تأمُّلات في الجوار
فئة : مقالات
تأمُّلات في الجوار
رشيد بوطيب
(وخُلق الإنسانُ ضعيفاً)
قرآن كريم
(1)
Wir sind Alle Ausländer
(كلنا أجانب)
هذه الجملة التي نُقشت على واجهة بناية في الحيّ الجامعي، في مدينة ماربورغ الألمانيَّة، أَتتوجَّه إلى الناس كافة، من تسكنهم الرهبة من الأجانب والشك فيهم، أم هي موجَّهة إلى الطلبة خاصة، أو ببساطة إلى الفلاسفة الذين يستمرئون الحلم بعالم أفضل؟
إنَّ «الإنسان الزائد» للحداثة، و«الذعر الأخلاقي»، و«السياسة الأمنويَّة»، التي تحدث عنها زيغمونت باومان[1]، مرتبطة صميميَّاً بعضها ببعض. لكنَّ عقل الحاضر يفضّل التزام الصمت بشأن إتيولوجيا هذا الشبح الشعبوي الذي يراود اليوم التاريخ عن نفسه؛ غير أنَّه يبدو كما لو أنَّ السياسيين، في سعيهم المحموم للحصول على أصوات الناخبين أو المحرضين في وسائل الإعلام، قد أمسكوا بالمذنب الحقيقي، الذي تعودوا أن يمسكوا به دائماً: الأجنبي. واليوم يؤدي المسلمون هذا الدور، أو يتمُّ دفعهم إلى أدائه، في فرنسا وخارجها. إنَّ هذا الخوف المرضي من الإسلام، من هذه الأكذوبة النيوليبراليَّة، التي لم يسبق لي أن عرفتها من قبل، له علاقة -لا ريب- بتلك الأحكام المسبقة الموروثة عن القرون الوسطى المسيحيَّة، التي ما برحت تحكم العلاقات الرمزيَّة بين الغرب والعالم الإسلامي؛ وذلك على الرغم من تطوُّر المعارف، كما لو أنَّ الإسلام لا يمثل مكوّناً داخليّاً من مكوّنات الثقافة والتاريخ الغربيين. في إقصائه الإسلام إلى خارجه، لا يفعل الغرب سوى تأكيد حضوره، وعلى الأقلّ مثل «خارج» يستعصي على السيطرة والتبشير. لكن بالنظر إلى الاستغلال السياسي لهذا الدّين في العالم الإسلامي وصعود إيديولوجيات دمويَّة باسمه، يجب أن نتحدَّث أيضاً عن خوف مشروع، لكنَّه خوف لا نتوقف عن استغلاله هنا وهناك. وبدلاً من فضح استراتيجيَّة الخوف هذه، أو بالأحرى صناعته، نكتفي بقراءة ثقافويَّة لهذه المشكلة. إنَّ الحداثة في إدانتها الإسلام لا تدين سوى نفسها. ولهذا، أعتقد بأنَّ النقاش الدائر حول اندماج المسلمين يفتقد الموضوعيَّة. بطبيعة الحال، إنَّ هناك مهاجرين من أصول مسلمة، ينزعون إلى رفض المجتمع باسم تديُّن مغلق. لكن، بغض النظر عن أنَّ الأمر يتعلق بأقليَّة قليلة، يسعى الإعلام دائماً إلى إبرازها، كما لو أنَّها من يمثل الإسلام، ويتحدَّث باسمه، فإنَّ الخطاب السياسي - الإعلامي في ألمانيا (وأعتقد بأنَّ الوضع في فرنسا، بإطفائييها الذين يتفنَّنون في إشعال الحرائق (pompiers pyromanes)[2]، أسوأ) لا يأخذ في الاعتبار أنَّ الأمر لا يتعلق بدين ولكن بتديُّن. تديُّن يرتبط بسياق التهميش والرفض، أو ما يسمّيه الفيلسوف آكسيل هونيث: اللَّامرئيَّة الاجتماعيَّة.
ومن أجل فهم أدقّ للوضع، أقترح تمييزاً بين ما يسمّيه المحلل النفسي أرنو غرين العقل البارد، وما أسمّيه عقلانيَّة الجوار. إنَّ العقل البارد، كما أوضح ذلك أرنو غرين، يمثل غياب التعاطف والتعاون من الحياة المعاصرة، وهو يؤكد أنَّ العقلانيَّة الديكارتيَّة تطالب البشر بالتحرُّر من طفولتهم ونسيانها، فالمثال الإنساني لدى ديكارت، «ذات فارغة، يجب ملؤها بمضامين موضوعيَّة». إنَّ الأمر يتعلق بعقل يرفض العاطفة، ويتماهى مع الفكر المجرَّد، الذي يحرمنا، في نظر أرنو غرين، من رؤية الواقع. إنَّنا أمام وعي مجتث، لا ينكر فقط الألم والطفولة، ولكن كلّ المجال العاطفي، وهو ما انتقده الفيلسوف يوهان جيورج هرمان لدى كانط مثلاً، معتبراً أنَّ المحسوس والروحي يمتحان من المعين نفسه، ومحذراً من برودة الفهم والكلف المرضي بالعقل[3]. وبالنسبة إلى العلم المعاصر، إنَّ الطفولة تعبير عن الحياة الوحشيَّة البدائيَّة، وعند الإنسان الطبيعي، بحسب هيغل في (فلسفة التاريخ)، وهو يعني الأفريقي، لن نجد شيئاً في طبعه يذكّر بالإنسان[4]. هل كان ليفيناس مخطئاً عندما وصف الفلسفة، باعتبارها «شكَّاً بكل إشارة عفويَّة، وعي الشيخوخة الذي يمتصُّ أخطاء الطفولة، الحركة التي يتمُّ استرجاعها مقدَّماً في المعرفة التي تقودها»؟[5].
الوحشيَّة والبدائيَّة والسذاجة تلك هي الأوصاف التي تستعمل في الخطاب السياسي - الإعلامي حول الشعوب «غير المتحضّرة»، ومثالاً على ذلك الشعوب العربيَّة، التي تظهر في الخطاب المعاصر شعوباً «غير راشدة» و«جاهلة» و«طفوليَّة». إنَّ الحداثة الديكارتيَّة تعيد إنتاج علاقتها بالطفل في علاقتها بالثقافات والشعوب الأخرى. أفكّر هنا بتلك الفلسفة الهيغليَّة «التي لا تسافر»، والمسكونة، على الرغم من ذلك، برغبة في الحكم على الآخرين. وكما هي الحال مع الطفل، تنزع إلى السيطرة على الآخر، «تحضيره» وإلحاقه بنظام الطاعة. إنَّ العقل البارد، في نسيانه للعلاقة، لا يختلف عن هذا التفكير، الذي، كما أوضح ليفيناس، «تختزل فيه الدلالة إلى موضوعات معطاة للوعي»[6]. لكنَّ العلاقة مع الآخر هي على النقيض من سياسة الصهر هذه. إنَّها رغبة. وفي الرغبة يرتبط الأنا بالآخر على نحو يحول دون تماهي الأنا بذاتها، كما يؤكد ليفيناس، متابعاً أنَّ العلاقة مع الآخر تسائلني، وليستنتج أنَّها «رغبة تتكشَّف كخير»[7]، وقد نضيف: والسؤال أيضاً، باعتبار أنَّ هذه المساءلة التي تفرغني من إمبرياليَّة الذات ليست سوى «ضيافة للآخر المطلق»[8]. لكن الحساب العقلاني، بالنسبة إلى العقل البارد، يظلُّ طريق الخلاص الوحيد. إنَّ هذه العقلنة المونومانيَّة ترفض الرغبة؛ لأنَّها تتحقق كوعي، وعي هو أصل المعنى ومآله (Donation de sens). إنَّه لا يحسُّ بالآخر ولا يرغب فيه، بل يموضعه. وقد أدرك ذلك روسو في حديثه المستمر، في (إيميل) و(الاعترافات) مثلاً، عن عنف العقل تجاه الطبيعة، وعن يد البشر التي عبثت بما أحسنت صنعه يد الخالق. لكن في ما وراء هذا العقل الذي يعنف الآخر، ويبحث صهره وإلحاقه بنظام الأنا، في ما وراء عوليس «الذي لم تكن مغامرته في العالم سوى عودة إلى جزيرته الأصليَّة»[9]، أفكّر في عقلانية للجوار، أبحث فهمها كإيتيقا للتعاطف والتسامح مع الالتباس، وهي عقلانيَّة لا تخجل من التعبير عن نفسها في لغة العفويَّة والتعاطف والتعاون. وبلغة أخرى، إنَّها تشتغل ضدَّ المغالاة في تقدير الفكر الذهني والمجرَّد، ذاك الذي ينتهي بالآخر دائماً إلى سرير بروكست. إنَّ منطقها امتنان وليس منطق الفكر المموضع (Danken und nicht denken). اعتراف بالجميل وليس تفكيراً، وفي جملة معبّرة للفيلسوف الألماني ديتر هنريش: «يمتنع التفكير حيث لا يحضر الامتنان بعد»[10] (Denken ist zwar dort nicht vollendet, wo kein Dank aufkommt)، وهو امتنان لا يمكن اختزاله في جواب عن فعل خير، ولكن كما في الرؤية الإيتيقيَّة للإسلام، التي غيّبها اليوم النسيان، من يجعل الذات ممكنة، أو بالأحرى ذاتيَّة من دون ذات. ولهذا هي عقلانيَّة لا يمكنها أن تقبل بوثنيَّة المكان، نواة فكر البلد الأصلي (Heimatdenken)، الذي يقدّم جواباً خاطئاً على الخريف الاجتماعي للعقل، ردَّة فعل لا عقلانيَّة هي انعكاس لهذا العقل البارد وإعادة إنتاج لمنطقه الإقصائي. إنَّ البلد الأصلي «مسألة تملك»[11]، وفكره يظلُّ متجذراً في السلالة وأسطورة جيناليوجيا محضة. إنَّ ليفيناس يرى عن حق في طوطميَّة المكان، البلد، تدميراً لكلّ أولئك الذين لا ينتمون إليه، أو لا يجب عليهم الانتماء إليه[12]. ولهذا، لا يمكنني أن أتفق مع الرأي القائل إنَّه لا يمكننا التفكير في الجوار إلا في علاقة بالبيت (Oikos)، إنَّ الجوار هو البيت ذاته. «ووحده من عانى تجربة العراء، يمكنه أن يقدّم الضيافة»[13]، كما كتب جاك دريدا.
لست البتة أنا، فأناي ليست ملكيَّة، وأنا دائماً مع الآخرين أو عندهم، عنديَّة فيما وراء العنديَّة ومنطق الوعي المموضع. حتى الراهب المتبتل، الذي هجر العالم، لن يستطيع أن يغادره. إنَّ قدرنا هو الآخر. والجوار مكوّن أنطولوجي للذات. ديمقراطي، مفرط في ديمقراطيته؛ لأنَّ الجار في المجتمعات الديمقراطيَّة «عوَض القريب»[14]، كما بيَّنت ذلك الفيلسوفة والمحللة النفسيَّة هيلين لوييه، مردفة أنَّ «الجوار يبدأ هناك حيث تتوقف الروابط الأسريَّة (...). إنَّ رابطة الجوار هي نوع من الوحدة الحرَّة»[15]. لكن الجار، بالنسبة إلى الإنسان سجين النموذج القومي، هو القريب فقط، ولا مكان لهذا المختلف المطلق الذي تحدَّث عنه دريدا. ونرى هنا رأي العين أيَّ شكل يمكن للإنساني أن يتخذه أو يفقده، حين يسيطر فكر البلد الأصلي، هذه المقاربة الإثنو ثقافيَّة التي تعرَف المجموعات الاجتماعيَّة بحسب أصولها الإثنيَّة أو الدينيَّة على العالم.
ليس لي سوى وطن واحد، لكنَّه ليس وطني. جملة كان يمكن لدريدا أن يجهر بها أمام هذا الواقع الطافح بالأصوليات.
(2)
أبدأ أوَّلاً بمناقشة بعض المفاهيم الإشكاليَّة، أو بالأحرى كشف الغطاء عن القيم الإيتيقيَّة الأساسيَّة للقرآن، من خلف التشوُّهات التي تسبَّب فيها الاستبداد والجهل والإسلاموفوبيا، بل حتى الإسلاموفيليا؛ لأنَّه لا يجب في هذا السياق تفكيك الدعاوى التي يقوم عليها خطاب الإسلاموفوبيا فقط، بل أيضاً الخطاب الدفاعي الذي يخطئ الطريق إلى التضامن النقدي. إنَّ هذا الجنون بالإسلام (Islamofolie) في تمظهراته المختلفة والمتناقضة، هوس إيديولوجي، يخاطب العواطف الأكثر بدائيَّة، ويسكت عن الإتيولوجيا السياسيَّة - الاجتماعيَّة للصراعات الراهنة، ولربما هو عاجز عن تحليلها. إنَّه لا يفعل أكثر من فرض الطابع الثقافوي عليها.
لقد أوضح محمَّد أركون أنَّ الخطاب الغربي لا يأخذ الإسلام بجديَّة، وهو خطاب لا ينكر الدور الحضاري للإسلام في التاريخ، ولكنَّه لا يتوقف عن تأكيد (شأن الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك) أنَّ المواطنين المسلمين في الدول الغربيَّة، وبالنظر إلى طبيعتهم ذاتها، معادون للديمقراطيَّة[16]! إنَّه خطاب يقوم على فهم جوهراني ضيّق لهذا الدين، لا يختلف كثيراً عن الرؤية التي يدافع عنها المتطرفون. إنَّ فلاسفة مثل سلوتردايك، وهم كثر، يبعثون الحياة في هذا الخطاب التنميطي الذي يعود إلى العصر الكولونيالي. فأنا لا أجد أيَّ اختلاف بين ما يكتبه الفيلسوف الألماني في بداية هذا القرن، وما كتبه أندريه سرفيي في بدايات القرن العشرين (حتى لا أذكر سوى مثل واحد) الذي يرى أنَّ «المسلم يعاني الشلل على المستوى الذهني، وأنَّ عقله، بسبب الانضباط القاسي الذي يفرضه الإسلام منذ قرون، مغلق أمام كلّ ما هو جديد (...) إنَّه معادٍ، وبشكل منهجي، لكلّ جديد أو تحوُّل أو تجديد».[17]
إنَّ الإسلامويين، شأنهم في ذلك شأن الإسلاموفوبيين، ينطلقون من فهم جوهراني ولا تاريخاني للإسلام، وهم يعتقدون بوجود إسلام مطلق، وليس بوجود إسلامات مرتبطة بسياقاتها المختلفة. ووفقاً للكتاب المؤسس للإسلام (القرآن) من الإجحاف القول إنَّ نصوصه تدافع عن عدم التسامح. إنَّ هرمينوطيقا متضامنة[18] قمينة بتوضيح موقف القرآن من الآخرين. فخطاب التكفير المعاصر ليس قرآنيَّاً، ويكفي أن نذكّر بأنَّ القرآن يعترف بالأديان السابقة، ويَعدّ نفسه مكمّلاً لها. كما أنَّ القرآن يمنع المسلمين من فرض دينهم بالقوة على الآخرين، ويؤكّد، كما سبق وأوضح ذلك محمد عزيز لحبابي، المساواة الأنطولوجيَّة بين الرجال والنساء، «إنَّ المرأة شخص»[19]، وينافح عن حريَّة هي مسؤولية، ويقف على النقيض من تلك الحريَّة اللااجتماعيَّة التي حكمت تاريخ الفلسفة من هوبز إلى سارتر. إنَّ فعل الشهادة: «لا إله إلا الله»، يشترط الحريَّة والفرديَّة في آن واحد. إنَّ مثل هذه القراءة تقف -لا ريب- على النقيض من تراث الاستبداد، المرتبط بسياق التخلف السياسي والثقافي، والذي يظلُّ في جانب كبير منه نتاج تحديث من دون حداثة.
ومن الضروري أيضاً أن نوضح أنَّ الإسلام يمثل ديناً وليس نظاماً في الحكم. وواقع أنَّ تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الفصل بين السلطات لا يعني البتَّة أنَّنا أمام مشكلة لاهوتيَّة وليست سياسيَّة. كما أنَّه تجب الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ الإسلام ليس حكراً على رجال الدّين، الذين يعمل كثير منهم في خدمة الاستبداد. إنَّ القرآن يتوجَّه إلى الجميع، وليس فقط إلى المسلمين أو رجال الدّين. وحتى نكرّر ما قاله هرمان كوهين عن الدّين بشكل عام. إنَّه إمَّا أن يكون أخلاقاً وإما لا يكون[20]. ولهذا من الضروري أن نميز هنا بين ثلاثة مفاهيم أساسيَّة: الإسلام، وهو دين ظهر في القرن السابع الميلادي على يد النبي محمَّد، وما أسمّيه الإسلاميَّة (Islamité)، وهي الإسلام في الآن هنا التاريخي أو الإسلام في التاريخ، والإسلامويَّة، التي تعبّر عن أحد تمظهرات هذه الإسلاميَّة التاريخيَّة وليس عن الإسلام. وفي هذا المعنى، ليس الإسلام هو الذي يجب انتقاده في هذا السياق؛ لأنَّنا نقف أمام مشكل من طبيعة تاريخيَّة وليست لاهوتيَّة؛ بل هذه الإسلاميَّة المعاصرة المرتبطة بسياق تاريخي، تسيطر عليه النيوليبراليَّة، وسياق محلي، هو صدى لهذه السيطرة، ووريث للاستبداد الشرقي. وللسبب ذاته أفهم الإرهاب الإسلاموي، كإرهاب موضوعي، وليس كإرهاب ذاتي، أو كإرهاب ينتمي إلى سياق معيَّن، وليس إلى ثقافة بعينها. إنَّني ألخص هذه الإسلاميَّة الحديثة في ثلاثة مواقف أساسيَّة: إنَّها أوَّلاً معادية للإسلام، بالنظر إلى أنَّها لا تعرف الخطاب الإيتيقي للإسلام، وتكتفي باستغلاله وأدلجته. إنَّها ثانياً معادية للحداثة، باعتبار أنَّها نتاج لهذه الحداثة التي لا تتوقف عن إنتاج وتغذية لأعدائها، وهي معادية للساميَّة؛ لأنَّها تستمرُّ في إنكار الدّين اللاهوتي للإسلام، ديناً وثقافةً ولغةً، إزاء اليهوديَّة من جهة، ومن جهة ثانية؛ لأنَّ الإسلاميَّة الحديثة ورثت كلَّ نظريات المؤامرة التي كانت تنتشر في السياق الغربي بحقّ الشعب اليهودي.
بين الفكرة، أيَّاً كانت الفكرة، المثال، الدّين ... إلخ، وتحققاته التاريخيَّة، سنقف دائماً أمام تاريخ طويل ومعبَّد بالجماجم البشريَّة.
(3)
تتمتَّع الأحزاب الشعبويَّة اليوم في أوروبا بشعبيَّة كبيرة. إنَّها تعلن في برامجها عن عدائها للاتحاد الأوربي وللأقليَّة المسلمة، وتطالب باستعادة الدولة الوطنيَّة سلطاتها السياسيَّة من بروكسل، وفي الآن نفسه، تعلن أنَّ الإسلام لا ينتمي إلى أوروبا. إنَّ الشعبويين، مثل أتباع «حزب البديل من أجل ألمانيا»، لا يعرفون إلا الشيء القليل عن التقاليد الإنسيَّة لألمانيا والغرب عموماً، على الرغم من أنَّهم يقدّمون أنفسهم منافحين عن تلك القيم والتقاليد، كما أنَّهم يقفون على النقيض من رسالة المسيحيَّة التي يتمسَّحون بها، وهم في واقع الأمر، لا يختلفون في منطقهم الداخلي عن الحركات الإسلامويَّة وحركات الإسلام السياسي عموماً، على الرغم من أنَّ منظّراً للشعبويَّة مثل يان فيرنر مولر سيرفض هذه المقارنة[21].
أوضح يورغن هابرماس أكثر من مرَّة أنَّ انفتاح الدول الأوروبيَّة على مواطنيها الذين ينحدرون من أصول مهاجرة، من شأنه أن يسهم في تشكل هويَّة أوربيَّة. كما أوضح أنَّ الاندماج ليس طريقاً أحاديَّ الاتجاه، ودعا إلى أن تتعلم الثقافات المختلفة داخل أوروبا بعضها من بعض، وأن تطوّر قبولاً بالآخر[22]. لكنَّ الأحزاب الشعبويَّة في أورو با تصمُّ آذانها أمام هذا النداء. إنَّها ترفض قيم المجتمع الليبرالي، وتهذي في خطبها وبرامجها عن ثقافة رائدة (Leitkultur)، ترفعها حصناً ضدَّ ما تسمّيه «خطر إيديولوجيَّة المجتمع المتعدّد الثقافات»، فهي تتناسى أنَّ التعدُّد الثقافي لبلد مثل ألمانيا هو واقع لا يمكن إنكاره. وفي السياق نفسه، يؤكّد مشروع حزب البديل من أجل ألمانيا رفضه التأثيرات الثقافيَّة الخارجيَّة، كما لو أنَّ ألمانيا ليست من هذا العالم. فما الذي سيبقى من هذه الثقافة إذا اقتفينا خطوات هذا المنطق العبثي، وحاولنا «تحرير» الثقافة الألمانيَّة من كلّ تأثير أجنبي؟ بمَ كان سيردُّ شاعر ألمانيا الكبير هاينريش هاينه، الذي عَدَّ كلَّ المثاليَّة الألمانيَّة حلماً بالثورة الفرنسيَّة؟ دون أن ننسى غوته؛ ولكنَّ غوته، كما أوضح نتشه في رؤيويَّة قلَّ نظيرها، لم يكن سوى «حادثة لا نتائج تذكر لها» في التاريخ الألماني[23].
إنَّ هذه النظرة الشعبويَّة إلى العالم والمجتمع تفضح فهماً جوهرانيَّاً للثقافة وجهلاً فاضحاً بالتاريخ الثقافي لألمانيا، ويجب ألَّا نندهش إذا انتهى تسييس التراث الثقافي إلى إفراغ لهذا التراث من تعدُّده. وفي هذه القضيَّة أيضاً، يلتقي الشعبويون بالإسلام السياسي، ولا أعني هنا بالإسلام السياسي الحركات الإسلاميَّة فقط، بل الأنظمة السياسيَّة الرسميَّة أيضاً. إنَّ الرؤية الشعبويَّة تقوم على رفض للمجتمعي باسم الجمعي، وتمثل خطراً -لا ريب- على الوعي النقدي الذي صنع الغرب وثقافته، فهي لا تستطيع أن تفكّر في العيش المشترك إلا من خلال مقولات: الأحكام المسبقة، السلالة، الأصل. لكنَّ هذه الانعطافة نحو اليمين المتطرّف، والتي تنافح عن أفكار، اعتقدنا أنَّها أضحت جزءاً من الماضي، ليست ظاهرة جديدة. فواقع أنَّ أحزاباً ديمقراطيَّة في الغرب، مثل الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، يدافع عن ثقافة رائدة، يجب على الأقليَّات الأخرى أن تتماهى معها، يؤكّد مرَّة أخرى أنَّنا أمام مونوديمقراطيَّات، وأنَّ المهاجرين من أصول مسلمة، سيظلون مواطنين من درجة ثانية، لهم الواجبات المترتبة على بقيَّة المواطنين، ولكنَّهم لن يمتلكوا الحقوق والحظوظ نفسها. إنَّ المماطلة في قبول تركيا داخل الاتحاد الأوروبي يؤكّد ذلك أيضاً. فدول شرق أوروبا، التي أضحت عضواً كامل العضويَّة داخل الاتحاد، لا تختلف كثيراً عن تركيا، فهي لا تملك ثقافة ديمقراطيَّة، ومسيحيتها قوميَّة، ومعادية للساميَّة، كما أنَّ حكوماتها الشعبويَّة لا تكتفي بما يسمّيه يان فيرنر مولر بادعاء التمثيل الحصري الأخلاقي للشعب؛ بل يمكننا برأيه أن نتحدَّث اليوم عن «شعب أوربان» و«شعب كاتشينسكي»[24]. ولكن هناك «حيث يقوم الدستور بتنصيص الدولة، تعمد الوطنيَّة إلى تلوينها بلون سحري»[25]. وضدَّ منطق «السحريَّة» هذا، تدعو الوطنيَّة الدستوريَّة إلى تحقيق تضامن مدني بين المواطنين، وهو تضامن يتأسَّس على ولاء لمبادئ كونيَّة. إنَّ الوطنيَّة الدستوريَّة التي تتّهم أحياناً بكونها «مفرغة من الدَّم» (Blutleer)، كما لو أنَّنا لم نتعب من كلّ تلك المفاهيم المضرَّجة بالدماء؛ إنَّ هذه الوطنيَّة تعبّر في المعنى الذي قدَّمه لها دولف ستيرنبرغ ويورغن هابرماس، عن موقف مزدوج: فهي من ناحية نقد ذاتي تاريخي، ومن ناحية أخرى مستعدَّة للدفاع عن قيم ديمقراطيَّة لا تقبل التفاوض. إنَّنا نقف على غياب هذا الموقف النقدي من الماضي لدى أنصار الثقافة الرائدة؛ لأنَّهم يبحثون دائماً عن تعويض النقد بتقاليد يريدونها فوق تاريخيَّة. إنَّ ثقافة رائدة ستنتج جنوداً وليس مواطنين، وستغذّي صورة عن الوطن كعلاقة عاطفيَّة، ولكنَّها علاقة عاطفيَّة غير معلمنة، فهي تتأسَّس على القرابة والإقصاء ومنطق الشبيه لا على الجوار. لكنَّ ثقافة ديمقراطيَّة تطالب بمواطنين مسؤولين كما أوضح ذلك ستيرن برغر، وتشتغل بحسب هابرماس مثل تضامن مدني، وهو ما يعني أنَّ المواطنة والهويَّة الوطنيَّة، أو الإثنوس والديموس، ليسا مرتبطين مفهوميَّاً، وأنَّ العلاقة بين المواطنين تتأسَّس على انتماء ديمقراطي، منفتح بشكل لا نهائي، وليس على هويَّة ثقافيَّة مكتملة. إنَّنا نشهد مع ستيرن برغر وهابرماس علمنة لبعد الانتماء، هذا الانتماء الذي سيتأسَّس من هنا فصاعداً من ناحية، على امتلاك نقدي للماضي، ضدَّاً على المشروع التسطيحي لبعض المؤرّخين الألمان، الذين أرادوا بعث الحياة في هويَّة ألمانيَّة تقليديَّة، ومن ناحية ثانية سيسمح لمختلف الثقافات بالانتماء إلى مرتكز كوني موحَّد. وبالنسبة إلى الفيلسوف الألماني يان فيرنر مولر، تحمي الوطنيَّة الدستوريَّة الأقليَّات وثقافاتها من سيطرة ثقافة الأغلبيَّة. إنَّنا أمام مشروع معياري وليس قوميَّاً، وحتى نعبّر عن ذلك في لغة هابرماس: إنَّنا أمام أخلاق موضوعيَّة ديمقراطيَّة (Demokratische Sittlichkeit)، لكنَّها أخلاق يتهدَّدها الاختفاء، هناك حيث يرتفع الصراخ الثقافوي في الفضاء العام.
(4)
لكنَّ نقد الحداثة في خطّيها اليعقوبي والشعبوي لا يعفينا من نقد تديُّن متكلّس، معادٍ لروح العصر، ويتَّخذ أحياناً أشكالاً لا إنسانيَّة، وهو في النهاية عاجز عن فهم القيم الإيتيقيَّة للقرآن واستنباطها، ولاسيما قيمة حسن الجوار. أن نفكر قرآنيَّاً في الجوار سيقودنا -لا ريب- إلى تنسيب كلّ تلك الذهنيَّات التي حكمت على نفسها بالغيتو، والتي يستبدُّ بها شكّ مرضي إزاء ثقافة الأغلبيَّة. إنَّ الإسلام يَعدّ الإنسان كائناً اجتماعيَّاً، أو كائناً يحتاج إلى الآخرين. وعلاوة على دعوة القرآن للمسلمين باحترام آداب حسن الجوار، فإنَّه لا يميّز بين الأقرباء والجيران، مؤكداً أنَّ السلوك الإسلامي مناقض البتَّة للتكبُّر. إنَّ الإسلام يعني التواضع، وحسن الجوار يقتضي موقفاً متواضعاً من العالم والآخرين. وهذا ما يتضمَّن أيضاً حقيقة أنَّ الحقيقة ليست إسلاميَّة فحسب، بل إنَّ القرآن يعترف بالأديان وبالأنبياء السابقين، وقد تميَّزت الثقافة الإسلاميَّة في مرحلتها الكلاسيكيَّة بتسامح كبير مع الالتباس. أجل، إنَّ حسن الجوار في المعنى الإسلامي لا يختلف عن الإحسان المسيحي، ولكنَّه لا يلتقي مع هذا الإحسان الذي جعل نيتشه يتساءل ما إذا كان مجرَّد رغبة في ملكيَّة جديدة؟ (?Unsere Nächstenliebe - ist sie nicht ein Drang nach neuem Eigentum)[26]. إنَّه يتضمَّن الإحسان المسيحي، لكنَّه لا يمكن اختزاله فيه، وهو -لا ريب- على النقيض من هذا الإحسان «الذي يقوم على تصوُّر تراتبي للكون والسياسة»[27]، كما انتقده عن حقّ توكفيل. ولا ريب في أنَّ المكانة التي ستقدّمها الأديان التوحيديَّة للآخر المختلف، من ستقرّر مستقبلها. واليوم، بالنظر إلى الكوارث التي يعرفها الشرق الأوسط، وليس الشرق الأوسط وحده، أشعر بنفسي، وكوني مسلماً، وبعيداً عمَّا يسمّيه فرويد «نرجسيَّة الاختلافات الصغيرة»، أقرب إلى تديُّن مسيحي، مثل ذاك الذي ينافح عنه البابا فرانسيس، ضدَّ هذا المجتمع الذي تسيطر عليه الأنا، والأنا ليست الذات، إنَّها ذاتيَّة مزيَّفة، وفردانيَّة لا تأبه بالعالم وبالآخرين، فهي تعيش خارج الجوار. أجل، إنَّ حسن الجوار يقتضي أيضاً خروجاً من الذات، ولكن أحياناً لا يتحقَّق هذا الخروج إلا بصيغة الجمع. إنَّ الجوار خروج مستمر.
يقف المشروع الإسلاموي على النقيض من الرُّوح الإيتيقيَّة للإسلام، تلك الرُّوح التي نعدمها في القراءات التقليديَّة، والإيديولوجيَّة والرسميَّة، ولكن حتى في القراءات الغربيَّة، التي تركّز على المنهجيَّة النقديَّة- التاريخية، ولا تطلب، وفقاً لمنهجيتها وروحها الوضعيَّة، سوى إلحاق للإسلام بنظام الأنا. إنَّ المشروع الإسلاموي يفرغ القرآن من إيتيقيته (dé-ethisation) والإسلام من ثقافته (déculturalisatio). ولهذا إنَّه يمثل عنفاً رمزيَّاً مزدوجاً، لكنَّه عنف، كما سبق أن أوضحنا، نتاج لسياق حداثي معيَّن.
إنَّ الخطاب الإيتيقي للإسلام يدعونا إلى مواجهة التكبُّر بداخلنا. إنَّه امتنان، وهذا الامتنان لا يصف العلاقة إله/ بشر وحسب. وفي الإسلام، وليس في اليهوديَّة فقط، تمرُّ العلاقة بالله عبر البشر دائماً. يجب فهم الامتنان والشكر مرادفاً لفعل الإيمان نفسه. إنَّ الإنسان كائن شكور في المعنى القرآني، والشكر يتضمَّن الاعتراف بالضعف الإنساني وحاجته المستمرَّة إلى الله، وإلى الآخرين. إنَّ هرمينوطيقا متضامنة ستقرأ القرآن كمديح كبير للضعف الإنساني.
[1] - Bauman, Zygmunt, Strangers at Our Door, Polity, 2016
يرى باومان أنَّ تلك التقارير الإعلاميَّة والتصريحات السياسيَّة، التي تتحدَّث عن «أزمة الهجرة» في أوروبا، مجرَّد قناع سياسي للحرب المستمرَّة التي يخوضها صنَّاع الرأي العام من أجل غزو ومراقبة تفكير الناس ومشاعرهم. تنتج التقارير الإعلاميَّة حول هذه القضيَّة برأيه نوعاً من الذعر الأخلاقي (moral panic)، وهو مفهوم يصف الخوف من خطر يهدّد مصلحة المجتمع. من ناحية أخرى، تنتج طريقة حياتنا «الحديثة» ما يسمّيه «الإنسان الزائد». فهو زائد بسبب التقدُّم الاقتصادي والتقني الذي يحرمه من فرصة في سوق العمل المحليَّة، ولكنَّه زائد ويمكن الاستغناء عنه، ولا حاجة للسوق المحليَّة به، بسبب الحروب والصراعات المندلعة. إنَّه خطر على أمن المجتمع. وتقود هذه السياسة ـالعقلانيَّةـ الأمنيَّة في الغرب إلى ما يسمّيه باومان صيرورة نزع الطابع الأخلاقي (Adiaphorisation) عن العلاقة التي تجمع مجتمع الأغلبيَّة بالمهاجرين واللاجئين والغرباء. وبلغة أخرى: إنَّ الأخلاق لن تكون المعيار المحدّد لطريقة التعامل معهم. إنَّ من شأن ذلك أن يحرّر مجتمع الأغلبيَّة من الشعور بالمسؤوليَّة والذنب. فإذا تمَّ وضع اللاجئين كلهم في خانة «الخطر الإرهابي»، يصبح حينها كلُّ تعامل معهم أمراً مشروعاً.
[2] ـ عنوان كتاب صدر مؤخراً لباتريك بونيفاس، يمكن اعتباره ملحقاً لكتابه السابق «المثقفون المزيَّفون».
[3] - Gruen, Arno, Wider die Kalte Vernunft, 2006
إنَّ ربط تقدُّم المجتمع بالتفكير هو إحدى النقاط الأساسيَّة التي ينتقدها أرنو غرين، معتبراً أنَّ التقدُّم يجب عدم اختزاله في التقدُّم التقني والتنظيمي؛ بل إنَّ معيار التقدُّم يكمن، في رأيه، في طبيعة التعامل الذي تخصُّ به ثقافة ما، الحلقة الضعيفة داخل المجتمع، مثل الأطفال والعجزة وذوي الاحتياجات الخاصة... إلخ. إنَّ التطوُّر يترافق في هذا المعنى أيضاً مع خسارة للإنسانيَّة. ومن أجل فهم ما الذي خسره البشر وما الذي ربحوه في تاريخ تطورهم، يتوجَّب، بحسب أرنو غرين، أن نأخذ في الاعتبار التعاطف والتعاون مع الآخرين كعوامل أساسيَّة. وفي هذا السياق، يجب النظر إلى الطاعة كعامل للتطور الاجتماعي، وكمرحلة متأخرة في هذا التطوُّر، ارتبطت بالسلطة والعنف والملكيَّة. كما أنَّ الإنسان ليس مرتبطاً فقط بالعوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والبيئيَّة، كما أوضح ذلك إريش فروم في محاورته النقديَّة مع هربرت ماركوزه، وهو ما يعني أنَّ مرحلة العلاقة بين الطفل والأم تؤثر في تطوُّر جوهرنا الداخلي؛ بل إنَّ ماركس نفسه سينتقد في كتابات الشباب تحويل الحياة الإنسانيَّة إلى قوَّة ماديَّة.
إنَّ قيمة التعاون هي نتيجة للعلاقة بين الطفل والأم، وإذا ما تعرَّضت هذه العلاقة للخلل، فإنَّ ذلك سيؤثّر في سلوك الطفل حين يصبح راشداً وفي علاقاته بالآخرين؛ بل إنَّ الأنثربولوجيَّة سارة بلافر هاردي تؤكّد أنَّ التعاون والإحساس بالآخرين أهمُّ العوامل المؤسّسة للتطوُّر البشري، وهو ما ذهب إليه يونغ، معتبراً أنَّ النموذج السلوكي الذي يقوم على التعاون، يستغلُّ بشكل أفضل القوى النفسيَّة للإنسان، بعكس النموذج القائم على السيطرة والتراتبيَّة.
[4] - يمكن العودة هنا إلى المقارنة المبدعة بين هيغل وغوته لدى فوزي بوبية في كتابه: La Pensée de l’Universel, 200.
[5] - Humanisme de l’Autre Homme, 1972, 42
[6] ـ المرجع نفسه، ص 18
[7] ـ المرجع نفسه، ص 49
[8] ـ المرجع نفسه، ص 53
[9] ـ المرجع نفسه، ص 43
[10] - Henrich, Dieter, Gedanken zur Dankbarkeit, 1987, 85
[11] - Thoemmes, Martin, Kann noch Heimat sein?, 2012, 15
[12] - Agata Zielinski, Levinas, la responsabilité est sans pourquoi, 2004, 27 - 28
[13] - De l‘Hospitalité, 1997, 56
[14] - L’Heuillet, Héléne, Du voisinage, Réflexions sur la coexistence humaine, 2016, 8
[15] ـ المرجع نفسه، ص 12
[16] ـ انظر مناقشتي لموقف بيتر سلوتردايك في مقال صدر في صحيفة الحياة، بتاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، يحمل عنوان: «المركزيَّة الغربيَّة وكيفيات اشتغال الإقصاء».
[17] - Servier, André, L’Islam et la psychologie du musulman, 1923, 344 - 347.
[18] ـ أميز بين هرمينوطيقا إيجابيَّة متضامنة وأخرى سلبيَّة. كلُّ هرمينوطيقا هي -لا ريب- انتصار لرأي أو موقف محدَّد من العالم؛ بل كلّ تأويل. ويمكننا أن نقرأ «النصوص المؤسّسة» للثقافات الكبرى، مثل القرآن مثلاً، بشكل سلبي، ولا نرى أو لا نريد أو لا يراد لنا أن نرى فيه سوى حثٍّ على العنف والغيرة. فالقارئ يرى غالباً ما يريد رؤيته. إنَّ «العين الداخليَّة»، عين الحكم المسبق، هي جزء لا يتجزأ من لعبة الحقيقة. لكنَّ «النصوص المؤسّسة» تتميز بطبيعة ملتبسة، ودور القارئ في ظلّ عقلانيَّة للجوار أن يزكي الراهني في النص، ويغض البصر عن غيره. وغض البصر واجب هرمينوطيقي وليس دينياً فقط. إنَّني أسمّي ذلك تضامناً نقدياً. أمَّا الهرمينوطيقا السلبيَّة، والمسكونة برغبة في النقد من أجل النقد، وبلغة أخرى برغبة في السيطرة، والفهم سيطرة كما أوضح ليفيناس، فإنَّها تشتغل ضدَّ روح العيش المشترك. رُبَّ سائل: لكن مثل هذه القراءة ستفرغ النقد من مضمونه؟ أجل، وهل النقد مقدَّس؟ هل يطلب النقد لذاته؟ يتوجب على الهرمينوطيقا أن تتعلم لغة الصمت والنسيان والغفران، فهي ليست فقط «فنَّ تجنُّب سوء الفهم»، كما فهمها تاريخ الفلسفة من شلايرماخر إلى غادامر، بل تمرين على الضعف، وفنّ تجنُّب التكبُّر. إنَّ الجوار هرمينوطيقا يوميَّة، فهل يمكن تحمل جار لا يتوقف عن النقد؟ أجل إنَّها فهم، لكنَّها رغبة أيضاً، رغبة تشتعل رغبة.
[19] - Lahbabi, Mohamed A., Le personnalisme musulman, 1964, 79
[20] - Cohen, Herman, Die Religion der Vernunft aus den Quellen des Judentums, 1988, 38
[21] ـ كما فعل في كتابه: .Was ist Populismus?, 2016, 27
[22] - Habermas, Ach Europa, 2010
[23] ـ إنَّ التقسيم الثقافوي للعالم، الذي تقوم عليه الثقافة الغربيَّة الرسميَّة، يعبّر عن نفسه في فكر كلياني، لا يدَّعي سيطرته على الحاضر والمستقبل فحسب؛ بل والماضي أيضاً. وللسبب نفسه يعمد هذا الفكر إلى تنقية جينالوجيته الثقافيَّة من كلّ تأثير أجنبي، ولاسيما الإسلامي منه. بل الأكثر من هذا وذاك أنَّ «الحضارة» حين تتصرَّف بشكل بربريّ، فإنَّ ذلك دائماً بسبب خطأ صدر عن الآخرين. للاطلاع على مناقشة وافية لمنطق الإقصاء الثقافوي، أحيل على كتاب جوزيف مسعاد: Islam in Liberalism, 2015، الصفحات: 16، 17، 36
[24] - Müller, Jan-Werner, Was ist Populismus?, 2016, 72
[25] - Müller, Jan- Werner, Verfassungspatriotismus, 2010, 9
[26] - Nietzsche, Friedrich, Werke in drei Bänden, München, 1954, Band 2, S. 47 - 48
[27]- L’Heuillet, Ibid, 64