تجربة التنوير في عالم ما بعد الثورة
فئة : مقالات
1ـ السؤال حول تجربة التنوير في عالم ما بعد الثورة يقودنا طبعاً إلى الانتقال من وضعية ماهويّة تتعلق بفهم حقيقة التنوير، واستعادة الأطروحات الفلسفية حول التنوير ـ خاصّة أطروحات كانط من خلال جوابه الشهير عن سؤال ما هي الأنوار؟ أو من خلال مشاريعه النقدية الكبرى كما تجلت في ثلاثية نقد العقل ـ إلى وضعية نختبر فيها قدرتنا على تجريب التنوير في عالمنا العربي الذي داهمته ثورات شبه تلقائية، ربما سيحيلنا هذا السؤال إلى سؤال آخر هو: كيف يغدو التنوير ممكناً الآن في ظلّ هيمنة فكر سلفي سياسي ديني مناهض للعقلانية والحرية؟ بمعنى كيف يصير التنوير داخلاً في أفق إمكانيتنا على العيش داخل الفضاء المشترك لذواتنا الإنسانية؟
إذن نحن اليوم تحت تأثير هذه التحولات المجتمعية المتسارعة في عالمنا العربي التي كشفت عن نزعتين متناقضتين: الأولى ارتدادية انغلاقية مشدودة إلى الماضي السلفي، والثانية تحررية منفتحة على الفضاء الكوني، داخل وضعية إشكالية تتطلب منا الجواب عن مَهَام التنوير، وممارسة الفعل التنويري، وهذا ما لا يتأتى إلا عبر ما يمكن أن نسميه "تجربة التنوير" (expérience de lumière).
فما الذي نعنيه بتجربة التنوير؟
نعني بتجربة التنوير ذلك التمرن الضروري الذي يصير كينونتنا يقظة واعية بالمهام الملقاة عليها، للتخلص من الوضعية الغفلية التي نحياها، وتشل قدراتها على الممارسة الحرة. فالتمرن على التنوير شكل من أشكال المواجهة بين الذوات المجتمعية التي تريد اختبار إمكانية الحرية، بما هي ذوات إنسانية جديرة بالحق في الحرية، وبين نظام الوصاية الاجتماعي الذي يخضع الأفراد للتنميط الثقافي والاجتماعي والأخلاقي، وهو نظام متجذر في الثقافة العربية الإسلامية ذات المنبع الديني/ الاستبدادي.
ومن ثمة فتجربة التنوير تجبرنا على التمرن على الحرية، والتمرن على الحرية يقود من جهة إلى التمرد على الاستبداد، ويقود من جهة أخرى إلى التحرر الذاتي. إذن عبر التمرن على الحرية تنشأ كيفية مغايرة تمنح الكينونة إرادة الاقتدار على صياغة مصيرها؛ أي بناء ذاتيتها المتيقظة.
إذن، فتجربة التنوير تضع الكائن الإنساني بما هو حر واع برغبته أمام اختبار يواجه فيه مصيره الخاص، وهذه المواجهة الضرورية هي سبيله الوحيد الذي يقوده نحو التخلص من حالة العجز أو القصور الذي حال بينه وبين الفعل الذي تؤسسه رغبته الخاصة في أن يبتكر لوجوده أفقاً حراً.
ما تعلمنا إياه "تجربة التنوير" هو أنّ الوجود الإنساني الحر لا يمكن أن يكون خاضعاً لأيّة وصاية. فلكي أكون كينونة حرة لا بدّ من أن أسترد وعيي اليقظ، متسائلاً عن الموانع التي حالت دون أن أنكشف كعلة تأسيسية بانية لمشروعها الذاتي في أفق التجربة الإنسانية المشتركة، والتساؤل عن هذه الموانع يصير كل ذات واعية بما يجب أن تكون عليه، ويحثها بالتالي على التخلص من حالة الانحجاب القسرية الناتجة عن الخضوع للوصاية. في تجربة التنوير لن يغدو الرضى بالوجود المعطى سلفاً، سواء كان واقعة طبيعية أو واقعة اجتماعية سوى شكل من أشكال الوجود الغفل، أي شكل للعبودية الطوعية والراضية بعبوديتها.
وبالتالي فلن يغدو الكائن الإنساني في "تجربة التنوير" راضياً بما هو عليه، ومتقبلاً لنمط الحياة الثقافي المفروض عليه سواء من قبل المؤسسات الاستبدادية التي تحتكر فضاء الحرية من أجل الحفاظ على النمط الثقافي السائد الذي يجعل رعاياها راضين طوعاً أو كرهاً بتعطيل إرادتهم، أو من قبل أوصياء يجعلون من أنفسهم حراساً على المجال الديني والأخلاقي أو اللغوي والإبداعي، وبالتالي فهم يقدمون نموذجاً منمطاً لما يجب أن يكون عليه الكائن البشري في حياته الدينية والأخلاقية واللغوية أيضاً. وهكذا يظهر الداعية لا لكي يسهم في إشاعة الأمن الروحي من خلال الدعوة إلى المحبة والتسامح والتعايش والتضامن، وإنما ليعلي من ذاته كوصي يحتكر الدين لصالح تأويلاته الإيديولوجية الضيقة التي يحرّم أو يجيز من خلالها ما يراه شرعياً، حتى ولو كان مخالفاً لروح القوانين ومبادئ حقوق الإنسان والمواطنة.
كما يظهر الأصولي اللغوي الذي يبرر دعواه بالحفاظ على اللغة العربية وقداستها من أجل الحد من الثورة على أسلوب الأعرابي/ صانع العالم العربي، كما يقول الجابري، وبالتالي يقوم بدوره بإعادة إنتاج نمطية لغة عربية لا تستجيب للتحولات العميقة التي يعرفها العالم اليوم، سواء التحولات المعرفية الناتجة عن التلاقح اللغوي، أو عن التحولات السياسية والاجتماعية المتجددة التي تفترض إحداث ثورات جذرية داخل البنية الاستبدادية الحسيّة للغة العربية. ومن ثمة فالأصولي اللغوي يرى في إبداع الشاعر أو الروائي الحداثي، أو في لغة الصحافة والتلفزيون تهديداً لصرح اللغة العربية، ولا يرى فيه تعبيراً عن أساليب إبداعية تخالف نمطية لغة بقيت حبيسة عصر تدوين صاغه عقل الأعرابي بحسيته التي لا تلائم سوى أسلوب حياة قبلي وعشائري.
إذن، نحن أمام صيغ جديدة بل أساليب مبتكرة تفرضها تجربة التنوير التي تقود الكائن البشري إلى ابتكار وجود حر يكون فيه راضياً برغبته الخاصة، مادام قادراً على صنع مشروعه التاريخي.
إنّ التنوير ليس مجرد فكرة خالصة نستدعيها لنتأمل أبعادها المعرفية الفلسفية، وإنما هو أسلوب حياة يعلمنا كيف نتخلص فيه من الوصاية، وكيف نمارس بحرية كيفية من كيفيات وجودنا، ليصبح هذا الوجود فضاء نبدع من خلاله فن عيشنا، ولنكون راضين برغباتنا التي تسهم في تنمية جسديتنا التي من خلالها وحدها نمتلك كفاية حل الوضعيات /المشكلة من غير تدخل الآخر أو من خلال رقابته التي تحد من نماء كل جسد حر.
2ـ عتبة دخولنا إلى فضاء الحداثة، أو بالأحرى الانتماء إلى فضاء الإنسانية المشترك، مشروط بهدم كل وصاية ذات طابع بطريركي استبدادي، وهو هدم يقتضي إعادة بناء الفضاء الاجتماعي على مبدأ المسؤولية لا على الوصاية. وهو الاختيار الذي ينمي الكائنات الإنسانية ككائنات حرة أو على الأقل بما هي جديرة بالحرية, لأنّ المسؤولية تقود إلى حالة الرشد، أمّا الوصاية فهي لا تقود إلا إلى حالة القصور أو العجز، ومن ثمة تغدو للتنوير قيمة أخرى تتمثل في التمرن على المسؤولية، بينما قيمة الوصاية بما هي عجز فلا تتمثل سوى في التعود على الخضوع.
فالتنوير هو شرط بزوغ نسق المسؤولية، والمسؤولية هي مجال نماء الوعي اليقظ الذي يسمح لكل ذات أن تختار استراتيجية للحياة، تكون فيها وحدها مسؤولة عن اختياراتها وعن مصيرها. فالمسؤولية تحول ضد اختزال الآخر في الذات، أو خضوع الذات لأي آخر، والمسؤولية من جهة أخرى توكيد للأنا ولإرادة الحياة. فأن تكون مسؤولاً معناه أن تنخرط في نسق المسؤولية الذي يحفز فيك، باعتبارك كائناً إنسانياً حراً، الجرأة على حل وضعيتك / المشكلة في الحياة، من غير الخضوع لأية وصاية، فتتحمل بذلك نتائج فعلك الخاص، وتستفيد من عوائق الفشل الذي يعترضك، وبذلك تكون بانياً مشاركاً في الفضاء الحر للمدينة.
معنى ذلك أنّ المسؤولية هي البداية المؤسسة لانبثاق الذوات كأنويات إنسانية لا ترضى سوى بتوكيد رغباتها، وتصريف إرادتها التي لا تخضع قط لأي شكل من أشكال الوصاية. المتمثلة إمّا في أشكال الاستبداد السياسي أو الديني أو الثقافي الموروثة حضارياً.
ثمة أشكال لا بُدّ من إحداث القطيعة معها لترسيخ القيم المدنية، إذن لا بُدّ من التحرر من وصاية المؤسسة السياسية ما قبل الحداثية التي ما تزال تهيمن داخل الفضاء السياسي العربي التي تعلي من شأن خضوع الأفراد لأنماط عيش تحد من حرياتهم، وتحول دون تصريف إرادتهم الواعية في الشأن العام للمدينة. ولا بُدّ من التحرر من وصاية الخطاب الديني الذي يريد الهيمنة على مجال الحياة العامة، وليس معنى ذلك سوى الحد من تدخل وسطاء دينيين في الحياة الخاصة للمواطنين، ليغدو الدين مبدأ فردياً منبنياً على حريّة الضمير، وليس على الإكراه أو على التأثيم أو على التمييز القائم على مبدأ الولاء والبراء الذي يقسم المواطنين إلى قسمين: أهل الحق وأهل الضلال، أو القائم على تمييزهم إلى فسطاطين: فسطاط المؤمنين وفسطاط الكفار والمشركين، وغير ذلك من النعوت التي يحفل بها الخطاب الديني الذي لم ينخرط بعد في إصلاح ديني يتجاوز الوضعية الما قبل حداثية، وينخرط في الانتماء إلى الفضاء الإنساني الحر.
3ـ تجربة التنوير تجربة تاريخية أفقها زماني ومكاني، ونواتها الجسد الإنساني الذي يبني مساره الزمني وانخراطه في صيرورة الوجود انطلاقاً من رغبته التي تصير وجوده حقيقياً، أي وجوداً زمانياً مكانياً، وجوداً في الهنا والآن. ومن ثمة فتجربة التنوير يؤسسها فعل الجسد، أمّا تجربة الدين فهي مؤسسة على الأمل، لأنّ فعل الجسد محوره الهنا والآن، أمّا الأمل فمحوره الما وراء.
إذن حكمة التنوير هي حكمة الفعل القادر على إنتاج كيفية من كيفيات العيش في أفق زماني/ مكاني ضمن الوجود البيإنساني، بينما حكمة الدين هي حكمة ما يأمله الروح الإنساني في عالم الما وراء.
ومن ثمة فالتركيز على الفعل يتوخى ابتكار أسلوب السعادة، ونمط الاستمتاع بالحياة، إنّه لا يأمل كثيراً لأنّ غايته تحقيق وجود مريح، أو العيش وفق إيطيقيا محايثة تمكنه من التمتع بفن العيش. أمّا التركيز على الأمل فغايته الحظوة بالخلود في عالم أخروي، أمّا العالم الفاني فليس سوى مجرد لحظة وجيزة.
إذن ثمة مفارقة بين التنوير كتمرن على الفعل، وبين الدين كأمل. وربما سنجد لدى كانط جواباً لهذه المفارقة من خلال سؤاله ما المسموح لي بأن آمله؟ ومعنى ذلك في تأويلنا الجمع ما بين الفعل وما بين القليل من الأمل. أي التركيز على ما تستطيعه الكينونة وما يجب على كل ذات أن تقوم به ليكون فعلها أخلاقياً لكن غايته إنسانية، وما هو مسموح لها بالمقابل من أمل أي في أن تكون جديرة بالحياة الأخرى. ومعنى ذلك حصر حدود الدين في ما يمكن أن يرضي نزعة الإنسان في الخلود من غير تبخيس للجسد وللحياة الإنسانية الواقعية.
انطلاقاً من هذا المنظور يجب حتى نكون حداثيين بالفعل أن ننخرط في إصلاح ديني حقيقي، وهذا لن يتأتى إلا بالحد من وصاية المؤسسات الدينية وبعض رجالات الدين الذين لم يتشبعوا بعد بروح الديمقراطية والمواطنة والسلوك المدني. وليس من سبيل للحفاظ على قدسية الدين سوى بنزع القداسة عن المؤسسات الدينية ورجالات الدين، ومعنى ذلك أنّ دور المؤسسات الدينية لن يغدو بتاتاً مؤسّساً على منطق الوصاية، وإنما تكوين المرشدين الدينيين تكويناً يساهم في إشاعة الأمن الروحي للمواطنين، وذلك من خلال نشر ثقافة روحية ترسّخ قيم الحب والفضيلة والجوار والتعايش وتقدير الكائن الإنساني بغض النظر عن لونه أو جنسه أو دينه.
إنّ ترسيخ المجتمع الحداثي لن يكون إلا مدنياً، وهو ما يعني إدماج المؤسسة الدينية داخل الفضاء المدني؛ أي إدخالها في تجربة الحداثة. وهو إجراء ضروري سيمكننا من نزع طابع القداسة عن كل التأويلات السلفية القديمة والراهنة والتي تعيق تجربة التمدن الحداثية، ومعنى ذلك أنّ مختلف التأويلات الدينية لن تغدو ذات طابع تشريعي مهما كانت متعارضة مع الحياة الديمقراطية ومع مبادئ المواطنة والسلوك المدني ومع مبادئ حقوق الإنسان، وهو أمر سيجنبنا مزالق النزعة الأصولية /الوصولية التي تراهن على أسلمة الدولة بل أسلمة الحداثة، وهي أسلمة تتوخى التنميط وإنتاج عقول متشابهة لا همّ لها سوى نمذجة سلوكها وفق ما تقرره السلطة السياسية ذات المصدر الديني.
فيما يخصّ النص الديني هناك كيفيتان للتعامل معه: الكيفية الأولى أن نتملك النص الديني فيغدو قابلاً للتأويل أي منكشفاً لذواتنا الإنسانية انكشافاً يقيناً من الدغمائية المذهبية، ومعنى ذلك أن نتبنّى استراتيجية تأويلية تنتصر لقيم الحياة، وتجعل من أي نص بالرغم من قداسته الدينية مستجيباً لأفق إنساني متحرر. أمّا الكيفية الثانية وهي كيفية ماضوية تتبنى استراتيجية سلفية ذات تأويل أحادي يتعامل مع النص باعتباره نصاً مطلقاً غير قابل للتملك، وإنما هو من يتملك الإنسان. ومعضلة هذه الاستراتيجية تكمن في إنتاج تصورات دغمائية تغذي نزعة التطرف المذهبي الذي يستعيد مقولات "الحاكمية"؛ بهدف إقامة دولة دينية غايتها التطبيق الحرفي للنصوص الدينية، أي ما يُسمى في الأدبيات الإسلامية "تطبيق الشريعة الإسلامية"، وبالتالي العودة إلى استراتيجية الوصاية التي تنزع عن الإنسان إرادته الحرة وإرجاعها إلى الله، وهو تقويض لإرادة الشعب باسم الله.
إذن، تقتضي تجربة التنوير استعادة النص الديني ضمن استراتيجية تأويلية للحداثة، فيغدو النص ممتلكاً باعتباره بعداً من أبعاد الروحية الإنسانية، فيكشف بذلك عن قابليته ليس للتطبيق الحرفي وإنما للاستثمار الروحي كما هو الشأن بالنسبة للتعامل الصوفي، أو للاستثمار الإبداعي والفني كما هو الشأن بالنسبة للتعامل الشعري أو التشكيلي، أو للاستثمار في مجال التفاعل البشري الذي يساهم ليس في الانغلاق على الذات، وإنما في الانفتاح على العالم والإعلاء من قيم التضامن والتعايش والتسامح والعدالة الاجتماعية.
4ـ يؤسس التنوير بما هو تجربة لكيفية من كيفيات الوجود الحر في عالم يتبادل الاعتراف بكينوناته البشرية، وبالتالي فهو بحد ذاته مدخل من مداخل الحداثة التي لم نعشها بعد بالرغم من استفادتنا من تجارب الحداثة في العالم الحر وبالرغم من متغيرات العلم العربي الحالية، وبذلك فدخولنا للحداثة مشروط بتجربة التنوير. ومعضلتنا اليوم أننا دخلنا عصر تحولات العالم من غير أن نتبنى أيّ استراتيجية تنويرية، والدليل على ذلك أننا نخوض معركة الديمقراطية بذهن ماضوي يختزل التجربة الديمقراطية في صناديق الاقتراع "حالة مصر وتونس والمغرب"، مع العلم أنّ ما تفرزه هذه الصناديق لا يعبر بالضرورة عن وعي تنويري، ولا يكشف عن إرادات واعية تريد تصريف رغباتها الحرة، وإنما يعبر في الغالب الأرجح عن ردود أفعال غايتها إعادة إنتاج نمطية غفلية مازالت تتوق إلى الوصاية. لقد انتبهت الحركات الإسلامية إلى هذه المعضلة فاختارت الانخراط في التجارب الانتخابية، ليس من أجل ترسيخ الممارسة الديمقراطية، وإنما من أجل استثمار هذا الوضع كوسيلة لأسلمة الدولة والمجتمع وخلق التنميط والتضييق على الحريات.
يتطلب الأمر الآن الدخول في "تجربة تنوير" تعيد للفكر دوره في إيقاظ الوعي الإنساني، وهو ما يعني أن تنخرط الأحزاب السياسية المدنية العربية في إعادة تكوين منخرطيها انطلاقاً من مشاريع فكرية، أي من خلال اعتماد فلسفة للحياة تنتصر لكل ما هو إنساني، وتسهم في إنتاج الأفكار التي تسهم في بلورة المجتمع الحداثي الذي هو نواة الإرادة المشتركة العامّة المتمثلة في الشعب.
سنكون إذن، وفق هذه الاستراتيجية التنويرية أمام كيفية لا تولد العجز والبؤس، وإنما تولد الفعل والمتعة، إنها كيفية من كيفيات فن العيش الذي لا يتأسس على الخضوع لأية وصاية، وإنما يؤسس لحاضر مبتكر وإبداعي، وهذه الكيفية بما هي فن فإنها تولد بدورها الفن الذي يتجسد في أشكال تعبيرية أو بصرية أو غيرها، ومن ثمة نكون بالفعل نعيش فناً حياتياً، ونتمتع بالفن بما هو تجاوز خلاق لكل ما هو معطى داخل المدينة. لأنه يهدف إلى إعادة بناء وجودنا الجمالي، فلا نكتفي بالعيش داخل تجمع سكاني غالباً ما نسميه مدينة، ولكنه بالمقارنة مع مواصفات المدينة لا يمتّ بصلة إلى المدينة، وهذا ما يجعلنا نعيش اليوم في مدن بئيسة بطريقة لا فنية، فنتعايش مع الانفلات والعنف والفوضى وخرق قواعد السير من غير أن نشعر بأي خلل، من غير أن تكون لنا عيون يقظة متحفزة للجمال. وهذا راجع لتبخيسنا لذواتنا كما هو راجع لعدم تشربنا لروح الفن.
إذن تجربة التنوير هي مدخلنا إلى المدنية الحديثة بوصفها مأوى فن العيش، وإلى الحداثة الفنية التي ستمكننا من إعادة معمار المدينة وفق منظور جمالي تستعيد من خلاله جاذبيتها، وتأثيرها السحري على العالم، كما ستمكننا من التحرر من أية نزعة تريد الاستيلاء على ضمائرنا سواء بالدين أو بالعرق أو غيرهما. وبالتالي فالفن هو ملاذنا الأخير. (هذه التأملات تدخل في سياق نقاش فكري مع صديقنا عبد الصمد الكباص).