النقد الحضاري للمجتمع العربي
فئة : مقالات
بعد أن شخّص المفكر الراحل هشام شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" معوّقات تقدم المجتمع العربي،متتبعاً تربية الإنسان العربي منذ الطفولة، ومسائلاً النظام التربوي والاجتماعي الذي ُينتج أفراداً يعانون من العجز والاتكالية والإذعان للسلطة، سواء تمثلت في الأب أو المعلم أو الحاكم، أو ارتبطتبالولاءللعائلة والعشيرة والطائفة، راح شرابي يكشف في كتابه اللاحق "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" عن أسباب تخلف المجتمع العربي، مقترحًا تصورًا حول كيفية تجاوز هذا التخلف والتغلب عليه. ويؤكد أن التخلف الذي نجابهه، يكمن في أعماق الأنظمة الأبوية، الأبوية المستحدثة، إذ إن السيطرة الاجتماعية التي يمارسها الجيل القديمسيطرةٌ تامة، يرتبط فيها الشبان بسلطة أبوية الشكل فيبقون في ظل الكبار، على الصعيد السياسي كما على الصعيد العاطفي والعقلي، مما ينتج صفتين مترابطتين: اللاعقلانية والعجز؛ تتجلى الأولى في التحليل والتنظير والتنظيم، فيمايحول العجز دون مجابهة التحديات والتغلب عليها.
وفي كتابه "النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين" الصادر عنمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في طبعته الأولى عام 1990، يعاين شرابي آفاق التحول المنشود في المجتمع العربي من خلال اللجوء إلى أدوات نقدية ذات صلة بروح العصر والتحولات الكونية، إذ يلجأ إلى مفهوم "النقد الحضاري" الذي يعوّل عليه كثيرًا لتجاوز أزمة المجتمع العربي المتفاقمة، والاستعدادللدخول في مجرى التاريخ العالمي من خلال خلق وعي ذاتي مستقل واستعادة العقلانية الهادفة.
وتقوم أطروحة شرابي في النقد الحضاري على ثلاث ظواهر كشفها العقد الأخير من القرن العشرين، وهي: الحداثة، وقضية المرأة، والقوى أو الحركات الاجتماعية.وتستلزم أولى خطوات النقد الحضاري، مواجهة الواقع السياسي والثقافي المهيمن في المجتمع العربي، عبر "الخروج من الأطر الأبوية واستعمال لغة تختلف عن لغة السلطة"، من أجل "خلخلة الفكر المهيمن وإقامة أسس وعي جديد" (ص16). ويضيف إلى المهمة السابقة تفصيلاً يقتضي "مجابهة التيار الديني الأصولي مجابهة صريحة وكلية تشكل جزءًا لا يتجزأ من مهمة الحركة النقدية الحديثة".(ص17)
ويرى شرابي أن الحركات الدينية الأصولية "حركات سياسية تسعى، باسم الدين، إلى التوصل إلى أهداف سياسية، وعلى هذا الأساس يجب التعامل معها كحزب سياسي لا أكثر ولا أقل"، لأن "الدين الإسلامي ليس حكرًا على فئة من المسلمين تملك فيه حق التفسير والتأويل دون فئة أخرى من المسلمين"، ودليله على ذلك أن "الدين هو ملك كل مسلم آمن بالله ورسوله" (ص17). ويحذر شرابي، في سياق وضعه مداميكَ النقد الحضاري، مما يسميه "القاعدة الذهبية" التي تقوم على "رفض الدخول في لاهوتيات التراث، وتجنّب الجدل حول النصوص المقدسة والامتناع عن الوقوع في شرك التوفيق بين الحقائق الدينية وبين اكتشافات العلم الحديث." فالمجابهة الأصولية ضمن هذا الإطار "لن تؤدي بحركة النقد الحديث إلا إلى الاستسلام، إذ لا يمكن التوفيق بين الأبوية والحداثة، بين الأصولية والعلمنة" (ص17-18). ويراهن شرابي، في ضوء استشرافه انبثاق عصر جديد وممارسات اجتماعية جديدة، على "ديمقراطية تنطلق من السيادة الشعبية المباشرة" التي تقوم على "رفض كل أنواع الأبوية البيرقراطية وإيديولوجياتها المختلفة". (ص10)
ويلفت إلى أمر في غاية الأهمية يتصل بعملية القراءة التي تضاهي، في نظره، عملية الكتابة، "فالقراءة تأتي فعلاً قبل الكتابة، وتأتي أيضاً بعدها، ولا وجود لنص دون قارئ". وتستدعي هذه القضية إنتاج لغة تحدث قطعًا معرفيًا مع اللغة التقليدية التي لا تقوى على فهم النص النقدي الحديث، فـ "دون استيعاب النص الجديد، باستعمال المفاهيم الجديدة واللغة الجديدة، لا يمكن تغيير الوعي، والعكس هو الصحيح"، وبالتالي، فإن "العودة إلى اللغة التقليدية لتفسير الخطاب الجديد لا يكون إلا تعزيزًا للغة التقليدية وخطابها الأبوي"، لذا نرى أن شرابي لا ينفك يؤكد أن "الانعتاق الفكري (يرتبط) ارتباطاً عضوياً بالتحرر اللغوي" (ص18)،ومن شأن اللغة أن تصوغ الخطابات أو المقالات الفلسفية والتاريخية والنقدية، فإذا لم تكن اللغة مصوغة بوعي حداثوي، فإن من شأن ذلك أن يقود إلى هيمنة المقال الأصولي الديني الذي يرى شرابي أنه "المقال الوحيد القادر على فرض نفسه بلجوئه إلى الشرعية الدينية والشعارات الإسلامية نفسها التي تعتمدها السلطة القائمة أساسًا لشرعيتها" ص28. ويماثل شرابي بين الخطاب الأصولي والخطاب الثوري الواحد الشامل، ويتساءل: "هل باستطاعتنا الانفتاح على الخطابات اللاثورية دون التنازل، في الوقت نفسه، عن الخطاب الثوري؟". (ص29)
ويَصدر صاحب "الجمر والرماد" في أطروحته حول النقد الحضاري عن راديكالية تضارع تلك التي طبعت أولى تفتحه الفكري، حينما كان مناضلاً في صفوف الحركة القومية الاجتماعية العربية منتصف أربعينيات القرن الماضي، لكنّ راديكاليته الجديدة هنا ذات طابع نقدي حاد يقوم على إحداث قطيعة مع الأفكار والخطابات "الماضوية".وفي هذا السياق، يدعو إلى "إطاحة الهيمنة الكلية لأي خطاب، بما فيه الخطاب العَلماني أو الاشتراكي الثوري" شرطًا أول "لضمان الحرية الاجتماعية، فكرًا وممارسة". (ص29-30)
وردًا على تبدّد اللحظة التاريخية في أعقاب هزيمة 1967 وتخلي المثقفين العرب عن "الثورة"، ولجوئهم إلى المواقف اليائسة المتهربة، راح فكر جديد يتبلور في أعماق الوعي الاجتماعي على شكل "خطاب نقدي حضاري يرفض الشرعيات المطلقة، ولا يعترف بمطلب الحقيقة الواحدة الشاملة، ويصرّ على الاختلاف السياسي والتعددية الفكرية، ويضع حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية وقضية المرأة على رأس اهتماماته الفكرية والاجتماعية". ومن سمات هذا الفكر أنه ذو "خطاب جذري لا يقبل اللاهوتيات الساذجة، بما فيها الستالينية والماركسية الأرثوذكسية التقليدية، ويقيم مكانها ماركسية جديدة منفتحة قادرة على استيعاب التيارات الفكرية الطليعية المختلفة، وعلى استنباطفكر مبدع يجمع بينها في جدلية متنورة تتفاعل مع الفكر الديني والفكر التفكيكي والفكر العلمي التجريبي على حد سواء". (ص32)
ولا يمكن تصور تجاور الفكر الديني والفكر العلمي، إلا إذا افترضنا عالمًا طوباويًا تنتفي فيه التناقضات والاختلافات، فكيف يمكن لماركسية "منفتحة" أن تشتبك معرفيًا مع فكر ديني قوامه الميتافيزيقا والأفكار اللاهوتية. ولو تصورنا أن فكرًا دينيًا خلا من هذين المركّبين، فهل يبقى محتفظًا بسمته فكرًا دينيًا، أم يصبح فكرًا ليبراليًا أو جزءًا من حركة الفكر الإنساني والفلسفي؟
ولا يتوقف "التناقض" في طرح شرابي عند هذا الحد، فهو في مقدمة كتابه يرى أن التاريخ يحقق نفسه "من خلال الشعوب والجماهير" لا من خلال "المفكرين" أو "المثقفين" أو "القادة". ويبرهن على ذلك بوقائع جرت في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق والصين. بيد أنه يستدرك فيشير إلى أن "الحركات الاجتماعية لا تقوم خارج، أو ضد الفكر أو النظرية أو من خلالهما"، مؤكدًا أن "الممارسة والفكر يسيران يدًا بيد في الحركات الشعبية"، وعليه "لا يمكن للتغير الاجتماعي أو السياسي أن يحدث دون نضوج الرؤية والهدف من داخل المجتمع". (ص9)
ويرى صاحب كتاب "المثقفون العرب والغرب" أن من سمات العصر الراهن"نهاية الفلسفة بمفهومها التجريدي ونهاية هيمنة الفلاسفة والقادة".كما يعتقدأنه بالإجهاز على الفلسفة وأطروحاتها "يرجع الفكر إلى حيث ينشأ حرًا في الحوارات الأفقية المفتوحة بين فئات وجماعات ومؤسسات المجتمع المدني، لا على مستوى المنظرين الأيديولوجيينأو على مستوى مكاتب البيرقراطية المتسلطة أو مراجعها العليا". (ص11)وبالقدر نفسه الذي يدعو فيه إلى تحييد الفكر والفلسفةبمعناهما الجذري العامودي، فإنه ينتقد أيديولوجية الفكر الثوري القديم معطوفة على "غيبيات الفكر الأصولي النامي" الذي يدعو إلى منع استعمال قيمها "لتبرير السلطة القائمة أو لاستبدالها بسلطة أبوية قمعية مماثلة".
ولئن كان شرابي مصيباً، إلى حد ما، في مضاهاة الفكر الغيبي بأطروحات الفكر الثوري القديم المتحجرة، لجهة أن كلتيهما تصدران عن لحظة انفصال عن الواقع المباشر، وتلمّس حاجاته الجوهرية، إلا أنه في دعوته إلى إقصاء الفلسفة وإقالة المفكرين يصدر عن توجه عدمي وتبسيطي يراهن على قدرة الطبقات الفقيرة والمهمشة على إحداث الثورة الحضارية المأمولة. وربما "أغفل" شرابيأو "تجاهل"، بداع من اليأس والتشاؤم اللذين غلبا على جانب من تفكيره، أن الحركات الثورية في العالم، قامت على جهد الفلاسفة والمفكرين والمنظرين الاجتماعيين و"المثقفين العضويين" بحسب تعبير "غرامشي"، لكن شرابي لا يلبث أن يجدد الأهمية التاريخية للفكر الثوري الذي لا يزول مقاله، "بل يستمر على شكل قوة موضوعية تكمن في صميم البنية الاجتماعية، ولا تلبث أن تظهر بأشكال سياسية وفكرية غير متوقعة". (ص31)
وينطلق شرابي، في تناوله الذات في صورة الآخر، من اعتقاد بأن النظرية العلمية ومنهجيتها الموضوعية، إنما تنبثقان من أرضية لا علمية ولا موضوعية أساسًا، "بل إنهما تعبران عن اتجاهات ومعتقدات ومصالح خفية لا شعورية، يمكن إظهارها بتفكيك اللغة التي يستعملها الباحثون في أبحاثهم العلمية وبطريقة عرضهم للموضوعات التي يتناولونها". (ص35-36)، ويذكّر بأن أنظمة المعرفة وأساليب البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والأساسية هي أنظمة وأساليب غربية في أشكالها كافة، مما يفسر، بنظره، الرفض المطلق لها من قبل الأصوليين "وإصرارهم على العودة إلى الدين والتراث لاستعادة الهوية الأصيلة من خلال معرفة تراثية مستقلة عن كل الأطر والمفاهيم الأجنبية". (ص37)
ويجري شرابي، في سياق تحليله النمطَ الغربي الأكاديمي وخطابه العلمي ومواقفه النظرية، قراءة نقدية لعدد من النصوص التي تمثل "عينة" للكتابة العلمية الغربية في حقول التاريخ والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم الاجتماع النفسي. وتمثل هذه الحقول النزعات الثلاث المسيطرة في الأبحاث الأكاديمية الغربية: نزعة الاستشراق، ونزعة الدراسات القُطرية، ونزعة الليبرالية الإنسانية، ويختار ستة مفكرين يمثلون هذه النزعات المختلفة ويجسّدون مقولاتها وأفكارها.
وتكشف الدراسات المختارة تمظهرات الحالة العربية والإسلامية في نظر كتّاب غربيين، كل بحسب مرجعياته الفكرية والسياسية، إذ يتجلى انحياز هذه المرجعيات بصورة ساطعة فيما يتصل بالصراع العربي الإسرائيلي وقضايا الإسلام. بيْد أن شرابي، الذي يحلّل الخلفيات التي تتوارى وراءها نصوص أولئك المفكرين، سرعان ما يعود إلى "أرض" فكرته، ليحاور نصوصًا منتخبة لمجموعة من كاتبات وكتاب عرب يمثلون الاتجاهات الخمسة الكبرى في الحركة النقدية العربية وهي: الاتجاه الماركسي، والاتجاه الفرويدي، والاتجاه البنيوي، والاتجاه التفكيكي، والاتجاه النسائي، وهي ما يشكل في رأيه "خطاً فكريًا موحدًا ينسجم في أسلوبه النقدي ويتحد في هدفه الفكري والسياسي المتمثل في محاولته زعزعة الخطاب المهيمن ونظامه الفكري والاجتماعي بأشكاله الثلاثة: الأصولي الديني، والأبوي التقليدي، والأبوي المستحدث". (ص52-53)
ويقرأ شرابي تحديات النظام القائم، كما تجلى عقب هزيمة 1967 في كتابات أدونيس، ومحمد أركون، وعبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط. وتنهمك هذه الكتابات، بحسب شرابي، في السؤال حول شرعية النظام العربي التاريخية والسياسية.ولدى معاينته تمثلات الاتجاه الماركسي العربي المعاصر يحدد ثلاثة تيارات: التيار الماركسي التقليدي، والتيار الماركسي الإسلامي، والتيار الماركسي الغربي، عبر استظهاره كتابات طيب تيزيني، وحسين مروّة، وإلياس مرقص. لكن شرابي، وهو يختار مقاطع مبتسرة من كتابات هؤلاء المفكرين الثلاثة لا يشير إلى تمايز جوهري بينهم، فثلاثتهم يصدرون عن منهج ماركسي في قراءة التراث العربي الإسلامي، وبالتالي فإن تيزيني لا يختلف عن مروة، فكلاهما قرأ التراث العربي الإسلامي بمنهج البحث المادي التاريخي، وكذا فعل مرقص الذي يسجل له شرابي دعوته إلى "تحديث النقد الماركسي"، وهي دعوة اكتنفت كتابات تيزيني ومروة، مما يجعل الثلاثة يمثلون اتجاهًا ماركسيًا عربيًا نقديًا مؤتلفًا ضمن بوتقة النضال الفكري والاجتماعي.
وفي سياق تأملاته في النشاط النقدي العربي لحقلي علم الاجتماع، وعلم الاجتماع النفسي، يناقش شرابي أفكار اللبناني حليم بركات، والسوري علي زيعور، والمصري مصطفى صفوان، معتبرًا أن كتاب بركات "المجتمع العربي المعاصر" يعد "أول دراسة شاملة لبنية المجتمع العربي وديناميته الاجتماعية والسياسية" ص62 ، فيما تمثل دراسة زيعور عن "التحليل النفسي للذات العربية" أول دراسة عالجت "المجتمع ذاتًا أو كلاً مستمرًا، مستعملة الطرائق التجريبية". (ص63)
وتمكّن صفوان، بحسب شرابي، من "فتح آفاق جديدة أمام الفكر النقدي كانت مغلقة في وجهه حتى الآن"، بعد ترجمته كتاب سيغموند فرويد "تفسير الأحلام" في العام 1981. ويكتفي شرابي بهذه "الابتسارات" والأحكام المطلقة للإشارة إلى الكتابة العربية في حقل عدّه مهمًا وحيويًا كعلم الاجتماع.
ويتناول شرابي، بعد ذلك، البنيوية وتفكيكاتها الأدبية والفلسفية في كتابات كمال أبوديب، وعبد الفتاح كليطو، وعبد القادر الفاسي الفهري، ومحمد الوقيدي، ومحمد بنّيس، وعبدالكبير الخطيبي. كما يتناول كتابات المرأة وجهود الباحثات نوال السعداوي، وفاطمة المرنيسي، وخالدة سعيد اللائي يعدهن "مفكرات عربيات تناولن موضوع المرأة بجد ورصانة" (ص71). ويخلص شرابي من وراء تنقله في أقاليم الكتابة العربية بمختلف حقولها إلى أن "الخطر الذي يجابه الحركة النقدية العربية اليوم هو السير في الاتجاه النخبوي نفسه الذي يميز الحركة الفكرية في الغرب، في انعزالها الأكاديمي وابتعادها عن الواقع المعيش وصراعاته".
بيْد أنه، على الرغم من كل الصعوبات والتحديات، ما ينفك يراهن على إمكانية "صياغة خطاب علماني نقدي قادر على مجابهة الخطاب الأبوي المهيمن وتجاوزه". ويعتقد بأن هذه المهمة تتطلب "ليس تفكيك اللغة المهيمنة وأسلوبها التعبيري وحسب، بل تفنيد العقلية التي تنغرس فيها هذه اللغة ومصطلحاتها وأساليب تعبيرها" (ص80). كما أنه يراهن، في سبيل تطور البناء الحضاري، على تغيير أساليب الكتابة والبحث القائمة على الوصف التقليدي، والاستعاضة عنها بأساليب التحليل والتفسير الناقد، وكذلك التصدي لـ "الموضوعات الحضارية الأساسية: الثقافة الجماهيرية، وحياة الريف، والتراث الشفهي (المقال)، والبنية العمالية في المدن" (ص81). وبتأثيرات واضحة من دريدا وفوكو، لا يمل شرابي من تأكيد أهمية فعل القراءة لمنتج الآخر الذي يمثل عصب اللغة الحضاري، لذا يتحدث في مواضع عدة من كتابه عن أهمية إنتاج لغة حديثة تحاور وتقرأ وتساجل، وتستوعب المنجزات العلمية والفكرية والحضارية.
وفي تأملاته في معنى الحداثة، يتساءل شرابي: "هل يمكن الدخول في الحداثة بواسطة لغة غير حديثة، لغة مازالت في مرحلة ما قبل الحداثة، بمفاهيمها ومصطلحاتها وأطرها الفكرية؟" ص85. ويقترح شرابي ما يسميه حلاً سيكولوجيًا فكريًا لمشكلة سوسيولوجية فكرية، يقوم على اختراق آفاق الذات العربية وتجاوز لغتها وفكرها من خلال "إتقان اللغة الفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية... إلخ (من أجل) بناء فكر خارج أسوار الأبوية وقلاعها اللغوية (حيث) يتمكن الفكر الناقد من تحرير لغته واستنباط وسائل التعبير الذاتي المستقل". (ص86)
وفي الوقت الذي ما يزال المجتمع العربي يسعى إلى تحقيق الحداثة، كان الغرب، مهد الحداثة، قد تعدى هذه المرحلة، ودخل في مرحلة ما بعد الحداثة. وهنا يتساءل شرابي: ما معنى ما بعد الحداثة وما علاقتها بالحداثة؟ويقرّ بأنه "ليس هناك وصفة فكرية يمكن من خلالها التوفيق بين فكر الحداثة وفكر ما بعد الحداثة"، وأن ما يرنو إليه يقوم على "شق طريق مستقل يقوم على الوعي الذاتي المستقل القادر على انتقاء ما يناسبه من المفاهيم والأساليب من نماذج فكر الحداثة الكلاسيكي وفكر ما بعد الحداثة في آن" (ص 96). وفيما يرقى إلى النقد الذاتي، يعترف شرابي بأنه كان يعتقد وأكثر المثقفين التقدميين العلمانيين أن "مشكلة المرأة لا حل لها إلا بتحقيق الحل الاجتماعي العام؛ أي بتحقيق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية في المجتمع ككل. كان المفهوم الطبقي، بمضمونه التاريخي الدينامي، هو المفهوم المركزي في توجهنا الفكري وفي تحليلنا النظري" (ص98)، بيد أنه يستدرك، بعد مضي عقود، فيشدد على أن "الموقف الجذري الصحيح في المشروع النقدي العلماني يتمثل في رفض التوقف عند ما يسمى "حقوق المرأة" وكل الحدود النظرية التي تقلل من مقدار الإشكالية الأنثوية وأثرها بالنسبة إلى المجتمع والثقافة ككل، وفي الدعوة إلى إعادة النظر في معنى "الفرد" و(الإنسان) لا مفردات تعني "رجلاً" أو "ذكراً"، بل كمفاهيم إنسانية تدل على طبيعة الرجل وعلى طبيعة المرأة". ومن شأن هذا الموقف، الذي يمثل عملية النقد الحضاري في المرحلة الراهنة، أن يوفر الظروف الملائمة لـ "تجاوز الانفصام المعنوي والفكري والحياتي وما يلحق به من انفصامات سياسية واجتماعية وقانونية في قلب المجتمع، كخطوة أساسية تمكن المجتمع من استرداد ذاته وقدرته على الانتقال من مجتمع أبوي تابع عاجز إلى مجتمع حرّ حديث". (ص99)