بين المقاومة والسَّعادة


فئة :  قراءات في كتب

بين المقاومة والسَّعادة

بين المقاومة والسَّعادة

قراءة في كتاب: (الفنّ في زمن الإرهاب)

تأليف: أم الزين بنشيخة المسكيني

عمر علوي

 

الكتاب: الفنّ في زمن الإرهاب، منشورات ضفاف- دار الأمان- كلمة- منشورات الاختلاف، بيروت، 2016

تشكّل تيمة الإرهاب مسطّحاً أساسيَّاً للكتابات الفلسفيَّة والاستيطيقيَّة الراهنة، ويبدو أنَّ هذا الموضوع لن ينزاح إلى درج النسيان ما دام أنَّ هذا الإرهاب لا يُعدُّ عرضاً؛ بل يشكّل اليوم محرّكاً للعالم، كما أشار سلافوج جيجاك[1]. الباحث في اللغات الأخرى يعثر على هذا الفيض من الكتابات. أمَّا المتصفّح في الجماليَّات العربيَّة، فإنَّه يتحسَّس هذا الفقر حول هذه التيمة في علاقتها بالفن. يشكّل الموضوع "الفنُّ والإرهاب" بركة متحرّكة يمكن أن تبتلع مقترفها، سواء أكان قارئاً أم كاتباً. لذلك، إنَّ الفقر المرجعي يمكن أن يكون تمظهراً لهشاشة الموضوع ودقته.

ننزل اليوم ضيوفاً على مسطّح عنوان فريد (الفنّ في زمن الإرهاب)[2] للكاتبة أم الزّين بنشيخة المسكيني، أستاذة الجماليَّات في المعهد العالي للعلوم الإنسانيَّة بتونس، كتاب آخر يُضمُّ إلى مكتبة الجماليَّات باللسان العربي، ويأتي إثر سلسلة من الإصدارات السابقة. ينخرط هذا الكتاب في ثلاثيَّة أساسيَّة: الفنُّ يخرج عن طوره، أو جماليَّات الرائع من كانط إلى دريدا[3]، وتحرير المحسوس[4]. فيما تنخرط الإصدارات الأخرى في القول الفلسفي: كانط والحداثة الدينيَّة[5]، وكانط راهناً[6]. أمَّا القطب التجريبي للكتابة، فيأتي رواية وشعراً: جرحى السماء[7]، ولن تجنّ وحيداً هذا اليوم[8]، إضافة إلى نص اضحك أيُّها الدهر الشرقي[9]. فيما تأتي مقالات الرأي في كتابين؛ صدر الأول تحت عنوان: هنا تباع الشعوب خلسة[10]، والثاني كتاب أُلِّف بصحبة الفيلسوف فتحي المسكيني "الثورة البيضاء. تمارين في المواطنة"[11]، إضافة إلى الثورات العربيَّة، سيرة غير ذاتيَّة. أمَّا مؤانسات في الجماليَّات[12]، فقد أتى بتنسيق من الباحثة وتحت إشرافها، دون غضّ الطرف عن الأعمال المترجمة التي صدرت في شكل مقالات، أو ما هو قيد الطبع.

يأتي الكتاب بــ212 صفحة، من منشورات ضفاف، بيروت، سنة 2016. افتُتح بتصدير تحت عنوان: لماذا الفنّ في زمن الكارثة؟ واستُتْبِع بثلاثة أقسام: أولاً: في تأويل الإرهاب، وقد امتدَّ على ستة فصول (من ص 21 إلى ص 90)، فيما احتوى الفصل الثاني "الفنُّ في زمن الإرهاب" على سبعة فصول (من ص91 إلى ص 154)، أمَّا القسم الأخير فقد كان تحت عنوان: في إيتيقا المقاومة، وقد امتدَّ على أربعة فصول (من ص 155 إلى ص200).

لكن كيف يمكن أن نتهيّأ لقراءة هذا الكتاب؟ وهل ثمَّة كتب تقرأ فُرادى؟ الكتابة هسهسة الفكر مع فكر آخر. لذلك لا تأتي الكتب مفردة، وإنَّما تأتي وهي تستدعي، في بعض الأحيان، مكتبات بأسرها. إنَّ الكتابة نوع من الجغرافيا التي تأتي، في بعض الأحيان، ضيّقة، وهناك كتابة بجغرافيا شاسعة لا يمكن الوقوف عند حدود مساحتها من فرط الإحالات السريَّة التي تجريها؟ الكتابة سياسيَّة بامتياز؛ لأنَّها تعيد تشكيل خارطة الفكر من جديد، وتحمل نوعاً من الاقتراح غير المسبوق، فهي كتابة وانكتاب ومكتوب، المكتوب هنا في صيغة المفعول والقدر أيضاً. لذلك، إنَّ الكتابة نوع من القدر، والكتب أقدار تسوقنا. لكن ما هو هذا القدر الذي يسوقنا إليه الفنُّ في زمن الإرهاب؟ أَيأتي مفرداً أم جمعاً؟ وما هو هذا التصدير الذي لا تفتأ الكاتبة تفتتح به نصها سواء أكان قسماً أم فصلاً؟

صدر كلّ شيء أوَّله، وكلُّ ما واجهك صدر، وصدّر كتابه جعل له صدراً، والصدرة هي الدرع الصغير. لذلك، إنَّ تصدير كتابة ما هو، في جزءٍ ما، أن نتحوَّل من الكتابة كفعل أدبي إلى الكتابة بوصفها سياقاً ينفتح على الحرب. وإن كان الدرع، في جزء ما، نسيج خيوط معدنية، فإنَّ التصدير هنا حياكة لصدرة فريدة من خيوط متعدّدة وغير متجانسة. إنَّ النسيج هو نوع من اللّاتجانس إذا رأيناه من القفا، كما يقول عبد الفتاح كليطو. ولكن أن نقرأ هذا الكتاب من التصديرات التي ينشئها، فإنَّنا نفهم العدَّة الحربيَّة التي تشحذها الكاتبة لولوج مثل هذا الموضوع. إنَّها تنسج نوعاً من فلسفة الباتشوورك (Patchwork). إنَّ صدريَّة الكتاب هذا تمتدُّ من دريدا إلى بول سيلان، وألبير كامو، وغودار، وكوندرسيه، وبريكلاس، وبودلير، وأغامبان، ونيغري، ونيتشه، ودولوز، وألان باديو، وكريشنا. ولكن ما يضاف إلى ذلك وجود أبي تمام، وفتحي المسكيني، وتمام عزام؛ أي إنَّ الكاتبة تضيف فيلسوفاً عربياً ورسَّاماً عربياً وشاعراً عربياً، إلى أفق هذه الجماعة العلميَّة التي من خلالها تنجز صدرتها. إنَّ المسألة تتعلق إذن بنوع من الكتابة عند الحدود التي ما انفكَّ يقع ترسيمها بين الثقافات، أو هي كتابة بالحدود حين تضحي الكتابة أمراً مستحيلاً، أو إنَّها تحاول أن يقول اللسان العربي كلمته، وأن يقدّم إدلاءه على مقام عظماء الفكر نفسه.

لكن حول ماذا يدور هذا الكتاب؟ يبدو أنَّ الناشر أو الكاتبة، ونحن لا نعلم من اختار الغلاف الخارجي، قد وقع على جملة مفصليَّة في الكتاب. المفصل هنا ملتقى عظمين من الجسد، وهو في جزء ما المفصل- الفصل؛ بمعنى القول الفصل؛ أي القول الحق الذي يمكن أن يخبرنا عن حركة الكتاب وبدء تشكّل جسده. تقول الكاتبة: "الفنُّ في زمن الإرهاب قدره أن يغمس الحب في الموت علّه يجعل الحياة ممكنة مرَّة أخرى"[13]. الموت هنا، كما يقول فتحي المسكيني، هو الصلصة الميتافيزيقيَّة، حيث يغرق البشر في وحل الآلهة بلا سبب واضح سوى قوة السرد[14]. إذن، يتعلق الكتاب بقدر الكتابة، وهي تخطُّ من محبرة الموت. كيف يمكن أن نكتب بالموت؟ أو كيف يمكن أن نحبَّ في زمن الكوليرا؟ هذا هو السؤال المفصلي الذي يأتينا به الكتاب تتمَّة لما أدلى به موريس بلانشو: "يُقال إنَّ الإنسان يملك قدرة على الموت تتجاوز بكثير، وللغاية تقريباً، ما يلزمه للدخول في الموت، وقد استطاع، على نحو رائع، أن يكوّن لنفسه سلطة. من هذا الإفراط في الموت، وبواسطة هذه السلطة الناكرة للطبيعة، بنى العالم، باشر العمل وأصبح منتجاً ومنتجاً ذاتياً، غير أنَّ ذلك - وهذا أمر غريب- لا يكفي، يبقى له في كلّ لحظة ما يشبه قسطاً من الموت لا يستطيع توظيفه في النشاط، في أكثر الأحيان لا يعرف ذلك، فلا وقت عنده. أمَّا إذا توصَّل إلى الاستشعار بهذا الفائض العدمي، بهذا الفراغ المتعذّر استعماله، وإذا اكتشف أنَّه مرتبط بالحركة التي تميته إلى ما لا نهاية، فكلما مات إنسان ما، وإذا استولت عليه لا نهاية النهاية، فإنَّه يتعيَّن عليه أن يستجيب لضرورة أخرى"[15]. لكن ما هي هذه الضرورة؟ ما هي الضرورة الحاسمة للكتابة الآن؟ ما ضرورة القول؟ تقدّم الكاتبة أثرها بسؤال مفصلي: لماذا الفنُّ في زمن الكارثة؟ أو لماذا الفنُّ في زمن الإرهاب؟ أو لماذا الشعراء؟ وهي تختفي وراء ظلّ هايدغر. يبدو أنَّ المسطّح الذي كان يعبره أدورنو هو المحرقة. أمَّا المسطّح الذي يقف عليه هايدغر، فهو افتكاك شرعيَّة العظمة من الإغريق، وأمَّا المسطَّح الثالث الذي نقف عنده الآن، فهو الإرهاب.

تعيد الكاتبة أم الزّين بنشيخة المسكيني تفعيل السؤال حول راهنيَّة الفن، ولكن من زاوية ما يخصُّ أطفال سورية. لا باعتبارهم هويَّة شرقيَّة ناجزة، ولكن بوصفهم طفولة فحسب. هكذا يأتي الإهداء.

يتعلّق السؤال، إذن، بإمكانيَّة حفظ بذور الحياة ضمن هذا الفائض العدمي الذي تسمّيه الكاتبة الإرهاب. إنَّ الزمن هنا يأتي مكاناً بمعنى الكرونوتوبوس (Chronotopos) لباختين: المكان المثخن بالدم، لذلك هي ترفع ما يقع اليوم بقيمة الضرورة نفسها التي دعت هولدرلين وأدورنو إلى طرح مثل هذه الأسئلة. فهل ثمَّة أكبر من هذه المحرقة التي نحياها اليوم؟ تقدّم الكاتبة هنا تنويعات للإرهاب، ما دام المفهوم لا يلقى "على قارعة المفاهيم الهادئة المطمئنة على مراجعها".[16]

نلتقي هنا عند خرائط مختلفة: الإرهاب بوصفه عنفاً عالمياً، وفق ما مدَّنا به جان بودريار في عنف العالم وذهنيَّة الإرهاب: الإرهاب يواجه الإرهاب؛ إرهاب العولمة التي تأكل نفسها، وتنتحر من داخلها بمنطقها نفسه، بأسلحتها نفسها، وهو ما يعبّر عنه جان بودريار بالمبادلة المستحيلة للموت، أو في ما يقوله صراحة: "نحن الذين أردناه وهم الذين فعلوه"[17]. أمَّا التأويل الثاني للإرهاب، فهو الحوار الدائر بين هابرماس ودريدا. وإنْ كان هيبرماس يرى أن الإرهاب ردَّة فعل دفاعيَّة على الخوف من الاقتلاع العنيف من أنماط الحياة التقليديَّة عبر نمط الاستهلاك المتفه، فإنَّ دريدا يذهب أبعد حين يقول: "إنَّ لجوئي إلى الإرهاب هو الملجأ الأخير؛ لأنَّ الآخر هو أكثر إرهاباً منّي، إنّي أدافع عن نفسي، أو أقوم بهجوم مضاد، إنَّ الإرهاب الحقيقي والأسوأ هو الذي يقوم بتجريدي من أيَّة وسيلة أخرى قبل أن يقدّم نفسه هو المعتدي الأوَّل بوصفه ضحيَّة"[18]. تمرُّ الكاتبة إذن، من الإرهاب بوصفه مبادلة مستحيلة للموت إلى الإرهاب بوصفه ردَّة الفعل الوحيدة حول الاقتلاع، إلى الإرهاب الذي يدّعي فيه الإرهابي الغربي بوصفه ضحيَّة. ولكنَّ الكاتبة تقول إنَّنا اليوم إزاء صنف آخر من الإرهاب: "إنَّ الإرهاب الذي تعيشه اليوم شعوبنا في سورية أو ليبيا أو العراق أو تونس هو إرهاب من نوع خاص...، وفي كلّ الحكاية يبدو الإسلام برقعاً تختفي تحت لوائه شبكات لتجارة الأسلحة والمخدّرات وأشكال أخرى من الجرائم في حقّ البشريَّة". إنَّ إرهاب اليوم له سياسات جماليَّة وطرائق مختلفة في إنتاج الصُّورة، وله سياقه الإعلامي. لكن هل هذا كلُّ شيء؟ لا تتوقف الكاتبة هنا؛ بل تستدعي مارتيا سين في كتابه (الهويَّة والعنف: وهم القدر) كي تقدّم أطروحة مفادها أنَّ الهويَّات المنغلقة إرهابيَّة؛ إذ "يمكن لهويَّة ما أن تقتل، وأن يكون قتلها ذريعاً"[19]. تحاول الكاتبة هنا حياكة خلفيَّة متعدّدة ومتشابكة يمكن من خلالها قراءة مسألة الإرهاب. إنَّ مسألة الحياكة هنا تتعلق بنسج الأفق الذي من خلاله يمكن "للشعوب أن تبدع أشكالاً من الذكاء اليومي، كي تواصل الحياة بما أمكن من هشاشة الكينونة ومن فقر الوجود".[20]

إنَّ أطروحة الكتاب كيف يمكن التصرُّف أو الفعل أو القول على مسطّح من الوجود الهش؟ إذا كنَّا إزاء هشاشة كينونة وفقر وجودي، فأيّة الاستعارات يمكن أن تحفظ هذه الهشاشة، وأن تؤثث العالم؟ ما هو مهم بقدر، ضمن هذا الكتاب، هو الوعد الذي تضمَّنه في الصفحة السادسة والثلاثين: إنَّ ما يحدث اليوم يستوجب تغيير استراتيجيات الحقيقة في خطابنا. هذا هو الإمكان الذي من خلاله يتدخل الفنُّ على هذا المسطّح الدموي، وسنرى كيف يغمس الحب في الموت نحو إمكانيَّة استعارة جدّية قادرة على إنقاذ العالم.

من هذه الزاوية يأتي القسم الثاني تحت عنوان: الفنّ في زمن الإرهاب. لكن ما هو مثير أنَّ الفصل الأول من القسم الثاني يأتي تحت عنوان: هل ما تزال الجماليَّات ممكنة؟ وهو ضرب من السؤال الذي يرد ردَّاً على تقديمها الذي أتى تحت عنوان: لماذا الفنُّ في زمن الكارثة؟ ولكن مع اختلاف مرجعي أساسي. فإن كانت قد خاضت السؤال الأول مع هايدغر وأدورنو: لماذا الشعراء؟ ولماذا الشعراء بعد المحرقة؟ فهي تستعيد السؤال: هل ما تزال الجماليَّات ممكنة على مسطّح الإرهاب؟ إنَّ هذا السؤال هو جوهر الكتاب.

هل ما زال التفكير ممكناً؟ تقول الكاتبة: "نكاد نفقد أوراقنا". إنَّ "نكاد" هنا هي مساحة الفعل من أجل النهوض باستراتيجيات خطاب جديدة تغادر تكلسات الخطاب الكلاسيكي. "نكاد" هنا لا علاقة لها بفعل لغوي، إنَّما هي المساحة شبه المنعدمة التي لا تزال في حوزتنا لإنقاذ ما تبقَّى من جغرافيا الحياة. ومع "نكاد" هذه تقول الكاتبة: "لكن للمستقبل ذائقة أخرى"[21]. ههنا تماماً نعاين فعل الكتابة المستحيل: كيف يمكن تأثيث مساحة شبه منعدمة بمستقبل قادر على حسن ضيافة الضحايا؟ أو كيف يمكننا إبداع المكان في أرض لا مكان بها؟ ثمَّة ذائقة أخرى لا بدَّ من تفعيلها لتشغيل المشهد. تقول الكاتبة إنَّنا إزاء صحراء ولا عالم وقحولة أنطولوجيَّة، وهو مشهد عدمي تحيكه بالاستناد إلى نغري وجان ليك نانسي. تستعرض الكاتبة قولاً مفصلياً لأنطونيو نغري حول التعامل مع حالة اللَّاعالم: "إنَّ الفرق بين الرجعيين والثوريين يتمثّل فيما يلي: في حين أنَّ الطرف الأول ينكر كثافة الفراغ الأنطولوجي للعالم، فإنَّ الطرف الثاني يثبته. وفي حين يصمت الرجعيون، يتألم الثوريون من الفراغ. إنَّ الرجعيين يختزلون العالم في بهرج استيطيقي. أمَّا الثوريون، فيدركونه على نحو عملي. بوسعهم هم فقط إذن ممارسة نقد العالم؛ لأنَّهم على علاقة حقيقيَّة به. ولأنَّهم أيضاً يعترفون بأنَّ هذا العالم لا إنساني، وأنَّنا بالرغم من ذلك، نحن من صنعه كذلك؛ ولأنَّ نقص المعنى عن العالم هو نقصنا الخاص، وأنَّ فراغنا هو فراغنا الخاص".[22]

ههنا تماماً تتشكَّل معالم الكتاب؛ فالكتاب لا ينتمي إلى دائرة تأويل العالم؛ بل إلى مسطّح تغيير العالم. إذن يستأنف الكتاب خطَّ الصنف الثاني، انطلاقاً من مفهوم المقاومة بتعدُّد أوجهها. المقاومة هنا لا بوصفها اختياراً، إنَّما بوصفها الضرورة الحاسمة في غياب أيّ اختيار. إنَّ قدرنا هو المقاومة. تقول الكاتبة: "لا شيء ينتظرنا في أيّ مكان...، ما ينتظرنا هو فقط كثير من العمل كي لا نقتل على نحو كسول"[23]. إنَّ الفن إذاً، هو الإمكان الوحيد الذي تستعرضه الكاتبة كي لا نموت ميتة بائسة، ولكنَّ المفارق أنَّنا سنتحرَّك من مكان مؤثث بالموت لابتداع مكان يليق بالحياة، لذلك هو الفنُّ في زمن الإرهاب.

تستعرض الكاتبة في هذا الكتاب مدوَّنة مختلفة، إنَّها تقدم غيرنيكا لبيكاسو، والجوكندا لليوناردو دافنشي، والخطأ لكوبيل الرسام الفرنسي، وأعمال تمام عزام. ما هو مثير هنا، هو حسن ضيافة الكتاب لفنان عربي ووقوفه جنباً إلى جنب مع آلهة الفن في عصر النهضة والفن المعاصر. تمام عزام إلى جانب ليوناردو دافنشي وبيكاسو. ما هو مثير أيضاً، أنَّ الكاتبة تعيد تفعيل عميان كوبول ونظرة الجوكندا وصراخ غرنيكا. الأعمى ولمسه للعالم والتوجُّه إليه؛ أي كتابة التاريخ من جهة اليد التي تتحسَّس، وليس من جهة العين. عين الجوكندا، وهي تشير انظروا إلى الأمام. هذا الأمام لا شيء يبتكره غير الابتسامة، وغرنيكا كنثر للأمل على هامش زراعة الخراب على مسطّح الراهن الذي نحياه الآن. إنَّ هذا الأمر ليس بجديد؛ إذ في تحرير المحسوس نقف عند إعادة التشغيل لأحذية فون كوخ، والساعات الرخوة لدالي، وإعدام ماكسي ميليان، ولكنَّها إعادة تشغيل بما يفرضه بؤس راهننا؛ أي أنّ الكاتبة تحاول أن تجد موطئ قدم للوحات في الحقيقة لا تنتمي إلى ما نحياه اليوم، ومع ذلك إنَّ لهذه اللوحات اقتراحاً جدّيَّاً يمكن الإنصات إليه الآن.

تقول الكاتبة: "إنَّ غيرنيكا مرآة للجغرافيا الحاليَّة"[24]. إنَّ المرآة ليست بمعنى الانعكاس ولا الظلّ ولا الصورة الشبيهة، ولكن هي الصورة العالقة التي تشهد علينا بعد صدور الفعل. الفنُّ هنا بوصفه شهادة قبل أن يتحوَّل إلى وعد بالسعادة كما يقول ستاندال. لذلك، فغرنيكا هي دمشق، مع فارق في الإرهاب الذي تنهض منه اللوحتان. فرانكو أو داعش كلاهما اختراع لتنويعات جديدة لكثافة الفراغ الأنطولوجي للعالم. ولكن إلى جانب هذا الفراغ الأنطولوجي يكون تمام عزام حاضراً وقائلاً: "أردت أن أكون هناك من خلال صورة".[25]

ما هو مثير بحق، ضمن هذا الكتاب، هو تمام عزام؛ إذ لم تحضر غرنيكا ولا الجوكاندا إلا من باب الخلفيَّة التي ستجعل من ملامح تمام عزام أمراً مرئياً. إنَّ رسومات تمام عزام هي الأفق الذي من خلاله تباشر أم الزين بنشيخة خطاً فكرياً كاملاً تستأنفه من أدورنو. إنَّ فحوى الكتاب هو استئناف جماليَّات المريع، لا انطلاقاً من فكرة القبيح، ولكن من فكرة الدمار التي تخصُّنا اليوم. لم يعد القبيح يناسبنا ما دام يشكّل إضماراً بوجود الجميل في مكان ما. إنَّ فكرة الخراب هي ما يناسبنا اليوم، ولكنَّ ذلك يجب ألَّا يقرأ من زاوية أيَّة رغبة في تأسيس لأيَّة عدميَّة سلبيَّة جديدة، ولا لأيَّة بكائيَّة. تقول الكاتبة: "آن الأوان لنكون قادرين على التماسك صلب الخراب في ضرب من المقاومة له في آن معاً"[26]. إنَّ هذا القول لا يأتي عرضاً، إنَّما نعثر عليه على امتداد كتاباتها السابقة. تقول في كانط راهناً: "كيف العبور بالراهن العربي من مجال اللفظ إلى مجال المفهوم، ومن مجال الراهن بوصفه ديناً إلى مجال المراهنة في معنى المخاطرة؟ أو كيف العبور بأنفسنا من الراهن المهزول الذي أصابه لدينا ضرب من الإعياء الميتافيزيقي من فرط حمولة الذاكرة التاريخية لدينا، وضيق الفضاء الكفيل باحتفاء إيتيقي بالإنسان في ديارنا، إلى راهن مالك لأدوات راهنيته وكفيل بها معا"؟[27]

إذن تبحث الكاتبة عن موطئ قدم للجماليَّات العربيَّة، وفي اعتقادنا أنَّه الشغل الأساسي الذي ما فتئت الكاتبة توقده. هكذا تفتتح مؤانسات في الجماليَّات: "على قلق نعيش نحن الذين لم نعد نعلم إلى أيّ قرن ننتمي، وعلى أيّ حرب نعلق أوجاعنا".[28]

تجترح الكاتبة مفهوماً طريفاً: التهكّم الأسود، وهو مفهوم ورد عنواناً لكتاب جمع عدداً من مقالات الرأي، وحوَّلته ههنا إلى مفهوم محرّك، وهو لا يأتي على شاكلة عمل للحداد على الغائبين، كما يقول دريدا، ولكن التهكّم الأسود بوصفه الفن، وهو يفكّر بدل الفن وهو يبكي. لكن فيمَ يفكّر هذا الفن تحديداً؟ تقول الكاتبة: إنَّ موضوعة تمام عزام هو المكان. "وحده من يكون جديراً بأن يؤتمن على معاناة شعبه، بوسعه أن يبدع لهذا الشعب عالماً آخر". يتعلق فحوى هذا الكتاب بإبداع المكان لمن لا مكان لهم. إنَّ الدمار هنا، كما يقول جورج ديدي هيبرمان، هو طفولة الممكن، طفولة الأثر. وإذا كان جورج ديدي هيبرمان يعود إلى الرسَّام كلوديو بارميجياني، انطلاقاً ممَّا فعله هذا الأخير من الصمت والدم، فإنَّ أم الزين بنشيخة المسكيني تفعل دمشق من أجل إبداع هذا المكان. لذلك، الأثر لا يحاكي المكان، وإنَّما يبدع المكان عبر سلسلة من المونتاج لأزمنة مختلفة. وإذا كان الفنان لدى جورج ديدي هيبرمان هو من يتقدَّم في اللون، والفنان هو الذي يشقُّ طريقه في الصحراء، فإنَّ فنان الكاتبة هو من يشقُّ الدمار والرميم والحطام والغبار والتداعي والانكسارات المتلاحقة.

إذن ما الذي يجمع بين غرنيكا والباتاكلون ودمشق؟ لا شيء سوى الغبار، ومع ذلك تظلُّ مدن باريس وغرنيكا ودمشق تحاول، من خلالها، المؤلفة الاستناد إلى كثافة الأتربة الناتجة عن الهدم نحو نحت المكان من جديد. إنَّه نوع من تربية الدمار، حتى يصير مؤهلاً لولادة المكان. هكذا تقول الكاتبة بعد أن استعرضت ما اقترحته جماعتها العلميَّة (رانسيار، دولوز، نغري، باديو) حول مفهوم المقاومة: "إنَّ الفن يحمينا من السقوط في الفراغ؛ بل ربَّما ما نحتاجه ليس الهروب من الفراغ، وإنَّما الانتصار عليه برسم مزيد من الشموس". إنَّ الشمس هنا ليست كوكباً، بل الاستعارة المضيئة للمكان. هكذا يأتي القسم الثاني قولاً في إبداع المكان.

يختتم الكتاب بالقسم الثالث تحت عنوان "في إيتيقا المقاومة"، ولكنَّه يفتتح بفصل تحت عنوان: حين لا يبقى سوى الحب، مفتتحة إيَّاه بأبيات شعر لأبي تمام. فأيَّة علاقة بين المقاومة والحب؟

تعود الكاتبة إلى ألان باديو في مدح الحب لاستنهاض أفكاره الأساسيَّة. الحب يأتي هنا صنواً للمقاومة. تقول الكاتبة: "من أجل ابتكار الحب علينا أن نؤمن مرَّة أخرى بالحقيقة في عالم لم يعد يؤمن بأيّ شيء حتى بإمكانيَّة العالم نفسه"[29]. إذن، استناداً إلى إيتيقا المقاومة تعيد الكاتبة تشغيل إيماننا بالعالم، وهو الأسلوب الوحيد لإيجاد مكان يليق بالحياة. تقول إنَّنا أضعنا اختبار فرصتنا التاريخيَّة. هذه هي المعضلة الأساسيَّة. فكيف بإمكاننا اختراع المصادفة من جديد؟ كيف بإمكاننا أن نتمكَّن من حبٍّ يحرّر العالم من السخرية العدميَّة لنظام إمبريالي عالمي؟ وبما أنَّ هذا النظام لا يسعى سوى إلى عزلنا فإنَّ علينا الإيمان من الآن فصاعداً باختبار العالم من وجهة نظر اثنين؟ لذلك تعود الكاتبة إلى الحبّ بوصفه تجربة اثنين، وتحاول أن تلقى ذلك في الفن. إنَّ تجربة رادها وكريشنا نموذجاً لأسطورة العشق الإلهي، ولكنَّه الحب الذي يطلُّ على السعادة.[30]

يُبتدأ الكتاب بالإرهاب وينتهي بالسعادة، عكس عنوانه؛ فضمن الأمكنة المتعاظمة للموت، ثمَّة متَّسع دائماً لرسم السعادة، حتى وإن بدا الأمر مستحيلاً. السعادة هي ضرب من الوفاء للمستحيل، والوفاء هنا إنَّما هو دوماً كما يقول باديو: وفاء ما للأحداث التي قالت فيها الضحايا كلمتها. تقول الكاتبة الوفاء هو عدم خيانتك في تغيير العالم[31]. لذلك، تختتم الكاتبة كتابها بجملة فريدة: إنَّ الفنَّ يصلح لاختراع المستقبل. إنَّ المستقبل هو قدرتنا الدائمة على جعل البشر قادرين على الفرح مرَّة أخرى.

[1]- SlavojŽižek, Violence, DiableVauvert, 2012

[2] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، الفن في زمن الإرهاب، منشورات ضفاف- دار الأمان- كلمة- منشورات الاختلاف، بيروت، 2016

[3] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، الفن يخرج عن طوره، أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا، بيروت، جداول، 2011

[4] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، تحرير المحسوس: لمسات في الجماليات المعاصرة، بيروت، منشورات ضفاف، 2014

[5] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، كانط والحداثة الدينية، الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2015

[6] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، كانط راهناً، أو الإنسان في حدود مجرَّد العقل، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2006

[7] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، جرحى السماء، بيروت، جداول، 2012

[8] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، لن تجن وحيداً هذا اليوم، بيروت، منشورات ضفاف، 2014

[9] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، اضحك أيُّها الدهر الشرقي، تيزي أوزو، دار الأمل، 2013

[10] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، هنا تباع الشعوب خلسة... مقالات في التهكم الأسود، تونس، دار الوسيطي للنشر، 2013

[11] ـ المسكيني (أم الزين بنشيخة) والمسكيني (فتحي)، الثورة البيضاء: تمارين في المواطنة، تونس، دار الوسيطي للنشر، 2013

[12] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، مؤانسات في الجماليَّات. نظريَّات، تجارب، رهانات، بيروت، ضفاف–كلمة-دار الأمان-منشورات الاختلاف، 2015

[13] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، الفن في زمن الإرهاب، مصدر سابق، ص 11

[14] ـ انظر: المسكيني، فتحي، "الواقعية السحريَّة، أو جماليَّات الحب والموت لدى غابريال غارسيا ماركيز، من خلال رواية "الحب في زمن الكوليرا"، ضمن: مؤانسات في الجماليَّات، تأليف مجموعة من الباحثين العرب، إشراف وتقديم وتنسيق أم الزين بنشيخة المسكيني، بيروت، منشورات ضفاف، 2015، ص 345-360

[15] ـ موريس، بلانشو، التجربة-الحدّ، ترجمة جورج أبي صالح، في مجلة العرب والفكر العالمي، بيروت، مركز الإنماء العربي، 1990، ص 63

[16] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، الفنُّ في زمن الإرهاب، مصدر سابق، ص 30

[17] ـ المصدر نفسه، ص 67

[18] ـ المصدر نفسه، ص 34

[19] ـ سين، مارتيا، الهويَّة والعنف: وهم القدر، ترجمة حمزة بن قبان المزيني، بيروت، جداول، 2012، ص 35

[20] ـ المرجع السابق، ص 49

[21] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، مقدّمة في الجماليَّات: في مؤانسات في الجماليَّات، مرجع سابق، ص 13

[22] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، الفنُّ في زمن الإرهاب، مصدر سابق، ص 102

[23] ـ المصدر نفسه، ص 103

[24] ـ المصدر نفسه، ص 117-122

[25] ـ المصدر نفسه، ص 133

[26] ـ المصدر نفسه، ص 135

[27] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، كانط راهناً. أو الإنسان في حدود مجرَّد العقل، مرجع سابق، ص 10

[28] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، مقدّمة في الجماليَّات، في مؤانسات في الجماليَّات، مرجع سابق، ص 13

[29] ـ المسكيني، أم الزين بنشيخة، الفنُّ في زمن الإرهاب، مصدر سابق، ص 157

[30] ـ المصدر نفسه، ص 169-176

[31] ـ المصدر نفسه، ص 186-199