"براديغم" المعرفة الجديد وسؤال الوعي بالذات


فئة :  مقالات

"براديغم" المعرفة الجديد وسؤال الوعي بالذات

لقد دخلت الإنسانيّة إلى "براديغم" معرفي وتبادلي جديد. في الوقت الذي كانت فيه المعرفة محصورة في دوائر الحكماء و"الراسخين في العلم"، من خلال تداول "شفرات" أو أنظمة مُحكمة في إطار ضيّق ومحصور، تحوّلت المعرفة منذ أواخر القرن الثامن عشر، وخصوصاً اليوم، إلى اعتبارها شأنًا عموميًّا تعزّز بفضل تنامي مطالب الحرّيّة والمساواة والانفتاح على الآخر وحقوق الإنسان، بما فيها الحق في التربية والتعليم واكتساب المعرفة من خلال الكتاب والمدرسة والجامعة.

لم تعد مسألة المعرفة، إذن، اختيارًا، وإنّما قضية مصير وسؤال انتماء إلى زمن العالم. كما لا يمكن النظر إليها من زاوية "النقل" انطلاقا من موقع "توسّطي"، أداتي يتعامل مع المعرفة بوصفها مجرّد أجهزة وتقنيات ووسائل، لأنّ عمليّة النقل قد تدلّ على عجز ونقص في التدبير، أو التعامل معها بهاجس يتوخّى "توطين" بذورها في سياق أو وسط يكرّس الكسل العقلي والسلوكيات الاتّكالية، وينتج مقاومات رمزيّة ووجدانيّة لمقتضياتها. يندرج الحديث عن المعرفة، اليوم، ضمن مشروع حضاري شامل يفترض استعدادًا، وتأهيلا، وتكوينًا، ونجاعة. للنخب فيه دور حاسم في "النقل" و"التوطين" والاستيعاب والتملك؛ فاستعمال أرصدة المعرفة الرائجة في قنوات العالم يتطلّب خلق جيل قادر على شروط هذا الاستعمال من خلال التأسيس المادي لقواعد العلوم والمعرفة.

إلاّ أن التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال "ثوّرت" جذريًّا وسائط نقل المعرفة وتداولها، ووسّعت من دائرة الفضاءات العامة التي يمكن للمرء عبرها الانتهال من مصادر المعلومة والمعرفة. ولم تعد حكرًا على منطقة ما من العالم أو على حضارة بعينها. كما لا يبدو أنّ هذه الوسائط الجديدة، على الرغم من اللاتكافؤ الواقعي بين قارات العالم، قد تقتصر على ترويج مرجعيّة ثقافيّة واحدة مهما كانت قوّتها وجاذبيّتها. لا شكّ أنّ "سوق المعرفة"، مع انتشار "الصناعات الثقافيّة"، يقوم على منطق تسويقي وعلى حسابات إستراتيجيّة تسهر على التبادل غير المتكافئ لمصادر المعرفة، إذ لا يكفي القول بضرورة تقاسم "الرأسمال" المعرفي العالمي، لأنّ هذه الحسابات تحدّد ضوابط تقنيّة تحكمها حقوق التأليف والابتكار، وتشترط مفاوضات بناء على موازين القوى بين الأطراف المنخرطة في "المعاملات المعرفيّة". يجد هذا الرأي مبرره في القول بأنّ "الغرب" المالك الأكبر لسوق المعرفة في العالم لن "يتطوّع"، ببساطة، بمنح مدّخراته المعرفيّة بدون مقابل، أو يتقاسم معارفه بدون حساب لمصالحه الكبرى. ويمثّل موضوع التكنولوجيا النوويّة أكبر دليل على هذا الأمر؛ فالغرب سمح لإسرائيل بامتلاك هذه التكنولوجيا ولكنّه يقاوم، بشراسة، إمكانيّة "تعميمها" على من هو في حاجة إليها، حتى ولو لأغراض سلميّة تنمويّة ضروريّة لاقتصاده ولمجتمعه. تنطبق الملاحظة نفسها على ما قامت به أوروبا لتأهيل إسبانيا، والبرتغال واليونان، الخارجين من عهد الدكتاتوريّة، وإدماجهم في المسار الأوروبي اقتصاديًّا، ومعرفيًّا، وسياسيًّا ومؤسّسيًّا. وهذا ما ترفض أوروبا القيام به مع بلدان جنوب شرق المتوسط.

ويظهر أنّ "مجتمع المعرفة" الذي يشتغل عليه الآن الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانيّة، وحتى السياسة لا يمكن اختزاله في اعتباره "آلة تقنية" أو مجرد مجموعة تقنيات، وإنّما هو جماع روافد ثقافيّة وحضاريّة. صحيح أنّه خاضع لحسابات ولضوابط ولتوازنات الاقتدار والقوّة، ولكنّ المعرفة شأنها شأن الماء تتسرّب وتخترق قنوات لم تعد إرادة القوّة السياسيّة أو الاقتصاديّة والاجتماعيّة قادرة، دائماً، على إغلاقها، لاسيّما مع التجدّد الدائم والخارق للتقنيات الجديدة. والمعرفة، سواء تمّ نقلها وتوطينها أو إبداعها هي نتاج حاجة، وتعبير عن إرادة للتجاوز. كما أنّها تشترط قواعد وتأسيسًا ماديًا، وتربويًّا ومؤسّسيًّا. لذلك فعمليّة توطينها مرهونة بالأرضيّة التي تستنبت فيها وبالاختيارات التي يدرجها فيها أصحاب القرار.

ولعلّ تجارب بلدان آسيا تبدو بليغة على هذا الصعيد. وعلى الرغم من تباين اختياراتها السياسيّة، اقتنعت نخبها بالدور المصيري للمعرفة في التنمية، "ووطّنتها" بطرق جعلت منها مصدر قوّة، وشرط تأهيل، ومنهج عمل وإنتاجيّة.

لكن لا شك أنّ أدبيّات كثيرة ازدهرت في الآونة الأخيرة اتّخذت من "مجتمع المعرفة" موضوعاً لها. وقد تمّ تحرير كتابات وتقارير عدّة من طرف منظّمات وهيئات دوليّة قصد تأطير هذا المفهوم وتحديد مضامينه في علاقته بمفاهيم اقتصاد المعرفة، والمجتمع الشبكي، والتنمية، والعالم الافتراضي، والشرخ الرقمي، وبتكنولوجيات تواصليّة، مثل الإنترنيت، والهاتف المحمول، والتقنيات الرقميّة...إلخ، وهي تحوّلات تواكب حركيّة شاملة مرتبطة بما تمليه العولمة من شروط، وقواعد، وضغوط، وسياسات ولغات وتقنيات، وهجرات للأجساد وللأفكار وللقيم والرموز. لذلك يصعب على المرء الحديث عن "مجتمع المعرفة" بدون الوقوف عند التداعيات المختلفة التي يولّدها على صعيد الوعي بالذات، وبالواقع، وعند أشكال التأثير الذي يمارسها على الثقافات والعلاقات الاجتماعيّة وأنماط التعبير عن الهويّة.

هكذا تساهم تكنولوجيات الاتصال في خلخلة مفاهيم القوّة والسيطرة والتدبير، والحدود، والسيادة، والعلاقات الاجتماعيّة. وأضحت عاملاً من عوامل التنمية الاقتصاديّة والتغيير الاجتماعي، والدعوة إلى تعميمها أو نقلها وتوطينها في بيئات مختلفة مرتبطة بمبادئ كبرى، تتّخذ من الحرّيّة والعدالة والتنمية المستدامة منطلقات توجيهيّة لها حتّى تخرج الدعوة من نطاق التبشير بها إلى حيّز الإنجاز الممكن. ثم إنّه إذا كان "مجتمع المعلومات" يرتكز على الابتكارات التكنولوجيّة التي لا تتوقف عن التجدد، فإنّ مفهوم "مجتمع المعرفة" يتضمن أبعادًا اقتصاديّة واجتماعيّة وأخلاقيّة وسياسيّة. فليست مجتمعات المعرفة مجرّد قنوات وأنسجة تتدفّق منها المعلومات والمعارف بدون قواعد أو معايير، وإنّما تخضع لشروط خاصة للإنتاج والتوزيع والاستعمال. ومهما كانت درجة الافتراضيّة التي فرضت ذاتها على الفرد والجماعة في علاقتها بالواقع والتقنية والصورة...إلخ، فإنّ مجتمع المعرفة يقتضي الانتباه إلى مضامين المعرفة وإلى الأهمية التي أصبحت تكتسبها مسألة التنوّع الثقافي واللغوي، وضرورة إدماج كل الأفراد والمناطق اعتماداً على أشكال جديدة للتضامن بين الفئات والأجيال والشعوب، بما أنّ المعرفة فجرت دوائر النخب، وغدت ملكيّة عامة تفترض تعبئة عالميّة لاستعمالها وولوجها والاستفادة من خبراتها. مع العلم أنّ تمدّد الشبكات وانتشارها ليس وحده كافياً لإقامة مجتمع المعرفة الذي يتعين التعامل معه بوصفه حاملاً لمضامين ومبشراً بقيم.

ليس توفير شروط ولوج المعرفة عمليّة سهلة أو بسيطة؛ فلا تكفي الدعوة إلى إقامة مجتمع معرفة، لأنّ البلدان التي بلغت مستوى متقدّما في إنتاج "الرأسمال" المعرفي وتوزيعه استثمرت جهودًا جبارة في ميادين التربية والتكوين، من المدرسة إلى الجامعة، وسنَّت سياسات منتجة في البحث العلمي بإنشاء نظم ابتكار تتوفّر فيها شروط الأداء العالي والتنافسي.