بين فهمين للعروبة... الحرية "جوهر" العروبة
فئة : مقالات
هل فقدت كلمة "العروبة"،التي قامت عليها أشكال صورية متعددة من الحزبية السياسية العربية، بريقها ولمعانها وأمجادها القديمة زمن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟ وهل لا تزال هذه الكلمة – التي غالت في استخدامها واستغلالها رموز وتيارات سياسية عربية- تستدعي ذلك المعنى الباكر الذي تأسست عليه، والمفضي إلى رغبة العرب الجامحة في إيجاد بوتقة جامعة في تضامنهم وتلاحمهم وتوحدهم حول قضاياهم السياسية وغير السياسية (العادلة!)؟ ثم لماذا فشلت بامتياز، كل الصيغ السياسية المطروحة من قبل دعاة وغلاة وأتباع العروبة الذين انتهى بهم المطاف إلى الوقوع في شراك الاستبداد، ووديان الفشل والتخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ثم عن أية عروبة يتحدثون، عن عروبة الاستبداد والقمع الذي طال حتى العروبيين أنفسهم، بين بلد عربي وآخر، وعن التخلف الاقتصادي والفشل التنموي الذريع والمكلف الذي لحق بسياسات العروبيين الاقتصادية أنفسهم، في بلدان القومية العربية ذاتها التي بقي رموزها يطبلون بقيم العروبة المثالية، الرافضة للتجزئة والتفكك، والداعية للتوحد، وتوزيع الثروات، واستثمار الخيرات الهائلة للصالح العام؟... فماذا كانت نتيجة ذلك؟ كانت مزيدًا من الصراعات والحروب الأهلية "العربية-العربية"، سقط خلالها ضحايا أكثر بكثير مما سقط خلال حروب الخارج مع إسرائيل أو مع غير إسرائيل، وكانت النتيجة أيضًا مزيدًا من النهب العاري المنظم لتلك الخيرات، وضياعها المجاني على أيدي غلاة القومية العربية ذاتهم؟!!.
إنه إذًا، الفهم الخاطئ المقصود لمعنى وجوهر هذه العروبة المفعول بها من قبل رموزها وعتاتها من الحكام والأحزاب والنخب، ومن لف لفهم من التجار والملاكين ومراكز القوى الأمنية والعسكرية وغيرهم، ممن لم يكن من الممكن توقع صدور رؤية نقدية خلاقة ومبدعة عنهم حول مفهوم وصيغة وأطروحة العروبة، مع وجود تلك الحالة وذاك المناخ السياسي والنفسي المتصاعد سابقًا، من رموز عروبية سياسية، غالت في عروبيتها لمدى زمني طويل، واستثمرت فيها استنزافًا جائرًا على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية...
لا أعتقد أن فكرة أو مفهومًا وصيغة سياسية تعرضت للانتهاك السافر والاستخدام الأرعن من قبل أبنائها وحماتها وحراسها، كفكرة ومبدإ العروبة ذاته على مدى أجيال طويلة متتالية... حيث كلفتهم – كما سلف القول- حروبًا وأرواحًا وفواتير مادية هائلة دفعت من مستقبل الشعوب العربية، خاصة في بعض البلدان العربية التي نشأت فيها بذور الفكرة القومية، على النحو المعروف في كل من سوريا والعراق وبلاد الشام عمومًا... في الوقت الذي كان يجب أن تدفع – تلك الأموال والفواتير المكلفة- في سبيل تطوير بنى الدول وازدهار مجتمعات العرب، وتؤسس لهم كل مواقع التقدم العلمي والاجتماعي والتنموي، ولكنها العقول "القومجية" الحارة جدًا من عبدة الكراسي والحكم "الأوتوقراطي" المطلق، التي أرادت بناء أمجاد شخصية على جماجم وأرواح ومقدرات ومستقبل ومصائر المجتمعات والناس...وهي نفسها الآن التي تذم العروبة والعرب، وتكرس حالات قطرية جديدة، وكأن العروبة مجرد ممسحة أو أداة أو حالة انتهازية نفعية، لا معنى لها إلا إذا خدمت مصالح ومنافع وأطماع أولئك في البقاء السرمدي في الحكم...
وهذا الفهم النرجسي والذاتي لفكرة العروبة يفتح دومًا أمامنا سبلًا لطرح مزيد من الأسئلة حول إشكالية الفكرة والشخص، والتي تقتصر على ما يبدو فقط على المجتمعات المتخلفة كمجتمعاتنا العربية، حيث يأتي شخص من الطبقة العسكرية، يلتف حوله ضباط وأمنيون ومساعدون مع كامل عدتهم وعتادهم، ثم يقوم بانقلاب عسكري، ويعلن البيان رقم واحد... ثم تبدأ عملية اختزال الأمة كلها الشخص الانقلابي الكبير، مكرسًا بذلك حكم الفرد والزعيم الأوحد والقائد الملهم والمفدى... وبعد ذلك تتزايد البطانات، وتتكدس التنظيمات، وتتورم مراكز القوى ومركبات السلطة العنيفة حول دائرة هذا الفرد الأوحد، وحول أسرته الكريمة، بداعي المحبة والولاء الأعمى، وضرورة الحفاظ بأي ثمن كان على نضارة وأصالة الفكرة والمبادئ العليا التي ناضل وكافح وجاهد "الزعيم الكبير" من أجل بقائها عالية خفاقة، من دون أن تنال من نقاوتها وعظمتها وبكارتها الأزلية كل مخططات ومؤامرات ودسائس الإمبريالية والصهيونية وكل "الرجعيات العربية المعروفة!!"...
هذه الصورة المحزنة للأسف تكررت مسرحيات وفصولًا في عالمنا العربي، من دون أن يتعظ ويعتبر أبناء مجتمعاتنا الذين يدفعون هم دون غيرهم أثمانها الباهظة، دماءً ودموعًا، كما يحدث الآن في كثير من تلك البلدان التي انفجرت فيها تراكمات وتكدسات عهود طويلة من القهر والقمع والعسف والكبت والموت السياسي والمجتمعي... ويبدو أن بعض تلك البلدان ربما يتجه- أو يدفع دفعًا عن سابق قصد وتصور- للدخول في أتون حروب أهلية وصراعات طائفية بدائية قد لا تبقي ولا تذر.
والمشكلة هنا تتحدد أساسًا في ضرورة خلاص العرب من كل الأفكار والمبادئ والأطروحات الفكرية المغالية التي أوجدوها وأنتجوها أو نقلوها حرفيًا عن غيرهم في كل تاريخهم؛ ومنها فكرة "العروبة والقومية العربية المستبدة" المنقولة تشويهًا عن البسماركية الألمانية، والتي (أي العروبة) أنتجت عنصرية واضحة بين العرب قبل غيرهم، أقول: ضرورة الخلاص، والانتهاء الكامل من قيم التمجيد والاستعلاء، وادعاء القيمومةالفكرية والسياسية، وامتلاك الحقيقة المقدسة، وادعاء تفوقهم على الآخرين، وأنهم السادة وغيرهم العبيد (كما يقول الشاعر العربي مفتخرًا: نحن أبناء يعرب لنا الصدر دون العالمين أو القبر)..
طبعًا، هذه الحالة الادعائية الفارغة، وذاك التبني والالتزام المكلف لتلك القيم التاريخية الموروثة، لا تزالتتسبب لهم بين الحين والآخر كوارث كبيرة، يدفعونها للأسف من مواردهم التي على ما يبدو لن تكفي أجيالهم القادمة، وهذه نقطة قليل من يفكر فيها؛ إنها أزمات الاقتصاد القادمة نتيجة سوء الإدارة والفساد المقنّن، والاستبداد المقيم، ومركزة السلطة بأيدي المافيات...
من هنا كانت الضرورة المعرفية في الاشتغال على نقد وتعرية هذه النرجسية الذاتية العربية، بكل متتبعاتها ومخاضاتها ومتبنياتها التي لا تزال تسبب لنا أزمات اقتصادية ومصائب وكوارث سياسية متتالية، كما ذكرت منذ مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى اللحظة... وهذا الاشتغال النقدي على قيم الذات العربية يجب أن يكشف مجمل تلك النواقص والعيوب والاختلالات النفسية والشعورية والعقلية الانفعالية المهيمنة عليها... خاصة على صعيد معرفة كيفية تشكل وانبثاق هذه البنية الفوقية العربية المليئة بتلك الانفعالات النفسية والاستجابات العقلية العملية، في سيرورة تاريخية واجتماعية...
في هذا السبيل يكمن الحل، لأن جذر الموضوع وطريق العلاج واقع هنا في هذا الاتجاه بعد نجاحنا في تشخيص العلة وأصل الداء... حيث إن وعي الذات العربية بمشاكلها وتعقيداتها (التي جعلت الفرد العربي عاجزًا وجامدًا ومشلولًا عن الفعل والإبداع الحضاري العالمي المؤثر والمنتج على مدى قرون طويلة)، ليس له من هدف سوى البدء بمرحلة العلاج من تلكم الأمراض التاريخية المكدسة المزمنة، ومن ثم السير على طريق التطور والتقدم والاستجابة الفاعلة لمنطق التغيير السياسي والمجتمعي، بهدف استعادة الفرد العربي لوجوده الحقيقي العملي الفاعل، بعد حصوله طبعًا على حريته وكرامته وعدالته المفقودة...
وفي ظني، أن من جملة تلك الاعتقادات والقيم التاريخية التي تحتاج لعلاج جذري، كعلاج المرض العضال، الفهم الخاطئ المتكلف لفكرة العروبة التي تركز تاريخيًا على أن الشخص هو الذي يمثل الفكرة، وهو الخط والدلالة على صدقها ونجاحها وتمثلها. والحل هنا يكون في نشر وتعميم الحياة السياسية، وبناء مناخ ثقافي، أصله وجوهره وعماده الحرية ثم الحرية، باعتبارها جوهرا لكل الأفكار والنشاطات العملية للإنسان... وعلى العروبة، إذا ما بقي لها أحزاب وأتباع، أن يضعوا الحرية في قلب فكرتهم العروبية، في محاولة لتطوير ونقد تجربتهم التاريخية الرعناء، وسلوكياتهم السياسية المستبدة بحق الآخرين، والتي أثبتت التجربة أنها كانت فاشلة بامتياز، خاصة نظرتهم وعملهم في الشأن العام وتدبير المصالح العامة...
طبعًا، هذه الفكرة التاريخية (فكرة العروبة) ليست شعارًا يطرحه هذا أو ذاك من على منابر الدعاية السياسية والحضور الإعلامي، للدلالة على عمق وأصالة الانتماء التاريخي الثقافي لهذه الدولة أو تلك، أو لفرز التيارات والقوى السياسية بين مؤمن بها أو كافر، تمامًا كما هي عادة وسلوك وتقاليد جماعات الأصولية الدينية الإسلامية بالتحديد.
والعروبة أيضًا، ليست انتماءً قوميًا عنصريًا لأمة العرب، مع أنه لا يوجد على الأرض "أمة" بل عوالم وقبائل عربية، متناحرة متضاربة المصالح والأهواء والانتماءات السياسية وغير السياسية...
كما أن العروبة تتغير حاليًا، مفهومًا وأصولًا وقواعد عمل، والشعوب العربية هي التي تقوم بهذا الفعل، لأنها تنتفض وتثور ضد طغيان نظم العروبة ذاتها، وتريد أن تغير من المعنى الفكري والعملي لفكرة العروبة ذاتها... حيث إن النظم العربية، وبالأخص منها النظم والنخب القومية، قدمت لنا فهمًا ضيقًا ووعيًا محدودًا ومرضيًا لفكرة ومبدإ العروبة، كما ذكرنا من قبل أنها تركز على العروبة المستبدة المشخصنة، عروبة العقلية الأحادية والتفكير الذاتي المثالي الأفلاطوني.
وهذه الأنظمة القومية المسماة عروبية، استثمرت هذه الفكرة التاريخية لتثبيت مفاصل وجودها اللاشرعي؛ أي وظَّفتها لصالحها كمجرد آلة ووسيلة للبقاء المستديم على رأس السلطة، وادعاء التفوق والقيمومة السياسية والفكرية على باقي فصائل وتيارات وأحزاب السياسة العربية، كما استغلت تلك النظم خوف الأقليات الدينية وغير الدينية التي تعيش في كنف العرب -وربما قبل العرب أنفسهم- على هذه الأرض منذ أزمان تاريخية بعيدة، للحصول على تأييدها ودعمها، لا بل لقد عززت ووسعت تلك النظم القومية من رقعة ومساحة هذا الخوف التاريخي من الإسلام نفسه، فقط لكي تتأبد وتتسرمد في الحكم...
طبعًا الشعوب العربية تمكنت – في غالبيتها، وبالرغم مما لحق بوعيها من تشويش وضبابية- من وعي أصل وحقيقة هذه المشكلة المتفاقمة، وهي تتمنى الخلاص الكامل من نتائجها السلبية والكارثية على الجميع... ولهذا، فهي تريد عروبة منفتحة لا منغلقة، وتريد عروبة متسامحة لا عروبة مستبدة وديكتاتورية، وتأمل في إنتاج صيغ سياسية، فيها الحرية والانفتاح الفكري والعملي، والتداول السلمي للسلطة، وفيها عروبة التشارك والحرية، عروبة الكرامة والمساواة والعدالة، لا عروبة الذل والإقصاء والقمع والعنصرية والعبودية السياسية... عروبة الانتماء للوطن، والتفاعل الخلاق مع الآخرين، وليست عروبة التقوقع والتخريب والاستعلاء والحقد الشخصي.
والناس الذين ضاقت بهم سبل العروبة المشخصنة والمستبدة هم الذين ثاروا ويثورون الآن، كما قلنا، لتحطيم هذا الفهم المغلق والوعي المنحط والضيق لهذه الفكرة ذاتها، لصنميتها وانغلاقها وتعبيرها الفج والمكلف عن أمجاد أفراد أو فئات محددة، لم تمثل إلا مصالحها ومكاسبها الخاصة... وهي تريد تدمير مجتمعات وبلدان بأسرها، فقط لاستمرارية الحفاظ على المنافع والمكتسبات الخاصة التي ليست من حقها... أي أن هؤلاء الناس والجماهير التي فجرت ثورات الربيع العربي، لم تثر –في واقع الأمر- ضد عروبتها أو انتمائها التقليدي الطبيعي لهذه الأرض، والدائرة الحضارية التي تعيش فيها منذ حقب زمنية طويلة، بل هم ثاروا أيضًا –وقبل كل شيء- طلبًا للحرية المفتقدة والكرامة المهدورة، والعدالة المنحورة على مذبح السلطة العربية الطغيانية الغاشمة... وهم ثاروا أيضًا لإسماع صوتهم المدوي إلى سدنة العروبة (الأمجاد!) أنفسهم قبل غيرهم، بأنهم مرفوضون وغير مقبولين في عالم عربي جديد يتشكل ودول عربية تبنى من جديد، تتصالح فيها العروبة مع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وقيم التسامح والحوار والتنوع والاعتراف بالآخر...
أما تلك العروبة اللفظية الورقية "الجهازية" "الأداتية"، فلا بد من التخلص منها ورميها خارج التاريخ الفعلي للعرب، لأنها فارغة ومجردة من أي مضمون عملي منتج، أو لنقل أنها مفرغة من أي مضمون أو محتوى حقيقي، سوى ترداد أقاويل وشعارات الانتصار والزهو غير الموجود إلا في أحلام وخرافات المتوهمين أنفسهم، والتي استنّها البعض من "سلاطين وعتاة القومية والعروبة" المستبدين لصالحهم فترة من الزمن، وقزموها وضيقوها على مقاساتهم وحدود الولاءات القبلية الضيقة لهم، ولمحاسبيهم وأزلامهم وطغمهم وعائلاتهم وأسرهم... فلم يتحقق أي شيء إيجابي على الأرض إلا فيما ندر، ولم ينجز هؤلاء من خلالها سوى إنجازات كلامية دعائية لا أساس لها في واقع الحياة العربية سوى نكبات وأزمات عربية متلاحقة...
إن العروبة التي تريدها جماهيرنا حاليًا، هي الرابطة والانتماء التاريخي فقط، دون إعطاء أبعاد فلسفية ومعرفية مفذلكة وفارغة المضمون مفاهيميًا وقيميًا للفكرة الأم... لتكون العروبة المنشودة هي عروبة العمل والإنتاج، عروبة الحرية وقبول الآخر المختلف والمعارض كأساس لتنظيم الحياة السياسية، والاحترام الكامل لمنطق وجود المعارضة الحقيقية، ولمنطق كيانها وعملها وفعلها على الأرض...؛ فالدولة كمفهوم ثابتة، ولكن النظام كصيغة للحكم متغير ومتداول، بين من توصله "صندوقة" الاقتراع بالانتخابات الحرة لممارسة الحكم، وخدمة الناس لفترة زمنية محددة ومضبوطة ومضمونة دستوريًا، للجميع من أفرقاء وتيارات وأحزاب الساحة السياسية في أي بلد عربي...