الهويَّة الاجتماعيَّة وثنائيَّة الأعراف والقانون
فئة : مقالات
الهويَّة الاجتماعيَّة وثنائيَّة الأعراف والقانون([1])
العلم بين البحث والتدريس: مفهوم (paradigme)
كان توماس كون قد نشر كتاباً مهمَّاً للغاية تحت عنوان: "بنية الثورات العلميَّة"، أظهر فيه أنَّه ينبغي لنا ألَّا ننظر إلى العلم كمنظومة جاهزة من المعارف المكتملة. إنَّنا ننظر إلى العلم عامَّة من زاويتين مختلفتين: من زاوية بيداغوجيَّة تُعنى بتلقين المعارف المكتسبة، ومن زاوية البحث الذي يضع علامة استفهام على المعارف المكتسبة. من الزاوية البيداغوجيَّة توجد حدود صارمة يرسمها المدرّسُ حول مجال التخصُّص. إذ ينبغي لنا أن نعفي الطالب من تشتّت ذهنه بين تخصُّصات مختلفة خارج التخصُّص وهو لم يتمكَّن بعدُ من حصر مجال التخصُّص وضبط مفاهيمه وآليَّاته. فالفلسفة الإسلاميَّة تخصُّص مضبوط بأعلامه ومدارسه واتجاهاته، غير أنَّ ما يصحُّ من زاوية بيداغوجيَّة لا يصحُّ، في نظري، من الزاوية العلمَّية. ذلك أنَّ المتخصّص في المدينة الفاضلة للفارابي ملزمٌ بمعرفة الفلسفة السياسيَّة عامَّة قديمها وحديثها والفلسفة الأخلاقيَّة وفلسفة أفلاطون، حتى يتمكَّن من استيعاب أفضل للفلسفة السياسيَّة كما طرحها الفارابي. لا يقرأ الباحث نصوص الفارابي كما لو كان يُفسّرُ نصوصه أمام الطلبة، بل يطرح أسئلة جديدة على الفارابي ويطلب منه الإجابة. من لا يَسأل، فإنَّه لن يتلقَّى إجابة، ومن جاء النصوص خاوي الوفاض، فسيعود بخُفَّي حنين. فالنصوص تقاوم القارئ الصامت الذي لا ينطلق من أطروحة محدّدة ولا يستشكل ولا يستنطق النَّص.
الانتماء إلى الجماعة لا يتعارض مع المسؤوليَّة الفرديَّة من الزاوية الليبراليَّة
من هذه الزاوية يعتبر توماس كون أنَّ العالم الممارس ينظر إلى العلم كنشاط مستمرٍ لا يتوقَّف. هذه نظرة العالم المتحيّرة والمتسائلة التي تختلف عن نظرة المدرّس أمام طلبته. وهنا نجد فرقاً ثانياً بين الباحث والمُدرِّس. من زاوية بيداغوجيَّة ينظر أطفال المدارس والمعلمون إلى العلم كمنظومة من المعارف المتراكمة والشموليَّة. وهنا ينبغي للمعلّم ألَّا يُبدي تشكيكاً أو أن يرتابَ في المعطيات العلميَّة الموروثة التي تكرَّرت فصحَّت، وإلّا لم يعُد معّلماً في عيون تلاميذه، ولم يَعُدْ ذلك العلم يحمل هذا الاسم عن حقٍّ.
هذا المنظور التعليمي للعلم الذي نميّزه عن البحث العلمي هو ما ساعد توماس كون على ابتكار مفهوم: (paradigme) في معنى:
"Universally recognized achievements that for a time provide model problems and solutions to a community of practioners"[2].
وهو يعني بمصطلح النموذج الإبدالي (paradigme) المنجزات العلميَّة الملموسة التي تحققت أثناء الممارسة الفعليَّة للعلم، وهي المنجزات التي تتحوَّل إلى نماذج تحتذى وتُشكّلُ موروثاً متماسكاً وتقاليد علميَّة في البحث العلمي.
من يُدَرِّس النماذج الإبداليَّة (paradigmes)، فهو يهيّئُ الطالب للانضمام إلى جماعة علميَّة مخصوصة سيمارس بحثه العلميَّ المواليَ من داخلها. وبما أنَّ الباحثَ الشابَّ يريد أن يلتحق بشيوخ العلم الذين اكتسبوا أبجديَّات مجال تخصُّصهم من النماذج الملموسة المشتركة نفسها، فإنَّ ممارسته اللّاحقة قلّما تعترض جهاراً على المبادئ الكبرى المعتمدة التي ابتكرها الشيوخ. فالأشخاص الذين ينجزون البحث اعتماداً على نماذج إبداليَّة محدّدة يشتركون جميعاً فيها، ويصبحون ملزمين باحترام قواعد ومعايير الممارسة العلميَّة نفسها، كما يقول توماس كون. وهكذا قد نستعمل المصطلح، أي مصطلح (paradigme)، بمعنى المثال الذي يُحتذى أو المنوال أو الصيغة التي نستعملها في الصرف والإعراب.
ولكنَّ العلم أثناء ممارسة البحث لا يكتفي بتطبيق قواعد، مثل قواعد الصَّرف والإعراب، بل يحاول أن يكتشف قواعد جديدة أو أفكاراً أو أطروحةً بناءً على الأمثلة الحيَّة أو النوازل الجديدة.
عندما نمارس العلم نواجه مخاطر النكوص والتراجع إلى الوراء، ونحن نحسب أنَّنا نحسن صنعاً ونتقدَّم إلى الإمام.
يتراجع العلم إلى الوراء عندما يكتفي العالم بردِّ الحالات الجزئيَّة إلى المنظومة الشموليَّة، معتبراً أنَّ الاستثناء لا يكسر القاعدة، أو أنَّه يؤكّد القاعدة. وهذا هو نمط اشتغال العلم العادي الذي يكتفي بالاحتماء وراء النموذج ويتجاهل كلَّ الحالات الشاذة التي تزعجه.
يقول توماس كون بهذا الخصوص: "ليس الهدف المطلوب من وراء العلم العادي هو اكتشاف ظواهر جديدة. وبالفعل، فإنَّ الظواهر التي نستطيع تطويعها داخل الإطار الذي رُسِمَ لها سلفاً ظواهر نفضّلُ ألَّا نراها. وعادةً ما لا يُعرِبُ العلماءُ عن الطموح إلى ابتكار نظريات جديدة، وغالباً ما يصبحون متعصّبين وغير متسامحين مع النظريَّات التي أبدعها غيرُهُم. على خلاف كلّ ذلك، يعكف البحث العلمي في العلم العادي على إبراز الظّواهر التي كانت موجودة سلفاً من قبلُ داخل النماذج والنظريَّات"[3].
إنَّ استقرار النماذج الإبداليَّة داخل متون العلم العادي يُقلّلُ من فرص الإبداع والابتكار، وما يساعد على تحنيط العلم داخل بنية دوغمائيَّة هو غلبة الحسّ التعليمي، بمعنى هو تغليب جانب التلقين وتلخيص الكتب والسرقة الأدبيَّة وتبجيل شيوخ العلم على التساؤل والاستشكال ووضع الفروض العلميَّة.
ما الحلُّ؟ بطبيعة الحال لا يثبت المرءُ أنَّه عالم بمجرد أنْ يثبت مدى حفظه للنُّصوص ومدى سعة اطّلاعه، ما لم يضف إلى ذلك حسَّ الملاحظة وملكة النقد والمقارنة بين النماذج الإبداليَّة المختلفة.
إنَّ التقابل بين التوجُّهين النقدي والهيرمينوطيقي ليس تقابلاً يُعدِمُ إمكان الالتقاء فيما بينهما
العلوم الإنسانيَّة عامَّة تختلف عن العلوم الطبيعيَّة
يطّور الباحث ملكة الملاحظة والحسَّ النقديَّ بفضل المقارنة بين النَّماذج الإبداليَّة المختلفة داخل العلم نفسه، والاستفادة من نماذج إبداليَّة أخرى تنتمي إلى علوم أخرى. وما يسمح بهذه الاستفادة المتبادلة هو أنَّ العلوم الإنسانيَّة عامَّة تختلف عن العلوم الطبيعيَّة. تعتمد العلوم الطبيعيَّة على النماذج الكميَّة والمعطيات التجريبيَّة ولغة الرياضيَّات. بالمقابل، لا نجد تسمية واحدة تُطلق على العلوم التي نشتغل عليها؛ نحن نطلق عليها اسم العلوم الإنسانيَّة، وتطلق عليها دولٌ أخرى اسم العلوم الاجتماعيَّة أو العلوم الثقافيَّة أو العلوم التاريخيَّة، أو تدخلها ضمن الإنسانيَّات (humanities) أوالفنون (arts). كثرة المسمَّيات دليل على أنَّ علومنا التي نشتغل عليها تحملُ في طيَّاتها حمولةً ثقافيةً وتاريخيةً واجتماعيةً في آنٍ واحد. فالأسئلة العلميَّة التي نطرحُها تندرج داخل مرجعيَّة ثقافيَّة تحدّدُ مجالَ البحث وحدوده وتأخذ القضايا الاجتماعيَّة والتاريخيَّة بعين الاعتبار، ولا تتّخذُ الموقف المحايد نفسه الذي يتخذه عالمُ الفيزياء أمام ظواهر الملاحظة داخل المختبر.
انتشرت إيديولوجيَّة حياد العلم بقوة مع ماكس فيبر، وقد زعمت أنَّ عصرَ العلم تنصَّلَ من أحكام القيمة التي كبحت جماح العلم قروناً طويلة. على خلاف هذا المنظور لا يجادلُ باحث في أنَّ القيم المتوارثَةَ أو المستوردةَ توجّهنا في رحلة البحث عن الوقائع والشواهد والنوازل أو في تأويلها وتنظيمها. وقد أصبحنا ندافع بذلك عن تصوُّرين مختلفين للعلم: تصوُّر وضعي يعتبر الباحث المغربيّ بموجبه أنَّه ينسلخ عن مرجعيَّته الثقافيَّة المغربيَّة أثناء القيام بالبحث؛ لأنَّ هذه المرجعيَّة قد تُحدث تأثيراً ما على مسار البحث وتوجّهه وجهةً ما. ويعتبر المنظورُ المخالفُ أنَّ الخلفيَّة الثقافيَّة هي الامتياز الذي يحظى به الباحثُ المغربيُّ بالمقارنة مع الأجنبي، فمن يجهل الأعراف المحليَّة والنوازل الفقهيَّة والأنساب، فلن يستطيع أن يصبح مؤرّخاً أو عالم اجتماع، ولا حتى فيلسوفاً. نجد هنا تقابلاً بين منظور نقديّ يهدف إلى تحرير الباحث من خلفيّته الثقافيَّة، وأفق هيرمينوطيقيٍّ يهدف إلى توطين البحث داخل مرجعيّته الثقافيَّة. وإذا ما أردنا أن نرى هذا التقابل بكامل الوضوح، فإنَّ علينا أن نعود إلى التراث الفلسفي الألماني وإلى التقابل بين هابرماس وغادامير؛ فهو تقابلٌ بين "قضايا النقد والتحرُّر والتفكير الذاتي والعقلانيَّة التواصليَّة من جهة، وبين الموضوعات التي تخترق أعمال غادامير من جهة أخرى، وهي الموضوعات التاريخيَّة وبنية الفهم القبليَّة التي يقوم العقل عليها، وخاصّيَّة التناهي التي تميّزُ معرفتَنا، وأهميَّة الموروثات الثقافية"[4]. غير أنَّ التقابل بين التوجُّهين النقدي والهيرمينوطيقي ليس تقابلاً يُعدِمُ إمكان الالتقاء فيما بينهما. تشغل الفلسفة دوراً نقديَّاً في جوهرها، لكنَّها لا تتنكّرُ لمرجعيَّاتها الثقافيَّة؛ تظلُّ الفلسفة فكراً يقوم على الحجَّة العقلانيَّة في المناظرة وتبادل الآراء، لكنَّها لا تلغي أهميَّة التسامح بين الآراء المختلفة. فالغلوُّ في المحليَّة ودعاوى الخصوصيَّة لا يتعارضُ مع وجود حَكَمٍ مجرَّد نحتكم إليه باسم الحياد والنزاهة الفكريَّة والحريَّة الأكاديميَّة من أجل الفصل بين المواقف المختلفة. ونحن نحتاج في الفلسفة اليوم وفي العلوم الاجتماعيَّة عامَّةً إلى الإدماج بين القضايا المحليَّة المرتبطة بتاريخ الفكر المغربي والقضايا الكونيَّة التي نشترك فيها مع باقي الفلاسفة عبر العالم. لكنَّنا عموماً نظلُّ حيارى بين تصوُّر نقديّ وتحريريّ، وتصوُّر تراثيّ تاريخيّ للمجتمع. نتحدَّث مرَّةً عن المجتمع بالمعنى اللّيبرالي الفرداني ومرَّةً بالمعنى الهيرمينوطيقي الجماعاتي. وإذا لم نفهم الفروق الدقيقة بين المفهومين، فلن نستفيد من الخصوصيَّات المحليَّة ولا من الامتدادات الكونيَّة للبحث.
إنشاء الرَّابطة الاجتماعيَّة على أساس المواطنة قد جعل الحريَّة والمساواة والاعتراف المتبادل أساسَ الشراكة داخل المجتمع
تصوُّر المجتمع الحديث بين العُرف والأخلاق
نتحدَّث عن المجتمع بمعنيين مختلفين: بالمعنى الهيرمينوطيقي الجماعاتي حين نتحدَّث عن المجتمع السوسي أو الفاسي، وبالمعنى الحديث حين نتحدَّث عن المجتمع المغربي عامّةً. عهوداً طويلةً لم يكن المجتمع بالمعنى الأوَّل (Gemeinschaft) (communauté) يتميَّز عن المجتمع بالمعنى الحديث (société). كانت رابطة الدَّم والدّين والعرق واللّغة قد حصرت الانتماءَ إلى الوطن في الأشخاص الذين يشتركون في هذه الرَّابطة. غير أنَّ إنشاء الرَّابطة الاجتماعيَّة على أساس المواطنة قد جعل الحريَّة والمساواة والاعتراف المتبادل أساسَ الشراكة داخل المجتمع. ونصل إلى الجمع بين المعنى الهيرمينوطيقي والنقدي للمجتمع عندما يتبيَّن لنا أنَّ المجتمع التقليدي يظلُّ قائماً على خلفيَّة التّوق إلى المجتمع الحديث. لا يتعارض الانتماء إلى المجتمع التقليدي مع الحاجة إلى الاستقلال الذّاتي وحريَّة الفكر والدفاع عن الحقوق الفرديَّة. وأوروبا نفسُها قد عرفت صيرورة الانتقال من أعراف القرون الوسطى إلى عصر غير عُرفيٍّ (postconventionnel) كما يقول كارل أوتو آبل (K. O. Apel)[5]، بعد الانصراف عن العُرف والاحتكام إلى التشريع الذّاتي (A. Honneth) من أجل تحقيق المثل العليا الذاتيَّة. فالجماعة التقليديَّة[6]مهمَّة في نظر التصوُّر الليبرالي النقدي، لأنَّها هي التي تضمن الحيّز الخاص بالحريَّات، وحتى يتحقّق تناسلُ الأجيال بطريقة حرَّة اعتماداً على المعايير الجماعيَّة ذاتها. فالمجتمع الحديث هو مجموع الجماعات التي اشتركت في قيم ناشئة في نظريَّات العقد الاجتماعي. وقد تطوَّرت النظريَّة الأخلاقيَّة الاجتماعيَّة في فجر الحداثة مع تطوُّر الفلسفة والعلوم السياسيَّة.
إنَّ التمزُّق بين التصوُّر التقليدي للجماعة والتصوُّر الحديث للمجتمع قد يظلُّ بدون أهميَّة إذا ما اكتفينا باجترار نقاشات موجودة في أمريكا الشماليَّة وكندا[7]. والحقُّ أنَّه لا يوجد تقابلٌ على هذا النَّحو الكندي-الأمريكي. ذلك أنَّ الانتماء إلى الجماعة لا يتعارض مع المسؤوليَّة الفرديَّة من الزاوية الليبراليَّة. كما أنَّ الجماعة (communauté) تشكّل خلفيَّةً معياريَّةً للمجتمع الذي يتميَّز بوجود منظومة قانونيَّة للجميع. لا توجد بذلك ثنائيَّة فاصلة بين الجماعة والمجتمع، ولا بين الأصالة والحداثة. وهذا ما يفيدُ أنَّ فكرة موروث مشترك توجد في قلب المجتمع، وتدخل كما يرى هونيت "ضمن المقتضيات المحفّزة داخل أي مجتمع ديمقراطي"[8]. فالمجتمع هو الواجهة الأماميَّة داخل منظور قانوني يترجمُ الموروث المعياريَّ إلى قوانين صوريَّة ومجرَّدة. تعتبرُ الجماعةُ المتجانسةُ خلفيَّةً معياريَّة للمجتمع، بما أنَّ سريان فعل القانون لا يحتاج إلى آليَّات تطبيقيَّة فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى "استنفار الحوافز الأخلاقيَّة التي لا تظهر إلّا في أفق قيم مشتركة نابعة من صلب العلاقات الجماعيَّة"[9]. ذلك أنَّه "في غياب نسبة معيَّنة من الارتباط المشترك بقيم مشتركة أو بجماعة ثقافيَّة أو بأسلوب في الحياة لن يصبح بإمكان الديمقراطيَّة الحديثة أن تضمن فاعليتها"[10].
غير أنَّ التّأكيد على وجود قيم مشتركة لا يعني أنَّ هويَّةَ المجتمع تتكوَّنُ من جماعة واحدة مهيمنة. فالمجتمعُ غيرُ متجانس في جوهره ولا يستطيع أن يتجاهل تنوُّع الأعراف المحليَّة والعادات المختلفة التي ينبني عليها الوجود المادّي للمجتمع. وبما أنَّ المنظومة القانونيَّة نفسها، فإنَّ الأعراف لا تعدو أن تصبح طريقة محلّيَّة أو جهويّةً تفهم المقتضيات القانونيّةَ بطريقتها الخاصَّة. ليست الأعراف قوانين بديلة تنافس المنظومة القانونيَّة، ولكنَّها آليَّات تطبيق القوانين. فالمناطق الجهويَّة اللّغويَّة والعرقيَّة لا تمثِّلُ أقلّيَّات ثقافيَّة ولا تطالب باحتياجات خاصَّة بناءً على الوضعيَّة الخاصَّة التي تعرفُها الأقلّيَّات[11]. فالمطالب الاجتماعيَّة والفرديَّة لا تمثِّلُ قوانين خاصَّةً (privi/ leg)، بما أنَّ الامتيازات قوانين خاصَّةٌ يستفيد منها فردٌ بعينه أو فئة من الأفراد، مع استثناء أغلب المواطنين من هذا الامتياز. ينبني الاندماج الاجتماعيّ على الاندماج القانوني الذي يلغي القوانين الخاصَّة ويجعل العرف أداةً لتطبيق القانون وليس بديلاً له. يتوجَّه القانون إلى الأفراد الأحرار والمتساوين، ويعتبر أنَّ امتيازات الأفراد، في إطار قانون خاصٍّ لفائدة أفراد بعينهم، يتعارض مع الطابع العمومي والمجرَّد والصُّوري للقانون. ولكنَّ ثنائيَّة الأعراف والقانون ظلّت ثنائيَّةً تتحكَّم على الدَّوام في الصيرورة الاجتماعيَّة وتظهرُ في ثنائيَّات مترادفة، مثل ثنائيَّة الأصالة والمعاصرة وثنائيَّة التّراث والحداثة. وكان هيغل قد أشار إلى أنَّنا ملزمون بمحاولة النَّظر إلى جوهر الأعراف المتحقّقَة باعتبارها "أعرافاً أخلاقيَّة عقلانيَّة من منظور التاريخ الكُلّي للعالم"[12]. لم تظهر تلك الأعراف الأخلاقيَّة في مظهرها العقلاني، بالرغم من تطابقها العارض مع دولة بروسيا، إلّا في أفق استشراف مستقبل الحريَّات وحقوق الإنسان. فقد تحوَّلت الفلسفة المتعالية من خلال تحويل الواقع العارض إلى واقع عقلانيٍّ وإدماج الأعراف الاجتماعيَّة الموجودة (والأخلاق الموجودة) داخل مشروع أخلاق المستقبل (في إطار ما يجب أن يكون). كانت الفلسفة الهيغيليَّة تركيباً ذكيَّاً بين القيم الاجتماعيَّة الموجودة، وبين أخلاق ما يجب أن يكون، أي بين الأعراف القائمة وأخلاق المستقبل، وهو التَّركيب الذي جعل مشروعيَّة تحقيق الحريَّات الفرديَّة في المستقبل تبحث عن مسوّغاتها من داخل الهويَّة الاجتماعيَّة التي خضعت باستمرار لتأويل نقديّ دائم ومتجدّد. وقد كانت الفكرة الرئيسة التي قامت عليها الحداثة السياسيَّة تفيد أنَّ "المجتمع" يشمل كلَّ الجماعات ويُدمج كلَّ الخصوصيَّات الجهويَّة، بحكم وجود قيم إنسانيَّة مشتركة. يتوفّر المجتمع على قيم مشتركة تجمعُ شتات كلّ المكوّنات الاجتماعيَّة ليأخذ بعضُها بعضُدِ بعضٍ.
تصوُّرُ المجتمع الإسلامي بين الدّين والقانون
ارتفعت وتيرة تطوُّر النّظريَّة الاجتماعيَّة الأخلاقيَّة في الغرب في فجر الحداثة بفضل الفلسفة السياسيَّة وفكر الأنوار. وقد قامت المنظومة المعياريَّة في العالم الإسلامي على منظومة القيم في أصول الفقه. على خلاف التنشئة الاجتماعيَّة الغربيَّة التي أدمجت الجماعات المختلفة في صيرورة الدفاع عن الحريَّة، عمل الفقه الإسلامي على توسيع حقل القياس الفقهي وتكييف القواعد الفقهيَّة مع الأعراف المحليَّة القائمة، من أجل إبراز مدى قدرة الفقيه الأصولي على الإحاطة بالنوازل غير المتناهية. ولم يكن هاجس توسيع حقل القياس الفقهي يتعارض مع المنظومة القانونيَّة التي أنشأها ليوتي (Lyautey) (1854-1934) سنة 1913 "قانون الالتزامات والعقود". كان الفقهاء قد ساهموا حينئذٍ في صياغة مضامين العقود وفي تكييفها مع الأعراف الاجتماعيَّة والدّينيَّة السّائدة. ينبثق القانون من ثقافة معياريَّة تسعى إلى التحقّق الفعلي بعد استيعابها من طرف كلّ الطوائف الاجتماعيَّة. ولكن بدل أن يشكّل القانون خلفيَّة معياريَّة لقيم المستقبل، تكيّف مع الأعراف السائدة أو تراجعت قوّتُهُ إلى الوراء أمام طغيانها. فالجماعات والطوائف والخصوصيَّات الثقافيَّة تلعب دوراً حاسماً في توسُّط الانتقال إلى القيم الكونيَّة وتكريس قوَّة القانون، أو قد تقوم بالدور المعاكس الذي يتمثَّل في تحويل المؤسَّسات الدّيمقراطيَّة إلى مؤسَّسات شكليَّة، حينما تكرّس الأعرافَ أداةً وغايةً. وهذا ما يشجّع على تعميق ثنائيَّة القانون والعُرف ويُعمِّقُ الشعورَ بالتمزُّق بين التّراث والتَّجديد. يفقد القانونُ بذلك القدرة على مدّ الجسور بين مختلف الطوائف الاجتماعيَّة في إطار هويَّة وطنيَّة مشتركة. وتظلّ ثنائيَّة القاعدة المعياريَّة والعُرف متفشّيةً في كلّ القطاعات التي لا يحظى فيها القانون بالإجماع المعياريّ. وقد ظلَّ الشعور بالهويَّة الوطنيَّة مرتبطاً بالمشاعر الدّينيَّة أو العرقيَّة أو اللغويَّة دون أن تصبح المعايير القانونيَّة قاعدةً أخلاقيّةً تنصهر فيها كلُّ الأعراف المحلّيَّة.
التّأكيد على وجود قيم مشتركة لا يعني أنَّ هويَّةَ المجتمع تتكوَّنُ من جماعة واحدة مهيمنة، لأن المجتمعُ غيرُ متجانس في جوهره
خاتمة:
إنَّ البحث العلميَّ في العلوم الإنسانيَّة لا يرتكز على معطى الحياد العلمي كما بلورته العلوم الطبيعيَّة. لا يمكن للمعطيات التي تقبل الملاحظة أن تُستثمَرَ داخل النماذج الإبداليَّة في العلوم الإنسانيَّة إلّا إذا انبثقت من هواجس ثقافيَّة تستند إلى الثقافة المحليَّة من أجل الانفتاح على القيم الكونيَّة. فالبحث العلميّ ليس محايداً من زاوية القيم العلميَّة والإنسانيَّة. ولذا نظرنا من هذه الزاوية إلى مفهوم المجتمع والهويَّة الجماعيَّة والوطنيَّة، وأبرزنا كيف أنَّ الهويَّة الوطنيَّة ليست معطى واحداً متجانساً. تنبني هذه الهويَّة على اندماج هويَّات اجتماعيَّة مختلفة، أو على هويَّة جماعيَّة يحسُّ الفردُ بموجبها أنَّ حاجات الجماعة وأحلامها تتطابق مع حاجاته وأحلامه الفرديَّة. تساهمُ هذه الهويَّة الجماعيَّة في الاندماج داخل هويَّة وطنيَّة مشتركة، إذا ما شكَّلَ القانون وحقوق الإنسان لحمة هذا التوسُّط بين المحليَّة والكونيَّة. والاعتراض الذي يوجَّه إلى هذه الهويَّة الجماعيَّة هو أنَّها مجرَّد مرحلة متوسّطة للوصول إلى الهويَّة الوطنيَّة. وإذا ما اتَّخذت تلك الجماعات أشكالاً متصلّبة في صورة جماعات دينيَّة، فإنَّها تكاد تتحوَّل إلى كنائس في صورة أحزاب سياسيَّة أو إلى نزعات جهويَّة لا تقبل الاندماج داخل المجتمع. ولذلك لا نعترف بالهويَّة الجماعيَّة، كما يقول بسَّام طيبي، إلّا في أفق الاعتراف بالهويَّة الفرديَّة، من خلال إعادة ربط فكرة الجماعة بفكرة المواطنين الأحرار والمتساوين، كما عرفه فجرُ الحداثة[13]. فالهويَّة الجماعيَّة لا تشكّلُ إلّا مرحلة متوسّطة على طريق الانتقال إلى الهويَّة الوطنيَّة، والخضوع لقانون مشترك يضمن حرّيَّة الأفراد واستقلالهم الذّاتي.
[1]- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12
[2]. Hanna F. Pitkin: Wittgenstein and Justice. On the significance of Ludwig Wittgenstein for social and political thought. University of California Press, 1972, p. 53.
[3]. Thomas Kuhn: Die Struktur wissenschaftlicher Revolutionen. Suhrkamp 1973. p 38.
[4]. José Maria Aguirre Oraa: Raison critique ou Raison herméneutique. Une analyse de la controverse entre Habermas et Gadamer. Est Cerf 1998. P. 19 introduction.
[5]. Postkonventionelle Sittlichkeit. K. O. Apel: Diskurs und Verantwortung. Das Problem des Übergangs zur postkonventionellen Moral. Suhrkamp, 5. Auflage 2016 [1990], p. 105.
[6]ـ يُعرٍّفُ تونيس (Tönnies) الجماعة (Gemeinschaft) بالقول: "إنَّها تمثّلُ تلك الأنماطَ من العلاقة الاجتماعيَّة التي تعلمُ الذّواتُ بموجبها أنَّها من حيث المبدأ متوافقةٌ فيما بينها، لأنّها تعتبرُ أنَّ هدف الجماعة المعنيّة يُعَبِّرُ عن ميولاتها الفرديَّة وعن احتياجاتها." راجع:
Axel Honneth: Posttraditionale Gemeinschaften. Ein konzeptueller Vorschlag. In: Micha Brumlik & Hauke Brunkhorst: Gemeinschaft und Gerechtigkeit, Fischer Taschenbuch Verlag, 1993, 262-3.
[7]. A. Wellmer: Bedingungen einer demokratischen Kultur. Zur Debatte zwischen Liberalen und Kommunitaristen. In: Micha Brumlik, Hauke Brunkhorst: Gemeinschaft und Gerechtigkeit: Frankfurt, Fischer Taschenbuch Verlag, 1993, 173.
[8]. A. Honnethb(Hs.) Kommunitarismus. Eine Debatte über die moralischen Grundlagen moderner Gesellschaften.
[9]ـ المرجع نفسه، ص 13.
[10]ـ المرجع نفسه، ص 16.
[11]ـ قد يعترض علينا معترضٌ بالقول: إنَّ الأمازيغ أكثريّة على المستوى العددي بالمغرب، ولكنَّهم يشكّلون أقلّيات بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة، بما أنَّهم لا يتمتّعون بالحقوق نفسها التي يتمتّع بها العربُ الذين يفرضون الثقافةَ العربيّةَ الرّسميّةَ على غالبية سّكان المغرب. غير أنَّ هذا الاعتراض غيرُ سليم، لأنَّ القبائل الأمازيغيّة قد ساهمت في تأسيس دول وأنظمة سياسيّة وتراث ثقافيّ عريق في شمال إفريقيا والأندلس إلى جانب العرب الوافدين من الشرق. كما أنَّ اللغة العربيّةَ لا تُعَتَبرُ لغةً ثانيةً أو أجنبيّةً في الشعور اللغوي للأمازيغي. فضلاً عن ذلك، فإنَّ وجودَ أعراف خاصّة لم يتعارض يوماً ما مع السّعيِ إلى قيام هويَّة وطنيَّة على أساس اندماجٍ قانونيٍّ بين كلِّ مناطق المغرب.
[12]. Karl-Otto Apel: Diskurs und Verantwortung. Das Problem des Übergangs zur postkonventionellen Moral. Suhrkamp, [1990] 5. Auflage, 2016, 88.
[13]. Bassam Tibi: Les conditions d’un ‘euro-islam’. In: Robert Bistolfi & François Zabbal: Islams d’Europe: Intégration ou insertion communautaire, Paris, Editions de l’Aube, 1995, 230-234.