تاريخ الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية
فئة : ترجمات
تاريخ الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية[1]
بيتر آدمسون وريتشارد تايلور*
ترجمة د. أشرف منصور
ترجع بداية تاريخ الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية إلى بداية ظهور الإسلام نفسه. فقد كان الجدل اللاهوتي المثير فلسفياً؛ حاضراً خلال القرنين الأولين من ظهور الإسلام في 622م. وفي نفس ذلك الوقت كانت بعض أهم النصوص العلمية والطبية والفلسفية اليونانية تُدْرَس وتُوَظَّف في التراث السرياني، مع المنطق الأرسطي الذي كان يُستخدم في الجدل اللاهوتي [المسيحي]. ومع القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، ظهرت حركة ترجمة كبيرة متمركزة في بغداد وازدهرت للغاية هناك. واستجابة لذلك؛ بدأ الفلاسفة المسلمون والمسيحيون واليهود الذين يكتبون بالعربية في تقديم إسهامات مهمة لتراث التَّفلسُف، والذي ظل حيّاً حتى الآن. وقد كان قصر الخليفة من أهم الأماكن التي دار فيها الجدل والنزاع والتنافس بين أصحاب الديانات الثلاث حول المنطق والنحو واللاهوت والفلسفة. وقد تضمَّن هذا التراث الجدلي نقاشاً مركزاً وأصيلاً وحادَّ الذكاء لكل القضايا الفلسفية القديمة، التي كانت خمراً عتيقة لكن في زقاق جديدة، مثل أصل الكون وبنائه، وطبائع العناصر في العالم الفيزيائي، وعلاقة الكائنات البشرية بالألوهية المفارقة، ومبادئ الميتافيزيقا، وطبيعة المنطق، وأسس المعرفة، وسبيل الوصول إلى الحياة الأخلاقية الفاضلة.
وقد كان هذا العصر هو بداية ما يمكن أن نسميه مرحلة التكوين الكلاسيكية للفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية، والتي تغطي الفترة الممتدة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلادي. وأثناء هذه الفترة عمل المؤلفون الذين يكتبون بالعربية على استقبال وإعادة تفسير التراث الفلسفي اليوناني، خاصة تراث أرسطو. وقد وصل هذا الاتجاه إلى قمَّته في نهاية المرحلة الكلاسيكية مع الشروح الضخمة لابن رشد على مؤلفات أرسطو. لكن تضمنت هذه المرحلة التأسيسية أكثر من مجرد استمرار للتراث الفلسفي اليوناني؛ إذ كانت فلسفة ابن سينا هي الأكثر أهمية بالنسبة للتطورات الفلسفية اللاحقة في الإسلام. فقد كان واحداً من مفكرين كثيرين اشتبكوا مع الأفكار التي وضعها التراث الكلامي الإسلامي. وكان فرضاً لازماً على كل الفلسفات التي ظهرت بعد المرحلة الكلاسيكية التأسيسية أن تتعامل بطريقة أو أخرى مع فلسفة ابن سينا والتراث الكلامي. وفي حين لم يُكتب لمشروع ابن رشد في شرح وتوظيف أعمال أرسطو الاستمرار إلا في العالم اللاتيني والفلسفة اليهودية، فإن اهتمامات أخرى مختلفة هي التي وجَّهت تطور البحث الفلسفي بعد المرحلة الكلاسيكية [في العالم الإسلامي].
لقد ظهر العديد من الأفكار الفلسفية المهمة في العالم الإسلامي عبر اتجاهات متنوعة وعلى امتداد قرون كثيرة. ولا تقتصر الجوانب الفلسفية على أعمال فلسفية لمؤلفين مثل ابن سينا أو علماء الكلام، بل تمتد إلى أعمال تنتمي لأصول الفقه وتفسير القرآن والعلوم الطبيعية، وبعض الأعمال الأدبية ذات الموضوعات الأخلاقية والأدب السياسي. وغني عن القول إنَّ هذا المجلَّد الحالي لا يمكنه أن يغطي كل هذه الفروع. ولأسباب سيأتي تفصيلها تباعاً؛ فإن هذا «الدليل» يركز على المرحلة التكوينية من الفلسفة العربية الكلاسيكية، إلا أننا في الوقت نفسه نحاول أن نعطي لمحة عن ثراء وتَعَقُّد ذلك التراث ككل. إننا في هذا المجلَّد نهدف التعامل مع ثلاثة أنواع من التعقيدات التي تواجه أيَّ دارس للمرحلة الكلاسيكية [من تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية]: طبيعة المدوَّنة الفلسفية التي وصلت للعالم العربي الإسلامي؛ وطبيعة الفلسفة في العصر الإسلامي الكلاسيكي؛ وهذا العصر الكلاسيكي نفسه، باعتباره أصلاً لتراث فلسفي أصيل في العصور التالية.
الميراث اليوناني
لا يجب أن نفترض أن الفلاسفة في العصر العربي الإسلامي قد مارسوا عملهم من خلال قراءة مباشرة ومستقلة لأعمال أرسطو الأصلية، والأمر ينطبق كذلك على الفلاسفة الإسكولائيين المسيحيين. والسبب الواضح لذلك هو أن الفلاسفة «الأرسطيين» المشاهير في العصر الإسلامي كانوا يقرؤون أرسطو من ترجمات، تم إنجازها بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين، وهي فترة قصيرة نسبياً تمَّت فيها ترجمة معظم التراث اليوناني العلمي والفلسفي إلى العربية. والذي جعل حركة الترجمة ممكنة، هو نشاط سابق في الترجمة من السريان، والدعم المالي والأيديولوجي الذي وفره الخلفاء العباسيون، واختراع الورق بصفته أساساً مادّياً([2]). لقد كانت حركة الترجمة هي الدافع والمحفز الأهمية لنشأة الفلسفة في العصر العربي الإسلامي. فقد وضعت هذه الحركة المصطلحات الفنية التي استخدمها الفلاسفة بعد ذلك، بما فيها كلمة «فلسفة» ذاتها، وهي مستعارة بتحوير من الكلمة اليونانية philosophia، وكانت مثلها مثل حركة الترجمة إلى اللاتينية بعدها بقرون، مواجهة بتحدٍّ لا يقتصر على الترجمة، بل تضمن تفسير تراث فلسفي يوناني شمل أكثر من مجرد أعمال أرسطو. فلم يقتصر المصنفون في الفلسفة في العصر الكلاسيكي على قراءة أعمال أرسطو، بل قرأوا شروحاً يونانية على أعماله بالإضافة لأعمال أفلاطونيين محدثين مثل أفلوطين وبروقلس، إلى جانب مؤلفات في العلم اليوناني (خاصة في الطب، كما في علوم متنوعة من الفيزياء إلى التنجيم).
إننا نودُّ أن نلفت الانتباه إلى الأثر الحاسم لحركة الترجمة بتسميتنا لهذا المجلَّد دليلاً للفلسفة «العربية» لا «الإسلامية». إنها فلسفة «عربية» لأنها بدأت بنقل الفكر اليوناني بكل تعقيداته إلى اللغة العربية. والملاحظ أنها ليست فلسفة «العرب»؛ ذلك لأن القليل من الشخصيات التي سوف نتناولها ينتمي للعرب عِرقياً، والمثال البارز على ذلك هو الكندي، الذي أُطلق عليه «فيلسوف العرب»، وذلك لأنه كان استثناءً من بين فلاسفة لم يكونوا عرباً. وفي الوقت نفسه انتشرت الفلسفة مع انتشار اللغة العربية عبر أقاليم الإمبراطورية الإسلامية المتوسعة.
ويضاف إلى ذلك سببان مترابطان لتسمية ذلك التراث بالفلسفة «العربية» وليس «الإسلامية». والسبب الأول أن الكثير من فلاسفة ذلك التراث كانوا مسيحيين ويهوداً. وطائفة من أهم المترجمين كانوا مسيحيين، أمثال حنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين، وكذلك كان عدد من الفلاسفة مسيحيين، أمثال أبي بشر متى بن يونس، ويحيى بن عدي، اللذين كانا مع الفارابي أشهر شخصيات التيار المشَّائي في بغداد في القرن العاشر. كما بدأ التفاعل بين التراثين اليهودي والإسلامي مع الفلاسفة اليهود في القرن التاسع، أمثال إسحق الإسرائيلي وسعيد بن يوسف الفيومي [سعديا جاؤون]، واتضح بعد ذلك في أعمال الشهير موسى بن ميمون (انظر الفصل 16).
والسبب الثاني هو أن عدداً من الفلاسفة في هذه الفترة التكوينية، مثل الكندي والفارابي وابن رشد، كانوا مهتمين بصفة أساسية بالتعامل مع النصوص التي أنتجتها حركة الترجمة [شرحاً وتفسيراً وتأويلاً]، أكثر من اهتمامهم بتقديم فلسفة «إسلامية». وهذا لا يعني الإقلال من أهمية الإسلام بالنسبة للشخصيات التي يتناولها هذا المجلَّد؛ فحتى ابن رشد الشارح الأرسطي عن جدارة، والذي كان فوق ذلك قاضياً وفقيهاً بارزاً واختصاصياً في الشريعة الإسلامية، تعامل بتوسُّع مع العلاقة بين الفلسفة والإسلام. ولَمَّا كانت فلسفة ابن سينا قد تم استيعابها في التراث الكلامي الإسلامي؛ فيمكننا أن نشير إلى عدد من الفلاسفة «الإسلاميين» برزوا في هذا التراث. لكن مع ذلك تظل عبارة «الفلسفة العربية» تشير إلى تراث فلسفي يجد نقطة انطلاقه من حركة الترجمة([3]). ومن المهم الانتباه إلى بواعث هذه الحركة وخط سيرها، [وذلك للإجابة عن أسئلة مثل]: ما هي النصوص التي تُرجمت وما سبب اختيارها؟ كيف تم تحويرها في الترجمة؟؛ وذلك بدلاً من التسليم -كما كنَّا نفعل دوماً- بأن حركة الترجمة كانت مطَّلعة على كامل التراث اليوناني. ويتعامل الفصلان الثاني والثالث مع عدد من تلك القضايا والمسائل الفنية.
المرحلة الكلاسيكية
لم تكن الفلسفة العربية في مرحلة التكوين الكلاسيكية «أرسطية» بالكامل أو بصفة حصرية، على الرغم من إمكان إشارتنا بسهولة إلى وجود تراث مشَّائي سائد في المرحلة الكلاسيكية، بدأ في القرن العاشر مع مدرسة أبي بشر متَّى بن يونس في بغداد، وكان الفارابي هو أبرز ممثليها. اتجه هذا التراث نحو النظر إلى ممارسة الفلسفة على أنها بسط لأعمال أرسطو، وكان بذلك انعكاساً لتراث الشروح اليونانية، خاصة الشروح التي كتبتها الأفلاطونية المحدثة في مدرسة الإسكندرية. وقد قلدها الفارابي في وضعه لشروحه على أرسطو. وقد حذا حذوه فلاسفة إسبانيا الإسلامية؛ أي الأندلس (انظر الفصل الثامن)، وقد وصل التراث المشَّائي العربي إلى ذروته مع ابن رشد (الفصل التاسع).
لكن لم يقتصر التراث الفلسفي اليوناني على أعمال أرسطو وشُرَّاحه، إذ ضم أعمالاً أصيلة للأفلاطونيين المحدثين. والحقيقة أنه من المستحيل إقامة خط فاصل بين أثر الأرسطية وأثر الأفلاطونية المحدثة في الفلسفة العربية. ومن المعتاد الإشارة في هذا الصدد إلى ما يسمى «أثولوجيا أرسطوطاليس» Theology of Aristotle، والتي كانت في حقيقتها نقلاً تحويرياً لفقرات من تاسوعات أفلوطين. لكن الأهم من ذلك هو النزعة الأفلاطونية المحدثة التي ترسخت داخل التيار الأرسطي نفسه: فباستثناء الإسكندر الأفروديسي، كان كل شراح أرسطو اليونان من الأفلاطونيين المحدثين. وبذلك كانت الأفلاطونية المحدثة قوة دفع هائلة في الفلسفة العربية، وقد أكَّدنا على أهميتها في هذا المجلَّد. وتوضح فصول عديدة تالية أن قائمة الأعمال الفلسفية التي ورثها التراث العربي كانت صنيعة الأفلاطونية المحدثة (الفصل الثاني)، وكيفية توظيف الفارابي لهذه القائمة (الفصل الرابع). ويتناول الفصل الثالث عن الكندي أثر الأفلاطونية المحدثة في الفكر العربي المبكر، في حين يتضح تأثيرها التالي على الإسماعيليين وابن سينا والسهروردي وابن عربي والملا صدرا [صدر الدين الشيرازي] في الفصول الخامس والسادس والعاشر والحادي عشر.
ويتمثَّل ملمح آخر هام للفلسفة العربية الكلاسيكية في أثر علم الكلام على الأعمال الفلسفية العربية. وقد بدأ هذا الملمح أيضاً مع الكندي. وحتى أولئك الفلاسفة (أمثال الفارابي وابن رشد) الذين استبعدوا علم الكلام باعتباره صورة خطابية وجدلية من الفلسفة الحقَّة، شعروا بالحاجة للرد على المتكلمين. فقد استثار هؤلاء الفلاسفة أفكار المتكلمين المستقلة*، ويتناول الفصل الرابع عشر مثالاً على الجدل المثمر بين الفلاسفة والمتكلمين فيما يخص العلم الطبيعي. كما استثار الفلاسفةُ هجومَ المتكلمين المباشر على التراث الفلسفي من وجهة نظر «كلامية». ويبرز في هذا السياق الغزالي؛ الذي كان أهم الثقات في اللاهوت الإسلامي، ويشغل اهتماماً خاصاً منَّا لتبنِّيه لبعض الأفكار الفلسفية ونقده للبعض الآخر (الفصل السابع). ولولا تجنُّبنا لزيادة حجم هذا المجلَّد فوق حجمه الكبير؛ لكنَّا ضممنا مؤلفين كثيرين نقدوا تراث الفلسفة، مثل ابن تيمية. كما أن معالجة الأهمية الفلسفية للتراث الكلامي وحده كانت ستتطلب منَّا فصولاً أخرى عديدة، فقط لتوفيه بعضاً من حقه([4]). لكن البعض من أهم الأفكار الكلامية تناولناها في هذا المجلد، مثل مشكلة الصفات الإلهية والحرية الإنسانية، وذلك في سياق ردود الفلاسفة على آراء المتكلمين فيها.
=
وتتصف كل هذه العوامل بأهمية خاصة لفهم الإنجاز الأهم للمرحلة الكلاسيكية، وهو مذهب ابن سينا الأصيل، الفيلسوف الأكبر في هذا التراث**. وللتعرُّف على هذا الإنجاز؛ فقد خصصنا لابن سينا فصلاً كبيراً (السادس). وهو يوضح أن ابن سينا يجب فهمه في سياق المرحلة الكلاسيكية كما وصفناها: فهو وريث تراثِ الأفلاطونية المحدثة في فهمه لأرسطو، كما أنه يشتبك مع إشكاليات كلامية في الوقت نفسه. وبالطبع فيمكن للمرء أن ينظر إلى الفلسفة العربية على أنها التراث الذي يؤدي إلى ابن سينا، ثم الذي يصعد منه بعد ذلك. ومثله مثل كانط في الفلسفة الألمانية وأفلاطون وأرسطو في الفلسفة اليونانية، فقد أثَّر ابن سينا في كل من جاء بعده في الفلسفة العربية.
تراث ما بعد ابن سينا
الواضح أن تعريف تراث الفلسفة العربية بتلك الطريقة السابقة منقوص، من جهة إغفاله لتلك الجوانب من الفلسفة السابقة على ابن سينا والتي لم يذكرها هو([5]). لكن على الرغم من ذلك؛ فهي طريقة نافعة للغاية لفهم الفلسفة العربية في العصور التالية. فابتداءً من وفاة ابن سينا في القرن الحادي عشر؛ أشارت أغلب الأعمال الفلسفية إليه، وعادة على سبيل النقد. لقد ألمحنا إلى النقد الموجه من وجهة نظر كلامية. وكذلك ابن رشد، فقد وجَّه إليه نقداً من وجهة نظر أرسطية، على الرغم من أن ابن سينا شكَّل تأثيراً كبيراً في غيره من الفلاسفة الأندلسيين الكبار أمثال ابن طفيل (الفصل الثامن). وشهدت المرحلة الكلاسيكية المتأخرة تطوراً لاحقاً تمثل في نقد آخر لابن سينا ومحاولة لتطويعه لأغراض أخرى، مثل فلسفة السهروردي المميزة التي افتتحت الاتجاه المسمى بالإشراق (الفصل العاشر).
شكلت مذاهب ابن سينا والسهروردي وتراث علم الكلام المتواصل وتصوُّف شخصيات مثل ابن عربي دافعاً قوياً للمفكرين في الحقبة ما بعد الكلاسيكية. وعند هذه المرحلة لم تعد حركة الترجمة الحافز المباشر للتفكير الفلسفي، بل صار الحافز داخلياً من مفكرين إسلاميين. تقدم لنا الحقبة ما بعد الكلاسيكية كمَّاً هائلاً من الأعمال الفلسفية، معظمه غير مُحرَّر وغير مدروس من الباحثين الغربيين. وفي هذا المجلَّد لم يكن من الممكن إلا الإشارة السريعة لهذا الكم الهائل، بالتركيز على بعض الأعمال المتاحة منه، سواء المترجَمة أو المدروسة في الأدبيات الثانوية، والدالَّة على التيارات البارزة فيه. ونأمل بتوجيهنا لبعض الانتباه لهذه التطورات اللاحقة في تشجيع القارئ على المزيد من البحث في تلك الفترة. لقد قيل إن «العصر الذهبي» للفلسفة العربية يبدأ من عصر ما بعد ابن سينا، مع مفكرين كثيرين شرحوا أعمال ابن سينا أو كتبوا عنه على الأقل([6]). إن دليلاً للفلسفة العربية يمكنه أن يظهر بشكل يختلف كثيراً عمَّا قدمناه إذا ما تم فحص كل هذه المادة. لكن من أجل هدفنا في هذا المجلَّد؛ فقد ركزنا على استقبال فلسفة ابن سينا. وبذلك فحصنا بعناية تراث ابن سينا ومصادره (الفصل السادس). ويتناول فصلٌ آخر؛ السؤالَ المتعلق بما إذا كان يمكننا النظر إلى المذهب السينوي الذي يمثله فيلسوف فارسي آخر هو الملا صدرا [صدر الدين الشيرازي] على أنه فلسفي أم لا، بالنظر إلى الجوانب الصوفية لمذهبه (الفصل الحادي شعر). والفصل يوضح أننا يمكن أن نفهم صوفية الملا صدرا باعتبارها الجانب العملي الملازم لأفكاره الميتافيزيقية النظرية عالية الاختصاص. ويأتي الفصل الأخير بمجلَّدنا إلى العصر الحاضر، متتبِّعاً موضوعات اهتمام الفلسفة العربية والفارسية الأخيرة من جذورها في الاتجاه الإشراقي وصيغة الملا صدرا من المذهب السينوي (الفصل التاسع عشر). وتوضح الفصول: العاشر والحادي عشر والتاسع عشر؛ أن الاتجاه الإشراقي المتأخر، والذي كان يُنظر إليه دائماً على أنه محكوم برؤية صوفية وبالمجاز الرمزي، يتضمن تحليلات عقلانية وفلسفية في جوهره.
كانت هذه خطوط عامة توضح معالمَ التغطية التاريخية التي نود تقديمها في هذا الدليل([7]). وبالرغم من ضرورة الطريقة التاريخية في عرض المادة ومناسبتها لإرشاد القارئ، إلا أن أهدافنا الأساسية تظل فلسفية. إذ نودُّ وضع يد القارئ لا على مجرد الطريقة التي تطور بها هذا التراث الفلسفي، بل كذلك وفوق كل شيء التعرف عن قرب على الأفكار الأساسية التي ظهرت في سياق هذا التراث. وبالطبع فالكثير من هذه الأفكار متضمَّنٌ في الفصول المخصصة لفلاسفة معينين. لكن كي نوفي الأفكار حقها؛ فقد خصصنا خمسة فصول للمجالات العامة للفلسفة، مرتَّبة وفق التعليم الفلسفي في العصر القديم المتأخر، والذي وصل إلى التراث الفلسفي العربي (الفصلان الثاني والرابع يتناولان المنطق والأخلاق([8])، والفلسفة الطبيعية أو الفيزياء، وعلم النفس، والميتافيزيقا([9])). وفي حين كان بعض التكرار في هذه الفصول مع السابقة حتمياً، فإنها تتناول موضوعات خاصة لم تتعرض لها الفصول الأخرى (انظر على وجه الخصوص فصل المنطق وفصل العلم الطبيعي)، وتضع هذه الموضوعات في سياقات أكبر يوضح تطورها الفلسفي. وسيكون الكثير من الموضوعات المطروحة مألوفاً لدارسي الفلسفتين المسيحية واليهودية الوسيطة. وليس هذا مصادفة؛ لأن الفلاسفة المسيحيين واليهود كانوا كما قلنا سابقاً منشغلين بالفلسفة العربية. إن أثر الفلسفة العربية في الفلسفة الإسكولائية اللاتينية موضوعٌ ضخمٌ قائم بذاته، وتم تناوله في عدد من المراجع([10]). ويشرح الفصل الثامن عشر الخلفية التاريخية لهذا الأثر، مُفصِّلاً انتقال الأعمال الفلسفية العربية إلى اللاتينية، تماماً مثلما يشرح الفصل الثاني انتقال الفلسفة اليونانية إلى العربية.
إن الفلسفة العربية أكثر تعقيداً من أن يغطيها مجلَّد واحد. وفي حين وضعنا في الصفحات السابقة مُبرِّرَنا لنقاط تركيز ونطاق هذا المجلد؛ إلا أننا لسنا ضيقي الأفق؛ إذ نعلم جيداً أن فلاسفة كثيرين ورد ذكرهم دون تفصيل وهم يستحقون فصولاً مطوَّلة لإيفائهم حقهم، ونعلم كذلك أنه من الممكن التوسع في العرض التاريخي والنسقي للأفكار. لكن كان هدفنا الأساسي هو تجنب التفاصيل. فالأحرى بنا أن نُهيئ القرَّاء لدراسة الفلسفة العربية، عبر تزويدهم بأساس قوي لمعرفة الشخصيات والأفكار الأساسية، لكن مع تعريفهم بأهم الموضوعات المثيرة للاهتمام الفلسفي في هذا التراث.
[1] - مقتطف من الفصل الأول مقدمة كتاب دليل كيمبردج، بيتر آدمسون وريتشارد تايلور، ترجمة أشرف منصور، مؤسسة مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.
* بيتر آدامسون Peter Adamson (م. 1972)، أكاديمي أمريكي، أستاذ فلسفة العصر القديم المتأخر والفلسفة العربية بجامعة لودفيج ماكسميليان Ludwig Maximilian University بميونخ. حصل على الدكتوراه سنة 2000 من جامعة نوتردام، وعمل لبعض الوقت في جامعة King's College London. نشر العديد من الدراسات حول فلسفة الكندي. من أهم دراساته: "The Arabic Plotinus: A Philosophical Study of the “Theology of Aristotle (2002) وسلسلة كتب في تاريخ الفلسفة بعنوان History of philosophy without any gaps.
ريتشارد تايلور Richard C. Taylor (م. 1950). أستاذ الفلسفة العربية بجامعة ماركيت Marquette University. تخصص في دراسة الأصول اليونانية للفلسفة العربية وتأثيراتها اللاتينية. أعد رسالته للدكتوراه سنة 1981 بجامعة تورونتو حول كتاب «الإيضاح في محض الخير» المنسوب لأرسطو، وأثره في الفلاسفة العرب واللاتين: The Liber de Causis (Kalām fī maḥḍ al-ḫayr). A Study of Medieval Neoplatonism. Diss. Toronto 1981. ترجم «الشرح الكبير على كتاب النفس» لابن رشد من اللاتينية إلى الإنجليزية، وهو المفقود في العربية، Averroes (Ibn Rushd) of Cordoba. Long Commentary on the De Anima of Aristotle. Translated with introduction and notes by Richard C. Taylor with Thérèse-Anne Druart. Yale University Press, New Haven 2009.
([2]) Gutas, D. Greek Thought, Arabic Culture: The Graeco-Arabic Translation Movement in Baghdad and Early Society (2nd–4th / 8th–10th centuries) (London: 1998).
([3]) حول هذه الطريقة في تعريف ذلك التراث الفلسفي، انظر D. Gutas, “The Study of Arabic Philosophy in the Twentieth Century,” British Journal of Middle Eastern Studies 29 (2002), 5–25.
* أي المستقلة عن الفكر الفلسفي اليوناني وخاصة الأرسطي منه، وغير المعتمدة على «البرهان» الأرسطي.
([4]) للمهتمين بالدلالات الفلسفية للتراث الكلامي، تمثل الدراسات التالية إسهامات هامة: B. Abrahamov, Islamic Theology: Traditionalism and Rationalism (Edinburgh: 1998); R. M. Frank, “Remarks on the Early Development of the Kalam,” Atti del terzo congresso di studi arabie islamici (Napoli: 1967), 315–29; R.M. Frank, “The Science of Kalām,” Arabic Sciences and Philosophy 2 (1992), 7–37; D. Gimaret, Théories de l’acte humain en théologie musulmane (Paris: J. Vrin, 1980); van Ess, J. [44] Theologie und Gesellschaft im 2. und 3. Jahrhundert Hidschra, 6 vols. (Berlin: 1991–5). Wolfson, H. A. The Philosophy of the Kalam (Cambridge, MA: 1976).
** من الواضح تحيُّز المؤلفين لابن سينا، خاصة آدمسون الذي تخصص في دراسته وأخرج عدداً كبيراً من الأبحاث حول فلسفته. هذا التحيز لابن سينا وتسميته بالفيلسوف الأكبر ومذهبه بالأهم والأصيل يأتي في نظر المؤيدين من خروج ابن سينا عن مجرد الشرح إلى التأليف المستقل والإبداع الفلسفي غير المسبوق في التراثين الأفلاطوني والمشَّائي، مع انفراد ابن سينا بمذهب فلسفي واضح المعالم ومختلف عن التيار المشَّائي العربي الذي يمثله الفارابي وابن رشد؛ بالإضافة إلى تأثير ابن سينا في كل اللاحقين، والمعلوم أن المشّائية العربية الإسلامية لم تمتد بعد ابن رشد، وأن الامتداد الوحيد للفلسفة في الإسلام كان هو الامتداد السينوي الشرقي على يد السهروردي والشيرازي ومدرسة أصفهان. لكن لكل منا فيلسوفه المفضل.
([5]) تشمل هذه الجوانب الأفلاطونية المحدثة لدى الإسماعيليين والعامري، ومدرسة أبي سليمان السجستاني (لإحالات على أعمالهم ولدراسات عنهم، انظر الفصل الثالث، هامش 33).
([6]) Gutas, “The Study of Arabic Philosophy,”; Gutas, “The Heritage of Avicenna: The Golden Age of Arabic Philosophy, 1000–ca. 1350,” in Janssens and De Smet, Avicenna and his Heritage (Leuven: 2002), 81–97
ومن أجل فحص أشمل لذلك التراث المتأخر، انظر Wisnovsky [261]..
([7]) ظهر عرضان للفلسفة العربية في دليلين آخرين: Druart [13] and Kraemer [27]..
([8]) لا يشاركنا كل المساهمين في هذا المجلَّد الاعتقاد بأن المبادئ الميتافيزيقية والإبستيمولوجية في الفلسفة العربية كانت موضوعة كأساس للأفكار الأخلاقية والسياسية، ذلك لأن مقاربة منهجية مختلفة مستوحاة من ليو شتراوس يمثلها محسن مهدي وتشارلز بتروورث، اللذان أسهما بتحقيقات ودراسات عددية في الحقل. ويتبع بتروورث في الفصل الثالث عشر هذه المقاربة. ولمعرفة المزيد عن الأعمال التي تسير في هذا الاتجاه؛ انظر قائمة المراجع في آخر المجلد تحت عنوان «الأخلاق والسياسة».
([9]) انظر على سبيل المثال، Ammonius, Commentary on the Categories, 5.31–6.22.. الحقيقة أن الأخلاق كانت علماً تعليمياً ابتدائياً في قائمة التعليم الفلسفي في العصر القديم المتأخر، لكن يختلف أمونيوس ويقر بأن المنطق يجب أن يُدرس أولاً، لأن أرسطو استخدمه لتقديم حججه في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس». وكان علم النفس بالنسبة لأرسطو جزءاً من العلم الطبيعي، على الرغم من أنه عولج دائماً على أنه حلقة الوصل بين الطبيعة وما بعد الطبيعة. وقد فصلناه في معالجة خاصة نظراً لأهيمته الخاصة في التراث العربي. للمزيد انظر، L. G. Westerink, “The Alexandrian Commentators and the Introductions to their Commentaries,” in Aristotle Transformed: The Ancient Commentators and their Influence, ed. R. Sorabji (London: 1990) , 325– 48. وللتعرف على قوائم التعليم الفلسفي في التراث العربي انظر الفصلين الثاني والرابع، وراجع Gutas [56], and Rosenthal [39], 52–73..
([10]) انظر على وجه الخصوص D. Burrell,“Aquinas and Islamic and Jewish Thinkers, in The Cambridge Companion to Aquinas, ed. N. Kretzmann ad E. Stump (Cambridge: 1993) , 60–84,، بالإضافة إلى دليل كيمبردج لدنس سكوت Duns Scotus والفلسفة الوسيطة.