تحولات الفعل الديني في المجتمع التونسي وإعادة تشكيل الحدود
فئة : مقالات
مقدمة:
يعرف الخطاب الديني في تونس تحولات في مسارات الفعل من حيث التّدرج في الظهور والتموقع في الفضاء العمومي؛ والذي تبعه تدرج في نوعية الخطاب الموجه لعموم المتابعين، وفي نوعية الأهداف المعلنة[1] وفي طرق التوغل والتّمكن داخل المجتمع وبين مختلف مؤسّساته، حيث فرض هذا الخطاب قواعد فعل جديدة مواكبة لتطورات معيش الفاعلين داخل المجتمع، مكّنته من أن يصبح خطابا متكيّفا مع محيطه، ويتوفر على أسس التنظيم والاستمرارية من جهة، ومحافظا على رمزيته وقدسيته من جهة أخرى. "وتدل مختلف هذه المظاهر على أنّ تغيّر المشهد الديني ليس عفويا أو خارجا عن التوجيه. إنّه تدرج في عمل منظم واستراتيجي المدى، تقوم به تيارات عقّدية وسياسية، لا في اتجاه صياغة المشهد فحسب، بل في اتجاه إعادة هيكلة الحقل بأكمله، وهو ما يتّم على أساسين اثنين هما: التّوسيع من جهة، والتنويع من جهة أخرى[2]. هذه التحولات في الفعل التي تدور في فلك ثلاثة أشكال من الممارسة ساعدت أصحاب الخطاب الديني الجديد من إعادة تشكيل حدودهم داخل الفضاء العمومي، فانتقلوا بذلك من فعل الاستقطاب المباشر إلى فعل الاستقطاب الافتراضي وصولا إلى فعل الاستقطاب الشّكلي.
استعان الفاعلون الدينيون الجدد بالمواقع الإلكترونية، ليفرضوا رمزيتهم ويضمنوا استمراريتها ويحقق من خلالها توسع رمزي للفضاء الديني بالاستعانة بقدرات فتية وتقنية وماديّة
1. فعل الاستقطاب المباشر
تعتبر الخيمات الدعوية والمساجد هي الحدود الأولى التي بدأ فيها الفعل الديني الجديد في حالاته الأولى من التشكّل، والذي يقوم أساسا على فعل الاستقطاب الدعوي المباشر. ولقد اهتم الدعاة الجدد في جوهر دعواهم بأشكال الحياة اليومية والخوض مباشرة في المعيش اليومي للفاعلين، في المسكوت عنه وفي المهمّش وفي المادّي والرمزي"[3] والدّيني خاصة.
بدأ هذا الفعل في البحث أشكال قابلية التّجمع باستعمال الرأس المال اللغوي الذي يعتبر جوهر عملية الاتّصال بين الناس في المواقف المختلفة، فهو يشكّل الجانب الدّيناميكي للحياة الاجتماعية، ويكشف عن تلك السلسلة المتبادلة والمستمرة بين فرد وفرد، أو فرد وجماعة، أو جماعة وجماعة، وعملية التّفاعل تلك بأشكالها المختلفة، والمتمثلة أساسا في صياغة الإنسان الجديد وتدريبه وتأهيله اجتماعيا[4]. وبهذا المعنى تصير كل فضاءات التواصل اللّغوي أسواقا صغرى تخضع هي أيضا إلى قيم الهيمنة والتنافس والصراع، بانية بذلك علاقة جدلية بباقي الأنماط الأخرى من الرأسمال الرمزي[5]، وقد سمح ذلك لمجموعة من الأئمة في البدايات مثلا بأن يتجـاوزوا آليات تغييبهم من المجال العمومي الذي تسيطر عليه الدولة، وهنا يصبح الفعل الاجتماعي المباشر لهؤلاء الفاعلين هو الموضوع الأساسي، لكي نفكك ونفهم صورة السلوك المتوحش الذي يميلون إلى نشره، والذي الذي يشتمل على الاتجاه الداخلي والخارجي الذي يكون معبراً عنه بواسطة الفعل أو الإحجام عن الفعل، وبالتالي فإنّ تحول هذا الأخير "على مستوى الشكل لا يعني حقيقة الإحجام عنه"[6]، وإنما انتقل بنا إلى مستوى آخرمن الفعل متمثّل في الفعل الاجتماعي الافتراضي.
2. فعل الاستقطاب الافتراضي
استعان الفاعلون الدينيون الجدد بالمواقع الإلكترونية، ليفرضوا رمزيتهم ويضمنوا استمراريتها ويحقق من خلالها توسع رمزي للفضاء الديني بالاستعانة بقدرات فتية وتقنية وماديّة، جعل من خطابهم القدرة على اختراق أيّة ثقافة وتقويض نظمها وهياكلها؛ خطاب يسعى إلى تحطيم الحدود والحواجز، وتشّرئبّ إلى جعل العالم كلّه تحت وطأة التوحش، وهو جاد في ذلك من غير نقاش أو جدال. في المقابل، وجد الفاعل الاجتماعي نفسه إزاء شكل جديد من السيطرة تجسدّت أساسا في هيمنة هذا النوع من فعل الاستقطاب الافتراضي الذي تمكّن من خلال التطور التقني والمادي من تجاوز شتّى أنماط الحدود، وسارع في بناء شبكات من داخل الشبكات الاجتماعية التي ساعدته في التّموقع والتّمركز. لذا نجد أن هذا الانسياق وراء هذا الفعل قد انصب "أساسا على تكنولوجيا الرموز والمعلومات وهمّش الاعتناء بطبيعة الرموز"[7] التي يميل لنشرها.
الثّابت إذن، أنّنا أمام حالة دينية ساعدتها تكنولوجيات الاتصال من تعديل إيقاعها، وتدخّلت في رموز الفاعلين، فأصبحوا مشدودين إلى جسم غريب لكنّه مثير للدّهشة يساعد فاعليها على الاتصال بجميع أنحاء الكرة الأرضية. هذا التنقّل السريع بين عوالم وثقافات مختلفة الذي أباحته تقنيات الاتصال غيّر الكثير ولازال يغيّر من الخصائص القيمية والثقافية للفاعلين وأخضعهم للعدّة تغيرات على مستوى الشكل والوظيفة وقوة الفعل داخل المجتمع. لقد تمّ فعلا من خلال شكل الاستقطاب الافتراضي من إعادة تشكيل الحدود بين العام والخاص من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تمثل فضـاءات لبنـاء الشخصية الفردية، ولاستعراض مقوّماتها في المجال العمومي الافتراضي الذي يطل من خلالها الفاعل "على العوالم الذاتية للآخـرين، هـذا التداخل بين العوالم الذاتية الخاصة والعوالم الخارجية يؤدي إلى إعادة تشكيل المعايير الرمزية التـي تحـدد الخصوصية والذاتية، وسمحت لمجموعة من الفاعلين أن تتجـاوز آليات تغييبها من المجال العمومي الذي تسيطر عليه الدولة، وشكّلت فضاءات يحكمها الانسجام على المستوى الثقافي والروحي والاجتماعي تنتج من خلالها رمزية دينية ذات مضامين سياسية في أحيان كثيرة، عندما يتعلق الأمر بالشأن العام"[8].
3. فعل الاستقطاب الشّكلي
يمكن القول إننا كنا إزاء المسارعة بانطلاق دينامكية جديدة غير معهودة من الفعل الاجتماعي المنظم يتم بمقتضى قواعد جديدة وآليات فعل بديلة[9] إلى تغيير فعل الاستقطاب إلى ما هو شكلي من خلال العمل المدني وداخل الجمعيات القرآنية.
أتاح التفاعل القائم على الصراع داخل المجتمع التونسي بين الأطراف السياسية وعدم الثقة في المؤسسات مجالا لظهور فاعلين جدد داخل الحقل الديني
وفي سياق الفعل الاستراتيجي، الذي تبنّاه أصحاب الخطاب الدّيني الجديد، "يصبح العمل الدّعوي هو الخيار الاستراتيجي للبقاء داخل الفضاء، يختلف عن العمل الدّعوي في مرحلته الأولى غير المهيكل (المتمثّل أساسا في الخيام الدعوية) إلى العمل الدّعوي داخل الجمعيات الخيرية الّدّينية التي تعتبر إحدى وسائل الدعوة المعاصرة، المهيكلة والقانونية"[10]، والتي تعمل على التأثير وتحقيق الأهداف المطلوبة بتغيير سلوك الآخرين. لقد تمكّنت هذه القوى من استغلال وضعيات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الفرد وجملة المتغيرات التي يمكن أن تؤثّر في بناء التصورات والمواقف الحياتية لفئات اجتماعية تعاني من شروخ في الهوية، لذلك من المهم أن نهتم بهذه التّغيرات في أشكال الفعل المتعلّقة بالحالة الدينية وبأصحاب الفعل وبأنماط التضامن الاجتماعي التي تحميه.
لقد أتاح التفاعل القائم على الصراع المتواصل داخل المجتمع التونسي بين الأطراف السياسية وعدم الثقة في المؤسسات الشكلية الرّسمية مجالا واسعا لظهور فاعلين جدد داخل الحقل الديني، تمكنوا من التوغل ليس في المعيش اليومي للفاعل، وإنما في صلب مؤسساته الاجتماعية الرسمية وغير الرّسمية. وتمكّنوا من بناء أشكال من الفعل الاجتماعي التي أتاحت لهم فرص اللعب الاستراتيجي على ركح الفضاء العمومي واكتساب قوى رمزية متمثّلة أساسا في مجموع الحواضن الاجتماعية (المتبنية للخطاب أو المتعاطفة معه) التي ساعدتهم على الظهور بشكل علني ومهيكل، وحد الإيهام بالمدنية الصرفة من خلال الجمعيات الخيرية.
خاتمة
يمكن القول إنّ الحالة الدينية في تونس في حالة حراك اجتماعي متعدد الوجوه والأشكال، وقد تنوعت أسبابه وبواعثه، وكثرت أشكاله ونماذجه، مخلفا العديد من التساؤلات حول فاعلية النظم والهياكل الاجتماعية التي يعيش في نطاقها الفاعل الاجتماعي التونسي، وما تثبته معطيات الواقع الحالي وتفاصيله أنّ المجتمع التونسي في حالة "رجّة"، على جميع المستويات نتيجة اختلافات بين مجموع مكونات المجتمع، وهذه الاختلافات السّياسية والاجتماعية والفكرية التي ظهرت على السطح ظهرت معها حالة دينية جديدة، تحاول أن تسقط صور الحداثة وتغيرها بصور التّوحش.
[1]- مبارك فاتن، "جدلية الدين والدولة في الفضاء العمومي التونسي: قراءة تحليلية لأحداث جامع اللخمي بمدينة صفاقس"، نشر في كتاب جماعي، التعصب والتطرف والعنف، مقاربات في المجتمع والدولة والدين، اشراف منير السعيداني، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، يناير 2019، ص 10
[2]- السعيداني منير، "تحولات الحقل الديني في تونس"، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، يناير 2014، ص 6
[3]- Goffman, Erving. La mise en scène de la vie quotidienne, Tom2, Les relations en public, Paris, Minuit, 1998, p.191
[4]- إيان كريب، النّظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم، عالم المعرفة، عدد 244، الكويت، 1999، ص 21
[5]- المرجع نفسه، ص 5
[6]- Caullier (X.), Ages mobiles et générations incertains, Paris, Esprit, 1998, p.22
[7]- محمود الذوادي، التخلف الأخر: عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث، الأطلسية للنشر، جاتفي 2004، ص 24
[8]- مبارك فاتن، جدلية الدين والدولة في الفضاء العمومي التونسي... مرجع سابق، ص 18
[9]- Rynaud, (Jean-Daniel), Les règles du jeu: l’action collective et régulation sociale, Paris, Armand Colin, 1993, p.13
[10]- المرجع نفسه، ص 23