النهضة وحزب التحرير: شقيقان فرّقت بينهما السياسة والخلافة
فئة : مقالات
تمرّ علاقة حركة النهضة بحزب التحرير فرع تونس بحالة من التوتر وانعدام الثقة، بعد أن قام أحد قادة الحركة وليد البناني باتهام أنصار الحزب بالمشاركة في الحراك الاحتجاجي الذي اندلع بمدينة القصرين والعديد من المحافظات التي ما تزال تعاني من التهميش والبطالة، ورأى في ذلك "محاولة لإسقاط الحكومة". في المقابل ردّ الناطق السابق باسم الحزب على تلك الاتهامات بهجوم معاكس اتسم بالحدة والغضب، حيث جاء بصفحة رضا بلحاج الرسمية بموقع "فايسبوك" مخاطباً البناني: "أقول لك إلزم حدودك وتعلم الشهامة والمروءة، فحزب التحرير لم ولن يستعمل ماء (الفرق) أي ماء النار لتشويه وجوه العباد وعمي الأبصار، وحزب التحرير لم ولن يستعمل (المولوتوف) للتفجير والفرقعة وقتل الأرواح البريئة، حزب التحرير لم ولن يقتل أي سائح مهما كان دينه ومهما كانت جنسيته...، ولن يقتل أي أمني، وإن كان ظلمه، حزب التحرير لم ولن يغادر منصة الثورة ومنصة الصحوة الإسلامية". وفي هذا الرد تذكير بأعمال عنف سبق لعناصر منتمية لحركة النهضة أن اتهمت بارتكابها سواء في عهد الرئيس بورقيبة أو في مرحلة الرئيس بن علي.
قد يبدو هذا المشهد استثنائياً، ويقف عند حدود الاشتباك بين قياديين في كل من حركة النهضة وحزب التحرير، إلا أنّ ما حدث يعكس خلافات أعمق تتجاوز الجوانب الشخصية وتدل على حجم التباينات القائمة بين هذين التنظيمين، كما تؤكد على أنّ حركات الإسلام السياسي في تونس لم تتمكن من تحقيق التجانس بين مختلف مكوناتها لأسباب عديدة، بعضها يتعلق بتباين أولوياتها ومرجعياتها السياسية، وبعضها الآخر يعود إلى تعارض مصالحها وأجنداتها.
في مطلع السبعينات تهيأت البيئة التونسية لاستقبال ظاهرة الإسلام السياسي ولكن برأسين. كان التيار الإخواني أسبق في اختراق المجتمع التونسي، وذلك بعد عودة السيد راشد الغنوشي من سوريا، حيث تأثر برافدين أساسيين: الأول هو الإخوان، والرافد الثاني سلفي ممثلاً في المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ونظراً للقاء المبكر الذي جمع الغنوشي بطالب الحقوق الشيخ عبد الفتاح مورو الذي كان يحمل في ثقافته جزءاً من التراث الزيتوني إلى جانب تأثره بالصوفية الطرقية التونسية، فقد شكل هذا الثنائي بداية تأسيس نواة إخوانية مفتوحة على المحيط الديني والاجتماعي المحلي.
بعد سنتين أو ثلاث، زرعت في البيئة التونسية الخلية الأولى لحزب التحرير الإسلامي. هذا الحزب الذي كان نشيطاً في ليبيا خلال الفترة الأولى من حكم العقيد القذافي، والذي سرعان ما دخل في منافسة مع ما سُمّي يومها بـ "الجماعة الإسلامية في تونس"، وهي الجماعة التي ستحمل فيما بعد اسم "حركة الاتجاه الإسلامي"، قبل أن تستقر على تسمية نفسها بـ "حركة النهضة".
لقد ساد الخلاف والحذر بين المجموعتين منذ البداية، لأنّ كلاً منهما حمل في ذاته التناقضات التي كانت حادة بين الإخوان والتحريريين منذ تأسيس الحزب على أيدي تقي الدين النبهاني. لكنّ كل مجموعة شقت طريقها بشكل منفصل ومستقل عن الأخرى. وإذ اعتمد كل منهما في البداية على منهج السرية، إلا أنّ "الجماعة" كانت أكثر عرضة للانكشاف نظراً لاعتمادها على المنهج الدعوي المسجدي، في حين كانت خطوات حزب التحرير تطغى عليها السرية الكاملة. وإن كان ذلك لم يجعله بعيداً عن أنظار الأجهزة الأمنية التي التقطت بعض عناصره، حيث خضع العديد منهم للمحاكمات السياسية بشكل مبكر منذ العهد البورقيبي، وصولاً إلى مرحلة الجنرال بن علي. وقد التقت كوادر الحزبين داخل السجون، دون أن يؤدي ذلك إلى تحول نوعي في علاقاتهما السياسية والحزبية.
عندما قامت الثورة، انطلق كلّ حزب في اتجاه مختلف تماماً عن الآخر. فحركة النهضة استجمعت كل قواها لكي تندمج في النظام السياسي، من خلال المشاركة القوية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، هذه الانتخابات التي قادتها إلى السلطة من جهة حيث تحملت مسؤولية رئاسة حكومة الترويكا بإيجابياتها وسلبياتها، ومن جهة أخرى اعتمدت حركة النهضة على ثقلها العددي داخل المجلس لكي تمثل طرفاً مهماً في صياغة الدستور التونسي الجديد.
أمّا حزب التحرير فقد اختار طريقاً مختلفة، بل ومعاكسة تماماً لمنهج النهضة. لقد أعلن منذ البداية أنه لا يؤمن بالديمقراطية، وبالتالي اعتبر نفسه غير معني بالمشاركة في الانتخابات. ولم يكتف بذلك فقد اعترض بشكل قوي على مسألة صياغة الدستور الجديد، وقدم بديلاً عنه "دستور حزب التحرير"، وهي وثيقة جاهزة تصلح حسب اعتقاد أعضاء الحزب لكل دولة من دول العالم. وقد اغتاظ الحزب كثيراً عندما تراجعت حركة النهضة عن المطالبة بالتنصيص على مصطلح "الشريعة" في الدستور، وذلك خضوعاً منها للمعارضة التي عبرت عن تخوفها من بناء "حكومة دينية". وبسبب ذلك انتقد حزب التحرير بشدة حركة النهضة، واعتبر موقفها دليلاً قاطعاً على تخليها عما يسميه بـ "المشروع الإسلامي".
يواجه الفرع التونسي لحزب التحرير جملة من التحديات التي سيكون من الصعب عليه أن يتخلص منها أو أن ينجح في مواجهتها في حال تمسكه بالمرجعية السياسية والفكرية التي يستند عليها منذ تأسيسه، وهو ما جعله عرضة للتهديد بحله ومنعه. ومن أهم هذه التحديات:
أولاً: حزب التحرير يتعارض بشكل جوهري وهيكلي مع المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها تونس دولة ووطناً. لا يؤمن أعضاؤه وقادته بالدولة الوطنية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من سايكس بيكو. ولا يقرّون بمشروعية مؤسساتها وتشريعاتها ودستورها، ولا يترددون في القول إنهم يعملون على إلغاء هذه الدولة وحل هياكلها وإبطال قوانينها. فهدفهم المعلن هو إقامة الخلافة، وبالتالي هم مرتبطون مؤقتاً بتونس في انتظار إلغاء حدودها وشطب خصوصياتها في سبيل الاندماج في الكيان السياسي الأممي المنتظر. فشبكة المؤسسات التي تجمع أعضاء الحزب ببقية التونسيين هي شبكة زائلة بالضرورة عندما يتم الإعلان عن الخليفة القادم الذي سينبثق من داخل الحزب.
ثانياً: حزب لا يؤمن بالديمقراطية في بلد يمر بحالة انتقالية ترمي إلى بناء نظام ديمقراطي. أي أنّ الحزب يتحرك خارج السياق السياسي الراهن الذي يمر به التونسيون. إذ بقدر ما يسعى أنصار حركة النهضة إلى الالتصاق ببقية مكونات النخبة بهدف التخفيف من حدة الفوارق بينها وبين بقية مكونات الطبقة السياسية، بقدر ما يعمل التحريريون على نفي أي أرضية يمكن أن تجمعهم بهذه المكونات. أي لا يوجد مشروع وطني يوحد بين الطرفين.
ثالثاً: من بين مقومات الاستراتيجيا التي تعتمد عليها حركة النهضة سعيها المتواصل نحو بناء جسور ثقة بينها وبين الغربيين، وفي المقدمة الحكومتان الأمريكية والبريطانية، أمّا حزب التحرير فإنه يعتبر الغرب عدواً لا يطمئن إليه، ويرى في بريطانيا العدو الأكبر الذي حارب الخلافة وقام بحلها. فالحزب لا يؤمن بقوانين الغرب وأنظمته وقيمه وثقافته، خلافاً لحركة النهضة التي تواصل محاولاتها لتحقيق نوع من المصالحة الفكرية معه.
لا يقف الخلاف بين الحزبين عند هذه المسائل الجوهرية، وإنما تتسع رقعته إلى حد القول إنهما بمثابة أخوين ولدا من الرحم نفسه، لكنهما سلكا فيما بعد طريقين متعارضين في الاتجاه إلى حد التناقض في أشياء كثيرة تعتبر أساسية. وإذ يستنكر حزب التحرير إعلان داعش عن قيام الخلافة واصفاً إياها بـ "المزورة"، واعتبرها "مؤامرة على الإسلام وعلى مشروع الخلافة"، لكن في المقابل شعاراته ورايته السوداء أصبحت تذكر التونسيين بـ "نموذج تنظيم الدولة الإسلامية"، رغم عدم اعتماد حزب التحرير على العنف الدموي. بمعنى آخر أنّ تجربة "داعش" أضرّت كثيراً بحزب التحرير، وزادت من إرباكه داخل الساحة التونسية، في مقابل الجهود التي تبذلها حركة النهضة للتنديد بهذه التجربة ووصف أصحابها بـ "غير المسلمين"، وذلك في مسعى منها للمحافظة على مواقعها داخل السلطة وفي المجتمع.