النهضة العربية الثانية، ومعضلة المركز والهامش
فئة : مقالات
1ـ يحلو للبعض أن يعتقد أنّ مصر هي "أمّ الدنيا"، بالمعنى الاستغراقي الذي لا يرى لغيرها سبقاً في المدنية أو قدماً راسخة في الحضارة والتقدّم. لذلك، لا يتردّد هؤلاء في القول إنّ مصر كانت وحدها منطلق النهضة العربية الأولى ومركز حيويتها وإشعاعها، بينما تعتبر الأقاليم والأقطار العربية الأخرى تبعاً لها تسير على هداها وتقتبس من أنوارها.
لا نقصد بهذا أن ننكر على مصر الريادة العربية في العصر الحديث، لكنّ تجاهل المساهمات الإقليمية والقُطرية أو التقليل من شأنها خاصة عند التأريخ للنهضة العربية لا صلة له بالبحث التاريخي العلمي، كما أنّه لا يجدي فيما يجري حثيثاً من سعي لإرساء نهضة عربية ثانية نشهد اليوم مخاضها العسير. لا شكّ في أنّ مصر كانت أوضحَ تعبيراً عن هاجس التقدّم والسعي إلى التحديث لمواجهة التحدّي الأوروبي، لكنّ المخاوف من اندثار الهوية والحرص على صون الذات من المخاطر الغربية المحيطة بالعالم العربي والإسلامي كانت قاسماً مشتركاً لدى الجميع.
هذا ما أكدته مجلة "العروة الوثقى" حين اعتبرت أنّ "الرزايا الأخيرة التّي حلّت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربت بين الأقطار المتباعدة المتّصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء وحوّلت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدّت إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر وتواصلوا في طلب الحّق وعمدوا إلى معالجة الخلل وعلل الضعف".
2ـ هذا الاتفاق في تشخيص ما يسميه بعض أعلام النهضة العربية "الفتور العام" في الأمّة لم يمنع من الاختلاف في تحديد آليات المعالجة وأولوياتها، فاعتمد البعض مقولة "المنافع العمومية"، بينما تبنّى آخرون أطروحة "التنظيمات"، في حين قال فريق ثالث بفتح باب الاجتهاد باعتبار أنّ وعيهم بالأزمة الحضارية التي أفقدت المسلمين كلّ معاني العزّة والفاعلية كانت تنبع من تدهور حال المسلمين ولا علاقة لها بالإسلام معتقداً وقيماً وشريعة.
ما يقدّمه في هذا المضمار رجال النهضة العربية الأولى والإصلاح في بلاد الشام (سورية وفلسطين ولبنان وأجزاء من جنوب شرق تركيا) عظيم الأهمية، لكونه يعرض ريادة ذلك الإقليم وخصوصيته في تعبيره المبكر عن هاجس النهوض وتصديه إلى الاستبداد بصفته ناقضاً للعمران وعدوّاً للعلم والحكمة والتقدم.
أوّل ما تفيدنا به المصادر القديمة أنّ عدداً من علماء الشام كانوا قد عبّروا منذ القرن السادس عشر عن اعتراضهم على تعسف الولاة العثمانيين مذكّرين السلطان بضرورة رعاية أحوال الأمة. نجد ذلك مثلاً في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ ابن علوان الحموي (تـ 1530م) العالم الزاهد إلى السلطان سليم يقول فيها: "ومن المنكرات هجوم الطارقين من العسكر على بيوت الرعيّة والدخول على حريمهم والنزول في ديارهم قهراً لأنّ ذلك من مخالفة الكتاب والسنّة".
3ـ نجد نظير هذا في القرون الموالية مع أكثر من عالم في أكثر من حادثة. من ذلك موقف الشيخ أبي المواهب الحنبلي الدمشقي ثم الشيخ عبد الغني النابلسي لمناصرة جانب الرعية التي أضرّت بها الضرائب الباهظة أو تمادي استبداد الوالي إلى حدّ إجازة الهجرة من البلاد بعد أن اشتد بها الحال.
ما قدّمه عبد الرحمن الكواكبي (تـ 1320هـ -1902م) في مقالاته وكتبه يوفر أكثر من دلالة على ما نحرص عليه من القول بضرورة مراجعة ظاهرة النهضة العربية الأولى، بإعادة قراءة نصوصها المؤسسة لإضاءة ما يميّزها فيما تناولته من قضايا في مختلف الأقاليم والأقطار العربية، وعلى ضوء ما تطرحه النخب العربية اليوم من تساؤلات.
ما نقرأه اليوم ممّا كتبه الكواكبي في مخاطبة غير المسلمين من بني قومه مثير للإعجاب، خاصّة ونحن نشاهد ما آل إليه حال بلاد الشام والعراق من تطاحن وتمزق بين أتباع الملة الواحدة. يقول الكواكبي: "يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين، أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين من أجل ألا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون. فهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداهم العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسي دون المذهبي والارتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها...؟ دعونا يا هؤلاء، نحن ندبر شأننا نتفاهم بالفصحاء ونتراحم بالإخاء ونتواسى في الضراء ونتساوى في السراء. دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط".
4- أمّا إذا اتجهنا صوب بلاد المغرب فإنّ الشواهد عديدة تؤكد أنّ هاجس التقدم كان حيّاً في أوساط المتعلمين والنخب المغاربية، وأنّ هذا التيقظ تعيّن لدى نخب عربية بدرجات تتفاوت حسب موقع كل إقليم وخصوصية كل قطر الحاجةَ إلى الإصلاح بواجهتيه الاثنتين: من جهة ضرورة إقامة منظومة جديدة تستوعب المتغيرات الحديثة التي يقتضيها الوقت حرصاً على المنافع وتجنباً للمضار، ومن جهة أخرى لزوم مواجهة فقهاء التقليد ومؤسساتهم التعليمية والقضائية ونقد للفكر الذي تستند عليه، مع ما يقتضيه ذلك من مقاومة التدين الخرافي وشعوذة التصوف السلبي كما يسميه محمد إقبال.
هذا ما فاجأ رموز الإصلاح في مصر، وهو ما أكده مثلاً محمد عبده في خصوص المنطقة المغاربية عامة والقطر التونسي خاصة في رسالة أرسلها بتاريخ 24ديسمبر (كانون الأوّل) 1884إلى جمال الدين الأفغاني في باريس يعلمه فيها بتفاصيل مهمته التي قدم من أجلها إلى تونس. كتب يقول "التقيت هنا بالعلماء والأمراء فتعرّفت عليهم وقلت لهم ليست "العروة الوثقى" اسم جريدة فقط بل هي قبل ذلك اسم لجمعيّة أسّسها السيد (جمال الدين الأفغاني) في حيدرأباد بالهند ولها فروع سريّة في بلاد كثيرة، فأعلمتهم بأنّنا نرغب في تأسيس فرع لها بتونس فقبلوا، وأنا أسعى لتكوين هذا الفرع من العلماء وأعتقد أنّه لا مجال للخوف لما يتّسم به أولئك العلماء من غيرة ودفاع وسيحافظون على سريّة هذا الفرع. ولو وقفتم بأنفسكم على مدى إكرامهم لي لسعدتم كلّ السعادة". ثم يعلن إثر زيارته الثانية إلى تونس والجزائر سنة 1903 أنّ النخبة التونسيّة "أشد قبولاً للرّقي من المصريينّ"، وانّ مبدأ الإصلاح حاصل في صفوف النخبة لكنّه يحتاج إلى مزيد من الرعاية قصد فتح المجالات العمليّة لدعمه والمساهمة في توسيع آفاقه.
5ـ جملة هذه الاعتبارات تنتهي إلى القول إنّ الجهود العربية للنهوض الأول لم تتمركز في قطر بالأساس، بل إنّ كل قطر عرف حراكاً نجم عن صراع تاريخي بين قوى داخلية، وبينها وبين أخرى خارجية، وهو حراك لم ينجُ منه بلد من البلدان العربية، وإن اختلفت التعبيرات والمناحي والدرجات وفق ما يتسق مع الوضعية الثقافية والاجتماعية لكل بلد. معنى ذك أنّ مقولة الربط الآلي بين تلك الجهود من أجل النهوض والتقدم وبين حملة بونابرت على مصر أواخر القرن الثامن عشر ليس سوى تأكيد على أنّ مدار النهضة ظل قرين القطر المصري وما شهده هذا البلد من محن قديمة ووافدة.
الأهم في خصوص النهضة العربية الثانية وعلاقتها بالمركز والهامش هو أننا نشهد، إلى جانب ما سبق ذكره ما للمستجدات العلمية والفكرية والتواصلية التي تميز عالم اليوم والتي أقبلت عليها الأجيال العربية المختلفة والصاعدة بصورة لافتة، نشهد مزيداً من تراجع لمقولة المركز المهيأ للريادة والهامش التابع العاجز عن الريادة. يضاف إلى هذا العنصر أنّ التأمل في مقولة المركز والهامش عند توسيع أفق التحليل إلى المجال الحضاري الإسلامي يؤدي إلى تهافتها بصورة أكيدة. ذلك أنّ البلاد العربية التي تعتبر "مركزاً" لبقية العالم الإسلامي في الفترة الحديثة أضحت في وضع متخلف عن عموم البلاد الإسلامية التي تعدّ عادة أطرافاً وهوامش. لقد استطاع مسلمو إندونيسيا وماليزيا والهند وتركيا وإيران أن يكونوا أكثر حرية وفاعلية وإبداعاً من أمثالهم في بلاد العرب التي نواصل في اعتبارها "المركز" الذي ما زال متعثراً في معركة "صناعة تاريخه" ضمن مشروع نهوضه الثاني.
إنّ ما يجري اليوم في بلاد العرب، رغم دمويته وشراسته وبطئه، لن يخضع لمقولة المركز والأطراف التي أنهكتها فعاليات العولمة، ولكنّه مؤشّر أكيد على صيرورةٍ حضاريةٍ ممتدة لا يمكن للبلاد العربية أن تُعرض عنها. هو حراك متّئد ومعقد ومتعدّد المكونات سيتحدد مصيره عند قيام نموذج عربي أول، أيّاً كان موقعه، بمبادرة الشروع بالإسهام في "صناعة التاريخ". النجاح في هذا التحدي الأكبر ليس أمراً معطى، كما أنّه ليس موصولاً بما يعتبر مركزاً أو هامشاً بقدر ما يتطلب في ولادة هذا النموذج الغائب انبثاق وعي معاصر منفتح على الأفق الإنساني ومتمثل للسياق التاريخي الجديد ولصيرورة الواقع الوطني والعربي، المغاير نوعياً لما عرفته أجيال العقود الماضية.