تأملات في المحبة والكراهية
فئة : مقالات
المحبّة، في اللغة، من الحب، وهو نَقِيضُ البُغْضِ؛ (جذرها حبَّ)؛ والحب هو الودادُ والـمَحَبَّةُ والاسْتِحْسانِ؛ يكون للأحياء والأشياء والأفعال والغايات، وكل ما نريد أن نحظى به، ونتمنى أن نحصل عليه، ويكون في جميع مداخل الخير، وأبواب الفرح والسرور والسعادة. المحبة، عند الفلاسفة تعلو على العدالة، أمِّ الفضائل؛ [1] إذ العدالة أن يُعطى كلُّ ذي حق حقَّه. أما المحبة، فهي أن يُعطى كلُّ ذي حق حقَّه وأكثر، (وحبة مسك)، ويغدو معها العطاء ألذَّ من الأخذ اللذيذ.
ما من حب لا يقابله بغض، ما من محبة لا تقابلها كراهية، هذا مألوف في نسق التفكير الثنوي، نسق الأزواج المتقابلة، الذي يفترض الحبَّ خالصاً (مطلقاً) والبغضَ خالصاً، والمحبوبَ كاملاً وخيراً مطلقاً، والمكروهَ مسخاً وشراً مطلقاً، ولا يفطن إلى أن المحبة الخالصة هي الوجه الثاني لكراهية خالصة، (محبة خالصة للذات وكراهية خالصة للأخرى والآخر)، مثلها مثل القبول التام، الذي هو الوجه الآخر للرفض التام، وأن الخالص أو المطلق ليس له من وجود إلا في الأذهان. هذا مما يستدعي النظر في مفهوم "الإخلاص"، لتخليصه من معاني التبعية التامة والطاعة التامة والإيمان الأعمى، التي يغلب أن يدل عليها.
فرضيتنا الأولى عن المحبة والكراهية، في السياق الاجتماعي - الإنساني، أن المحبة تقع على الإنسان، نعني الفرد الإنساني، والكراهية تقع على بعض أفعاله، وبعض صفاته، وبعض محمولاته. المحبة تقع على الذات، والكراهية تقع على بعض الأفعال وبعض الصفات وبعض المحمولات. الكائن الإنساني، في ذاته، لا يستحق البغض والكراهية، وإن بدرت منه أفعال كريهة. بهذا الاعتبار، لا يمكن أن توجد محبة خالصة وكراهية خالصة؛ لذلك نتحدث عن حب يخالطه بغض، أو محبة تخالطها كراهية، عن بغض محايث للحب، وكراهية محايثة للمحبة، وعن تراجح دائم بين المحبة واللامحبة.
نحن، الرجال والنساء، نحب زوجاتنا وأزواجنا، (والله أعلم)، ولكننا قد لا نحب، بل قد نكره، أحياناً، بعض أفعالهن وأفعالهم وبعض محمولاتهن ومحمولاتهم، ونحب أولادنا وبناتنا، وأصدقاءنا وصديقاتنا، وجيراننا وأقاربنا وزملاءنا وزميلاتنا... ولكننا لا نحب، بل نكره، أحياناً، بعض أفعالهم وأفعالهن، وبعض محمولاتهم أو محمولاتهن، ولكننا، في جميع الأحوال، نعترف بإنسانيتهم وإنسانيتهن. فلا يمكننا أن نكره الإنسان، في ذاته، من دون أن نجرده من إنسانيته، وإذ نفعل ذلك، نتجرد نحن من إنسانيتنا، من دون أن نعي ذلك أو نشعر به، وهذا هو لب العنصرية. الكراهية الخالصة، أي كراهية الآخر المختلف لأنه آخر ومختلف، وكذلك الأخرى المختلفة، الكراهية الخالصة المقيتة هي التي تنصبُّ على الإنسان ذاته، لا على أفعاله ومحمولاته. الأسوأ من هذا، ربما، هو أن "نحب"، ونجرد من نحبهم من إنسانيتهم، أو لا نعترف بها إلا اعترافاً مشروطاً[2] بأن يكونوا مثلنا أو مثلما نريدهم أن يكونوا. هذا الأسوأ هو النمط السائد من المحبة، في مجتمعاتنا، بكل أسف، وإلى جانبه المحبة الخالصة للذات والكراهية الخالصة للغرباء والأغيار، علاوة على محبة التملق والتزلف والنفاق.
لا تكون كراهية إلا لسبب أو عدة أسباب؛ أما المحبة فلا تحتاج إلى سبب لها غير ذاتها، لأنها مغروزة في الطبيعة البشرية، ترقى بارتقائها، وتسمو بسموها، وليس لها من غاية سوى ذاتها، وإلا كانت تملقاً وتزلفاً ونفاقاً. فلو فتشنا عن أسباب الكراهية المحايثة للمحبة لوجدناها جلية في التنافس على السلطة والثروة والمكانة، هذه الكراهية تزول بزوال أسبابها. وأما الكراهية الخالصة، فلا تزول إلا بزوال المحبة الخالصة، لأنها سببُها وعلتُها؛ المحبة الخالصة للذات الفردية أو الجمعية، ذات المتكلم والمتكلمة، هي سبب الكراهية الخالصة للآخر المختلف والأخرى المختلفة، فالمحبة الخالصة والكراهية الخالصة كلتاهما تقتضيان التفاصل والتباعد والعزلة.
لا تكون كراهية إلا لسبب أو عدة أسباب؛ أما المحبة فلا تحتاج إلى سبب لها غير ذاتها
أما الفرضية الثانية، فتتعلق بتأويل "الغريزة الجنسية"، التي تكمن في أساس الحب أو المودة والاستحسان؛ نزعم أن الغريزة الجنسية، أو غريزة حفظ النوع تعني أمرين أساسيين: الأول هو الحفاظ على جميع أفراد النوع، وهذا مما يضع مسؤولية الشخص عن حياته، ومسؤولية الأسرة عن حياة أفرادها، ومسؤولية المجتمع عن حياة جميع أفراده إناثاً وذكوراً، ومسؤولية الدولة عن حياة جميع مواطناتها ومواطنيها، والثاني هو إنتاج النوع وإعادة إنتاجه.
وفق هذا التأويل، لا تعني صفة "الجنسية"، التي نصف بها الغريزة، مجردَ المعاشرة الجنسية، أو مجرد "الجنس" الطبيعي البسيط (sex)، بل تتعداهما إلى غريزة الانتماء، أو الانتماء الأصلي إلى الجنس أو النوع، والاستئناس بأفراده؛ أي إن الغريزة الجنسية تعني الغريزة البشرية أو النوعية. المعاشرة الجنسية مجرد أداة ووسيلة لغريزة حفظ النوع، وليست هي الغريزة ذاتها، إذ العزوف عن الإنجاب، على سبيل المثال، لا يعني الاستهانة بالحياة عامة، وحياة الآخرين والأخريات خاصة، ولا يقتضيها اقتضاء الضرورة، في أي حال من الأحوال.
الغريزة الجنسية، غريزة حفظ النوع، تنطوي، في حالة الطبيعة، على إمكانات المحبة والاهتمام والعناية والحرص والرعاية ... وكلها مما تمكن ترجمتها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً وأخلاقياً، في الحالة المدنية، إذ المجتمع (المدني)[3] هو الوحدة المكتملة، في الجوهر، بين الإنسان والطبيعة - البعث الحقيقي للطبيعة - طبيعة الإنسان وإنسانية الطبيعة، وقد وصل كل منهما إلى تحققه[4]. يؤكد الفرد الإنساني، في وعيه النوعي حياته الاجتماعية الواقعية، وهو لا يعدو أن يكرر وجوده الواقعي، في الفكر، تماماً كما أن وجود النوع - بالعكس - يؤكد ذاته في الوعي النوعي (للفرد)، ويكون (الإنسان) لذاته، في عموميته (وكلِّيته)، كائناً مفكراً[5]. فالمحبة هي الطريقة الوحيدة التي تُظهِر بها الشخصية جوهرَها الأعمق، جوهرَها الإنساني الكلي، والطريقة الوحيدة لفهمها.
الكراهية، بخلاف المحبة، ليست غريزة في الإنسان، وليست واحدة من خصائص الروح الإنساني، من هنا جاء افتراضنا أنها لا تقع، في الأساس، على الذوات، بل على الأفعال والمحمولات. الكراهية التي تقع على الذوات هي التعبير الأكثر وضوحاً عن العدمية، أو عن العنصرية، بما هي شكل من أشال العدمية، ونسق مولد للعنف والإرهاب. وما تسمى نزعة عدوانية مغروزة في الطبيعة البشرية، هي نزعة سببها الخوف، لا الكراهية، وعلتها الحفاظ على الحياة.
نفكر هنا، بالعنف والإرهاب اللذين تمارسهما سلطات الأمر الواقع والميليشيات الموالية لها أو المعارضة لها، في سورية وغيرها، إذ تتجلى في هذه الممارسة الكراهيةُ، التي تقع على الذوات. فلا نستطيع أن نرى في كارهي معارضيهم كرهَ ذوات سوى وحوش بشرية.
إذا كانت الصناعة (وحدة العلم والعمل)، هي العلاقة التاريخية الفعلية بين الإنسان والطبيعة، ومن ثم بين الإنسان والعلم الطبيعي، فإن المحبة هي العلاقة التاريخية الفعلية الجوهرية بين الإنسان والإنسان. وإذا ما أُدركت الصناعة باعتبارها انكشافاً خارجياً لقوى الإنسان الجوهرية، لفهم الماهية الإنسانية للطبيعة، أو الماهية الطبيعية للإنسان، حسب كارل ماركس، يمكن أن تُدرك المحبةُ، وكل ما يدل عليها ويتصل بها، باعتبارها انكشافاً خارجياً للروح الإنساني.
المحبة عاطفة إنسانية، تنتمي إلى مجال اللاعقل، الذي يؤسس العقل، ويعيد تأسيسه باطراد، فتتخطى "المنطق" إلى ما فوق المنطق؛ أي إلى حدود انبثاق الحرية تجاوزاً للحدود إلى حدود جديدة مرة تلو مرة؛ وتدل، من ثم، على تألق الفردية وانفتاحها على أفق كوني، هو ارتسام خارجي لعمقها الإنساني. وهذا ما أسميه "الأفق الذي يحدد الكينونة"، وتحدد المعرفة والعمل أو الفاعلية / الانفعالية والحب جميع أبعاده، بقدر ما تكون تجليات للحرية.
المحبة عاطفة إنسانية، تنتمي إلى مجال اللاعقل، الذي يؤسس العقل، ويعيد تأسيسه باطراد
للمحبة من المعاني والدلالات بقدر ما هنالك من تجارب فردية، تشترك في أشياء، وتختلف في أشياء، بحكم ما هنالك من تشابه واختلاف بين الأفراد. فلكم سيكون القول فيها قاصراً، إذا ما اعتمد على المتشابه في التجارب الإنسانية تأسيساً على المتشابه في الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، ولكم تبدو عصيةً على التحديد إذا ما انطلق الحديث عنها في فضاء الاختلاف تأسيساً على اختلاف الأفراد إناثاً وذكوراً واختلاف الجماعات والأمم والشعوب. وحدها الحكايا والسرديات الشخصية والأعمال الروائية والمأثورات والإبداعات الأدبية والفكرية والفنية تؤلف سمفونية الروح الإنساني على لحن الحب والمودة والاستحسان، بحكم طابعها الفردي واحتفائها بالاختلاف.
وما يزيد أمر المحبة التباساً، ويضفي عليه مزيداً من الغموض أن هنالك، بوجه عام، رؤيتين للحب أو المحبة: رؤية ذكورية لا تزال تحتل متن الثقافة والأخلاق وتلون المعرفة وتتصل بالسلطة من عدة وجوه ... وأخرى نسوية، صامتة أو نائمة وهاجعة في الهامش، هامش النص الاجتماعي، الذي لا يعبأ به سوى القراء الحاذقون، لكن صمتها هو ما يؤسس لكلام لم يقل بعد، من دون أن نتجاهل واقع أن (المرأة) بدأت توقظ أنوثتها وتحتفي باختلافها وتعلِّم حريتَها المشي[6]، ومن دون أن نتجاهل العناصر الأنثوية في خطابات الذكور أنفسهم وفي مواقفهم، وهذه لا تدركها، حتى اليوم سوى المرأة ولو حدساً، فقد لا يرضي أحدَنا أن يقال له إن في خطابه نفحة أنثوية، وقد يحمر وجهه خجلاً إذا ما بحثنا عن العناصر الإيروسية في فكره وسلوكه أو عن ارتسامها فيهما، مع أنه قد لا يجادل في أن مبدأ الوجود يتجلى في جميع أشكال الوجود، أو يثوي في قاعها، ومبدأ الحياة الإنسانية يتجلى دوماً في جميع أشكالها[7].
التحدي المطروح اليوم، على الصعيد الإنساني الكلي، هو كيف يمكن التعاطي مع السلطات التي تصب جام كراهيتها، على كل من لا يوالونها ولاء تاماً، ومن لا يخلصون لها الطاعة والانقياد.
أحد المداخل الأساسية للخروج من جحيم المحبة الخالصة والكراهية الخالصة، في مجتمعاتنا، هو بناء العلاقة بين الرجل والمرأة على مبادئ وقيم إنسانية مشتركة بين البشر جميعاً؛ "فإن الموقف من المرأة، التي ينظر إليها على أنها غنيمة وخادمة للشهوة الجماعية، ينعكس الانحطاط اللانهائي الذي يوجد فيه الإنسان لذاته، لأن سر هذا الموقف يجد تعبيره الجلي القاطع الواضح غير المقنَّع في علاقة الرجل بالمرأة، وفي الطريقة التي يتم بها تصور علاقة التكاثر المباشرة، الطبيعية؛ فالعلاقة المباشرة والطبيعية والضرورية بين شخص وشخص هي علاقة الرجل بالمرأة. في هذه العلاقة الطبيعية، تكون علاقة الإنسان بالطبيعة هي مباشرة علاقته بالإنسان، تماماً كما أن علاقته بالإنسان هي مباشرة علاقته بالطبيعة، بوظيفته الطبيعية الخاصة. ومن هنا يتجلى في هذه العلاقة المدى الذي أصبحت فيه ماهية الإنسان طبيعة للإنسان، وقد غدت واقعة محسوسة، يمكن ملاحظتها، أو المدى الذي أصبحت فيه طبيعة الإنسان هي ماهيته الإنسانية".[8] والمدخل الآخر هو العدالة، في توزيع الثروة والسلطة ومصادر القوة، وإنصاف الفئات المحرومة والمغبونة تاريخياً، العدالة مقدمة ضرورية ورافعة أساسية للمحبة.
[1]- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، الجزء الثاني، ص 59 بتصرف.
[2]- راجع/ي، مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 2005
[3]- أضفنا صفة المدني، لاعتقادنا بأن اللاهوتيين يعتقدون بأن المجتمع هو الوحدة المكتملة جوهرياً بين الإنسان والله. الله هو خالق الأفراد ومنظم المجتمع (الجماعة أو الملة) وهو ضمانة وحدته، وتماسكه، وينفون نفياً كلياً أن يكون المجتمع من إنتاج نفسه.
[4]- كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ص 97
[5]- ماركس، المخطوطات، ص 98
[6]- التعبير من وحي محمود درويش.
[7]- راجع/ي، جاد الكريم الجباعي، الإيروسية، تأملات وانطباعات، نشر على موقع سؤال التنوير، ومتاح على الرابط: https://sites.google.com/site/assuaalnet/home
[8]- ماركس، المخطوطات، ص 95