تأويل سردي للموت
فئة : مقالات
تبوّأ الروائي الياباني "يوكيو ميشيما" (1925-1970) مكانته الرفيعة في تاريخ الأدب العالمي بإقدامه على اتخاذ قرار الانتحار، وهو في ذروة قوته الجسدية، وشهرته الأدبية، إلى درجة اقترن انتحاره بكل حديث عنه، وربما غلب الاهتمام بذلك ما خلفه من تركة سردية شديدة الأهمية، وطبقا للمعلومات الشائعة، فقد اتّخذ قراره على خلفية من شعوره بالاضطراب الثقافي جرّاء الهزيمة النكراء التي لحقت باليابان خلال الحرب العالمية الثانية، فقد تهشّمتْ الهوية التقليدية لبلاده، وأُدرجت في تبعيّة لأمريكا عقب الذلال الذي مارسته بقنابلها الذرية التي أحالت إمبراطورية عريقة إلى حطام، وقوبل المآل الذي انتهت إليه اليابان بالازدراء من ذوي الهويات الراسخة الذين لا يأخذون في حسبانهم الفرق بين الوقائع والتخيّلات، واندرج ميشيما في هذه الفئة التي جعلت من حسّها العميق بالهوية حجابا منع عنها رؤية أمة عظيمة، وهي اليابان، تركع خاشعة أمام دولة قيد التشكيل، وهي أمريكا، فما استوعبت المهانة، ولا قبلت بالأمر الواقع، واختارت قراراها في ضوء ذلك. ولم يكن ميشيما أول الكتّاب اليابانيين الذين احتجّوا بالانتحار على ما رأوه تدهورا مريعا في أحوال بلادهم، فقد سبقه إلى ذلك عدد من أقرانه. وقد أشار "ماركيز" إلى أن كثيرا من الكتاب اليابانيين انتهوا إلى الانتحار ما جعله يؤمن بظاهرة "عبادة الموت عند الكتاب اليابانيين".
حيثما جرى تقليب الآراء حول انتحار ميشيما، فقد استبعد أن يكون تعبيرا عن ضعف نفسي، بل نتاجا لرهافة مفرطة في الحسّ الثقافي، وشعور مفرط بالاقتلاع الاجتماعي، ولطالما احتفى بالقوة وبالثقافة معا باعتبارهما حافزين متضافرين في صوغ هوية الرجل الياباني، فقوته البدنية التي اكتسبها بالمراس الصعب متّبعا الأساليب القتالية للساموراي، كانت عنده دعامة للثقافة العريقة التي تفكّكت أواصرها بإزاء الحداثة الغربية، وقد كتب عن نفسه مستخدما ضمير الغائب مقالة بعنوان: "يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما"، تحدّث فيها عن ذاته بصيغة الغائب، ومن خلف قناع، فكشف عن خصاله، ومُثله العليا، وفِي مقدمة ذلك رياضته البدنية العنيفة، وثقافته التقليدية الأصيلة، فعدّ الرجولة المثالية للمرء "امتلاك وجه شاعر وجسد مصارع ثيران"، وهو ما دفعه إلى الانشقاق عن مجتمع رآه لا يحتفي بالقوة ولا بالأصالة. ومع إحساسه بالانشقاق، فقد واظب على كتابة الرواية، وهو غزير الإنتاج، وخلّف نحوا من ثلاثين كتابا، حتى أنه كنّى عن نفسه الكاتب الذي "يقضي الليل ساهرا حتى الصباح مستمرّا في كتابة الروايات على مدى ما يقرب من عشرين عاما، ومهما لاقى في ذلك من محن ومتاعب لمرّات كثير، فهو مستمر في كتابة الروايات من دون أن يتّعظ، وكلّما استمر في الكتابة كلّما أصبحت رواياته أكثر صعوبة"، فلم توفّر له الكتابة إمكانية الانسجام مع العالم الذي يعيش فيه، والتآلف معه، بل زادته شعورا بالانقسام، والنفور، وبغية الوصول إلى حلّ لذلك الخصام الذي خلص إليه، فقد توقّع أن يقوم بعمل جليل في وقت ليس بعيد "في المستقبل القريب يستطيع القيام بعمل هائل للغاية".
جاء ذلك العمل المرتقب بالانتحار الذي أقدم عليه، حينما بلغ الخامسة والأربعين من عمره، بأسلوب راعى فيه طرائق الساموراي، فقد أعدّ العدة لذلك، و"حزم كليتيه بقطعة من النسيج القطني، وانتضى سيفه التقليدي القصير، ومن دون تردّد أو وهن أغمده في أحشائه، منتزعا إياها في انتحار علني"، فكأنّ موته كمال خالص اختاره عارفا بدلالته لكن حوافزه راحت تنأى كلما مرّ الزمن، وكلما ترادفت التأويلات الثقافية حوله، فحزمُ الكليتين، وإغمادُ السيف في الأحشاء، وانتزاعها، هي الحبكة الناظمة لأحداث سابقة، وتأويلات لاحقة.
رسم ميشيما الإطار السردي الحاضن لانتحاره؛ لكنه شحّ علينا بالتفسير الكامل لذلك الفعل البطولي، فقد أحاط انتحاره باحتفال مهيب، وجعل منه تعبيرا عن انتظار طويل خطّط له بعزم ودراية، إذ أنشأ كتائب عسكرية أخذت بتقاليد الحروب اليابانية، وقوامها بضع مئات من الأتباع المؤمنين بالمجد الإمبراطوري، وأشرف على تدريبهم، وكتب نشيدهم الحماسي، وسمّى ذلك الجيش بـ"جماعة كبش الفداء في سبيل الإمبراطور"، وشرع في التخطيط للموت بين أتباعه تعبيرا عن احتجاج معلن وليس تعبيرا عن يأس، ولما اقترب الموعد، واكتمل الاستعداد، سلّم لناشره آخر جزء من رواية كبيرة له، ثم استحمّ، وحلق ذقنه، وارتدى بزته العسكرية، وخطّ ملاحظة قصيرة على ورقة تركها على مكتبه قال فيها: "حياة البشر قصيرة، لكنني أودّ أن أحيا إلى الأبد"، وعلى مرأى ومسمع أتباعه هوى على سيفه الذي اخترق جسده، فحقّق ما كان يرنو إليه منذ زمن. كان يريد أن يموت لكي لا يفنى، فتطلّع إلى زرع ذكرى مجيدة في مجتمع تعرض للاختلال النفسي.
رسم ميشيما الإطار السردي الحاضن لانتحاره؛ لكنه شحّ علينا بالتفسير الكامل لذلك الفعل البطولي
غرز ميشيما سيفه في بطنه الضامرة بعد أن خطب في أتباعه داعيا إياهم إلى الحفاظ على الروح اليابانية الأصيلة، ومبيّنا لهم خطر الأخذ بالثقافة الغربية. وقبل سنة من ذلك، صرّح بأنّ الموت يتسلّل إلى جسده، وأن حياته تطوي من الفراغ ما يطويه لوحات الفن الياباني من مساحات فارغة، وذكر أنه يقاوم ذلك بالكتابة، وربما تكون خلجات مضطرمة خطرت له في لحظات تأزم، وسرعان ما تحلّ بمحلّها أخرى تختلف عنها في نوع الإفصاح عن مكنون النفس، فربطُ هذه الأسباب بذلك الفعل الجريء يظل بحاجة إلى رسم سياق أكثر ثراء من الأسباب الظاهرة، ليكون مكافئا له في الحجّة.
فتح انتحار ميشيما سجل الحديث حول الدوافع الخفية لإقدامه على قتل نفسه مختارا، وعلى الرغم مما قيل حول طبيعةُ الثقافة التقليدية التي انغمس فيها بوجدانه، والاطراد في التضحية بالنفس صونا لها، فلم يكن ميشيما فردا بين الذين قرروا اختيار النهاية المناسبة لهم ذودا عن تلك الثقافة، فقد سبقه إلى ذلك آخرون منهم دازاري، وأعقبه آخرون، منهم كاواباتا، وتوسّط هؤلاء وأولئك بالطريقة المبهرة التي قتل بها نفسه، وهي الانحناء على سيف اخترق أحشاءه. وفي رسالة لكاواباتا تعود إلى عام 1969 أخبره أنه بدأ يُهيّئ نفسه للأمر المنتظر، وطلب إليه الحفاظ على سمعته الشخصية وسمعة عائلته بعد موته، وهي الرسالة التي قرأ كاواباتا أجزاء منها في جنازة ميشيما، ثم عاود التأكيد في رسالة أخيرة بعزمه على إنجاز وعده، وأنبأه أنه في معسكر للتدريب، وقد قرب موعد الإقدام على النهاية، وتحقق ذلك فعلا في 25-11-1970. وقد حدث ما توقّعه، فقد كان لموته تداعيات كبيرة جدا شملت سائر البلاد، ثم تنكرت له عائلته لاختياره الموت، واعتبرت أنه ارتكب عملا مخزيا، ما خلا أمه التي ذكرت أنه قام بما كان يرغب فيه منذ زمن طويل. لكن هذا الاستنكار العائلي لم يخمد من الحديث الذي لفّ حدث الانتحار، بل زاد منه، وما لبث أن توسّع فشمل اليابان، ثم امتد إلى ما وراء حدودها، وأمسى أنموذجا يذكر في سياق كل موضوع له صلة بالذهاب إلى الموت اختيارا، وكلّما مضى الزمن تراكمت التأويلات حول ذلك الحدث، فما كاد يُرى وسط سيل متضارب منها. وعلى هذا، فينبغي الحذر في إقرار سبب دون غيره لتفسيره، والأخذ بتفسير ما قد لا يستوعب طبيعة العمل الذي أقدم ميشيما عليه.
ومهما كانت الملابسات التي أحاطت بانتحار ميشيما، فينبغي الأخذ في الحسبان شخصيته المتوجّسة، وشبه المنطوية، ليس في أدبه الروائي، حسب، بل في أفكاره السياسية، وحياته الشخصية، فقد حافظ على أصول الأعراف الاجتماعية الموروثة، وأعلن دفاعه عنها، ومن ذلك قوله بعصمة الإمبراطور؛ أي اعتباره إنسانا شبه مقدّس، وكان من الآخذين بالقيم المغذّية لهوية أصيلة لا ينبغي التفريط بها بدواعي الأخذ بالحداثة الغربية، والتي لا يجوز انتساخ تجاربها في اليابان، وقاده هذا إلى الامتناع عن التفاعل مع الاتجاهات الثقافية التي عصفت باليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فتداخلت أسباب لها صلة بطبيعة ميشيما، وبميوله الفردية، وأخرى لها علاقة بالمؤثّرات الثقافية التي تجاذبته حينما اكتمل وعيه بذاته وببلاده.
أذهل انتحار ميشيما طيفا واسعا من قرّائه، وأصابهم بالصدمة، ومع عزمه على اختيار الموت، واستشعار المقربين بنيّته، فقد ظهر وكأنه اقترف مأثرة حينما جعل من نفسه موضوعا للعقاب، وهو أمر رأته الأغلبية يتفلّت عن أي منطق يهدف للربط المباشر بين السبب والنتيجة، فقد بدا للعيان أنّ السبب بعيد عن النتيجة، والسخط من حال جماعية لا ينبغي أن يكون ثمنه الاقتصاص من الذات، فليس التعبير عن الغضب من الآخرين يؤتي ثمرته بقتل النفس، والمباينة بين هذا وذاك أثار لغطا لم يندمل بعدُ، فهو يُنكأ كلما وقع ذكر هذا الشهب الذي مرّ سريعا في فضاء الأدب الياباني؛ وقد رّجحت فئة إقدامه على الانتحار بلفت انتباه اليابانيين إلى نوع الخسارة التي لحقت بهم جرّاء إهدار تراثهم التقليدي، غير أن فئة أخرى رأته جهرا بأزمة إبداعية اعتملت طويلا في نفس صاحبها، فقد بلغ ميشيما ذروة الكتابة برباعيته "بحر الخصب"، وأدرك أنه يتعذّر عليه إضافة شيء من بعدها يثري تاريخه الأدبي، فلا عمل يستحق المضي بالحياة من أجله بعد الرباعية، فقرّر لجم حياته كيلا تتراجع مكانته. وهذا ما ذهب إليه "تنيسي ويليامز" الذي كان على علاقة به، والتقاه في اليابان قبل مدة وجيزة من انتحاره، فرآه مغمورا بالتوتر والجاذبية، ما دفعه للاعتقاد أنه قرّر أن ينفّذ ما نوى عليه "ليس بدافع قلق سياسي حول انهيار التقاليد القديمة في اليابان، وإنما لأنه شعر أنه مع اكتمال ثلاثيته (=رباعيته) أنهى مهمته الكبرى كفنان".
وهي تفسيرات لم تتوغّل في عوالمه السردية التي قبعت في قعرها رغبة دفينة في الموت. وكلها تفسيرات خارجية لم تتوغّل في عوالمه السردية التي قبعت في قعرها رغبة دفينة في الموت، وقد اقترحت روايته السيرية "اعترافات قناع" المفاتيح المجازية التي بها يمكن الولوج إلى العالم الداخلي لميشيما، وهو عالم لا يوافق عوالم الروائيين بما فيه من دعة ولطف وتسامح وتهتك، فقد نشأ على نقض المقوّمات التي ترى في الأدب وسيلة لتلطيف العقول، وترقيق للمشاعر، وذريعة لوهن الأبدان، والانثناء أمام الصعاب، أما هو فقد صمم حياته لكي تكون "تدريبا إسبرطيا للانضباط الذاتي".
يُحذر من التأويل المفرط إلا بقرائن دالة، ولا يُحمد تقويل نصوص الأدب لإثبات حجّة أو نفيها، فليس الأدب وثيقة اتّهام أو محضر تحقيق، غير أنّ كتاب "اعترافات قناع" الذي ظهر بعد هزيمة اليابان في الحرب بخمس سنوات، يعدّ الكتاب الأكثر تعبيرا عن كاتبه؛ لأنه الأكثر إيغالا في فهم العالم الداخلي لمؤلّفه، ففيه استبطان للتعصب الذي لفّ عالما مهزوما ليس يحتاج للتأسّي، بل الأفول من غير أمل في ظهور عالم بديل له، وقد وُصف الكتاب بأنه معتم، ووحشي، وفيه مغالاة في تمثيل الاخفاق، ومدوّنة اعتراف قاسية موضعها الذات قبل الآخر، وفيه أمنية صريحة بتدمير النفس. ولعلّ ذلك كناية عن منحى في التفكير يذهب بالمؤلّف إلى التصريح بقوة الاعتراف، ولكن من خلف قناع.
وفي روايته "حبّ محرّم" عالج ميشيما أمر الكتابة باختياره روائيا بطلا لها، بما يكشف التداخل بين حياته العامة والخاصة، فتلك كناية سردية عن حاله، فقد استغرقته شؤون الكتابة وشؤون الحياة حتى فقد نفسه، وعاش البطل بين نساء تجاذبتهنّ الأهواء، ما ولّد عنده شعورا بالانتقام. حدث ذلك على خلفية من أوضاع قلقة لمجتمع انخرط في تحديات ثلمت قيمه الثقافية والتاريخية، وفقد بطل الرواية "شنسوكي" بريق الحياة التي تعثّرت به، وأصبحت "حياته خالية مما يستحق أن يدعى هواية. حتى أنه لا يؤمن بالهواية أصلا، ويجهل تماما خاصيتها المهمة: أي تقدير العلاقات المادية التي تربطه بشكل وثيق مع غيره، فلازمه هذا النقص الحاد في الموضوعية الذي اقترن بمحاولات غير بارعة، ومتشنجة، عند إقامة علاقة بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي، وأضفى طابعا من الحداثة والسذاجة، حتى على أعماله التي أنجرزها في أعوامه الأخيرة، والتي كانت لها عواقبها الخاصة. فهي استوحت قوتها من مقومات رواياته الأساسية: الأحداث الدراماتيكية التي تنشأ نتيجة تصادم الإرادة البشرية؛ والصور الطريفة؛ والالحاح على رسم الشخصية الانسانية: عناصر تقتات كلها من الخصومة القائمة بين الإنسان وعالمه. وعلى الرغم من سجل الإنجازات هذا، بقيت بعض الانتقادات اللاذعة تتردّد في الإعلان عنه ككاتب عظيم".
يصحّ القول بأن حياة ميشيما لم تنقطع عن جوهر رواياته، فقد رسم صورا لمجتمع تتدهور قيمه، وتنحط مثله العليا، وتتأزّم شخصياته، وارتسم الخذلان فيه بأثر من العقاب الذي أحاله مجتمعا كسيحا، إذ دُمّرتْ الهيبة الإمبراطوية، وما عاد الإمبراطور نفسه امتدادا للإله، وارتسم للموت ألف وجه في حال جماعات أنهت حياتها رفضا للرضوخ، ومقاومة للإذعان، فلا عجب أن تكون نيّة الموت حاضرة في رواياته، ليس الموت باعتباره مآلا طبيعيا لحياة آفلة، بل الموت باعتباره خيارا يستعدّ المرء له، ويقبله مختارا، ويبحث عنه بوصفه شرفا خالدا. يصحّ اعتبار روايات ميشيما مرايا متشظية لأحواله وأحوال مجتمعه، وفيها حساسية مستعرة تجاه كل ما ثلم الهوية التقليدية لبلاده، وما يخدش رؤيته للحياة القائمة على تلازم القوة والثقافة، فلا عجب أن يتطابق مع مثله العليا، ورؤيته لنفسه، في اقتراح نهاية توافق حالة عدم الانسجام مع مسار صار ينأى به وبرؤيته عن الواقع.
يصحّ القول بأن حياة ميشيما لم تنقطع عن جوهر رواياته، فقد رسم صورا لمجتمع تتدهور قيمه، وتنحط مثله العليا، وتتأزّم شخصياته
قال كاواباتا "لا يظهر كاتب له وزن ميشيما إلا مرة كل قرنين أو ثلاثة قرون" غير أنه من الضروري الإقرار بأنّ ربط وقائع روايات ميشيما بالأحداث التاريخية لمجتمعه، وإقامة صلة مع شخصيته الحسّاسة، سوف ينتج عنه جملة من الأقوال المتضاربة حول واقعة الانتحار، فضلا عن التأويلات المفسّرة لها، وذلك يطمس الواقعة لأنه يربطها بنزوع ثقافي عام، واحتجاج شخصي على تدهور أحوال أمة، فلا يحقق المطلوب، لأنه ليس تقريرا حول حادثة انتحار، بل إدراج الحادثة في سياق ثقافي واجتماعي، ولا تتفرّد هذه الحادثة عن سواها من حوادث الانتحار بهذا الطوق المجازي والسجالي الذي يحجبها، ويدفع بها إلى الوراء، فهذا ما وقع في الغالب مع حدوث حالات مماثلة قبل ذلك.
طرح انتحار ميشيما على بساط الموت مفهوما جديدا للبطولة، لم يُطرق من قبل، فقد كان البطل في الأزمنة القديمة يفتدي قومه بنفسه في حرب، لأنه جزء منه ومن قيمه العامة، وهو أمر يلاحظ في حالة أبطال الملاحم، وفي سير الفرسان، في سائر الآداب والتواريخ، غير أن هذا المفهوم تعرض للتغيير، كما قال "هيغل" وأتباعه، في العصور الحديثة؛ إذ انشق البطل عن جماعته، واستغرق في ذاته، وشغل بها أكثر من انشغاله بالجماعة التي ينتمي إليها، فما عاد مهيئا لافتدائها بنفسه، وإذا كان البطل الأول هو بطل الملحمة، فإن الثاني هو بطل الرواية، وهما علامتان دالتان على مشروعية التمثيل السردي في العصور القديمة والحديثة على حدّ سواء، لكن الفعل الذي أقدم ميشيما عليه، وهو إنسان حقيقي وليس نتاجا للتخيلات السردية، لا يمتثل للحالتين، فلم يفتد قومه بروحه حينما غزا الأمريكان بلاده، إذ كان في نحو العشرين من عمره، فيتطابق حاله مع حال الأبطال القدامى الذين يفتدون أممهم في مقتبل أعمارهم، ولا هو انكفأ على ذاته هاربا من المسؤولية الجماعية كما اعتاد على ذلك أبطال الروايات في الأزمنة الحديثة المشغولين بذواتهم وطموحاتهم الفردية، إنما بعد ربع قرن من هزيمة بلاده أحيا في نفسه رغبة في الثأر، ولكن ليس لينتقم من الأعداء، بل من نفسه، بدعوى فشله في إعادة تاريخ اليابان إلى الوراء، إلى حقبة ما قبل الهزيمة النكراء، حيث الأمجاد الثيوقراطية، وحيث ينحبس الزمن في ثقافة تقول بعصمة الأباطرة، ولا تستجيب للتغيرات التاريخية التي طرأت في العالم الحديث.