بواكير الجدل الكلامي المسيحي العربي: جدل يوحنّا الدمشقي مع المسلمين نموذجاً
فئة : أبحاث محكمة
ملخّص:
أبدى الكتّاب الغربيّون اهتماماً كبيراً بشخصيّاتهم وأعلامهم في المجالات الدينيّة والفلسفيّة، فدرسوها وحقّقوها أدباء وأطبّاء وحتّى وزراء. وفي هذا السّياق من الاهتمام، أصرّ كثير من مؤرّخيهم وباحثيهم قديماً وحديثاً على تقديم يوحنّا الدّمشقي باعتباره أهمّ المفكّرين المسيحييّن العرب الأوائل. وجعلوا له سيراً عديدة، اهتمّت بإبراز ملامح حياته ومواقفه وأفكاره وجدله مع المسلمين. قُدّم الدّمشقي على أنّه مفكّر عربيّ، عاش وترعرع في بيئة إسلاميّة في أوج ازدهارها، في مدينة دمشق عاصمة الخلافة الأمويّة، في منتصف القرن الثّاني الهجري، أي الثّامن الميلادي.
ولكنّ المعلومات المتوفّرة حول حياته ومؤلّفاته قليلة جدّاً في المكتبة العربيّة القديمة والحديثة، ومحاطة باللّبس والتّضارب، حتّى أنَّ كثيراً من الكتّاب العرب المعاصرين خلطوا بين اسمه وسيرته، وبين أسماء أخرى مختلفة، أو قدّموا حوله إفادات وبيانات بعيدة جدّاً عن الحقيقة.
إنَّ أوّل إشكال اعترضنا حقّاً في سياق البحث عن بواكير التّفكير الكلامي المسيحي العربي بالخصوص، تمثّل في المدوّنة المتعلّقة بتراث يوحنّا الدّمشقي، فالمسيحيّون يصرّون على أنَّ أوّل جَمْعٍ لسيرته كان باللّغة العربيّة، من قبل راهب أنطاكي اسمه ميخائيل السّمعاني، جمع أخبار الدّمشقي بالعربيّة عام 1085م.
يتعلّق الإشكال الثّاني بالأصول التي ينتمي إليها الدّمشقي وكثير من أعلام المرحلة المبكّرة من الجدل المسيحي العربي الذي كُتب في مجادلة الإسلام والمسلمين. هل هذا الجدل والإنتاج الفكري تكوّن في بيئة بيزنطيّة أم سريانيّة أم عربيّة؟ لقد أراد الكتّاب الغربيّون أن تكون سيرة يوحنّا الدمشقي عربيّة قحّة، فجعلوه من قبيلة تغلب، أي إنّه عربيّ ابن عربيّ، فهو بالتّالي يمتلك اسماً عربيّاً أصيلاً ضارباً في التّاريخ، وهو: منصور بن سرجون بن منصور، وقد عاصر جدّه الأوّل منصور الإمبراطور البيزنطي موريق (موريس: 582-602م) وأيضا هرقل (610 -641م). وفاوض العرب على تسليم دمشق، زمن فتحها من قبل المسلمين، وظلّ في البلاط الأمويّ إلى ما بعد خلافة عبد الملك بن مروان (685-705م)، أي ظلّ أكثر من ثلاثين سنة خادماً للبلاط الأموي، وزعيماً للمسيحييّن في مدينة دمشق.
ورغم هذه الرّحلة الطّويلة، والإرث العربيّ العريق الذي احتواه، فإنَّه عندما كتب أعماله كتبها باليونانيّة وليس بالعربيّة؛ وهذا إمّا أن يكون تقيّةً واحتياطاً، أو جهلاً بالعربيّة؟
اضطلع البحث بتقديم جواب شافٍ حول هذه المسائل والإشكالات، عبر قراءة متأنيّة لكتاب الدّمشقي المعروف اختصاراً بالهرطقات، والذي ردّ فيه على الطّوائف المسيحيّة المخالفة والمنشقّة، مع التّركيز خاصّة على الفصل: 101، المتعلّق بالإسلام، وتقديم قراءة كاملة حوله.
إنَّ سيرة الدّمشقي وإنتاجه كُتبت ودُوّنت وأُعدّت في بيئة خارجة عن البيئة الإسلاميّة، هي البيئة المسيحيّة الكاثوليكيّة البيزنطيّة في مناخ الكنيسة ورجال الدّين المسيحي، ولذلك لم نجد له آثاراً أو أصداء في مصادرنا ومراجعنا العربيّة القديمة والحديثة، أحالت إليه أو تعرّضت لحياته وكتاباته. وإن كانت بعض الدّراسات المسيحيّة العربيّة المعاصرة، تحدّثت عن وجود لاهوت عربي مسيحي واعد، بدأ منذ القرن الثّامن الميلادي، وعملت على بلورته وإسناده بشتّى الطّرق المتكلّفة. وجعلت من الدّمشقي أساس هذا اللّاهوت العربي المسيحي وبدايته القويّة، والذي نشأ قبل ظهور المعتزلة، وبالتّالي مَثّل بواكير التفكير الكلامي العربي المسيحي، وأثّر فعليّاً بحكم التّأسيس والواقع في تحريك الفكر العربي الإسلامي ونهوضه، ثمَّ جاء بعده تيودور أبو قرّة فأكمل المهمّة على الوجه المنشود.
هل يمكن الحديث فعلاً عن لاهوت عربي مسيحي مبكّر؟ امتلك ملامح واضحة ومضامين ناضجة؟ أم كان مجرّد مواقف عابرة وبالية، ما عاد لها من أثر ولا قيمة في هذا العصر المتطوّر؟ ذلك ما سنعالجه من خلال نموذج جدل يوحنّا الدّمشقي مع المسلمين. ملتمسين استكشاف نتائج جديدة، واستخراج مضامين فكريّة ثريّة قد تكون ذات فائدة معتبرة، في توضيح بعض الرّؤى وفتح بعض الآفاق للفكر المسيحيّ والعربيّ على حدّ سواء.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا