الهُويَّة كمفهوم متراسي: بين الكلِّ والفرد
فئة : مقالات
الهُويَّة في إطار التفاعلات تكون متسقة مع ملحقات المصادفة أو الكينونة الخارجية للمرء، فتكون سابقة لوعيه لمئات السنين، صامدة أمامه في أولى محاولات التفكير والتمحيص، فيما هي تمتاز بأحادية التكوين وذاتيته، بالنسبة إلى الموجود الأول وردّ فعله حسبما اكتشف الوجود وفعل الاندهاش في موروثاته العقلية والشعورية والخلقية، حتى أتى على فعل التأمل، وأنتج الفلسفة، وصارت موروثاً مترفاً، أمام تسليم ما بعد مرحلة الاندهاش والشعور بالصغر أمام الكون الكبير المتقن الصنع، وصارت المعطيات تزاحم المعطيات، العقل أمام الغريزة، والعامَّة في أسلوب حياتها العملي والمغرق في الإنسانية والحياة اليومية وتطورها بما يفيد مصلحته، فحتى الأخلاق تطورت بما يفيد قانون النفع، رغم أنَّ الثقافة كانت مقترنة باللغة اليومية، إلا أنَّ ثمَّة ثقافة من نوع علوي لفئة خاصة من الناس، يكون مخلداً إلى جانب التاريخ السياسي للشعوب، فيكون الوعي تبعاً لهذه التاريخية متطوراً بناءً على أسس اللَّا وعي الجمعي الخاص بالجماعة/ الحضارة/ الشعب، وعي القيم، ووعي الأخلاق ووعي بواقع المنتمي، حقوقه ومركزه من الكون والشعوب الأخرى، ووعي يتعلق بمركز الآخر بما هو يفيد مركز الذات الكل والتاريخية، فتتصدر سجلاتنا مفاهيم توضح هذه السمة كالشعوبية، والسياق التاريخي الخاصّ، والمصطلحات التصنيفية والنوعية، التي يسود فيها جنسٌ ما من الناس، سياسياً في الغالب، بعدما كان الذي يسود التصنيف الثقافي الكلي، سياسياً ومعرفياً، فتكون ثمَّة ثقافة للعامَّة وثقافة للخاصَّة، وقوميات أقليَّة داخل قومية كبرى، واضحة الانتماء والإنماء، لها طباعها الخاصة يبحث فيها علم الأجناس والذي يمكّن الباحثين من فهم مجموعة كبيرة من الناس تشترك بالتاريخ والثقافة والانهزامات والانتصارات نفسها، وبالتالي يمكنهم عبر ذلك تحديد نوع السياسة التي يجب أن تطبق عليهم بل وشكل القوانين، متناسين النخبة إذا لم يكن لها تأثير في دول الديكتاتوريات والإمبراطوريات، ومهمشة التأثير في المراحل إلا بعضها، ومحدودة التنوير. فالمجتمعات قائمة على عنصر التفاعل مع بعضها بعضاً، وقد يكون هذا التفاعل إيجابياً أو سلبياً، إلا أنَّه في كلتا الحالتين يقوم على المصلحة، مع اعتراف كامل بخصوصية الذات العامة، لهذا نجد أنَّه من العسير البحث عن آثار العولمة الفعلية في المنطق الإنساني، وقبول تام لاتجاهات الآخر الكلّ، أمَّا ما يتمُّ قبوله هو الفرد كفرد، كصاحب منجز عملي إبداعي على اختلاف نمطه.
ومن جهة الفرد، لا ننسى بطبيعة الحال أنَّ معطيات الصورة الحالية له داخل إطار المجتمع ملزمة بتاريخية الزمان، ومثقلة أيضاً بالاعتبارات الأساسية للحياة وطريقة العيش عبر أنظمة سياسية وأخلاقية تؤثر على أسلوب الفرد ولغته وأفكاره وإيديولوجياته، فالإيديولوجيا السياسية لا تتحقق إلا باتفاق مجموعة على المصالح التي تعبِّر عنها، متضامنة مع الخصوصية التكوينية لأزمة هذه الجماعة، مثلاً، عُسّر على الاشتراكية أن تصل بحذافيرها إلى الواقع العربي، إلا من بعد تحوير غالباً لم ينمّ عن دراية بالظرف التاريخي العربي وحتى العصري.
ومن جانب آخر لزم أن تكون الثورة جمعية، متفقة على تغيير حدث طارئ على أوراق الهويَّة، وغالبا ما تتعلق الثورة في سبيل الحفاظ على نجوع الهويَّة وسلامتها من الدحض والظلم، وتبقى هذه الأفعال في سبيل حفظ تاريخية قادمة متطورة ومعدلة لتاريخية قديمة لكنَّها حتماً لا تلغيها، ولا تتقبل فكرة التماهي كونياً ولا تسعى لها، حيث تتطور السياسات في القرن الحالي مثلاً في مختلف الدول في خط تقدمي ذاتي هويَّاتي، غير مبالية بالآخر لا على صعيد الإنسانية ولا احترام للذات الأخرى، فالدول إن نجعت تنجع في ذاتها ولمصلحتها، متجاهلة مصالح الدول والشعوب الأخرى وإنسانيتها، فعلى كلِّ قومية أن تكون قويَّة لتحمي ذاتها، والانتماء يكون انتماء يقتضي الأمان، وثمَّة دول ديكتاتورية تنتقص الأمان في ذاتها، فيكون فيها الفرد مسلوباً على صعيد الحقوق المشتركة، فيقاصي بمفهومه عن المواطنة والحريَّة، وإمَّا يمتلك حريَّة الاعتراض أو الثورة أو لا يمتلكها، أو يخضع للحروب جرّاء خطأ في تكوين نظام دولته، لم يجعلها قوية بما يكفي ثم يصبح خاضعاً بحرياته لظروف خارجية، وحروب ومجاعات، وثورات خائبة وانقلابات، فتعمّ أيامه الفوضى ويصبح تاريخه الآني غير مفهوم، ويشار إلى ما يحدث في القرن الحالي، من صراعات وهموم عامَّة، تجعل الفرد يُغرق بفرديته.
وعلى الصعيد الفردي، نشير إلى أنَّ ثمَّة إشكالاً كبيراً في تصنيف الهويَّة الذاتيَّة بمعزل عن الكل، آخذين بعين الاعتبار إرادة الفرد الحرَّة، والتي لا يعيها كلُّ الأفراد بالضرورة، والذين يكونون متماهين مع الكل (غير المطلق) وظروفه، لكنَّ الفرد صاحب الإرادة هو من يقيم تكوينه حاملاً في نفسه طيناً جاهزاً للتكوين، والتشكيل، يبثُّ فيه روحاً وعقلاً جديدين بحسب إفرازات النقد الذاتي، لكنَّهما غير مكينين وتامَّيْن، لقابليتهما للتعديل والتطوير وأحياناً التغيير الجذري جرَّاء التفكر والتعقل والتجربة والبحث، والانسياقات متعدّدة الوجوه؛ التي تحول دون اعتناق عقل جديد ثابت ومؤكد، بعد مرحلة نزع الهُويَّة بالكامل. فيبدأ الإنسان بتشكيل هُويَّة إلى جيل جديد، من باب الاستنارة والنبوَّة وممارسة الوصاية النابعة من الدراية، فإذن لم نخرج من إشكال التوريث والثورة على الموروث عبر إعادة تقييمه، وامتلاك حريَّة إعادة صياغته، بل وإرسال زمني متقدم للقيم الذاتية. فالعالم كله في تشكيل حركة هُويَّاتية لا محالة، يبذل لأجلها الكثير، حتّى لو خرج الأدب والفن من إطار هذه الهُويَّاتية ليشترك ضمن التراث الإنساني، لكنَّه يبقى مصبوغاً بصبغة الهمِّ الشخصي والهمِّ العام اللذين لا ينفكا عن كونهما جزءاً لا يتجزأ من السياق التكويني الأوليّ، إلا أنَّ الإنسان بألمه يمكن أن يمسَّ الإنسان الكليَّ، الجائع الهائم في إفريقيا يشعر به المشرد في شوارع أوروبا، والكامن تحت الظلم يشعر بغيره ممَّن يعانون الأمر ذاته، دائماً ثمَّة نقطة مشتركة، إلا أنَّ سياق المعاناة ولغتها وتاريخها يختلف بين من يستطيع الثورة وبين من هو عاجز، وبين من استسلم لسياقه وبين من أعاد خلق ذاته. الاعتبارات كثيرة، وتلتبس أمام من ينظر في مصطلح ما هو إنساني، محاولاً تصنيف الآلام والأفكار والسياسات والفلسفات والبطولات والخسارات، ويضيع في لُجَّة ذئبية الإنسان، ووداعته، حتى يصل إلى الأخذ بعين الاعتبار السياق الثقافي الذي يفرض نفسه كمتراس لغوي شائك... أمام من يعبر عنه.