تاريخ الموريسكيين: مأساة أقلية


فئة :  قراءات في كتب

تاريخ الموريسكيين: مأساة أقلية

 تاريخ الموريسكيين: مأساة أقلية

لدومنغيث أورتيث[1] Antonio Domínguez Ortiz وبرنارد فينسنيت[2] Bernard Vicent


الموريسكيون هم الأندلسيون المبعدون من بقايا الأمة الأندلسية المغلوبة الذين عاشوا تحت الحكم الاسباني بعد إجبارهم على اعتناق المسيحية زهاء قرن من الزمن؛ منذ أن سقطت آخر مدينة أندلسية غرناطة إلى أن أصدر الملك فيليبي الثالث سنة 1609 قرارا بطردهم من إسبانيا بعد محاولات متعددة ويائسة لإخراجهم من دينهم واعتناقهم المسيحية ولكن دون جدوى، الأمر الذي اضطرهم إلى مغادرة أراضيهم والاتجاه نحو الجنوب، حيث استقروا بأنحاء مختلفة من إسبانيا والبرتغال والمغرب العربي، بل وصل بعضهم إلى القارة الأمريكية.

وقد حظي موضوع الموريسكيين باهتمام كبير من طرف المؤرخين والباحثين الإسبان في السنوات الأخيرة، حيث صدر العديد من المؤلفات منها ما تمت ترجمته إلى اللغة العربية، ومنها ما زال ينتظر دوره.

ومن المؤلفات التي أثارت انتباهي كباحث مهتم بالموضوع كتاب تاريخ الموريسكيين: مأساة أقلية لدومنغيث أورتيث Antonio Domínguez Ortiz وبرنارد فينسنيت Bernard Vicent، ركزا فيه على الأقلية الموريسكية ومأساتها، والكتاب في 501 صفحة من الحجم المتوسط، يشتمل على مقدمة واثني عشر فصلا مع ملاحق وقائمة للمراجع، بنى المؤلفان كتابهما على إشكالية لخصها المُرَاجِع في قوله:

"هل أحرق مسيحيو إسبانيا بعض المسلمين الذين تمسكوا بالإسلام؟ نعم، حدث ذلك. هل كان أولئك الشهداء بالآلاف؟ لا بالقطع. كم كان عددهم؟ تقول الوثائق إنه لا يتجاوز بضع عشرات. هل يعني هذا عدم ارتكاب جريمة؟ لا. من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا. ما الفرق إذن بين الحديث عن قتل الآلاف وقتل العشرات؟ الفرق يكمن في أن المبالغة تفقد الموضوعية، إذا تحدثنا فليكن حديثنا مبنيا على الوثائق، يستطيع كل منا أن يدلي برأيه كما يشاء، لكن دون التخلي عن لغة الأرقام"[3].

ولهذا يعتقد المؤلفان أن في مثل هذه الظروف قد يكون من المفيد تجميع نتائج كل الأبحاث والدراسات التي سبقتهما مضافا إليها نتائجهما الخاصة، وبالطبع فهما لا يدعيان أنهما قد عالجا الموضوع من جميع جوانبه، لأن هناك الكثير من المجالات التي استبعداها من هذا البحث، إما لكونها موضوعات متخصصة أو لكونها مشهورة جدا. (ص21)

هكذا يحاول المؤلفان في هذا الكتاب معالجة قضية الموريسكيين ودراسة تاريخهم بشكل موضوعي ودقيق يعتمد على الوثائق، ويتحدث بلغة الأرقام، مع التحرز من إسقاط أحداث لم تقع إلا في الوقت الحالي، فهذا ليس تاريخا في نظره، فضلا عن تحليهما بالثقة والإيمان.

ينقسم الكتاب، كما قلنا، إلى اثني عشر فصلا، يتناول الفصل الأول تاريخ الموريسكيين بين عامي 1500 و 1568، وهي المرحلة التي شهدت نهاية التعايش السلمي والقيام بعمليات التنصير الإجباري وصدور قرارات الحظر، ويتبين كيف أن تلك الفترة التاريخية شهدت كذلك الهدوء والاستقرار، يتعرض الفصل أيضا لموضوع قيام بعض الأتراك والمغاربة بمهاجمة سواحل إسبانيا، وهو ما يعرف بمشكلة القراصنة، وتناوله مؤرخونا على أنه "جهاد بحري"[4].

أما على مستوى العلاقة بين المسيحية والإسلام، فإن المؤلفين يتبنيان هنا وجهة نظر مسيحية خالصة، لأنهما يتأسفان كون الموريسكيين لم يعتنقوا المسيحية، ويريان بأن ذلك لم يكن بسبب تقصير السلطات الكنسية بل نظرا للمقاومة التي أبداها المسلمون، كما يتبنيان الرأي القائل بوجود مؤامرة كان الموريسكيون فيها طابورا خامسا، وهما هنا يعارضان قراءة ماركيث بيانويبا Marquith Bianueva للأحداث[5]. يقول المؤلفان في هذا الفصل:

"كان المسلم والمسيحي يتعايشان منذ زمن طويل في إسبانيا، وكان كل واحد منهما سيدا في أرضه، ويتعامل مع الآخر على قدم المساواة... ولكن منذ الثاني من يناير عام 1492 - وهو تاريخ دخول الملكين الكاثوليكيين غرناطة - أصبح المسلم في أي مكان من إسبانيا مهزوما، وإن كان الظاهر من الناحية القانونية أنه ما زال يتمتع بنفس حقوق المواطنة ويمكن الحديث عن وجود مزدوج للجماعتين.."[6]

أما في الفصل الثاني من الكتاب والمعنون ب: "تمرد موريسكيي غرناطة (1568-1570) فيتعرض فيه المؤلف لفترة زمنية ليست بالطويلة، ومع ذلك شهدت أحداثا مهمة تمثلت في ثورة مسلمي غرناطة، ويقسم هذه الفترة الصغيرة إلى أربع مراحل مرت منها الحرب:

- من ديسمبر عام 1568 إلى مارس عام 1569

- من نهاية مارس إلى ديسمبر من العام نفسه 1569

- ومن يناير عام 1570 إلى أبريل من العام نفسه.

- ومن أبريل إلى نونبر من العام نفسه.

مع تقديم بيانات عن عدد قوات كل فريق والمناطق التي اشتركت في الثورة، وقرار الموريسكيين الاستنجاد بالعالم الإسلامي والأتراك، وانتهاء الأمر بنفي مسلمي غرناطة إلى أقاليم إسبانية أخرى.

"في الأول من نونبر جُمع الموريسكيون عنوة من قراهم، حيث أجبروا على الهجرة نفيا إلى خارج مملكة غرناطة تحت حراسة مشددة، وهذا الإجراء كان في صورة مشروع منذ عدة سنوات، وكان قد قرر منذ عدة شهور ووضع في النهاية موضع التنفيذ، وقد شمل قرار النفي جميع الموريسكيين إلا قليلا منهم. لقد تم نفي جميع الذين حملوا السلاح ثم استسلموا، والذين لم يحملوا السلاح وكانوا يدعون موريسكيي السلام، دون أي تفريق بين الفئتين"[7].

في حين تناول الفصل الثالث موضوع التوترات بين المسيحيين والموريسكيين، وكيف أن هذا الجو المكهرب والمتوتر قد أفرز إشاعات وأخبارا لا أساس لها من الصحة من قبيل الاستعانة بالأتراك والبروتستانت، الأمر الذي عجّل باقتراح طرد الموريسكيين من إسبانيا نهائيا.

ويشير المؤلف في سياق حديثه عن النفي والطرد إلى أنه كانت هناك خيارات متعددة منها الطرد الجماعي للموريسكيين أو تحديد إقامتهم أو القضاء عليهم بشكل تدريجي. يقول المؤلف في هذا الصدد:

"ربما كان الإجراء أو الاقتراح الذي تغلّب على الاقتراحات الأخرى هو طرح فكرة الطرد العام، والذي بالإضافة إليه ظهر بإصرار كبير اقتراحان آخران: الاقتراح الأول يقضي بإنشاء أحياء مغلقة خاصة بالموريسكيين، والآخر يقضي بالقضاء التدريجي على الأقلية"[8].

وقد توقف المؤلفان عند الاقتراحين الأخيرين مشيرين إلى المؤيدين والعارضين لكل منهما.

كان هناك خيار آخر يقضي بإرسال الشباب الموريسكيين للقيام بأعمال شاقة مثل التجديف على أن يمنعوا من التغذية الجيدة، وهكذا ينتهي أمرهم بالانقراض.

أما الفصل الرابع من الكتاب، فيتناول التوزيع السكاني للموريسكيين في عدة مناطق كفالنسيا Valencia وأراغون Aragon وقطالونيا Catalonia وغرناطة Granada وقشتالة Castile وجزر الكناري، مشيرا إلى التزايد المهول لأعداد مواليد الموريسكيين، معتمدا في ذلك على إحصاءات دقيقة ووثائق مهمة تؤكد خصوبة الموريسكيين ومتوقفا عند الأسباب الحقيقية والواقعية وفي طليعتها الزواج المبكر.

وفي ختام هذا الفصل، يفجر المؤلفان مفاجأة مهمة تتمثل في أن عدد المسلمين الذين لم يشملهم الطرد كان أكبر مما كنا نظن حتى الآن، هذه النتيجة التي انتهى إليها المؤلف تفسر لنا سر بقاء التراث الأندلسي الإسلامي حيا في إسبانيا بعد تاريخ الطرد بقرون.

وفي الفصل الخامس، يعرّج المؤلفان على موضوع ذي أهمية بالغة يتعلق الأمر بالحياة الدينية عند الموريسكيين، فيتعرضان لعباداتهم ونشاط محاكم التفتيش التي يصفها الموريسكيون بأنها:

"محكمة الشيطان، رئيسها شيطان ومستشاروه إما مخادع وإما أعمى، وهم بذلك يقصدون الطابع السري لإجراءات محاكم التفتيش"[9].

كما يتبين بالوثائق أن حوالي 5% فقط من الموريسكيين هم الذين تعرضوا لإجراءات محاكم التفتيش.

الفصل السادس، يتناول فيه المؤلفان مهن الموريسكيين ومستوى معيشتهم، فيقولا إنهم كانوا يزاولون أعمال الزراعة والعمارة وأعمال المعادن والتجارة ونقل البضائع وأعمال الجلود وصناعة الألعاب النارية وغيرها. ويحاول المؤلفان في هذا الفصل قراءة بعض الوثائق والمستندات، ليستنتجا في الأخير بأن الموريسكيين لم يكونوا كلهم فقراء، وهذا يتعارض مع الفكرة المتداولة عنهم.

"والآن من الواضح أن وجود موريسكيين أثرياء، بل وبصورة واضحة أغنياء، أمر قد تم إثباته".[10]

وفي الفصل السابع المعنون بالمعايشة الصعبة، يتحدث المؤلفان عن صعوبة التعايش بين الموريسكيين والمسيحيين بسبب الحقد والتعصب والضغينة، ويخلصان إلى القول إن المشاكل في معظمها كانت دينية، وهذا هو التفسير الصحيح والموضوعي.

ومما لا شك فيه، أن جسور الصداقة بين طبقة النبلاء الموريسكية والمسيحية لم تنقطع أبدا، فها هو كوسمي بن عامر الذي ينتمي لعائلة نبيلة وغنية في الوقت نفسه، قد لعب دورا عسكريا مهما في القضاء على حركة الجماعات ولم يشترك في تمرد 1526 ومقابل إخلاصه الشديد اعترفت السلطات المسيحية بأصله النبيل وبحقه هو وأحفاده في حمل السلاح.[11]

انتقل بنا الكاتبان بعد ذلك، إلى الفصل الثامن وعنوناه بالمقدمات السابقة على الطرد عالجا فيه عملية الطرد، وأوردا الأسباب التي أدت إليه والإجراءات التي اتخذتها السلطات الإسبانية تمهيدا له، ثم تعرضا بعد ذلك لفكرة كون فيليبي الثالثPhilip IIIهو الذي كان وراء فكرة الطرد وينفيانها، وينفيان كذلك أن يكون دوق ليرما - الذي كان متحدثا باسم النبلاء - هو الذي أوحى إلى الملك باتخاذ القرار، مشددين على ضرورة الدراسة العميقة لنفسية فيليبي الثالث Philip III ومعرفة النفوذ الذي كان يمارس عليه، لكي نفهم سبب إصداره قرار الطرد، والذي تراجع والده أمام خطورته، ويجب على الذين يرون في فيليبي الثالث Philip III ملكا متشبثا برأيه ومتطرفا دينيا أن يفسروا لماذا عامل الموريسكيين بقسوة أقل من ابنه الذي ينسبون اللين إليه.

وبدلا من أن يجيب المؤلفان عن هذا التساؤل، أضافا أسئلة أخرى وطرحا إشكاليات وقضايا نحن بحاجة إلى توضيحها وتفسيرها وأخذ موقف نهائي منها.

الفصل السابع بعنوان: النفي، يتحدث فيه المؤلفان عن موقف النبلاء المؤيد للموريسكيين، والذين اجتمعوا لتقديم تقرير يوضح الخراب الذي يعنيه إجراء الطرد والنفي، ولم يكن الحاكم يستطيع أن يقرر شيئا ولهذا أرسل اثنين من الأعضاء إلى العاصمة، فتحدثوا بحرية كاملة عن الخراب الذي يهددهم والامتيازات التي سيفقدونها والإجراءات التي يمكن اتخاذها لتجنب المخاطر التي ستنجم عن تطبيق ذلك الإجراء، كما أنهما تحدثا قائلين: إذا كان يجب عليهم التنازل عن تلك المملكة التي استولوا عليها، فإن على صاحب الجلالة أن:

"يرشدهم إلى أرض أخرى يمكن الاستيلاء عليها من جديد، لكي يعيشوا بما يوافق وضعهم الاجتماعي وبثروة كافية، أو أن يموتوا في القتال، حيث يكون هذا أكثر شرفا من أن يموتوا من الفقر".[12]

كما يروي المؤلفان في هذا الفصل وقائع طرد الموريسكيين من قشتالةCastile وأندلوثياAndalusa ومرسيةMurcia وإكستريما دوراExtrema Dura، ثم يتحدثان عن المشاكل التي تعرض لها الموريسكيون عند وصولهم إلى البلاد الإسلامية دون أن يستندا إلى وثائق تدعم ما ذهبا إليه، حيث أشارا إلى الاستقبال السيء من جانب البربر (ص275)، فضلا عن أعمال العنف والسلب والنهب التي عانوا منها على يد بعض البدو في تلمسان وفاس، والأخبار السيئة التي بدأت تصل عن الذين رحلوا إلى شمال إفريقيا جعلت بعض الموريسكيين يشتركون في مقاومة يائسة (ص278).

النقطة المهمة كانت بشأن الأطفال الذين لم يبلغوا سن الرشد، وقد كان هذا موضوعا شائكا، حيث أمر الآباء بترك أبنائهم الذين تقل أعمارهم عن سبعة أعوام، إلا إذا كانوا سيذهبون إلى بلاد مسيحية، وقد كان هذا هو السبب في قطع الكثيرين لطريق طويل إلى شمال إفريقيا عن طريق فرنسا أو إيطاليا، وعلى الرغم من هذا فقد بقي ثلاثمائة طفل في إشبيلية فقط، حيث تكفلت الكنيسة بإطعامهم وتعليمهم ومن ثم تنصيرهم طبعا (ص283).

يذكر المؤلفان أيضا في هذا الفصل أن ريبيراRibera قد ألقى موعظة شكر في الكاتدرائية تنبأ فيها بالصعوبات التي ستواجه إسبانيا بعد طرد الموريسكيين، وأنه أشار إلى الأضرار التي ستنتج عن ذلك، وأن بقاء الموريسكيين سيكون أفضل من نفيهم عنها.

الفصل العاشر المعنون بالآثار الاقتصادية لطرد الموريسكيين التي نتجت عن عملية الطرد وبالضبط في مجال الزراعة، وقد اعترف بهذه الآثار السيئة مؤيدو قرار الطرد قبل معارضوه، عارضا آراء المؤرخين حول الموضوع ومستخدما لغة الأرقام والإحصائيات.

فهذا أحد الرهبان الفرنسيسكيين هو خوان دي سولاناJuan de Solana يكتب مقالا في سبع نقاط حول أمراض إسبانيا، وعندما وصل إلى النقطة الخامسة بنقص الأيدي العاملة والفقر، لم ينس أن يذكر طرد عام 1609، وقد علق عليه بأنه:

"إجراء كان دافعه التقوى، ولكنه في الأمور الدنيوية سبب نقصا كبيرا، وأن الناس الذين لديهم أرض زراعية لا يجدون من يزرعها لهم وهكذا يوجد فقر كبير".[13]

أما الفصل الحادي عشر، فيتناول فيه الكتاب الفضاءات والأماكن التي هاجر إليها الموريسكيون مثل فرنسا وإيطاليا وتركيا وشمال إفريقيا المسلمة.

والذي يهمنا من هذه القراءة هو هذا الجزء الأخير من المهجر الموريسكي وأعني به شمال إفريقيا وبالضبط المغرب، وذلك لأن هذا البلد هو الأقرب إلى إسبانيا والمشابه في كثير من المجالات المعيشية ومن ناحية السلالة، وهو منذ زمن بعيد يستقبل جماعات من الأندلس، وكل إقليم أو مدينة احتلها المسيحيون تعني هجرة جديدة يزداد معها فقر الأندلس وغنى البلد المستقبل الذي يحتضن حرفيين وتجارا وعلماء ورجال سياسة ودولة.

كان المغرب في بداية القرن 17 شبه معزول عن العالم الخارجي، وبوصول موجات كبيرة من المهاجرين والمرتدين إليه انتقلت إليه لمحات من التقنية الغربية التي كانت كافية لإبعاد المغرب عن الدول النامية من حيث التقدم، وكان أغلب الموريسكيين الذين وصلوا إليه سنة 1610 من أندلوثياAndalusa وقشتالةCastile وأكستريما دوراExtrema Dura، وقد وصلوا في وقت كان فيه الوضع السياسي خطيرا جدا، حيث مات أحمد المنصور الذهبي وما تبع ذلك من أحداث وصراعات سياسية بين المولى الشيخ وأخيه المولى زيدان، ثم لجوء الأول إلى العرائش وبعد ذلك إلى إسبانيا لطلب الدعم مقابل تسليم العرائش عام 1610، ثم بعد موت أخيه أصبح المولى زيدان عدو إسبانيا - الملك الوحيد -.

أما العدد الإجمالي للموريسكيين الذين وصلوا إلى المغرب، فقد بلغ 40 ألفا بقي أغلبهم على مشارف سبتة وتطوان وغيرها من الموانئ القريبة من مضيق جبل طارق وذلك:

"ليتنفسوا هواء إسبانيا، ولم يستقبلوا بترحاب، فقد وصلوا بثيابهم الإسبانية ولغتهم القشتالية، وقد مزجوا أسماءهم وألقابهم المسيحية مع الإسلامية، أما اعتناقهم الإسلام، فلم يحقق لهم ثقة السكان الأصليين، حيث كانوا يدعونهم مسيحيي قشتالة Castile".[14]

جنّد المولى زيدان عدة آلاف من الموريسكيين في حربه ضد أخيه المولى الشيخ، وعندما هزم هرب الموريسكيون إلى الجبال. أما الذين لم يشتركوا في الحرب، فقد اختلطوا بالسكان المدنيين في طنجة وتطوان والعيون وفاس وسلا والرباط.

أما الرباط، فقد عاشت فترة من الازدهار في عهد الموحدين، ومع قدوم الموريسكيين الذين أقاموا فيها ما يمكن أن نسميه جمهورية مستقلة من القراصنة (ص360)، وذلك لفترة طويلة، فبعد تسليم العرائش أصبحت العدوتان سلا-الرباط هي الميناء المغربي الوحيد تقريبا على المحيط الأطلنطي، حيث تم تحويله إلى قاعدة للقرصنة.

أما بتطوان، وهي المدينة الأكثر تمثلا للطابع الأندلسي الكبير، فقد تم إنشاء حيين سكنيين (العيون والترانكات) لإقامة المهاجرين نتيجة طرد عام 1609، وفي ثلاثين عاما أنشأوا خمسة مساجد تحت إدارة شخصية أندلسية مهمة هي المعلم الجواعيدي وإليه ينسب أيضا إنشاء المئذنة الهيفاء لجامع العيون، ولم يقتصر أثر الفن الإسباني الموريسكي على المدن الساحلية، بل وصل حتى مدينة العيون.

والواقع أنه ليس كل جوانب الهجرة الموريسكية إلى شمال إفريقيا كانت إيجابية، فإلى جانب زيادة نشاط القرصنة يجب الإشارة إلى تجارة العبيد التي كانت إحدى المهن المفضلة لدى الموريسكيين، وتوجد الكثير من الشهادات التي تدل على أنهم في بعض الأحيان عاملوا العبيد بقسوة أكثر من السكان الأصليين المسلمين (ص374).

يتمحور الفصل الثاني عشر حول مسألة الوجود الموريسكي في إسبانيا بعد الطرد، وهو موضوع مهم للغاية، وهنا يتميز الكتاب عن غيره من الكتب التي لم يتوقف فيها مؤلفوها إلا نادرا عند هذا الموضوع، ويرى المؤلفان أن بعض الموريسكيين استطاعوا المكوث بإسبانيا بطرق مختلفة، استنادا إلى العلاقة الطيبة التي كانت تربطهم بالمسيحيين، ومن الموريسكيين من استطاع العودة من جديد إلى بلده الأم بعد طرده منه، فضلا عن أن فترة حكم فيليبي الرابع Philip IV قد شهدت مرحلة من الاعتدال سمح معها ببقاء بعض الجماعات من الموريسكيين.

"وبمجيء فترة حكم فيليبي الرابع Philip IV بدأت مرحلة من النسيان والاعتدال ضد رغبة أولئك الذين كانوا يعتقدون أنهم يرون موريسكيين في كل مكان، ويطالبون بإجراءات قاسية ضدهم، فلقد فرض الجهاز الحاكم الجديد سياسة الواقعية، وكان يعتبر أن قرار طرد جمهور كبير كان خاطئا إلى حد ما"[15].

يتضمن الكتاب عددا لا بأس به من الإشارات إلى بعض الوثائق المهمة، وبالتالي، فإن الكتاب مفيد بلا شك، ونحسب أنه يمثل إضافة إلى المكتبة العربية عموما، والموريسكية على وجه الخصوص.

يبقى في الأخير، أن نشير إلى أن مترجم الكتاب عبد العال صالح طه، وهو أحد مدرسي الأدب الإسباني في كلية الألسن - جامعة المنيا، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الأوتوما بمدريد University of Atuma، له دراسات جديدة حول الأدب الإسباني.

أما مراجع الكتاب فهو جمال أحمد عبد الرحمن، حاصل على درجة الإجازة العليا في اللغة الإسبانية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف سنة 1979، من كلية اللغات والترجمة، (جامعة الأزهر)، كما حصل على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة مدريد المركزية سنة 1989، وفي عام 2001 رقي إلى درجة أستاذ بقسم اللغة الإسبانية بكلية اللغات والترجمة (جامعة الأزهر)، له العديد من الكتب المترجمة والمقالات المنشورة في مصر والخارج حول موضوعات مختلفة من الأدب الإسباني والعلاقة بين الإسلام والثقافة الإسبانية.

ننتهي إلى القول بأن كتاب تاريخ الموريسكيين: مأساة أقلية جدير بالقراءة، ليس لأنه يقدم وجهة نظر مخالفة لم تتم معالجته من قبل، ومن قبل باحثين آخرين كغيير موغوثالبيث بوستوMugu Thalbit Busto في كتابه الموريسكيون في المغرب[16]، وخوليو كارو باروخا Julio Caro Barucha في كتابه مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492[17]، ومرثيديس غارثيا أرينال Mercedes García-Arenal في كتابها، شتات أهل الأندلس المهاجرون الأندلسيون[18]، وهي نظرة على أية حال قابلة للمناقشة والحوار، بل لأنه قراءة موضوعية ومنصفة لمرحلة دقيقة وحاسمة من مراحل الوجود الموريسكي بالغرب حضاريا وثقافيا وسياسيا. إن الكتاب صيحة مدوية في وجه كل مظاهر الاضطهاد والعنف والهمجية.


[1]- أنطونيو دومينغيث أورتيث Antonio Domínguez Ortiz: أستاذ التاريخ في عدة مراكز بحثية إسبانية، عضو الأكاديمية الملكية للتاريخ، حاصل على جائزة أمير أستورياس Princess of Asturias Awards في العلوم الاجتماعية (1982)، من أبرز المتخصصين في تاريخ الموريسكيين.

[2]- برنارد فينسنيت Bernard Vicent: حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ، جامعة باريس، وعلى الدكتوراه الفخرية من جامعة أليكانتي University of Alicante، متخصص في تاريخ الأقليات وفي العلاقة بين الإسلام والمسيحية، عضو مراسل للأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد، تولى عدة مشروعات بحثية في فرنسا وإسبانيا، وعدة مجلات علمية.

[3]- عن المقدمة: ص 7

[4]- رأفت غنيمي الشيخ: ارتباط خروج المسلمين من الأندلس بحركة الجهاد البحري الإسلامي في البحر المتوسط: "أعمال المؤتمر العالمي الخامس للدراسات الموريسكية الأندلسية حول الذكرى الخمسمائة لسقوط غرناطة" الجزء2، زغوان، تونس 1993

[5]- انظر: ماركيث بيانوبيا Marquith Bianueva: القضية الموريسكية من وجهة نظر أخرى، ترجمة عائشة سويلم: مراجعة وتقديم: جمال عبد الرحمن، المشروع القومي للترجمة - المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005

[6]- الكتاب ص 24

[7]- نفسه ص ص 71-72

[8]- نفسه ص 101

[9]- نفسه 153

[10]- نفسه 183

[11]- وردت قصة هذا الشخص في كتاب: "الموريسكيون الأندلسيون"، تاليف غارثيا أرينال Garcia Arenal، ترجمة وتقديم جمال عبد الرحمن، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة: 2003

[12]- Id.Id.Capitulo 48، نقلا عن المؤلف ص 273

[13]- BN.ms.2.471 (Folios 89-193) Tratado 3 "Causasde la mucha gente que falta en estos reinos Y de la gran pobreza que padecen.

نقلا عن المؤلف، ص ص 313-314

[14]- المؤلف: ص 359

[15]- نفسه ص 401

[16]- ترجمة: مروة محمد إبراهيم، مراجعة: جمال عبد الرحمن، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، 2005، العدد 726

[17]- ترجمة وتقديم: جمال عبد الرحمن، ط1، 2003، المشروع القومي للترجمة، العدد 597

[18]- ترجمة محمد فكري عبد السميع، مراجعة وتقديم جمال عبد الرحمن ط1، 2006، المشروع القومي للترجمة، العدد 1085