بسّام الجمل: مداخل للنّظر في علوم القرآن (الجزء الثّاني)
فئة : حوارات
د. نادر الحمّامي: نجدّد شكرنا للأستاذ بسام الجمل على قبوله أن يكون ضيفنا اليوم للحوار معه حول أهمّ ما جاء في الدّراسات التي كتبها ونشرها، وكنّا قد تحدّثنا في الجزء الأوّل من حوارنا عن جوانب من المتخيّل والمقاربة الأنثروبولوجيّة لنصوص التّراث، وقادنا ذلك إلى الحديث عن علم أسباب النّزول والمتخيّل الدّيني، وهو ما يصلح أن يكون مدخلاً للحديث عن مقاربة مسألة علوم القرآن من خلال هذا العلم الأساسي الذي نعتقد أنّ الأستاذ بسام الجمل قد تجاوز فيه الكثير ممّا توصّلت إليه الدّراسات السّابقة بما في ذلك الدّراسة المهمّة التي أنجزها أندرو ريبين (Andrew Rippin) (1950-2016) المتخصّص في أسباب النّزول، وذلك من خلال أطروحته ''أسباب النّزول'' التي خصّص الجزء الأوّل منها للبحث في المدوّنة التّراثية بطريقة إحصائيّة من خلال كتب علوم القرآن العامّة، مثل كتاب "الإتقان في علوم القرآن" وكتاب "لباب النّقول في أسباب النّزول" للسّيوطي (849هـ-911هـ) و"البرهان في علوم القرآن" للزّركشي (745هـ-794هـ)، و"أسباب النّزول" للواحدي، وكتب التّفسير الضّخمة، مثل تفسير الطّبري (224هـ-310هـ) "جامع البيان"، وتفسير الطّبرسي الشّيعي (486هـ-548هـ) "مجمع البيان"، و"مفاتيح الغيب" للرّازي (544هـ-606هـ)، التي أخرج منها أسباب نزول كثيرة. هذه الدّراسات الإحصائيّة انتهت إلى اعتبار أخبار أسباب النّزول نوعاً من الصّناعة ما مكّن لاحقا من الانفتاح على دراسة المتخيّل. فكيف اعتبرتَ، أستاذ بسّام، هذه المسألة صناعة وهل هي اختلاق بإطلاق أم يمكن الاعتماد في قسم منها على جوانب يمكن اعتبارها واقعيّة؟
د. بسّام الجمل: ما قلتَه صحيح، ولكن ينبغي تنسيب الأمر في أخبار أسباب النّزول، لأنّ الصّناعة لا تنطبق على كافّة الأخبار، ولكن لا شكّ في أنّ هناك أخبارا مصنوعة، وما كان لي أن أخوض في هذا المبحث لو لم ألاحظ أمراً لافتاً للانتباه، وهو أنّ عدد أخبار النّزول يختلف من مصدر إلى آخر، وأحياناً في مصادر يتزامن أصحابها في التّاريخ، لذلك طرحت السّؤال عن سبب هذا الاختلاف، هل يعني أنّ الرّازي مثلاً ذكر تفسيراً لم يكن يعرفه الطّبري والمفروض أن يكون الطبري تاريخيّا هو الأقدر على معرفة هذه الأسباب. وعدد أسباب النزول يزيد وينقص حسب العصور، فليس هناك خطّة أو مسار معيّن يمكن استنطاقه أو تتبّعه، ههنا كان قد ألحّ عليّ هذا السّؤال التّالي: ألا يمكن أن تكون العديد من أخبار أسباب النّزول إنتاجاً بعديّا؛ أي أنّها ظهرت بعد انتهاء الوحي المحمّدي وانتهاء عصر الدّعوة؟ وهو ما جعلني أنكبّ على دراسة الأخبار في مضانّها في كتب التّفسير وفي مجاميع الحديث النّبوي وفي الكتب المختصّة بعلم أسباب النزول وفي كتب السّيرة النّبويّة، وأن أدرس هذه الخطابات دراسة لغويّة وأقارنها بمدلول الآيات، وأن أقارن بين النّصوص وبين السّياقات المختلفة للخبر الواحد، وقد أسلمني ذلك كلّه إلى وجود عدّة أخبار من أسباب النّزول موضوعة، وقد وضعها الرّواة لمقاصد شتّى، اجتماعيّة وسياسيّة، جداليّة وفرقيّة ومعرفيّة، لأن هناك أمرا مهمّا جدّاً، وهو أنّ هذه المادّة المتعلّقة بأسباب النّزول توفّر ما لا يوفّره النّص الأصلي؛ أي تاريخ الوحي الذي لا يمكن أن نقرأه بترتيب السّور والآيات مثلما استقرّ عليه الأمر في القرآن وفي المصحف. ولذلك، فقد كنت أكرّر القاعدة حتّى مع طلبتي، وأقول لهم إنّه كلّما سكت النّص الدّيني تكلّم أهل التّفسير وأهل القصص والأخبار، ولعلّهم كانوا يريدون سكوت النّص، لأنّ السّكوت يتيح لهم إمكانات واسعة لقول ما لم يصرّح به النّص، ولذلك فهذه الصّناعة لها قرائن، وقد تتبّعتها ووقفت على وظائفها وأهمّ دلالاتها.
د. نادر الحمّامي: هذا الفهم هو ما جعلك تضيف فصلاً في نهاية أطروحتك أسميته "علوم القرآن في الإبستيميّة المعاصرة: أيّ أفق لتحديثها؟"، وقد حدّدت ضمنه ثلاثة مواقف قمت بتسليط النقد عليها؛ الموقف الأوّل أسميته "موقف الاستمرار والاجترار"، وهو موقف يقوم على ترديد ما استقرّ عليه النّظر والعمل في السّياق المعرفي القديم، ومثّلت عليه بما كتبه صبحي الصّالح "مباحث في علوم القرآن". أما الموقف الثّاني، فهو الذي أهمل النّظر في علم أسباب النّزول إهمالاً تامّاً وقد نقدت ذلك لدى غوستاف فايل (WEIL Gustav) (1808-1889) في كتابه ''مقدّمة تاريخيّة نقديّة للقرآن''، ومن بعده لدى نولدكه (Theodor Nöldeke) (1836-1930) في أطروحته حول "تاريخ القرآن"، أمّا الموقف الثّالث الذي توسّعت في تناوله، فكان الموقف الذي دعا إلى تجاوز الموقفين السّابقين؛ التّمجيدي والوضعي (positiviste)، وقد اهتممت فيه بنصر حامد أبو زيد (1943-2010) من خلال كتابه "مفهوم النص"، وعلي أومليل (1940) في كتابه "شرعية الاختلاف"، ومحمد عابد الجابري (1935-2010) في كتابيه "مدخل إلى فهم القرآن الكريم" و"فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول". فهل أنّ نصر حامد أبو زيد، مثلاً، في اعتماده أسباب النّزول لبيان أنّ آية ما نزلت في سياق مخصوص، وأنّه لا يمكن اعتمادها لغير ذلك، حينما تحدّث عن عموم السّبب وخصوص اللّفظ، نوعاً من الخروج عن هذه الصّناعة وعن تداخل المتخيّل، أو هو نوع من التّنسيب والاعتدال في الرّفض والقبول، أم إنّه منهج علمي صارم وصحيح يمكن الاعتماد عليه في هذا الأمر؟
د. بسّام الجمل: إنّ ما قاله نصر حامد أبو زيد مهمّ جدّاً، لأنّه عوّل على منهج تحليل الخطاب، وركّز على هذا الجانب، ولكن نحن نعرف أن هناك مسلّمة في علوم القرآن قديماً، وهي أن العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب؛ فالآية قد تنزل في سبب مخصوص، ولكن ذلك السّبب يمكن تجاوزه لتنطبق الآية على الحالات التي تضارعه، وفي هذا الاتّجاه سار القدماء. لقد أراد نصر حامد أبو زيد أن يدرس أخبار أسباب النزول في بنيتها اللّغويّة أساساً، لذلك كان مدخله تحليل الخطاب، وقد صدر كتابه في بداية التّسعينيات وكان مهمّا جدا في سياقه. وهذا التوجّه مرتبط بما كان معروفاً في الاستشراق الكلاسيكي الألماني الذي درس علوم القرآن (Qur'anic Studies) من منظور آخر مغاير هو المنظور الفيلولوجي، مع نولدكه ومع ريجيس بلاشير (Régis Blachère) (1900-1973) من بعده، وهو يتمثّل في محاولة فهم النّص بالاكتفاء بالنّص وحده دون النّظر إلى العلوم الثّواني الحافّة به، ولذلك قلت إنّ هذا التوجّه همّش تلك العلوم.
د. نادر الحمّامي: ولكن ذلك بقي نظريّا؟
د. بسّام الجمل: نعم، لقد حاول نولدكه أن يطبّق ذلك، ولكنه واجه صعوبات وقد أقرّ بها، وحتى تلاميذه الذين أعادوا صياغة تاريخ القرآن، مثل أوتو برتزل (Otto Pretzl) (1893-1941) وردولف أوتو وغيرهما، وقد حاولوا جميعا أن يتداركوا ما فات أستاذهم الذي عمل على تقسيم الوحي إلى أربع فترات؛ ثلاث منها مكّية، وفترة مدنيّة، وقسّم سور المصحف إلى أربع مجموعات كبرى، وهي: الوحي المكّي الأوّل والوحي المكّي الثّاني والوحي المكّي الثّالث، وبحث في السمات المشتركة، وبين أن غرض التوحيد مثلاً يغلب على المرحلة المكّية الأولى في حين يغلب على المرحلة المكية الثانية الكلام عن الثّواب والعقاب والجزاء، بينما تغلب الأحكام التشريعية على المرحلة المدنيّة... ولو نتّأمل في ما قام به نولدكه، فسوف نلاحظ أنّه لا يختلف كثيراً عمّا ذكره ابن النّديم (ت 384هـ) في "الفهرست"، أو ما ذكره المسعودي (283هـ-346هـ) في "مروج الذّهب" عندما تكلّم عن ترتيب سور المصحف ترتيباً تاريخيّاً من خلال مصحف الإمام علي. فهذا موجود في كتب التّراث ولكن الاستشراق الكلاسيكي ادّعى ذلك في إطار محاولة دراسة النّص القرآني اعتماداً على النّص ذاته دون سواه. ولكن هذا الاكتفاء بالنّص واجه صعوبة في الممارسة العمليّة ما جعل الدّارسين غالباً ما يذهبون للاستعانة على النّص بكتب السّيرة وكتب الحديث وغيرها.
د. نادر الحمّامي: نعم، هذا هو مكمن الاختلاف في دراسة العلوم القرآنيّة، وهو ما سنأتي إليه لاحقاً. ولكن هدف الاستشراق، إضافة إلى الدّاعين إلى مراجعة نقديّة للتّراث مثل أبو زيد والجابري، من وراء دراسة أسباب النّزول، يتلخّص في أمرين هما؛ تجديد الفكر الدّيني أوّلاً، والبحث في مقاصد القرآن لمقاومة العنف، ثانياً، وهي أهداف نبيلة ولكن الأمر يختلف علميّاً. ولعلّ الخطأ الذي وقعت فيه هذه الدّراسات كلّها هو أنّها بقيت في إطار الإبستيميّة القديمة في جانب مهمّ وهو وحدة السّورة، وقد بحث أصحابها عن ترتيب تاريخي للقرآن، واعتمدوه على هذا الأساس، ولم يتخلّصوا جميعهم من هذه المعضلة، ونحن نعلم أنّ هناك تداخلا بين المكّي والمدني، وأنّ التّرتيب الموجود في المصحف ليس هو التّرتيب التّاريخي، فهل من حلّ لتجاوز مسألة وحدة السّورة؟
د. بسّام الجمل: في الحقيقة، هناك إشكال كان قد طرحه محمد أركون منذ عقود، وهو يقول إنّ النّص الذي وصل إلينا اليوم، وبالهيئة التي استقرّ عليها يجعلنا أمام أمر مستحيل، وهو أن نعرف تاريخ الوحي، إذن فقد ضاع هذا الأمر إلى الأبد، وليس بالإمكان استرجاعه، ولكنّ الباحث لا يجب أن يقف عند هذا الحد وهذا شرط أساسي. لقد أشرت منذ حين إلى ما يريد أن يصل إليه نصر حامد أبو زيد أو الجابري في ما كتبا، ولكن أعتقد أن البحث الحقيقي هو ألاّ يضع الباحث نتائج بشكل مسبق، ثمّ بعد ذلك يضع خطّة كي يصل إلى تلك النّتائج، فالباحث الحق في تقديري هو الذي يطرح السّؤال ويخوض مغامرة البحث دون أن يعرف بشكل مسبق ما هي النتائج المفترضة التي سيصل إليها، لذلك فعلى الباحث أن ينطلق دائماً من فرضيّات بحث، ويطرحها للمناقشة والسّؤال، وربما يصل من ثمّ إلى استنتاجات ونتائج لم يكن قد توقّعها في البداية، ولذلك عندما يخرج الجابري على الناس بكتابه في تفسير القرآن بأجزائه الثّلاثة، ويقول إنّ لآيات المصحف كلّها أسباب نزول، فهذا غير صحيح، وقد بيّنت في أطروحتي أنّ تسع أعشار آيات المصحف ليس لها أسباب نزول، وذلك يمثّل الأغلبيّة السّاحقة للنّص. وحتّى لدى السّيوطي، نجد أنّه يذكر أنّ نصف عدد آيات المصحف لها أسباب نزول، وهو الوحيد الذي ذكر ذلك، ولكنّ البحث يثبت أنّ عدد الآيات التي لها أسباب نزول معروفة أقلّ بكثير ولا يتجاوز العشرة بالمئة آخذا بالاعتبار ما ورد لدى المفسّرين جميعهم، ولا أدرى إن كان الجابري قد اطّلع على هذا الكتاب الذي صدر سنة 2005 وقد نشر كتابه في تفسير القرآن سنة 2009 تقريباً. ولهذا أرى أنّه لا يمكن اليوم أن نضع للنّاس تفاسير قرآنيّة لا تأخذ في الاعتبار هذه المعطيات، فلا يمكن أن نستمر في تفسير القرآن بالمنهجيّة القديمة، وأن نعتبر أنّ مرويّات أخبار أسباب النّزول مقدّمة من مقدّمة التّفسير، فقد كان هذا الأمر مقبولاً في إبيستيميّة العصر الوسيط الإسلامي، ولكنّه لم يعد مقبولاً اليوم، لأنّ منهجيّة التّفسير التي خطّها الطّبري واستقرت معالمها بداية من القرن الثّالث الهجري هي التي فرضت نفسها على كل التّفاسير اللاّحقة، ولكن اليوم يمكن أن نضع التّفاسير القرآنيّة حسب الأغراض؛ أي أن نأخذ الآيات التي موضوعها الأحكام مثلاً، ونجمعها في حزمة واحدة، ويمكن أن نفعل الأمر نفسه بالنسبة إلى الآيات التي فيها تراتيل أو تسابيح، أو أن نجمع الآيات المتعلّقة بالسّيرة إلى بعضها مثلاً.
د. نادر الحمّامي: أحياناً تكون النّوايا طيّبة، ولكن نحن ننظر إلى المسائل من الزّاوية العلميّة، وأذكر هنا مثالاً كثير الورود عند بعض من يتبنّون فكر الحداثة وجدل التّنزيل وعلاقة المجتمع القرآني بمجتمع الدّعوة وعلاقة البشري بالإلهي إلى غير ذلك... المثال البارز على ذلك هو ما يسمّى موافقات عمر أو اجتهاداته، وقد اعتمدها نصر حامد أبو زيد لبيان أنّ الأحكام متغيّرة، وأنّ فيها ما هو بشري، ولكنّه لم ينتبه إلى أنّ هذه الموافقات أو الاجتهادات التي نجدها في كتب التّفسير وفي كتب علوم القرآن قد تكون محض صناعة، وأنّها قد تدخل في باب فضائل عمر، ولذلك ففي أحيان كثيرة قد لا تكون هذه النّوايا الطيّبة علميّة في النّهاية، وهذا مشكل حقيقي.
د. بسّام الجمل: صحيح، وحتّى موافقات عمر فهي مكتوبة في الكتب التي تحتفي بفضائل عمر ومناقبه، فعندما نفتح كتاباً من كتب الحديث أو غيرها سنجد أنّ هناك باباً في الآيات التي وافقت الجُمل التي قالها عمر، والتي وافق فيها كلامه الوحي، وقد بيّنتُ هذا في كتابي حول ''الإسلام السنّي''، ولعلّ هذا قد يكون مطعناً في صدقيّة الوحي. والسّؤال ههنا هو كيف يذكر القدامى أمراً يمكن أن يطعن في الوحي أو يبيّن سلبيّة الرّسول في تقبّل الوحي؟ هذا مرتبط بالذّهنيّة القديمة التي تراكم الأخبار وترويها على علاّتها ولا تتحرّى فيها، وأحياناً هناك أخبار تنفلت من رقابة المؤسّسة الدّينية الرّسميّة. لابد أن نستحضر أيضاً، أنّ هناك دائماً إنتاجا بعديّا، فالنّص عندما يستقرّ يتمّ الخوض فيه ويُركّب عليه الكثير من الأخبار لغايات شتّى؛ سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة ونفسيّة واعتقاديّة... هذا وارد وممكن، وهو أمر منتظر لأنّ النّاس يمارسون النّص، وهم خاضعون لمؤثّرات متداخلة ومعقّدة ومركّبة، ومن يفسّر النّص هو متأثّر بانتمائه المذهبي وبانتظارات قرّائه وبآفاقهم الذّهنية وبإكراهات الواقع التّاريخي وبالضّوابط التي استقرّ عليها ذلك النّص وبأحوال العمران والمعيش، وحتى بمزاجه الذّاتي. هذه أمور مهمّة جدّاً تتسرب إلى التّفسير، ولا يغرّنا ذلك التّشابه الذي تبدو عليه التّفاسير القديمة، فهي في الظّاهر كذلك، ولكن عندما نمعن فيها النّظر ونتفحّصها جيّداً، فإنّنا نفطن إلى الكثير ممّا تسرّب إليها.
د. نادر الحمّامي: ألا يمكننا مقاربة علوم القرآن بمعزل عن القرآن نفسه، نحو تأسيس إبيستيميّة معاصرة جديدة لمقاربة علوم القرآن، هذه العلوم التي تشكّلت في كتب منفردة وكتب جامعة؟ بمعنى أن نتعامل معها، كأنّها من باب التّاريخ أو مجرّد الأخبار، وأن ندرسها باعتبارها حكايات مرتبطة بانتظارات أصحابها وبناهم الذّهنية أكثر من ارتباطها بالنّص. ولأنّ التّفسير يبحث دائماً عمّا يريده مفسّر النّص، فالمصنّف يخرج من المجتمع وليس من النّص الذي يفسّره، وهكذا يمكن القول اعتمادا على نظريّات التلقّي والانتظار أنّ علوم القرآن قائمة بمعزل عن القرآن.
د. بسّام الجمل: هذا يقتضي استحضار البيئة التي أفرزت هذه العلوم، ذلك أنّ النّواة الأولى لأخبار أسباب النّزول كانت مرويّات شفويّة تذاع في مجالس القصّاص والإخباريّين بين صلاتي المغرب والعشاء في عصر التّابعين وما بعد التّابعين، حيث كان ينتصب شخص يقصّ على النّاس أخبار أسباب النّزول في شكل قصصيّ سرديّ إنشائيّ، وربّما كان يستغلّ في ذلك سينوغرافيا المكان والفضاء والظّلمة، ليروي لهم ما لذّ من قصص العجيب والغريب. لقد كانت هذه نواة التّشكل الأولى لأخبار أسباب النّزول، وهذا ما تؤكّده أدبيّات السّيرة النّبويّة، ولهذا نفهم سبب وجود جزء كبير من أخبار أسباب النّزول في كتب السّيرة، ولهذا السّبب نجدها أيضاً في كتب الحديث على اختلافها.
د. نادر الحمّامي: هل أنّ السّيرة كانت هي نواة التّفسير أم أنّ التّفسير هو الذي شكّل ما وصلنا من السّير بداية من ابن إسحاق؟
د. بسّام الجمل: إن بدايات السّيرة النّبوية انطلقت من محاولة الإجابة عن سؤال حيّر المسلمين القدامى، وخاصّة جيل التّابعين، هذا السّؤال متّصل بمغازي النّبي، وقد طرح يوسف هوروفيتس (Josef Horovitz) (1874-1931) هذه المسألة في كتابه "المغازي الأولى ومؤلفوها"، وقال إنّ السّؤال الذي طرحه المسلمون القدامى هو لماذا انهزم المسلمون في أُحد؟ ولماذا لم يتدخّل الله لنصرة المسلمين مثلما تدخّل لنصرتهم في معركة بدر؟ ههنا بدأ الخوض في السّيرة، وتاريخ كتابة السّيرة النّبوية، كما يقول محمد حميد الله (1908-2002)، قد بدأ من المغازي أوّلاً، ثمّ بعد ذلك وقع الانتباه إلى سيرة النبيّ؛ ميلاده وطفولته وشبابه وزواجه بخديجة واشتغاله بالتّجارة وعلاقته بالوحي وبالمفارق وتبليغ الرّسالة. لقد تمّ الاهتمام بذلك كلّه بعد الخوض المغازي، بصفة متزامنة تقريباً مع جيل التّابعين، لأنّ الذين كانوا شهوداً على الوحي من جيل الصحابة كانوا قد ماتوا واندثروا. ولم يكن الجيل الثّاني؛ أي التّابعين، يعرف حيثيّات التّنزيل، لذلك كانت المباحث التي خاضوا فيها تعنى بالأسباب؛ من قبيل التّساؤل عن سبب نزول آية ما في شخص ما وفي سياق محدّد وفي إطار زمانيّ ومكانيّ بعينه؛ ذلك أنّ القرآن باعتباره خطاباً لا يقدّم إجابات عن ذلك كلّه، فالنّص الدّيني ليس كتاب تاريخ في النّهاية. ولهذا التمس التّابعون مادّة من خارج النّص، وما هداهم إلى ذلك هو أنّهم تعاملوا مع الآيات تعاملاً مخصوصاً نتج عنه، شيئاً فشيئاً، تراكم في الأخبار التي راجت في إطار المجالس بشكل شفوي، ومن طبيعة الخبر الشّفوي أنّه متغيّر ومتحوّل في بنيته السّرديّة وفي مضمونه وحجمه ومداه وعدد رواته وفي صيغه، وهو لا يستقرّ إلاّ حين يتمّ تدوينه. وتذهب أكثر الأقوال إلى أن الطّبري أملى تفسيره المتضمّن لأخبار أسباب النّزول في حدود سنة (270 هـ). وقد توصّلتُ، من خلال دراستي للخطاب الشّفوي المدوّن في كتاب "جامع البيان"، إلى أنّ الطّبري كان قد أملى تفسيره على تلاميذه من مصادر مكتوبة، ولكن هناك جانب شفوي موجود، وما فعله الطّبري هو أنّه ثبّت الأخبار التي كانت رائجة شفويّاً، ولعلّه في تفسير آية من الآيات يجد نفسه أمام مئة خبر شفويّ، فيقتصر على ذكر عشرة منها على سبيل المثال، ويُهمل البقيّة ليكون مآلها النّسيان والاندثار. ولهذا، فالذّاكرة لا تحفظ إلا المكتوب ولا تهتم بالجزئيّات، وحتّى الدّراسات العلميّة الحديثة تؤكّد أنّ الذّاكرة تنسى، بعد مضيّ أربعين سنة تقريباً، الكثير من الجزئيّات وتلغيها وتخرجها من دائرة اهتمامها.
د. نادر الحمّامي: هل السّيرة هي التي خدمت التّفسير أم أنّ التّفسير هو الذي خدم السّيرة؟
د. بسّام الجمل: لقد كانت السّيرة من مواد تفسير القرآن، فهي أسبق من حيث تاريخ العلوم، ولذلك نجد مواد التّفسير في مرويّات السّيرة، تنظّم بطريقة معيّنة وفق متطلّبات الخطاب، فأخبار أسباب النّزول والنّاسخ والمنسوخ واللّغة... كلّها مداخل ومقدّمات يتمّ توظيفها من أجل التّأويل، وما يأتي في المرحلة الأخيرة هو التّفسير أو الوصول إلى المعنى الممكن الذي يُعتقد أنّ الله أراده من قوله وتنزيله، فهي علوم آلة وأدوات فحسب.
د. نادر الحمّامي: هذه العلوم الآلة قد تمّ توظيفها في كتب علوم القرآن بمباحثها الجزئيّة، ذلك أنّ الدّراسات القرآنيّة، التي أصبحت مبحثاً مهمّاً وخاصّا ومستقلاًّ منذ إنجيلها الأوّل "تاريخ القرآن" لتيودور نولدكه في القرن التّاسع عشر (1860)، لم تستطع أن تتجاوزها. فقد بدأ الكتاب في قسمه الأوّل بإطلالة حول سيرة النّبي ومصادر معرفته ومصدر الوحي، ولم يتخلّص بذلك من السّيرة والتّفسير وكتب الحديث. ولكن هذا الارتباط تقلّص شيئاً فشيئاً مع مرور الزّمن، لتستقيم الدّراسات القرآنيّة (Qur'anic Studies) باعتبار أنّها تدرس المصحف أساساً وتعتبره نصّاً كما في المقاربات الأدبيّة والفيلولوجيّة، وتبحث فيه في إطار العصور القديمة. ونظراً إلى أنّ هذا يمثّل قسماً من اهتماماتك البحثيّة سواءً الأنثروبولوجيّة أو الفيلولوجيّة، فسنحاول التّعرّض إلى بعض ملامح هذه الدّراسات القرآنيّة واهتماماتها واتّجاهاتها في القسم الثّالث من حوارنا معك، ولك جزيل الشّكر.