الوطن والوطنية فلسفياً
فئة : مقالات
"الفلسفة تأتي متأخرة دوماً"؛ فبعد انقضاء ست سنوات على الحدث السوري / الأزمة السورية، ظهرت بعض المقاربات الفلسفية لمفهومي الوطن والوطنية، من هذه المقاربات ما انبنى على جدلية الوطن / اللاوطن، أو المتن والهامش؛ ومنها ما انبنى على "جدلية" المواطنة / اللامواطنة، تأسيساً على الحداثة وما بعد الحداثة. مما يلفت النظر في الاتجاهين تركيزهما على فكرة السلب أو النفي، على ما بينهما من اختلاف في تصور الكيفية التي يعمل بها السلب أو النفي، إذ يمكن أن يكون السلب خلاقاً، أو عدمياً. ونحن أقرب إلى فكرة السلب الخلاق، وننسبه إلى الحرية، على ما في هذا من غموض، لا بد من جلائه. سنناقش في هذه المقالة مقاربة فلسفية مميزة للصديق الدكتور يوسف سلامة.
قبل ذلك، يجدر التذكير بأطروحة اسبينوزا، "كل تعين هو سلب"، التي قلبها هيغل، فصارت، "كل سلب هو تعين"، ثم أعادها ماركس إلى نصابها السبينوزي. كل كائن يحمل سلبه أو نفيه في داخله، في ذاته، فالسلب محايث للكائن، محايث للوجود المتعيِّن، وليس مضافاً إليه؛ فناء الأفراد من كل نوع من أنواع الكائنات الحية دليل ساطع على ذلك، وهذا غير فناء الأنواع أو انقراضها، إذ "موت الفرد حياة للنوع"، حسب هيغل. ومن هنا يكون السلب علة أنطولوجية لانوجاد الموجود ونفيه، أو علةً للتعيُّن والتغير الكمي / الكيفي، الذي يعتري كل متعين، والحرية كذلك. ولما كانت العلة تظهر في معلولها، أو تحايثه، بل تنسجه، وهذا ما يميز العلة من السبب، إذ العلة أنطولوجية والسبب إبيستيمولوجي، فإن السلب محايث للإيجاب، ينسجه ويفكُّه ويعيد نسجه، وهذا ما يحدد مصير الكائن أو "قـدَرَه". ننظر إلى الحرية، في هذا السياق، على أنها قوة السلب المحايثة للضرورة، وعلة نسبيتها، نعني نسبية الضرورة، التي تجعل الحرية نسبية، على الدوام.
الوطن مكان؛ والمواطنة تمكُّن (وجود في المكان، عيش في المكان الممهد أو الصالح للسكنى..)؛ هذا أبسط تعبير، يحيل على الجذر اللغوي للمفهومين، في العربية، وأقرب إلى الحسِّية والبداهة، إذ البداهة لا تدرك سوى المعنى الحسي للمكان، بصفته امتداداً (محايداً أو لا مبالياً) وموضوعاً مباشراً ووجوداً مادياً خارجياً، لا يقبل أي توسُّط بينه وبين الذات. ظروف المكان أو إحداثياته: هنا، هناك، فوق، تحت، خلف، أمام، يمين، يسار، أعلى أسفل .. طول عرض ارتفاع .. إلخ، ولكل منها قيمتها الرمزية، لدى العامة والخاصة. يلفت النظر العقلي تصاقب المكان والإمكان في الدلالة البعيدة. المكان ليس جوحراً امتدادياً، وليس امتداداً جوهرياً، بل إمكان، وما يجعله كذلك هو الزمان. المكان نفسه قابل للتغير، ويتغير باطراد، سواء لاحظنا ذلك أو لم نلاحظه. التغير نفسه علامة على الإمكان، مهما كان طفيفاً، لأنه علامة على تحول من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل.
يقول الدكتور يوسف سلامة: "(الذات البشرية الفردية) و(الذات البشرية الجماعية)، أي ذات الشعب وما في حكمه من مثل الجماعة والقوم والأمة والروح وغيرهم، لا تستطيع الوصول إلى ذاتها أو التعبير عن هذه الذات على نحو مباشر. فالفعل البشري الذي يستهدف التعبير عن الذات أو تجسيدها لا يمكنه الوصول إلى ذاته إلا عبر وساطات أو توسطات قد تكون مندمجة في الذات البشرية نفسها، أو قد تكون جزءًا منها بمثل اللغة والتفكير، أو قد تكون خارجة عنها، على نحو ما، بمثل الزمان والمكان. ومن الممكن لهذه الوساطة أيضًا أن تكون مادة خاماً، أو مادة جامدة كقطعة الصخر التي يترجم النحات من خلالها أفكاره وأحاسيسه بعد أن يستخرج منها تمثالًا أو تحفة فنية".
تطرح هذه الفقرة الزاخرة بالمعاني، من مقالة الدكتور سلامة، في العدد الأول من مجلة قلمون (2017)، أسئلة كثيرة، من أهمها، هل حقاً لا تستطيع الذات البشرية الوصول إلى ذاتها أو التعبير عن هذه الذات على نحو مباشر، من دون أية وساطة أو توسط؟ وهل الزمان والمكان خارجان عن الذات الإنسانية، ولو على نحو ما؟ مقاربتنا للسؤال الأول تؤكد ما يذهب إليه الدكتور سلامة، فالذات الإنسانية لم تستطع تعـرُّف ذاتها بصورة مباشرة؛ أي بدون توسطات، منذ اغترب الإنسان في الطبيعة، ثم في الدين، أو منذ رمَّـز عناصر الطبيعة، وقـدَّس بعضها وألـَّه بعضها الآخر، وظهرت الملكية الخاصة للأرض، وصار المكان تدريجاً "وطناً للمالكين"، لا للعبيد التابعين، ولا للأقنان، ولا للمهمشين، والأصح أن المكان تحول تدريجاً إلى وطن للعبيد والأقنان والمهمشين، بوساطة العمل والإنتاج الاجتماعي، ولكنه سُرق منهم من البداية، بوضع اليد، بحكم علاقات القوة والغلبة؛ أي علاقات السلطة المتوحشة، ولولا ذلك ما كان استبداد وتسلط. فقد كان السادة، على الدوام، عالة على العبيد، والإقطاعيون عالة على الأقنان والمزارعين، والمتبطلون من الأغنياء عالة على الفقراء، وصار الفقراء والمهمشون غرباء في أوطانهم، بعضهم اغتربوا منها، إلى أماكن أخرى، فالهجرة القسرية قديمة قدم السلطة، وقدم الغزو والحرب والاستباحة أو الاحتلال، وبعضهم اغتربوا عنها، وصاروا فريسة للعدمية، وأدوات للعنف، كالمماليك والمرتزقة والبلطجية والمافيات والشبيحة في أيامنا. ومع ذلك، يمكن القول إن الوطن مكان مؤنسن، بحكم الاغتراب ذاته. الوجه الإيجابي للاغتراب هو أنسنة الطبيعة بالعمل، وليس التقديس والتأليه، الذي انتهى إلى تقديس الإنسان وتأليهه، سوى التعبير الميتافيزيقي عن عملية الأنسنة المطردة للطبيعة.
التوسطات، التي تحجب الذات الإنسانية عن ذاتها، كلها نتجت من اغتراب الإنسان عن ناتج عمله، ثم اغتراب العمل ذاته، واغتراب الإنسان في العمل، ثم اغتراب الإنسان عن ذاته، وتشييئه، وضياع ماهيته، وماهيته هي الحرية. من أبرز هذه التوسطات، الأسرة والعائلة الممتدة والعشيرة والقبيلة ومحمولاتها الثقافية والدينية والمذهبية والإثنية، والقومية، منذ بزوغ الحداثة إلى أيامنا، وكذلك المكان والزمان المنسوبان إلى هذه التوسطات جميعها، والمذاهب الدينية الوضعية، مذاهب البطاركه والقساوسة والفقهاء والشيوخ، من أغرب هذه التوسطات، وأكثرها إهانة للروح الإنساني، بوجه عام وللعقل بوجه خاص، وأكثرها إيغالاً في الأساطير الميتة والخرافات. الوطن مكان مؤنسن، طبيعة مؤنسنة، والزمان والمكان نسيجه، مثلما هما نسيج الإنسان ذاته، الوجود عامةً، ووجود الإنسان خاصةً منسوج من المكان والزمان؛ هنا بالضبط تتأكد وحدة المكان والزمان، التي كشف عنها آينشتاين، بما هي وحدة جدلية، ديالكتيكية، في تقديرنا، من دونها لا يكون نمو، ولا يكون تحسن ذاتي للإنسان فرداً وجماعة وشعباً وأمة، ولا يكون نكوص وتقهقر أيضاً. الإنسانية ليست شيئاً مضافاً إلى الطبيعة من خارجها، بل شيء ناتج منها، (الداروينية مفيدة جزئياً في هذا السياق). الإنسان كائن حي طبيعي، يمتاز بقدرته على التحسن الذاتي، وتغيير أشكال الطبيعة، وهاتان متشارطتان، ويمتاز قبل ذلك بكونه خالقاً مبدعاً وصانعاً وبستانياً للعالم. الإنسان ابن الطبيعة، قبل أن يصير ابن المجتمع، من دون أن يكف عن كونه ابن الطبيعة، لكن المجتمع ابن الإنسان، ابن التاريخ، بما هو تاريخ الإنسان، مع عنصر طبيعي غير مرفوع، ولا يمكن رفعه.
ثورات الربيع العربي، في مغزاها الأعمق، هي نهوض المهمشات والمهمشين لاستعادة المكان - الزمان، الذي جعلوه وطناً، ونُبذوا منه، واستعادة ذواتهم التي هدرها الاستبداد والتسلط، وذلك باستعادة الفضاء العام، لا الساحات والشوارع، فقط، بل المجتمع والدولة، إعادة المجتمع إلى اجتماعيته وكليته، والدولة إلى عموميتها، أي وطنيتها، لأن العمومية عماد إنسانيتهم. كل إنسان، ذكر و/ أو أنثى هو كائن كلي، فرد وإنسان، فرد ونوع. الثائرات والثائرون أردن وأرادوا، استعادة ذواتهم، التي شلكها المكان - الزمان، لا ذواتهم الفردية فقط، بل ذواتهم الإنسانية - الاجتماعية العامة، عموميتهم، حياتهم النوعية، العامة، إنسانيتهم الفعلية واجتماعيتهم الفعلية.
نبذ الأفراد إناثاً وذكوراً من المجال العام، أو الحياة العامة، التي وصفها ماركس بالحياة النوعية، والحياة الأخلاقية، هو نبذهم من المجتمع والدولة، وحرمانهم من المشاركة الطوعية؛ أي حرمانهم من المواطنة، إذ المواطنة مشاركة طوعية في الحياة العامة.
يرى الدكتور سلامة أن "(الوطن) ليس نقطة مجردة، ولا كيانًا ذهنياً، نُـقطُه كلُّها متشابهة ومتماثلة، لأن (الوطن) هو قطاع محدد من المكان، انتُزع من تجرده وعزلته، وتشابه عناصره، وتماثل أبعاده، بفضل الخصائص المحددة، التي اغتنى بها وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها، نتيجة لارتباطه بتاريخ شعب بعينه. إذاً، (فالمكان) يتحول إلى وطن عدما يفرض (روح شعب ما) إمكاناته فيه بمرور الزمن، ويترك هذا (الروح)، من ثم، آثارًا باقية له في صميم هذا المكان. وما هذه الآثار الباقية والمتصلة في المكان التي تُنتج فيه عبر الزمان إلا (الهوية العميقة)، التي يترجم عنها هذا الشعب أو ذاك عندما يقضي على عزلة المكان وتجرده ولا مبالاته." الهوية العميقة، كما نفهم من نص الدكتور سلامة، زمكانية أنطولوجياً، وهذا حق، وجدير بمراجعة "الهويات القاتلة" عليه؛ لأن الزمكانية هنا ترادف النوعية، فتكون الهوية العميقة هي الانتماء الجذري للنوع البشري، والانتماء الجذري للعالم. الاجتماعي - السياسي ليس ترجمة لما هو أنطولوجي، بسبب الاغتراب وعلاقات القوة. ولكن هل الوطن مكان انتُزِع من تجرده وعزلته وتشابه عناصره وتماثل أبعاده .. لارتباطه بتاريخ شعب بعينه، أم مكان اجتهد البشر في تجريده وترميزه، وخلعوا عليه خصائصهم، بالعمل الخلاق، فجعلته كل جماعة منهم وطناً، تصفه بأحسن الصفات وتنسب له جميع الفضائل؟ لعل في قول الدكتور سلامة الآنف ذكره نكهة هيغلية ما، قد تقطع الطريق على مواطنة عالمية ممكنة، وقد تنحو بالوطنية منحى تقديس القومية واعتبار دولتها تجسيداً للعقل والأخلاق.
وإلى ذلك، فإن علاقة المتن والهامش، وهي ترجمة اجتماعية لعلاقة المحكومين بحكامهم، لا تفضي بالضرورة إلى ما وصفه الدكتور سلامة بالوطن / المخيم، أو اللاوطن، إلا في ظل الاستبداد والفساد والتسلط، لا سيما إذا كان المستبدون سلاطين تافهين، كالمستبدين العرب عامة، قوميين كانوا أم إسلاميين أم "ليبراليين جدداً"، فما بالكم إذا كانوا كل هذه مجتمعة، وعارية من الأخلاق، كسلاطين البعث العربي الاشتراكي؟! حين تكف العلاقة بين المتن والهامش عن كونها علاقة جدلية، تبادلية وتفاعلية وتشاركية وتواصلية، تنتج في كل مرة تركيباً جديداً، يغتني بثروة حديها أو طرفيها، تتحول إلى علاقة تناف أو تعادم، المتن ينفي الهامش نفياً مطلقاً، والهامش كذلك. هكذا هي الحال.
وللقول صلة