفكر الاجتماعي كتخصص أكاديمي. وعلى عكس رؤية ماركس الاشتراكية، فإن رؤية دوركهايم للتاريخ والحداثة ظلت ليبرالية في أساسها الأخلاقي، وإن لم يقل ذلك صراحة. تقوم نظرة دوركهايم السوسيولوجية على تصور منهجي دقيق. وضع له قواعده وأسسه. كانت استراتيجيته المنهجية تقوم على التمييز بين الحقائق والتفسيرات العلمية عن الإيديولوجيا. لقد أعاد صياغة تصور كونت وقبله التنويريين عن فكرة المجتمع المتمثلة في كون أن المجتمع ليس مجرد تجميع للأفراد، وإنما هو يمثل واقعة مستقلة بذاتها تتجاوز الوعي الفردي. إن موضوع السوسيولوجيا عنده هو الوقائع الاجتماعية بما هي حقائق اجتماعية، ويجب التعامل معها كما لو كانت أشياء. غير أن زعمه بأن علماء الاجتماع بمقدورهم بطريقة أو بأخرى أنْ يضعوا جانباً تحيزهم الذاتي وأفكارهم المسبقة، كي يتسنى لهم تفسير الوقائع الاجتماعية كما هي في الواقع، لهو زعم يتناسى الدور المهم الذي يمكن أن تقوم به المصالح والقيم الاجتماعية في بناء المعرفة الاجتماعية نفسها.
4- على خلاف الكثير من الليبراليين، لم يعتقد فيبر أن التحديث الاقتصادي يترجم تلقائياً بالضرورة إلى لَبْرَلَة اجتماعية وسياسية. فعلى الرغم من نجاح ألمانيا الاقتصادي المبهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظلت السلطة الاجتماعية والسياسية في قبضة الطبقة الإقطاعية من ملاك الأراضي البروسيين. لقد راهن فيبر على الطبقة الوسطى، باعتبارها قوة سياسية مشاكسة يمكنها وحدها أن تنجح في تحديث ألمانيا. كانت تلك الرؤية الأخلاقية هي الدافع وراء بحثه السوسيولوجي الموسوم بـ: "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية". لقد صاغ فيبر نظرية اجتماعية متناقضة؛ وإنْ كان تنويرياً ومؤمناً بقوة العقل والعلم، فإن رؤيته للحداثة، رغم دفاعه عنها ضد منتقديها، كانت رؤية سوداوية. فالعِلم عند فيبر ليس أكثر من أداة لإزالة الوهم الاجتماعي لتشكيل رؤى جديدة للعالم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: دافع مراراً على الفصل المبدئي بين العلم والأخلاقيات فيما سماه بالحياد القيمي، الأمر الذي يتناقض مع رؤيته الاجتماعية للعِلم، بوصفه نتيجة للمصالح والقيم الاجتماعية التي تشكل إشكالاته ومقارباته المفاهيمية وتحولاته.
II. إعادة النظر في التقاليد الكلاسيكية
1. السوسيولوجيا الأمريكية
لم تكن النظرية الاجتماعية الأمريكية بعامة والسوسيولوجيا الأمريكية بخاصة أكثر من إعادة نظر في التقاليد الكلاسيكية؛ أي إعادة قراءتها وتأويلها انطلاقاً من التحولات الحديثة التي شهدها المجتمع الأمريكي. كانت البداية مع سيادة الفكر التطوري لكل من كونت وسبنسر، إلى أنْ تطال لاحقاً مؤسسي النظرية الاجتماعية الحديثة، خاصة ماركس ودوركهايم وفيبر. فنظريات تالكوت بارسونز وبيتر بيرغر وتوماس لوكمان، فضلاً عن النظرية العلمية لراندال كولينز وبيتر بلاو، وكذا السوسيولوجيا الأخلاقية لتشارلز رايت ميلز وروبرت بيلا لم تكن سوى إعادة نظر في التقاليد الكلاسيكية.
1.1 لقد كان هدف بارسونز منذ البداية، من مؤلفه "بنية الفعل الاجتماعي" إلى كتابه "المنظومة الاجتماعية"، أتعلق الأمر برؤيته النظرية للفعل الاجتماعي أم بالتطور الاجتماعي أو بالوضع البشري، هو صياغة نظرية عامة وشاملة بشأن المجتمع، تكشف عن أكثر مستويات السيرورات الاجتماعية تجريدية وعمومية وأساسية، اعتمد في ذلك على توظيف أفكار ماركس ودوركهايم وفيبر. غير أنه طرح رؤيته النظرية تلك، باعتبارها مشروعاً فكرياً مستقلاً عن أية مصالح اجتماعية أو التزامات أخلاقية. لكن ألم تكن رؤية بارسونز الأخلاقية صامتة، ومتسترة في نظريته العامة؟ أما بيرغر ولوكمان، فقد تمكنا أيضاً من وضع نظرية مشتركة شاملة حول العالَم الاجتماعي، باعتباره فعالية بشرية، فالبشر في نهاية المطاف هم من يضفون معنى وغاية على الناس والأشياء والأحداث، وهو ما تمثل في كتابهما الشهير: "البنية الاجتماعية للواقع"، الذي يعد أحد أهم معالم النظرية الاجتماعية في سنوات ما بعد الحرب. على خلاف النظرية الماركسية للعالَم الاجتماعي بوصفه منتوجاً للشغل والصراع الطبقي، وكذا نظرية بارسونز التي تصورت المجتمع كمنظومة تحكمها شروط وظيفية مسبقة، فإن نظرية بيتر ولوكمان تعتبر المجتمع بناء مفهومي ثقافي. فالمجتمع ليس منظومة ولا آلية ولا هو شكل عضوي، وإنما هو بناء مفهومي رمزي.. يتكون من أفكار ومعان ولغة. وإنْ كانت نظريتهما هذه عِلمية، فإنها كانت محكومة برؤية أخلاقية ليبرالية مناهضة بقوة للمثالية ومصوغة ضد تاريخ ألمانيا النازية الأسود.
1.2 بعد انتهاء الصراع الدائر حول الوظيفية، في نهاية ستينيات القرن العشرين وبداية السبعينيات منه، حل عصر المدارس المتصارعة في السوسيولوجيا، حيث تخلى المنظرين الاجتماعيين عن النظريات الكبرى ليفسحوا المجال أمام نظريات أضيق، تفسيرياً وإمبريقياً. وتعد نظريات كولينز وبلاو بمثابة نموذج لهذا التطلع إلى تطوير علم طبيعي للمجتمع. تمكن كولينز من صوغ نظرية علمية سماها بنظرية النزاع، صاغها في كتاب تحت عنوان: "سوسيولوجيا النزاع: نحو علم تفسيري". تتطلع هذه النظرية إلى أن تكون تفسيراً علمياً للواقع الإمبريقي. تتمثل الفكرة الأساسية لنظرية النزاع في أن البشر كائنات اجتماعية ميالون إلى النزاع. فدائماً ثمة نزاع؛ لأن الإكراه العنيف هو مصدر محتمل للموارد. إذا كانت نظرية النزاع هذه تزعم بعلميتها المحضة، فإنها كانت تعبر بشكل ما عن مذهب النفعية الليبرالية بكونها إيديولوجيا عامة واسعة الانتشار في أمريكا. أما بلاو، فإن سوسيولوجيته طبعتها أيضاً روح علمية، غير أنها تضمر هي الأخرى نظرة أخلاقية لا تنكر. لقد كان يَنظر إلى السوسيولوجيا، باعتبارها علماً صارماً، معادياً بذلك الإنسانوية عن قصد. فليست نظريته البنيوية سوى تتويجاً لتلك النظرة. فمهما كانت المزايا العلمية التي تتمتع بها سوسيولوجيته البنيوية ورؤيته العلموية للسوسيولوجيا والمجتمع معاً، فإنها لم تنفلت من الأحكام القيمية ولا من رؤية أخلاقية للمجتمع الصالح. فهو كان يجهل الدوافع الأخلاقية التي شجعت بها روح السوسيولوجيا لديه من دون قصد القيم الليبرالية نفسها التي كان يرفضها بشدة.
1.3 بعيداً عن الرؤى العلمية الصارمة المزعومة، أو التصورات العلموية، للعديد من علماء الاجتماع، تمكن كل من ميلز وبيلا كمفكرين اجتماعييْن معاصريْن من بناء سوسيولوجيا أخلاقية. كان ميلز يتطلع إلى إعمال الرؤية الأخلاقية للتقليد الكلاسيكي الأوروبي، لكنه استند أيضاً على المذهب البراغماتي لوليام جيمس، مع رفضه للنظرية الشمولية لبارسونز. انطلاقاً من ذلك دعا إلى سوسيولوجيا أخلاقية بما هي خطاب اجتماعي نقدي منخرط جماهيرياً. على أن تمنح هذه السوسيولوجيا للمواطنين فهماً لأوضاعهم الاجتماعية. لذلك، اقترح ابتكار رسوم تخطيطية مفاهيمية إمبريقية يمكن استعمالها لتحليل الديناميات الاجتماعية في مجتمعات متنوعة. كان ميلز مصدر إلهام لتقليد سوسيولوجي نقدي للشأن العام. ويعتبر بيلا أحد معاصريه الذين تعاملوا مع السوسيولوجيا كمشروع أخلاقي. يجب على علم الاجتماع في نظر بيلا، أنْ يلعب دوراً في التجديد الاجتماعي، من خلال إعادة ضبط وجهته نحو الحياة العامة بدلاً من مشكلات المسار التخصصي الضيق؛ فهو يدعونا بذلك إلى سوسيولوجيا تعترف بمهمتها الأخلاقية والسياسية، مع حفاظها على صرامتها الإمبريقية والمفاهيمية.
2. النظرية الأوروبية
علاوة على جهود النظرية الاجتماعية الأمريكية في إعادة النظر في التقاليد الكلاسيكية، التي أخصها الكتاب بالدراسة في القسم الثاني السابق من الكتاب، فإن صاحب الكتاب يسلط الضوء هنا، في القسم الثالث منه، على المجهودات الأوروبية اللاحقة في عملية إعادة صياغة التقاليد الكلاسيكية، بما هي في مجملها إعادة نظر في النظرية الماركسية. مجهودات أفضت إلى ترسيخ تقليد اجتماعي نقدي يرزح ما بين العلم والنقد الأخلاقي: انطلاقاً من النظرية النقدية ليورغن هابرماس، مروراً بستيوارت هول والدراسات الثقافية البريطانية، وصولاً إلى السوسيولوجيا النقدية لأنتوني غيدنز وبيير بورديو.
2.1 كانت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أحد أهم التطورات في الماركسية خلال القرن العشرين، ويعد هابرماس بنظريته النقدية من أهم منظري هذه المدرسة. فهو من وضع نظرية أصيلة في المعرفة الاجتماعية.. والفعل الاجتماعي واللغة، خاصة في المجتمعات الرأسمالية المتأخرة. ولأنه منظر نقدي، فإنه يعتقد أن الجدير بالمعرفة الاجتماعية هو أن تساهم في الحرية البشرية. وتمثل نظرية الفعل التواصلي تتويجاً للنظرية النقدية. فبفضلها أعاد هابرماس صياغة رؤيته بشأن أزمة الرأسمالية الحديثة بوصفها جزءا من نظرية كبرى في التطور الاجتماعي، إذ يضع في مركزها رؤية مزدوجة عن المجتمع بوصفه "عالماً للحياة" و"المنظومة". تقوم الحياة الاجتماعية على حاجات المعاني المشتركة المستقاة من العادات والتقاليد، كما تقوم على استراتيجيات لتنسيق الموارد والسيطرة على القوى الطبيعية والاجتماعية، وهذه هي وظيفة النظم الاجتماعية في المجتمع. على الرغم من حسه النقدي للمجتمع الرأسمالي المتأخر، فإنه لم يكن متشائماً بشكل كلي، لقد علق آماله على الحركات الاجتماعية الجديدة، التي تهدف إلى إعادة تأسيس توازن ملائم بين العقلنة الاجتماعية والعقلنة الثقافية؛ إنها الحاملة للمجتمع العقلاني.
2.2 إلى جانب محاولة هابرماس، ثمة محاولة السوسيولوجي البريطاني ستيوارت هول. الذي يُعتبر من أهم منظري مدرسة برمنغهام للدراسات الثقافية. فبفضله ساهمت تلك المدرسة في إعادة النظر في الماركسية وتحويلها إلى تقليد غني بالبحث والتحليل الإمبريقيين. على غرار هابرماس ومدرسة فرانكفورت، سعى هول إلى صوغ تحليل اجتماعي نقدي يتخذ من الماركسية مصدر إلهام له؛ إلا أنهم في النهاية تمكنوا من بلورة نظرية اجتماعية مغايرة لرؤية ماركس من جوانب عديدة؛ فبانتقال التحليل الثقافي إلى صلب التحليل الاجتماعي، وبحلول الحركات الاجتماعية المتمركزة حول الهوية محل الشغل أو تكميلها بوصفهما قوى التغيير الرئيسية، احتفظت عملية إعادة البناء المفهومي هذه بروح النقد الماركسية أكثر من احتفاظها بما تحتويه الماركسية من تحليل سياسي اقتصادي قائم على أساس طبقي.
2.3 في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، انتشرت على نطاق واسع فكرة التوليفة النظرية الجديدة التي تدمج بين الماركسية والسوسيولوجيا وتيارت الفكر الاجتماعي الأخرى. ويعتبر البريطاني أنتوني غيدنز والفرنسي بيير بورديو من بين أهم الموطدين لهذا التوليف النظري. بحلول ثمانينيات القرن المنصرم تمكن غيدنز من وضع نظرية سوسيولوجية شاملة متكاملة تضاهي نظرية بارسونز في شموليتها. لقد كان تحوله للنظرية العامة ردة فعل تجاه الإمبريقية والعَلْمَوية الغالبتيْن على السوسيولوجيا الأمريكية والبريطانية. تنطوي مقاربته "مزدوجة البنية" على النظر إلى البنى الاجتماعية، باعتبارها "نظاماً افتراضياً" أكثر من كونها واقعاً اجتماعياً منفصلاً. هذا فضلاً عن فكرة الانعكاسية التأملية. فعلى خلاف غيدنز، رفض بورديو مراراً أن يجعل من مسعاه إنتاج نظرية شاملة أو منظومة سوسيولوجية. مع ذلك، تمكن هذا الأخير من بناء رؤية سوسيولوجية تعتبر الأفراد فاعلين نشطين، لكنهم ليسوا مسؤولين بالكامل عن مصائرهم؛ فمن خلال بلورة مفهوم أطلق عليه تسمية "هابيتوس"، ويقصد به مجموعة عامة لا واعية من المبادئ التوجيهية التفسيرية والتحفيزية التي يكتسبها الأفراد بناء على وضعهم الطبقي الاجتماعي، رمى بورديو إلى وضع نظرية لا تختزل الأفراد إلى مجرد نتاج للبنى الاجتماعية ولا تهمل شأن هذه البنى في تقييد الأفراد. وقد طبق هذا المفهوم في مؤلفه المشهور "التميز"، من خلال فحص أنماط التراصف الاجتماعي.
III. تصحيحات وتمردات
1. تحول ما بعد الحداثة
في القسم الرابع من هذا العمل، خصصه صاحبه لتحول ما بعد الحداثة ودوره في تغيير النظرية الاجتماعية. فعلى إثر التحولات الجذرية التي مست المجتمعات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فتمرد المستعمرات السابقة إلى انبثاق منظومة العولمة إلى الانتقال من مجتمعات صناعية إلى أخرى ما بعد صناعية، اقترح العديد من المفكرين إعادة النظر في الفكر الاجتماعي الحديث على ضوء تحولات العصر والأوضاع الاجتماعية الراهنة. من أهم هؤلاء نجد: جاك دريدا وجان فرانسوا ليوتار وجان بودريار، فميشيل فوكو، ثم زيغمونت باومان.
1.1 يتميز المثقف الأكاديمي الفرنسي عن نظيره الأمريكي بكونه مثقفاً للشأن العام أكثر منه مثقفاً جامعياً متخصصاً. لذا، فإن الحديث عن النظرية الاجتماعية في فرنسا يتطلب الحديث عن النقاشات الفلسفية بصددها. يتحدد الفكر الاجتماعي الفرنسي ما بعد الحرب في حركتين قويتين: البنيوية وما بعد البنيوية. قدمت البنيوية نفسها كبديل عن الإنسانوية الوجودية. فإذا كانت النزعة الإنسانوية تنظر إلى الفرد كقوة خلاقة في المجتمع والتاريخ، فإن البنيوية تتطلع إلى القوى التي تتجاوز الفرد من أجل فهم الحياة الاجتماعية والتاريخ. إن تفكيكية دريدا ليست أكثر من تفكيك للبنيوية نفسها، بما هو تفكيك للسلطة في حد ذاتها. تقوم استراتيجية التفكيك الدريدي على هدم التقابلات بغية استنطاق سلطتها. يعد ليوتار، هو الآخر من دعاة ما بعد الحداثة. لا يمكننا في نظره أن نواصل الاعتماد على السرديات الشاملة التي تهدف إلى الكشف عن معنى تاريخ العالم وغايته العميقة، لقد أصبحت هذه السرديات اليوم أقل صدقية. أما بودريار فقد كرس الكثير من مجهوداته في وضع الخطوط العريضة لرؤية ما بعد ماركسية. على خلاف الماركسية التي استعرضت مراحل التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية المتتالية، فإنه اقترح تاريخاً لما سماه ب "الاقتصاد السياسي للعلامة"، حيث قدم تفسيراً للبنية المتغيرة للعلامة ووظيفتها الاجتماعية.
1.2 وإنْ كانت بدايات فوكو بنوية، فإنه يعتبر من مفكري ما بعد البنيوية. انصب اهتمامه على الكيفية التي تكون بها المعرفة والسلطة تكوينيتيْن تبادلياً. فالمعرفة معنية بتأكيد السلطة بقدر عنايتها بتحصيل الحقيقة، كما تعنى هذه الأخيرة بعرض القوة بما هي إرادة للمعرفة. لقد تخلى فوكو عن كثير مما تضمنته رؤيته التاريخية التنويرية؛ أي السعي لتحرير البشرية عن طريق الكشف عن قوانين النظام والتغيير الاجتماعييْن، واستعاض عنها بالنظرية التي توفر نقطة استشراف قد تمكنه من وضع برنامج للإصلاح الاجتماعي. فضلاً عن طرحه لمسألة الجنسانية على نحو جينيالوجي؛ ذلك أن الجنسانية في نظره هي التي جعلت واقع الجنس ممكناً. ثمة قوى اجتماعية هي التي أنتجت نظام الجنسانية، وهي تتمثل أساساً فيما يسميه بمجتمع الانضباط.
1.3 لعب باومان بوصفه منظراً اجتماعياً دوراً كبيرا في إعادة تشييد النظرية الاجتماعية، انطلاقاً من تحولات ما بعد الحداثة، لكي يهتدي إلى سوسيولوجيا ما بعد الحداثة. يسرد تاريخ ما قبل الحداثة وبعدها في إطار العلاقات بين المعايير الثقافية والدولة والمثقفين. يرى باومان أن السوسيولوجيا الحديثة كانت بمثابة أداة تشريعية للنظام الاجتماعي والمعايير الثقافية في يد الدولة، غير أن التحول إلى ما بعد الحداثة غير العلاقة بين الدولة والمثقفين. فمع تراجع حاجة الدولة إلى علم الاجتماع وتضاؤل دور هذا الحق من العلوم كمحكم ثقافي، فسيصبح مهجوراً تماماً إذا لم يعد تشكيل افتراضاته الأساسية وأهدافه. لهذا يقترح منظور باومان لما بعد الحداثة إعادة توجيه السوسيولوجيا توجيهاً رئيسياً من الدور التشريعي إلى الدور التفسيري والإثنوغرافي. ينبغي على السوسيولوجيا اليوم، أن تضطلع بمهمة تيسير التفاهم المتبادل بين الجماعات المختلفة. تتمثل قيمة سوسيولوجيا ما بعد الحداثة في جعل الفروق الاجتماعية أقل خطراً، وفي تعزيز التسامح تجاه التنوع، وفي جعل غير المألوف مألوفاً، وفي إيصال صوت الممارسات والجماعات المغمورة أو الهامشية. تلك هي مهمة سوسيولوجيا ما بعد الحداثة عند باومان.
2. سياسات الهوية ونظريتها
تأخذ سياسات الهوية ونظريتها التي تجسد القسم الخامس من الكتاب، مكانة مهمة في التصحيحات والتمردات الفكرية الاجتماعية التي جاءت بها تحولات ما بعد الحداثة. تتمحور أساساً حول قضايا الجنسانية والعرق والخطاب الاستعماري، وهي بمثابة انعكاس للصراع الاجتماعي في أمريكا بعد الحرب. تولد عن هذه الصراعات نوعان من الحركات الاجتماعية: حركات الحقوق المدنية وحركات التحرر.
2.1 تطورت الحركات النسائية المعاصرة رداً على تناقضات أمريكا ما بعد الحرب. في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ولدت حركة نسائية بإلهام من حركات الحقوق المدنية للسود والحركات التحررية، وبتشجيع من الأجواء المثالية الاجتماعية المصاحبة لفترتي إدارتي الرئيسين كندي وجونسون. إذا كانت الحركات النسائية هي الأداة السياسية لسعي النساء من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، فإن النسوية تمثل إيديولوجية هذه الحركة. إن العالَم الاجتماعي من وجهة نظر نسوية هو عالَم مُجَنْدَر، فالفروقات الجندرية بين الرجال والنساء منتجة اجتماعية لسبب معين، هو الحفاظ على الهيمنة الذكورية التي تُنَظر لها النظرية النسوية وتناضل الحركات النسائية من أجل التحرر منها؛ أي التعامل مع المرأة بوصفها نظيراً للرجل، لكن ذلك لم يتحقق بعد.
2.2 كانت سياسة حركة السود في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، مثلها مثل الحركة النسائية، ردة فعل على الفشل في تحقيق الوعود بالاستقلال والمساواة. مع ذلك كان بين الحركتيْن اختلافات رئيسة؛ فزعامة الحركات النسائية كانت لنساء بيضاويات يتحدرن من الطبقة الوسطى. أما حركة السود، فكانت حركة الفقراء والطبقة العاملة، وفئة السود المتعلمين الطامحين الذين ما زالوا مهمشين، وكانت تحدوهم الآمال والوعود في ظل واقع هزيل من التقدم الاجتماعي. إذا كانت الأولى تقوم على الهوية الجنسانية، فإن الثانية تقوم على الهوية العرقية. على إثر ذلك، تبلورت نظرية نقدية للعرق موازية للإيديولوجيا النسوية.
2.3 بالإضافة إلى دور كل من الجندر والعرق في تصنيفات الهوية، فإن الجنسانية المثلية والغيرية لدى الذكور والإناث وأحرار الهوية والميول الجنسية تمثل اليوم أساساً للهوية الشخصية وغيرها. إن التعريف الغيري/ المثلي لا يخصص هويات للأفراد فحسب، بل ويشكل أيضاً فئات واسعة من الفكر الغربي والثقافة الغربية. إنه ينشئ الهويات وتصنيفات المعرفة والثقافة الأساسية، كما ينشئ التنظيم المعياري للمجتمع. لم تعد مسألة الجنسانية المثلية مجرد مسألة لأقلية اجتماعية، وإنما أصبحت مسألة تمس المجتمع بأسره. وبالتالي، لم تعد نظرية أحرار الهوية والميول الجنسية نظرية أقلية، بل غدت تحليل عام للإنتاجية الاجتماعية للتعريف الغيري/ المثلي في خدمة المعيار الغيري. تقدم النظرية الجنسية والجندرية النقدية الحالية وجهة نظر اجتماعية جديدة، أتعلق الأمر بالمثلية أو بالغيرية.
4.2 رسمت الحرب العالمية الثانية نهاية العصر الاستعماري والإمبريالي من نواحي كثيرة، وما نشأ عن ذلك من خطاب مناهض للخطاب الاستعماري. تجدر الإشارة إلى أن السوسيولوجيا نشأت في الأصل في المجتمعات الأنكلو- أوروبية، التي ستتحول إلى قوى إمبريالية تبسط سيطرتها على العالم الآخر، على المجتمعات ما قبل الحديثة. لكن سرعان ما اهتزت هذه الإمبريالية عندما تحررت المستعمرات السابقة. فبينما كان يعاد تشكيل المشهد العالمي، على إثر حركات التحرر، ظهرت فئة جديدة من المفكرين، يتموضعون فيما بين الاستعمار وما بعده. يعد فرانز فانون وإدوارد سعيد وهومي بابا، من أبرزهم. لقد تمكنوا من وضع وجهات نظر نقدية جديدة عن التاريخ الأنكلو- أوروبي. لقد نَظَروا إلى الغرب من وجهة نظر تاريخ الاستعمار.
3. نظريات النظام العالَمي
يقدم لنا القسم السادس آخر نموذج من نماذج التصحيحات والتمردات التي عرفتها النظرية الاجتماعية الحديثة، ألا وهو: الانتقال من النظام القومي الذي تَمثل في نظام الدولة- الأمة إلى نظام عالمي، وانعكاساته على النظرية الاجتماعية. فطالما افترضت هذه الأخيرة، من كُونْتْ إلى هابرماس، أن الدولة- الأمة ذات سيادة هي الوحدة الأساسية للحياة وللتحليل الاجتماعييْن الحديثين. لكن وبسبب التحولات العولمية وغيرها أخذت هذه الحقيقة في التقهقر والتحلل لصالح عصر آخر، عصر ما بعد القومية الذي يتسم بعالمية النظام وسيطرة الحركات والهيئات الدولية.
3.1 على إثر ذلك، تمكن الكثير من علماء الاجتماع والمحللين الاجتماعيين، خاصة البريطانيين منهم، من صياغة نظريات اجتماعية حول النظام العالمي الجديد. يعد ديفيد هيلد وماري كالدور من بين أبرزهم. يدافع هيلد عن رؤية سوسيولوجية معقدة للعولمة، إذ يدافع عن نظرة كوسموبوليتانية للتنظيم العالمي. ينبغي لعالَم الدول أنْ يطور منظمات ومبادئ اجتماعية وسياسية عابرة للحدود الوطنية لضبط النظام العالمي الجديد. فهو يهدف من وراء ذلك إلى تقديم بديل للمنظور النيوليبرالي للعولمة وكذا لوجهة النظر المناهضة للعولمة. إلى جانب ذلك تمكنت كَالْدُورْ وهي زميلة هِيلْد في مدرسة لندن للاقتصاد، من بلورة رؤية جديدة تتعلق بالمجتمع المدني العالمي. تحاول من خلالها رسم مخطط لمعنى النظام الديموقراطي المدني وآفاقه على المستوى العالمي. ففي ظل بيئة اجتماعية عالَمية لا يمكن للضبط الاجتماعي إلا أن يكون عالمياً.
3.2 على خلاف المفكرين الاجتماعيين السابقين، الذين اتخذوا من المجتمع المفرد والدولة- الأمة محوراً للتحليل الاجتماعي، فإن ثمة العديد من المفكرين المعاصرين كإيمانويل فالرشتاين ومانويل كاستلز، يأخذون بعين الاعتبار مسألة العولمة في تحليلهم لتنظيم المجتمعات الرأسمالية المتأخرة وتحولاتها. تسلط نظرية فالرشتيان الضوء على المنطق الاجتماعي لرأسمالية الاقتصاد العالمي، المتمثل في الاعتماد المتبادل والعلاقات غير المتكافئة بين الأمم. أما كاستلز، فإنه يعمل على فحص العلاقة بين الرأسمالية المعلوماتية والدولة والحركات الاجتماعية. السؤال الذي يخلص إليه في النهاية هو فيما إذا كانت الحركات الاجتماعية تستطيع أن تُسخر تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في التحرر.
3.3 لقد لعبت العولمة دوراً مهماً في عودة الإمبراطوريات: إمبراطوريات جديدة. ذلك ما أكده العديد من المحللين الاجتماعيين: مثل مايكال هارت وأنطونيو نيغري، وكذا كل من ديفيد هارفي ومايكل مان. إن العولمة بشكل أو بآخر هي شكل جديد ومتميز من أشكال الإمبراطورية؛ فهي ليست إمبراطورية المستعمرات والغزو، وليست إمبراطورية مبنية على تدويل الأسواق فحسب، وإنما هي إمبراطورية من دون مركز سياسي، مع ذلك فهي تسيطر سيطرة شاملة على النظام العالمي؛ فعلى الرغم من إدراك أمريكا الذاتي لنفسها بوصفها معادية للإمبراطورية، فإن سياستها الخارجية العدوانية العسكرتارية خلال العقود القليلة الماضية تلمح إلى مجتمع لم يتخل في الواقع عن طموحاته الإمبراطورية.
IV. صعود النظرية ما بعد التخصصية
على الرغم من أن السوسيولوجيا لم تصبح مساقاً أكاديمياً تخصصياً إلا ما بين تسعينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين، فإنها لم تعرف النزعة التخصصية إلا في فترة السبعينيات من القرن الماضي. لكن هذه الثقافة التخصصية آخذة في الانهيار؛ إذ إن الحدود التي تفصل بين العلوم الاجتماعية والإنسانية أصبحت مليئة بالثقوب ومائعة إلى درجة فقدت فيها النظرية التخصصية صدقها وتماسكها. لقد أصبحت النظرية ما بعد التخصصية، باعتبارها نظرية لا مركزية، تفرض نفسها بقوة في النقاشات المتعنقدة بين تخصصات عديدة. هذا هو الموضوع الذي انتهى إليه القسم السابع والأخير من الكتاب.
-1 تعد علاقة السوسيولوجيا بسياسة الاختلاف من أهم تلك النقاشات، وهي تترجم عادة بنظريات "الآخر". إذا نظرنا إلى العلم المرتبط بالنسوية أو بدراسات ما بعد الكولونيالية أو بدراسات أحرار الهوية والميول الجنسية أو بالدراسات الثقافية، والتي جسدت المواقع الرئيسة التي تصاغ فيها سياسات الاختلاف، فإننا سنواجه مفهوم "الآخر" مراراً، وهي تقع سوسيولوجياً بين سوسيولوجيا الاختلاف وسوسيولوجيا الآخرية. إن التشكل الاجتماعي لاختلافات المكانة النمطية والتراتبيات وتضاربها هو محور علم اجتماع الاختلاف وسياسات الاختلافات. في المقابل تسعى السوسيولوجيا الآخرية إلى فهم الكيفية التي تكتسب بها السلوكيات والهويات غير المعيارية مكانة تضعها في موقع خارج النظام الأخلاقي العائلي- المدني المعياري؛ تشير الآخرية هنا إلى حالة الإقصاء الرمزي أو فقدان الأهلية الاجتماعية والتحقير الثقافي.
-2 الحياة الحميمية في "الغرب": من الغريب أن العواطف، ولا سيما الحب الرومانسي والعلاقة الحميمية، ظلت مهملة إلى حد ما حتى ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته. وهذا ما حاولت سوسيولوجيا العواطف أن تستدركه؛ إذ فهمت المشاعر بأنها مما تشكله السيرورات الاجتماعية وتنظمه. لقد جعلت الحركة النسائية من الجنسانية والحميمية والحب موضوعات تستحق أن تضم إلى المعرفة الاجتماعية. غير أن الأدبيات المنشورة بشأن الحميمية، ولا سيما العلاقات الحميمية الرومانسية، أقل كثيراً مما نشر بشأن الجنسانية والجندر. فمنذ الحرب العالمية الثانية، خصوصاً خلال العقود القليلة الماضية، حدث تغيير تام في "ثقافات الحميمية" في أوروبا وأمريكا. وما عاد الزواج الترتيب المشروع الوحيد لدراما الحميمية؛ إذ إن كثيرين من المواطنين ذوي الهوية الجنسانية الغيرية آخذون في تكوين حيوات حميمية خارج حدود الزواج.
-3 القومية وأزمة أمم ما بعد الاستعمار: إذا كان مؤسسو النظرية الاجتماعية الحديثة قد تقاعسوا عن وضع نظرية حول النزعة القومية، فإن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية من علماء الاجتماع والباحثين لم يتمكنوا من تجنب هذه الظاهرة؛ فمنذ ثمانينيات القرن العشرين تقريباً وحتى اليوم، كانت النزعة القومية أحد أخصب مجالات التنظير والتحليل الاجتماعي. فمهما كان قدر الإبهار الذي تبديه العولمة بوصفها حركة رأس المال والناس والأفكار والثقافات عبر الحدود الوطنية، فإن مبدأ القومية الجوهري والأساسي- وهو فكرة الشعب الذي ترتبط بفضله أواصر الثقافة والتاريخ واللغة المشتركة، ويطمح إلى الاعتراف العلني به وبسيادته- لايزال قوة أساسية في العالم.
V. النظرية الاجتماعية اليَوم:
هل هي فعلاً معرفة متنازع عليها؟
بعد هذه الرحلة المعرفية في تاريخ ما يسمى بـ "النظرية الاجتماعية" وتحولاتها، كما ساقها صاحب الكتاب في ثنايا مؤلفه هذا، يبدو لنا أن هذا العمل قد تمكن على نحو ما من رصد تاريخ الكثير من "الرؤى الاجتماعية"، من كونت إلى هابرماس، ومن عصر التنوير إلى ما بعد النظرية التخصصية. لكن ذلك لا يمنعنا من مُساءلة ما جاء به هذا العمل ومقوماته، بُغية فتح نقاش بصدد أفكاره عموماً وأطروحته المركزية خصوصاً.
تكمن الأطروحة المركزية لهذا المؤلف في فكرة مفادها: إن النظرية الاجتماعية، هي موْضع صراع دائم بين ثلاثة أشكال نظرية، يحددها ستيفن سيدمان، صاحب الأطروحة، في المقاربات الفلسفية والعلمية والأخلاقية.
لقد جعل المؤلف من غرض هذا العمل الكشف عن التوتر الحاصل بين هذه المقاربات، لكن إلى أي حد توفق في هذه المرمى؟ من خلال ما سبق تقديمه حول الكتاب وعنه، يبدو لي أنه أخفق في ذلك على نحو ما. فمادام هناك ثلاث رؤى نظرية متصارعة، فلماذا لم يعتمد الكاتب على تصنيفه الثالوثي هذا لما يسميه بالنظرية الاجتماعية، بدل التصنيف المدرسي الذي اعتمده؟ كالحديث عن نشأة كلاسيكية، وسوسيولوجيا أمريكية، ونظرية أوروبية.
يبدو أنه سقط من حيث لا يحتسب، من خلال اعتماده على ما سميناه تصنيفاً مدرسياً للفكر الاجتماعي، في تناقض مع الهدف الذي أعلنه منذ البداية، في المقدمة. خاصة وأن هذا التصنيف الرتيب، بما هو تصنيف خطي، يقوم على مفهوم كرونولوجي للزمن، يتناقض مع مفهوم الصراع نفسه، الذي يشكل الحلقة المركزية للأطروحة. فأين هو الصراع المعرفي الذي يطال النظرية الاجتماعية، مادام لها تاريخ تعاقبي؟
نعترف أنه دافع باستماتة عن ذلك الثالوث في تحليله النقدي لهذه النظرية أو تلك، ولو أنه كان نقداً انتقائياً ومحدوداً، أو لهذا التصور أو ذاك، دفاعاً عن ضرورة التوليف بين ما هو علمي وما هو أخلاقي في كل تحليل اجتماعي يراد له أن يكون تنويرياً. لاحظوا معي عبارة "تنوير"، إنه يريد أن يجعل من عصر التنوير، أو لنقل الروح التنويرية التي جاء بها دعاة التنوير، مرجعاً مركزياً للنظرية الاجتماعية، ويريد في اللحظة نفسها العمل على مجاوزة التحيزات المعرفية والمصالح الشخصية التي كانت تدفع دعاة التنوير وغيرهم من المفكرين الاجتماعيين بعدهم. فكيف يستقيم ذلك؟ أو بالأحرى كيف يمكن ذلك؟ هذا هو السؤال الذي لم يجب عليه صاحب "معرفة متنازع عليها"، بل ربما لم يفكر فيه.
ثمة سؤال يؤرق القارئ، قارئ هذا الكتاب: لماذا الحديث عن النظرية الاجتماعية، مادام الأمر يتعلق بعلم الاجتماع تحديداً؟ ألم يكن حري به الحديث عن النظريات السوسيولوجية؟ إن هذا السؤال يطرح إشكالاً آخر، وهو أن الأمر يتعلق بعمل عن تاريخ السوسيولوجيا، أو بالأحرى تقاليدها، وهل يمكن اعتبار التقليد، ولوكان علمياً، من الصراع المعرفي في شيء؟ ثم لماذا الحديث عن النظرية مادام الأمر يرتبط برصد تاريخ التقاليد السوسيولوجية وغيرها من تقاليد الفكر الاجتماعي؟ يتبين لنا أن الباحث لديه مفهوم تبسيطي للنظرية، فهو يتعامل معها كوجهة نظر أو مقاربة أو رأي.
النظرية الاجتماعية: هل هي فعلاً معرفة متنازع عليها أو متصارعة؟ السؤال هو: هل يتعلق الأمر بنظرية اجتماعية بالتعريف؟ هل يتعلق الأمر في حقيقة الأمر، بالنظرية أم بنظريات؟ فمادامت النظرية الاجتماعية موضوع صراع بين نظريات اجتماعية، فبأي معنى هي "النظرية"، وكيف تكون وحدة نظرية؟ ما هي الوحدة الممكن بين هذه النظريات؟ وهل هناك وحدة معرفية اجتماعية فعلاً يمكنها أن تتوحد في نظرية اجتماعية؟ بل بأي معنى هي اجتماعية؟
طبعاً لم يكلف صاحب الكتاب نفسه الخوض في هذه الأسئلة، أو على الأقل طرحها، لأنها تقوض بشكل أو بآخر أطروحته. لنسلم إن هذه المعرفة متصارعة، لكن ماذا يعني الصراع في النظرية الاجتماعية؟ وما هي محركات هذا الصراع؟ وهل هو من صميم هذه المعرفة وطبيعتها أم لا؟ وهل هو ضروري لتطور المعرفة في النظرية الاجتماعية؟ إن هذه الأسئلة كفيلة بتأزيم أطروحة الكتاب ووضعها موضع أزمة؛ ذلك أن صاحب الكتاب تعامل مع أسسها كمسلمات لا غبار عليها.
[1]- ستيفن سيدمان، معرفة متنازع عليها، مرسي الطحاوي (مترجماً)، ط1، )بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فبراير 2021(. كل الإحالات الواردة في هذا المقال، ترد إلى هذه المرجع.