الوجه والقفا في منزلة المرأة قديمًا
فئة : قراءات في كتب
الوجه والقفا في منزلة المرأة قديمًا:
تقديم كتاب "الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندريّة" لآمال قرامي
يمكن عدّ هذا الكتاب[1] موسوعة جامعة لأوضاع المرأة والرجل في الحضارة العربية الإسلامية القديمة؛ فقد اعتنت صاحبته بتتبع الأحكام الخاصة بهما، واستخلصت تصورات القدامى عن الجنسين، من الولادة إلى الموت؛ بل منذ ما قبل الميلاد، إلى ما بعد الموت؛ فخصّصت الباب الأول: لــ "الولد في حضانة أمّه ومجتمع النساء"، ونظرت في الباب الثاني: الموسوم بــ "من سنّ النشوء إلى سنّ البلوغ"، في مسار صناعة الذكورة والأنوثة. أما الباب الثالث: وهو أوسع الأبواب في هذا العمل؛ فموسوم بـ "الشباب والاكتهال"، وقد أنهت الباحثة في الباب الرابع: "الشيخوخة"[2].
ونحن نلمس، من خلال هذا التقسيم، اعتناء خاصًّا بالجسد في مختلف أطواره، وهو ما صرّحت به الباحثة نفسها[3]؛ فأنت حين تسير على هذا التقسيم؛ من الولادة، إلى التنشئة، ثم إلى البلوغ، ثم إلى الشباب، فالزواج، فالاكتهال، فالشيخوخة؛ إنّما تنظر، في آن، في سيرة حياة، وفي سيرة حضارة.
والحقيقة: أنّ وسمنا لهذا الكتاب بــ "موسوعة" الذكورة والأنوثة، لا يعود إلى اهتمامه بمسار الجنسيْن، منذ تخلّقهما نطفة في الأرحام حتّى دفنهما تحت الثرى فحسب؛ بل يعود، كذلك، إلى ضخامة المدوّنة المعتمدة، وتنوّعها وامتدادها الزمني. كتب الفقه، والأدب، والأخبار، والمعاجم، والحديث النبوي، والسيرة والقرآن، وهي: مدوّنة تصوّر حياة العرب، من الجاهليّة، حتّى عصر ما قبل النهضة (القرن 17م).
يستخلص قارئ هذا العمل: أنّ هذه المدوّنة، على اختلاف مشارب أصحابها، قد عملت جاهدة على ترسيخ صناعة الذكورة والأنوثة، من خلال تكريس منطق التضادّ، سبيلًا إلى بناء الهويّة الجندرية، وهو تضادّ، قائم على ثلاث ثنائيات، أحسنت الباحثة تحليلها والتذكير بها في مواطن مختلفة من كتابها، وهذه الثنائيات هي: ثنائية السيّد والمَسُود، تسمّيها: التراتبية وتعني؛ هيمنة الرجل وخضوع المرأة. وثنائية الطهر والنجاسة؛ طهارة الرجل ونجاسة المرأة. وثنائية الكشف والحجب؛ بروز الرجل وحجب المرأة[4]. والطريف؛ أن يتحكّم (منطق) التضادّ التراتبي القهري في حياة الجنسين، منذ ما قبل الميلاد؛ فيتخلّق الذكر في الجانب الأيمن من الرحم (بَرَكة اليمين)، بينما تتخلّق الأنثى في الجانب الأيسر (شؤم الشِمال)[5]، فإذا وُلدا؛ كانت عقيقة الذكر شاتيْن، وعقيقة الأنثى شاة واحدة[6]، وتستمرّ هذه التراتبية حتّى الممات؛ إذ المرأة أسوأ منظرًا إذا ماتت، ولا يجوز لزوجها تغسيلها، أمّا إذا مات زوجها؛ فهي تغسّله[7].
إنّ منطق التضادّ التراتبي القهري، قد طال كلّ مراحل حياة الجنسين وأحوالهما، سواء تعلّق الأمر بـاللباس (القيود المفروضة على لباس المرأة: الحجاب: أن تكون رثّة الثياب إذا خرجت إلى صلاة الجمعة، جواز لبس الأحمر للنساء، واستحباب لبس الأبيض للرجال؛ وللألوان دلالتها، ...)، أو تعلّق الأمر بـ التعليم والصنائع (أحاديث نبويّة، من مثل: لا تعلّموهنّ سورة يوسف، وعلّموهنّ سورة النور، ومن مثل: لعن الله الفروج على السروج. وآثار التابعين من مثل؛ لا تروّوا فتياتكم الشعر. وقد صنّف الألوسي كتابًا أسمّاه: "الإصابة في منع النساء من تعلّم الكتابة")، أو تعلّق الأمر بـالعبادة (جواز إمامة المرأة الرجال في صلاة التراويح، إلاّ أنها تقف وراءهم، تقييد حركات المرأة أثناء الصلاة، كأن لا يجوز لها تفريج ساقيها إلاّ بمقدار، ...) أو تعلّق الأمر بــالقيم (الكرم خير أخلاق الرجال، والبخل خير أخلاق النساء، ...)، أو تعلّق الأمر بــالجنس (لا يجوز للمرأة أن تعتلي زوجها عند الجماع، لا يجوز لها أن تنظر ولا أن تنخر، ...)[8].
ولعلّ تعريف الزواج عند جلّ الفقهاء؛ كفيل ببيان منزلة المرأة وطبيعة علاقتها بـ "بعلها"؛ فقد ردّدوا التعريف الآتي: "النكاح: هو معاوضة بضع المرأة بالمال". ولنا أن نتصوّر ما قد يترتّب عن عملية الشراء هذه من "حقوق"، ونكتفي، في هذا الإطار، بالإشارة إلى أحكام القدامى في "عيوب الزوجة"، وفي "لبن الفحل". ومن ثمّ، عدّد الفقهاء بنود هذه العلاقة التي يمكن إجمالها في؛ الطاعة مقابل الإنفاق.
لقد أجملت الباحثة كلّ ذلك، في نهاية الباب الثالث؛ فقالت: "إنّ ما يجعل الهيمنة تكتسي كلّ هذه الأهمية: هو تلك الشرعية الدينية، التي تضفى عليها من خلال آيات القوامة، والدرجة، والتفاضل؛ فتتجمّع لدى الرجل، نتيجة ذلك، قوامات منها؛ القوامة المادية، والقوامة المعرفية، والقوامة الجنسانية. ويعدّ مفهوم القوامة مفهومًا مركزيًّا، أثّر في مكانة المرأة في المجتمع، وحدّد الوظائف والأدوار التي كُلّفت بها؛ فجعلها أزلية حتّى يضمن استقرار البنية الاجتماعية، ويحقّق مصالح المجتمع الذكوري المتعدّدة، مثل؛ الإنجاب، والحفاظ على نظام المصاهرات، ووظيفة الإخصاب، والمنظومة القيمية، من نحو؛ النسب، والشرف، والعرض، وغيرها.
وكان للقوامة مظهر اجتماعي، تجلّى في العلم، والعمل، والإنفاق، وحرية التصرّف، وتحمّل المسؤولية. كما كان لها مظهر قانوني، تمثل في؛ الشهادة، والإرث، والزواج، والطلاق، وغيرها من الأحكام التي تبرز الفوارق بين موقع الرجل وموقع المرأة في المجتمع. وأضحت القوامة حجّة لتبرير الاختلاف بين الجنسين، ولتبرير التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وإن احتاج المجتمع إلى أن يتلوّن بالدين لبسط نفوذه وسيادته؛ فقد احتاج، أيضًا، إلى مؤسّسات تضفي على هيمنته الشرعيةَ المطلوبةَ، فكان اللجوء إلى مؤسّسة الفقه، ومؤسسة الحسبة، ومؤسسة الزواج"[9].
والطريف: أنّ المرأة والرجل قد استبطنا هذه النظرة، وحاولا جاهدَيْن الوفاء لها؛ فالرجل يكظم مشاعره تجاه الزوجة، حياءً من المجتمع، قال جرير:
لولا الحياءُ لعادني استعبارُ ولزرتُ قبرَك والحبيبُ يُزارُ
أمّا المرأة؛ فقد حرصت على تمرير هذه الهيمنة إلى أبنائها، من خلال أغاني هدهدة الأطفال، مثلًا، (التزفين)، وحرصت، كذلك، على الاستجابة للأنموذج الجمالي المطلوب؛ وهو أنموذج المرأة العجزاء، فلجأت إلى تسمين نفسها؛ فإن لم تسمن، تأزّرت بِحَشِيّة تعظّم بها عجيزتها (المرأة المنطيق، المرأة الباسنة)، ذلك أنّ القدامى، قد كلفوا أيّما كلف، بعجيزة المرأة، حتّى ساووا بين المرأة الرسحاء (من لا عجيزة لها)، والمرأة الزانية؛ فقالوا: "نِعْم المرأة لا رسحاء ولا زانية"، ولا يذهبنّ الظنّ بالقارئ، حين توصف المرأة قديمًا بالجمال، إلى صباحة الوجه، ولا إلى رقّة الملامح؛ وإنما هي: المرأة التي "تدفئ الضجيع وتشبع الرضيع"[10]، ولذلك؛ كثرت في لغة العرب الألفاظ الدالة على كثرة لحم المرأة وشحمها، مثل؛ الغزراء، والمدراء، والممكورة، والشهيرة، والضمغج، والألياء، والعبلة، والكهدل، والهركولة، والمكلثمة، والبادنة، والمسمنة، والبهكنة، والضبرك، والضناك، والجزلة، والخدلة، والفضفاضة، والمفاضة، والهيدكورة، والعكموزة، والمعصدة، والدحوح، والصلدحة، والروعاء، والصمخر، والقليع، والجيحل، والربحلة، والعندلة، والعكناء، والضرعاء، والضناك، والراجح، والفتخاء، والبدينة، والجزلة، والدغنجة، والركراكة، والحوثاء، والخرثاء، والكبكابة، والرداح، والمعذلجة، والضمخة، والذلخة، والبيذخ، والثأداء، والدياصة، والرباب، والمتربلة، والرصاء، وذات الروانف، ونفج الحقيبة، والخدلجة، والأثاثة، والبلخاء، والثئدة، والشوتورة، والعبهرة، والشخيصة، والفزراء، والمرمارة، وشبعى الدرع أو الخلخال، ...إلخ[11].
ولعلّه لهذا السبب، غلبت على لغة العرب، في وصف الفعل الجنسي، الدلالة العنيفة عنف إقبال الجائع على الوليمة لينهشها: عصد، ودحم، وشرح، وحرث، ودكّ، وحطأ، ووطأ، وحزأ، وسلق، ووجأ، وحفر، وحشأ، وملث، ونجر، وحفز، وملخ، وداس، وفسخ، ولعج، وهرج، ونجر، ومعط، وقفش، ورصعن ودهك، وركّ، ونشل، ورطم، وخرط، ومعس، ومعج، وأزّ، وكشح، ومشق، ...إلخ[12].
وقد انعكست هذه النظرة الافتراسية (المرأة- الفريسة) على مذهبهم في الزواج، حين فضّلوا الزواج بالصغيرات، وقالوا: "بنت عشر سنين تسرّ الناظرين، وبنت العشرين لذّة للمتعانقين، وبنت الثلاثين ذات سمن ولين، وبنت الأربعين ذات بنات وبنين، وبنت الخمسين بقيّة للقانعين"[13].
أمّا عن صفات المرأة غير الجسدية؛ فقد كانوا يفضّلون أن تكون المرأة: "صناع الكفّين، قطيعة اللسان، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تبادرك الوثبة إذا قمت، ولا تجلس إلاّ بأمرك إذا جلست.."[14].
إنّ هيمنة الرجل على المرأة إلى درجة استعبادها، تعدّ بمثابة المسلمة عند الباحثين المعاصرين، ولكنّنا نرى: أنّ بالإمكان تفحّص هذه المسلمة، ومن ثمّ؛ فإنّنا نودّ أن نسأل: هل كانت الأمور على هذا النحو؟
إنّ أسبابًا كثيرة، تدفعنا إلى الشكّ في صحّة ما احتوته المصنّفات القديمة، حول منزلة المرأة ووضعها في المجتمع العربي الإسلامي قديمًا.
أوّل تلك الأسباب: تصريح الفقهاء أنفسهم؛ أنّ الأحكام التي أخذوا بها لا تجري على الواقع، وقد أشارت الباحثة إلى ذلك إشارة لطيفة، من خلال ما نقلته عن السيوطي، الذي صرّح قائلًا: "لما رأيت نساء هذا الزمان يتزينّ بزيّ الفاحشات، ويمشين في الأسواق، وهنّ للدين كالمحاربات، ويكشفن وجوههنّ وأيديهنّ عند الناس، لتميل إليهنّ النفوس بالوسواس، ويلعبن في الولائم مع الشبان، أردت أن أبيّن الحال"[15].
وثاني تلك الأسباب: ما احتوته مدوّنة القدامى من تناقضات، تبين للمتأمل المتفحص أن المرأة تُعدّ من "طينة" باردة من جهة، ولكنها لا تتحكّم في شهوتها من جهة ثانية، وهم يقرّون؛ أن المرأة لا تتحكم في شهوتها، ولكنهم يبرّرون تعدّد الزوجات، بكون الرجل أكثر شهوة من المرأة، ويذهبون إلى أن المرأة عليها أن تحب زوجها، وعليها في الآن نفسه، وهنا المفارقة، أن تعدّ له أمَته؛ بل من حقّ الزوج أن يجامع زوجة، والأخرى تسمع وترى.
وثالث تلك الأسباب: التناقض الصارخ بين واقع المسلمين قديمًا، ونظرتهم إلى المرأة؛ إذ لا يمكن التوفيق، البتّة، بين حالة البؤس التي كان يعيشها السواد الأعظم من الناس حتى أكلوا الجيف[16]، وبين حديثهم عن تعدّد الزوجات، وعن النساء ذوات العجيزات الثقال، والأفخاذ العظيمة، والأوراك الكبيرة، والمآكم المتربلة، والبطون المعكّنة، والسيقان الخَدَلَّجَة، والأعضاد الغليظة، والسرر المقبّبة.
ورابع تلك الأسباب: احتواء بعض المصنّفات، خصوصًا المصنّفات غير التنظيرية، مثل: كتب الأخبار وكتب الفتوى، على أخبار تعرض صورة أخرى للمرأة في المجتمعات العربية والإسلامية قديمًا؛ فكأنّ هذه المصنّفات تعرض من صورة المرأة قفاها/ واقعها، بينما تعرض المصنفات التنظيرية من صورة المرأة وجهها/مثالها.
فإن شاع في مدوّنة الفقه: أنّ المرأة لا تتزوّج إلاّ بإذن وليّها، حتّى روى القدامى حديثًا منسوبًا إلى النبيّ نصه: (لا تنكح نفسها إلّا زانية)، وأنّ عليها طاعة زوجها طاعة تبلغ حدّ التقديس، حتّى رووا حديثًا منسوبًا إلى النبي نصّه: (لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)؛ فإنّ أخبارًا كثيرة عن المرأة في الجاهلية والإسلام، تؤكّد أنّ هذا الأمر لم يكن معمولًا به؛ فهذه سلمى بنت عمرو في الجاهلية: "كانت عند أحيحة بن الجلاح، وكانت امرأة شريفة، لا تنكح الرجال إلّا وأمرها بيدها، وإذا كرهت من رجل شيئًا تركته"[17]، أما أبو خراش الهذلي؛ فقد ذكر في شعره عادة اختيار النسوة لأزواجهنّ:
فلولا دراك الشدّ آضت حليلتي تخيّرُ في خطابها وهي أيّم
وهذه صهباء الهذلية، في القرن الأول للهجرة، قد أرسلت إلى قطنة الخاطبة: "مُرِي ابن جحش فلْيَخطبني، فلقيته قطنة، فأخبرته الخبر، فمضى، فخطبها، فأنعمت له، وأبى أهلها إلّا عيسى بن طلحة، وأبت هي إلّا عبد الله بن جحش، فتزوّجته، ودخل بها، فافتضها، وأحبّ كلّ واحد منهما صاحبه"[18].
أمّا مزاحم العقيلي (تــ120 هـ)؛ فقد "خطب ابنة عمّ له دنْية، فمنعه أهلها؛ لإملاقه وقلّة ماله، وانتظروا بها رجلًا موسرًا في قومها كان يذكرها، فقال مزاحم لعمّه: يا عم، أتختار عليّ غيري لفضل أباعر؟ وقد علمت أني أقرب إليك من خاطبها، فقال له: لا عليك؛ فإنها إليك صائرة؛ وإنما أعلل أمّها بهذا، ثم يكون أمرها لك، ثم ارتحلوا ومزاحم غائب، وعاد الرجل الخاطب لها، فأنكحوه إياها"[19].
أما مسكين الدارمي (تـــ89 هـــ)؛ فقد "خطب فتاة من قومه، فكرهته لسواد لونه وقلّة ماله، وتزوّجت رجلًا من قومه ذا يسار"[20]، و"تزوج امرأة من منقر، وكانت فاركًا كثيرة الخصومة، فجازت به يومًا، وهو ينشد في نادي قومه:
ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تُنزل القدر
فقالت له: صدقت والله، يجلس جارك فيطبخ قدره، فتصطلي بناره، ثم يُنزلها فيجلس يأكل، وأنت بحذائه كالكلب، فإذا شبع أطعمك، فوثب إليها يضربها، وجعل قومه يضحكون منهما"[21].
ولعل، لذلك السبب، يصف مسكين الدارمي النساء بالقول:
لا تلمها، إنها مـن نســـــوة صخبات ملحها فوق الركبْ
كشَموس الخيل يبدو شغْبها كلما قيل لها هالٌ وهـــــــبْ
وقد تناقل القدامى صورًا من تعالي المرأة في الجاهلية والإسلام عن زوجها، من ذلك؛ أنّ زينب زوجة حُجيّة بن المضرّب، قد هجرته، وضربت بينه وبينها حجابًا[22]، أمّا زينب بنت معيقب؛ فقد حاجّت أبا جعفر الباقر (ت 114 هــ)، فغلبته، "فــــقال لها: ألك بعل؟ فقالت: لي من الرجال من أنا بعله"[23].
وذكر البرزلي في نوازله صورًا من هذا "التمرّد"، كأن ترفض الزوجة الجماع، بحجّة أن الفصل شتاء والماء بارد؛ فلا يمكنها الاغتسال[24].
تثبت مثل هذه الأخبار، أنّ صورة المرأة المطيعة، والفتاة التي لا يُسمع لها صوت؛ إنّما هي صورة لا صلة لها بالواقع[25]، ولئن سعت العائلة إلى تزويج الفتاة غصبًا؛ فإنها كثيرًا ما كانت تلجأ إلى الهروب وحيدة أو مع من أحبّت. وقد وردت في مدوّنة البرزلي نوازل في الفتاة تهرب: "في البكر المتزوّجة تهرب، فتسأل عن هربها، فإن قالت: لم تشهد الشهود عليّ في ذلك التاريخ، ولا رضيت هذا النكاح، يفسخ"[26].
ولئن ذهبت المدوّنة الفقهيّة الرسمية إلى إقرار تعدّد الزوجات؛ فإنّ أخبارًا كثيرة، ونوازل متعدّدة، تؤكّد أنّ تعدّد الزوجات، لم يكن سنّة سارية على جميع فئات المجتمع؛ فقد "أحلفت سكينة بنت الحسين زوجها (زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان): أن لا يتزوج عليها، وأن لا يتسرّى"[27]، و"أن لا يمنعها سفرًا، ولا مدخلًا، ولا مخرجًا"[28].
وظهر عقد صداق في الغرب الإسلامي، خصوصًا، منذ القرن الثاني للهجرة، تشترط فيه المرأة (الفردية الزوجية)، عُرِف، لاحقًا، باسم "الصداق القيرواني". وقد أورد ابن العطار (محمد بن أحمد/ ت 399 هــ) أنموذجًا من هذا العقد، جاء فيه: "والتزم فلان بن فلان، لزوجته فلانة، طائعًا متبرّعًا، واستجلابًا لمودّتها، وتقصّيًا لمسرّتها؛ ألّا يتزوّج عليها، ولا يتسرّى معها، ولا يتّخذ أمَّ ولد؛ فإن فعل شيئًا من ذلك، فأمْرُها بيدها، والداخلة عليها بنكاح طالق، وأمّ الولد حرّة لوجه الله العظيم، وأمر السرية بيدها؛ فإن شاءت باعت، وإن شاءت أمسكت، وإن شاءت أعتقت عليه. وأن لا يغيب عنها غيبة متّصلة، قريبة أو بعيدة، أكثر من ستّة أشهر، وأن لا يرحّلها من دارها التي بحاضرة، كذا إلّا بإذنها ورضاها، فإن رحّلها مكرهة؛ فأمْرُها بيدها. وأن لا يمنعها من زيارة أهلها من النساء، وذوي محارمها من الرجال، ولا يمنعهم من زيارتها؛ فإن فعل شيئًا من ذلك؛ فأمْرُها بيدها. وعليه أن يحسن صحبتها، ويجمل بالمعروف عشرتها جهده. وعلم فلان بن فلان: أنّ زوجه فلانة ممّن لا تخدم نفسها"[29]. ويبدو أنّ صيغة هذا العقد، كانت صيغة مفتوحة، يمكن للمرأة أن تشترط فيها ما بدا لها؛ لأنّنا نعثر في نوازل البرزلي، مثلًا، على شروط أخرى، مثل: "ليس للزوج أن يسكن زوجته مع أبويه"، و"أن يسكن الزوج معها في دارها"، و"متى راجع فلانة مطلّقته؛ فهي طالق" و"أن لا يعزل الزوج، إلّا برضى الزوجة"[30].
صحيح أنّ اشتراط الفردية الزوجية، لم يكن أمرًا متاحًا، إلّا للنسوة ذوات الشرف، ولكن تعدّد الزوجات، أيضًا، لم يكن أمرًا متاحًا، إلّا للرجال ذوي القدرة المالية الطائلة، الذين لا يرغبون عادة إلّا في النسوة ذوات الشرف. وعلينا أن لا ننخدع البتة بظاهر الفقه، ولا بتصوّر أنّ أسلافنا، كانوا جميعًا "ينكحون ما طاب لهم من النساء؛ مثنى، وثلاث، ورباع، وما ملكت أيمانهم".
أمّا ما سمّته الباحثة ثنائية الكشف والحجب؛ فإنّ ما يعنينا منها، في هذا الباب، هو الحجب: حجب النساء. لا يمكننا القول: إنّ تشدّد الفقهاء في التأكيد على حجب المرأة المسلمة، قديمًا، لا يوازيه في الواقع، سوى إصرار النساء على الظهور، وهتك الحجب. وقد مرّ بك احتجاج السيوطي على النساء، و"هنّ يلعبن في الولائم مع الشبّان".
ونضيف بذكر أسماء طائفة من النساء، وهنّ مَن هنّ، ممّن كنّ لا يحتجبن: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وأمّ عمر بنت مروان بن الحكم، وعمّة كُثير الشاعر، وغيرهنّ من نساء الحضر كثيرات. أمّا غزالة الخارجية؛ فقد كانت على رأس جيش الخوارج[31].
وقد وصف الأصفهاني القرن الأول بالقول: "والنساء إذ ذاك، يتزيّنّ ويبدو بعضهنّ لبعض، ويبدون للرجال"، و"العرب إذ ذاك، لا تنكر أن يتحدّث الفتيان إلى الفتيات"، و"كان النساء إذ ذاك، يلبسن الثياب الرقيقة، ويبالغن في التحلّي بالجواهر الكريمة"[32]، أمّا جميع نساء البادية؛ فلم يكن الاحتجاب معروفًا عندهنّ البتة، وهو أمر قد أشارت إليه الباحثة.
والطريف: أن تحتج عائشة بنت طلحة على عدم الاستتار؛ بأن الله قد وهبها جمالًا، ليراه الناس لا لتخفيه[33]. والطريف، أيضًا: أن نقف على الخبر الآتي: "قال عبيد الله بن عمر العمري: خرجتُ حاجًّا فرأيت امرأة جميلة تتكلّم بكلام رفثت فيه، فأدنيتُ ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمَة الله، ألستِ حاجّة؟ أما تخافين الله؟ فسَفرَتْ عن وجه يبهر الشمس حسنًا، ثم قالت: تأمّل يا عمّي؛ فإنّي ممّن عَنَى العرجيّ (تــ120 هــ) بقوله:
من اللائي لم يحجُجن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفّلا
قال: فقلت لها: فإني أسأل الله ألاّ يعذب هذا الوجه بالنار. قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب (ت 94هــ)، فقال: أما، والله، لو كان من بعض بغضاء أهل العراق، لقال لها: اعزُبي قبّحك الله، ولكنّه ظرف عُبّاد الحجاز"[34].
وقد أدّى هذا إلى بروز أصوات ذكورية، ترفض حجب النساء، وتبحث عن علاقة زوجية لا تقوم على الطاعة والخوف؛ بل تقوم على الحبّ والثقة المتبادلة، يقول مسكين الدارمي:
ألا أيّها الغائر المستشيــــــ طُ فيم تغار إذا لم تُغَــــــــــــرْ
فما خير عرس إذا خفــــتها وما خير عرس إذا لم تُــــــزر
تغار على الناس أن ينظروا وهل يفتن الصالحات النظــر؟
وإني سأخلي لها بــــــيتــها فتحفظ لي نفسها أو تــــــــــذر
إذا الله لم يعطني حــــــبّــها فلن يعطي الحبَّ سـوط مُمر[35]
هكذا يقوم هذا الصوت، على النقيض من مدوّنة الفقه والحديث النبوي، الذي دعا إلى تعليق السوط على مدخل البيت تأديبًا(؟) للمرأة، وقد تفنّنت هذه المدوّنة في شرح الآية الداعية إلى ضرب النساء الناشزات: {واللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ واهْجُروهُنّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْتَغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلَا} [النساء (4): 34)]، حتى قالوا جميعًا: إنّ المقصود بالضرب: (ما لا يكسر عظمًا)[36]؛ بل إنّ الطبري في تفسيره، قد ذهب إلى أن المقصود بقوله: {واهْجُروهُنّ فِي المَضَاجِعِ}، أي؛ اربطوهن في المضاجع، من قول العرب للبعير، إذا ربطه صاحبه بحبل: (هجره)، ومعنى الكلام: استوثقوا منهنّ رباطًا في مضاجعهنّ؛ يعني في منازلهنّ وبيوتهنّ"[37].
إنّ هذا الاتجاه نحو بسط هيمنة الذكر على الأنثى، لم يكن هو الاتجاه الوحيد قديمًا، كما بينّا، ونحن نرجح، اعتمادًا على الطبيعة الإنسانية: أنّ القدامى كانوا أميل إلى الأخذ بقول أبي الأسود الدؤلي، يوصي ابنته حين زواجها: "كوني لزوجك أمَة؛ يَكُنْ لك عبْدًا"[38].
لكنّ السؤال؛ الذي لا بدّ من الوعي به، تمهيدًا إلى مواجهته، هو: لماذا ساد الاعتقاد بيننا اليوم: أن لمنزلة المرأة قديمًا، وجهًا واحدًا، هو وجه استعبادها؟
[1]- آمال قرامي، الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية، دراسة جندرية، دار المدار الإسلامي، 2007م. والعمل: هو، في الأصل، أطروحة دكتوراه دولة، نوقشت بكلية الآداب بمنّوبة، سنة 2004م.
[2]- انظر هذه الأبواب على التوالي: الباب الأول، ص ص 33- 166، الباب الثاني: ص ص 163- 360، الباب الثالث، ص ص 361- 778، الباب الرابع، ص ص 779- 934.
[3]- انظر: المقدّمة، ص 23.
[4]- انظر: المقدّمة، ص 9.
[5]- نفسه، ص ص 58- 60.
[6]- نفسه، ص 65.
[7]- نفسه، ص 556.
[8]- راجع هذه الأمثلة وغيرها، ضمن البابين: الثاني، ص ص 163- 360، والثالث، ص ص 361- 778.
[9]- نفسه، ص 730- 731.
[10]- انظر: خليل عبد الكريم، العرب والمرأة، مؤسسة الانتشار العربي وابن سينا للنشر، ط1، 1998م.
[11]- انظر: خليل عبد الكريم، العرب والمرأة، وقد أجمل الكاتب، فقال: "كلّ ما أهمّ العربي: هو الجسد الأنثوي، وإن شئت الدقّة؛ شطره الأسفل"، ص16. وقد أنفق الباحث ستّ صفحات كاملة في ذكر ألفاظ العرب الواصفة لعجيزة المرأة، راجع ص ص 214- 220.
[12]- نفسه، راجع الباب الرابع، النظرة الغليظة والحركة العنيفة، ص ص 191- 210.
[13]- البرزلي، أبو القاسم بن أحمد البلوي (ت841)، فتاوى البرزلّي المسمّى "جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكّام"، 7 مجلّدات، دار الغرب الإسلامي، ط1، 2002، ج 2، ص 176.
[14]- الأصفهاني (أبو الفرج)، الأغاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 4، 2002م، ج 2، ص 116.
[15]- آمال قرامي، الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية، دراسة جندرية، ص 618. وهذا النصّ مقتطف من مصنّف السيوطي، نزهة المتأمّل ومرشد المتأهل في الخاطب والمتزوّج.
[16]- يقدّم فهمي سعد لوحات كثيرة تصوّر بؤس العامة، وهذه إحداها: "وفي سنة 334 هـ، أثناء الصراع بين معزّ الدولة البويهي وناصر الدولة الحمداني، اشتد الغلاء ببغداد، حتى أكل الناس الميتة والكلاب والسنانير، وأُخذ بعضهم ومعه صبي من أولاده وأولاد الجيران قد شواه، وأكل الناس ضروب الشوك، وبيعت الدور والعقارات بالخبز، وانتشر المخبرون السرّيّون، يدلون على من عنده قوت من حنطة أو مؤونة لعياله". فهمي سعد، العامّة في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجريين، دراسة في التاريخ الاجتماعي، دار المنتخب العربي، بيروت، ط 1، 1993م، ص 274. وانظر: كامل الفصل الثاني عشر، مستوى المعيشة، ص ص 267- 306. والفصل الثالث عشر، مظاهر الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، ص ص307- 330.
[17]- الأصفهاني (أبو الفرج)، الأغاني، ج 15، ص 47.
[18]- الأصفهاني، الأغاني، ج 19، ص 227.
[19]- نفسه، ج 19، ص 106.
[20]- نفسه، ج 20، ص 226. وهي حادثة شبيهة بقصة/مورد المثل: الصيف ضيعتِ اللبن.
[21]- نفسه، ج 20، ص ص 229- 230. ويورد الأصفهاني، أيضًا، نقائض (هجاء) بين روح بن زنباع وزوجته.
[22]- الأغاني، ج 20، ص 333.
[23]- نفسه، ج 9، ص 48.
[24]- البرزلي، فتاوى البرزلي، ج 2، ص 500.
[25]- خلص الباحث فهمي سعد من تحليل العلاقة بين النساء والرجال، إلى القول: "يبدو أنّ غلبة النساء على الرجال في القرن الرابع، أمر مسلّم به". العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجريين، دراسة في التاريخ الاجتماعي، دار المنتخب العربي، بيروت، ط 1، 1993م، ص 365.
[26]- نفسه، ج2، ص 271. وأفتى البرزلي بضرورة مراعاة موافقة المرأة، وعدم غصبها قبل البناء، راجع: ج 2، ص 169.
[27]- الأغاني، ج 19، ص 175.
[28]- نفسه، ج 19، ص 166.
[29]- أورده محمّد الطالبي، أمة الوسط، سراس للنشر، تونس، 1996م، ص ص 151- 152
[30]- انظر: فتاوى البرزلي، على التوالي، ج 2، ص ص ص ص 288- 218- 76- 500.
[31]- الأغاني، ج 20، ص 329.
[32]- انظر: الأغاني، ج 1، ص 103. ج 2، ص 41.
[33]- الأغاني، ج 8، ص 120.
[34]- الأغاني، ج 19، ص 231.
[35]- الأغاني، ج 20، ص 223.
[36]- انظر، مثلًا: القرطبي (أبو عبد الله)، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج 5، ص 113. وقال مالك في الموطأ: ابن شهاب يقول: مضت السُنّة؛ أنّ الرجل إذا أصاب امرأته بجرح، أنّ عليه عقل ذلك الجرح، ولا يفاد منه. قال مالك: وإنما ذلك من الخطأ؛ أن يضرب الرجل امرأته، فيصيبها منه ما لم يتعمّد، كأن يضربها بسوط، فيفقأ عينها، ونحو ذلك. الموطأ، باب عقل المرأة.
[37]- الطبري (أبو جعفر)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 2001، ج5، ص 70.
[38]- الأغاني، ج 20، ص 377. وهو قول منسوب، كذلك، إلى أسماء بن خارجة، يوصي ابنته هندا، حين خطبها الحجّاج ابن يوسف الثقفي.