تطوير الخطاب الاجتماعي والسياسي


فئة :  مقالات

تطوير الخطاب الاجتماعي والسياسي

تطوير الخطاب الاجتماعي والسياسي

بادئ ذي بدء نقول: إن المقصود بالخطاب الاجتماعي والسياسي هو مجموع الأنماط والأدوات المستخدمة في صناعة الرأي العام أو صياغة المضمون الثقافي والاجتماعي للحركة الاجتماعية، فهو أداة حيوية في التأثير المباشر على الإنسان الفرد والجماعة.

وعلى هدى هذه الحقيقة، نقول: إن استمرار الخطاب الاجتماعي والسياسي في التغذية المعكوسة لتلك التمايزات التاريخية والاجتماعية، يُؤدِّي إلى أن يُمارس هذا الخطاب دوراً تقسيميّاً في الوطن والمجتمع، بينما من الضروري أن يتطوَّر هذا الخطاب ويتَّجه نحو صياغة منظومة قيمية ومفاهيمية جديدة تحترم التمايزات التاريخية دون الانغلاق فيها، وتُؤسِّس لواقع اجتماعي جديد يستمد من القيم الإسلامية والإنسانية العليا منهجه وبرامجه المرحلية.

ومن هنا، فإننا نرى أن الكثير من التناقضات الاجتماعية كان للخطاب الاجتماعي والسياسي السائد الدور الكبير في تغذية هذا الشعور الذي يُبلور كل عوامل التناقض الاجتماعي بشتَّى صوره وأشكاله؛ فالسِّلْم المجتمعي لا يتحقَّق على قاعدة الحوار الاجتماعي فحسب، وإنما لا بد من وجود مظلَّة اجتماعية سياسية تُغذِّي وتُكرِّس مفاهيم السلم المجتمعي والوحدة الوطنية.

وتطوير الخطاب الاجتماعي والسياسي يعني:

1- إعادة صياغة مضمون الخطاب الاجتماعي والسياسي بما ينسجم وضرورات الوحدة الوطنية والتلاحم الاجتماعي. وهذا يعني نبذ كل المقولات والعناوين التي تُكرِّس واقع العداء والتقسيم في الوسط الاجتماعي.

2- توسيع القاعدة الاجتماعية لهذا الخطاب، حيث لا يكون معبِّراً عن مصلحة فئة اجتماعية محدودة، وإنما من الضروري أن يعكس الخطاب واقع المصلحة الاجتماعية العامة. وهذا لا يتأتَّى إلَّا بتوسيع القاعدة الاجتماعية، وتوفير كل مستلزمات ومقتضيات مجتمعية الخطاب الاجتماعي والسياسي.

3- إلغاء كل الحواجز المصطنعة التي تحول دون تفاعل الوسط الاجتماعي العام مع مضمون الخطاب السياسي والاجتماعي.

4- تشجيع ورعاية كل القواسم المشتركة التي تدفع باتجاه تمتين الوحدة الوطنية، وإنهاء كل أسباب القطيعة الاجتماعية.

وعن طريق هذه المفردات، نُحقِّق مفهوم تطوير الخطاب السياسي والاجتماعي. وبهذا التطوير -الذي يلحظ ما هو اجتماعي وما هو سياسي- يُنجز مفهوم السِّلْم المجتمعي وتتحوَّل كل التمايزات التاريخية والاجتماعية إلى عوامل بناء وإثراء للتجربة الوطنية بأسرها.

السلم الأهلي في النصوص الإسلامية:

لا ريب في أن السِّلْم الأهلي والتعايش الاجتماعي، على قاعدة الاحترام المتبادل، من القيم النبيلة التي يسعى إليها الدين الإسلامي الحنيف، ويُربِّي أبناءه وفق مقتضاها الأخلاقي والعملي.

لذا، فقد أولت النصوص الإسلامية العناية الرفيعة بكل المفردات والقيم والأخلاقيات التي تُوصل المجتمع الإنساني إلى حالة السِّلْم الأهلي.

ونحن نحاول هنا، القيام بجولة سريعة على النصوص الإسلامية، التي تُؤكِّد على قيم السِّلْم الأهلي، وتدفع باتجاه التعايش الاجتماعي، ليس على قاعدة الاضطرار، ومغايرة الباطن للظاهر، وإنما على قاعدة الأصل الإنساني العام، ومطابقة الظاهر للباطن.

ومن القيم والقضايا الأساسية التي أكَّدت عليها النصوص الإسلامية الأمور التالية:

- مساواة الآخر بالذات:

إن البداية الفعلية للتغلُّب على الكثير من النوازع والغرائز التي تُميِّز وتفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتزرع الشقاق، وتُؤكِّد الخصام، هي طغيان حب الذات وتضخيمها، حيث لا يرى الإنسان إلَّا ذاته ومصالحها.

أما التوجيهات الإسلامية، فتُؤكِّد على ضرورة أن يتمَّ التعامل مع الآخرين وفق القاعدة النفسية والاجتماعية التي تقول: الإنسان الذي يحب نفسه عليه أن يُعامل وينظر للآخرين من خلالها.

فقد جاء في الحديث الشريف: «ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مُقسِطاً في عدلك، مُحَبّاً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض»[1].

«سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومساواة الأخ في الله، وذكر الله على كل حال»[2].

«لا يرحم الله من لا يرحم الناس»[3].

فالقاعدة العامة التي ينبغي أن يتحلَّى بها كل إنسان في مسألة العلاقات الاجتماعية والإنسانية، هي (عامل الناس بمثل ما أن تحب أن يعاملوك)..

من منّا لا يحب أن يحترمه الآخرون، ويتعاملون معه بإنسانية راقية، وأخلاق حضارية؟

من منا لا يشعر بالاشمئزاز حينما لا تكون علاقة الآخرين معه سوية وسليمة؛ وذلك لدواع ليست من كسبه؟

إن بوَّابة تصحيح كل هذا الاعوجاج تبدأ بتعاملي مع الآخرين، فإن مساواة الآخر مع الذات في هذه المسائل والقضايا هي التي تخلق النسيج الاجتماعي المتداخل، والمتواصل، والمنسجم في حركته وعلاقاته المتعدِّدة، فــ «اصطناع المعروف يقي مصارع السوء»[4]، و«إنه من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حُرم حظه من خير الدنيا والآخرة»[5].

ولا شك في أن مساواة الآخر مع الذات سيُعلي من شأن القيم المشتركة، وسيجعلها حاضرة باستمرار في الوسط الاجتماعي، كما أنها تزيد من حالة الإحساس بالمسؤولية المشتركة تجاه بعضنا البعض، وكل هذه العناصر ضرورية لبناء سِلْم اجتماعي متراصٍّ ومستديم.

وتعتمد هذه المساواة على مبدأ آخر يُشكِّل ركناً أساسيّاً في التوجيهات الإسلامية، ألا وهو التسامح.

ولا ريب في أن التسامح كقيمة إنسانية عليا يصيغ روابط إضافية في العلاقات الاجتماعية المشتركة؛ لذلك فـ «إن من مكارم أخلاق أهل الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك»[6].

- اللاعنف:

وهذا العنصر ليس وليد الضعف في الذات، أو القوة الضخمة لدى الآخر، وإنما هو جزء من بنية المنظومة العقدية والفكرية الإسلامية التي ترى في اللاعنف الطريق السليم في التعامل مع المغاير الثقافي أو السياسي. وينبغي أن نُدرك أن شعوب العالم قدَّمت الكثير من التضحيات الجِسام من جرَّاء الحروب، واستخدام العنف والقوة في العلاقات الاجتماعية والدولية.

«ووفقاً لأحد التقديرات، شهدت الفترة ما بين عامي (1945 و1989) (138) حرباً، أسفرت عن مقتل (23) مليوناً من البشر.. على أن القوة العسكرية استخدمت - أيضاً- في مواقع أخرى، دون اندلاع حرب فعلية، كما حدث في هنغاريا عام (1956م)، وفي تشيكوسلوفاكيا عام (1968)، وفي غرينادا عام (1983).

وكانت الحرب الكورية التي أودت بحياة (3) ملايين نسمة، وحرب فيتنام، التي أسفرت عن مقتل مليون نسمة، هما أكثر النزاعات إهلاكا. وقد وقعت الحروب الــــ138 جميعها في العالم الثالث، وأدَّت إلى اشتعال الكثير من الأسلحة التي قدَّمتها القوتان العظيمتان أو حلفاؤهما»[7].

فمنهج اللاعنف، وسيادة قيم السِّلْم، هما اللذان يمنعان هذا الانهيار، والنهم المتعاظم لامتلاك وسائل القتل والدمار، وتوجيه ثروات الشعوب والأمم إلى مشاريع التنمية والبناء.

- المناقبيات الأخلاقية:

وإن السياج القوي الذي يحافظ على السِّلْم الأهلي، ويُعمِّق مفاهيمه، ويجعله ثابتاً من ثوابت الواقع المعيش، هو وجود منظومة أخلاقية، ترعى هذه المسيرة، وتُلجم كل النوازع الشريرة، التي تُهدِّد السِّلْم، وتجعله على شفا جرف هارٍ.

ولهذا، نجد النصوص الإسلامية تُؤكِّد على مجموعة من المناقبيات والفضائل الأخلاقية كالصدق والاحترام وحسن الظن والرحمة والرفق وما أشبه.. هذه النصوص لو جعلناها في السياق الاجتماعي العام، سنجد أنها الضامن العام لمسيرة السِّلْم الأهلي.

ولا شك في أن تعميق هذه الفضائل في الوسط العام سيُغيِّر نظرة الجميع بعضهم إلى بعض، وستتم -وفق هذه النظرة- قراءة الوقائع وفق النسق الفكري الجديد الذي يجعل من السِّلْم الأهلي لازمة من لوازم تقدُّم المجتمع الإنساني ورُقِّيه الحضاري؛ لذلك جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا أُنبئكم بما يشرف الله به البنيان، ويرفع الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمَّن ظلمك، وتُعطي من حرمك، وتصل من قطعك»[8].

وتنبع أهمية تأكيد البعد الأخلاقي في مسيرة السِّلْم الأهلي في النقاط التالية:

1- دفع الجماعة الوطنية إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية النبيلة المتعلِّقة بنوعية الحياة والعلاقة بين مجموع الأطراف، وتعزيز مشروع المسؤولية المتبادلة في الوسط الاجتماعي.

2- البحث عن أطر وصيغ مجتمعية مناسبة للحظة التاريخية التي نعيشها للتعبير عن تلك الفضائل الأخلاقية. وبهذا تتحوَّل هذه القيم الأخلاقية من قيم فردية إلى قيم ذات طابع مجتمعي-مؤسسي.

3- حضور هذه الفضائل الأخلاقية في مسيرة بناء السِّلْم الأهلي، حتى تمارس دورها الإيجابي في تجميد بؤر التوتُّر، وتوفير الظروف الذاتية والموضوعية في حركة المجتمع بما يناسب تصوُّرات واستراتيجيات مشروع السِّلْم الأهلي.

وتنبع أهمية حضور القيم الأخلاقية في ذلك المجتمع المتعدِّد الثقافات والمرجعيات، من كونها تُساعد وتُنظِّم تعاقد مساواة بين جميع أطراف المجتمع. وبهذه العملية، يستطيع المجتمع أن يُوائم في توليفة عملانية بين ضرورة الوحدة والعيش الواحد أيضاً.

وإن الاحترام المتبادل يُشكِّل حجر الزاوية في مشروع السِّلْم الأهلي؛ لأنه يُعمِّق الاستقرار، ويحترم التنوُّع الذي يُغني مشروع السِّلْم الأهلي.

وإن تعميق القيم المشتركة الذي تُوفِّره الفضائل الأخلاقية، سيساعد الجميع على تجاوز الصدامات والتوتُّرات المرتبطة بشكل مباشر بمصالحهم، والتصرُّف على ضوء وهدى مصالح متبادلة وعامة.

رسالة إلى أهل الحوار والتعايش:

عديدة هي المؤشِّرات والمعطيات التي تجعلنا نعتقد أن دائرة المؤمنين بالحوار والانفتاح والتواصل بين مختلف مكوِّنات المجتمع السعودي في ازدياد مطَّرد، وأن هؤلاء يُعبِّرون عن أفكارهم وقناعاتهم في العديد من المناسبات الاجتماعية والوطنية، ويعمل بعضهم على القيام بمبادرات اجتماعية أو ثقافية تستهدف كسر حاجز القطيعة والجفاء بين تعبيرات الوطن، وهم بهذه الأعمال والمبادرات يكسرون العديد من الحواجز النفسية، ويُزيلون من نفوسهم وعقولهم الرُّكام الذي ساد في حقب زمنية سالفة، ومؤدَّاه المفاصلة والابتعاد، وخلق الحواجز بين المواطنين لاعتبارات مذهبية أو قبلية أو مناطقية.

لهذا، فإن هذه الخطوات والمبادرات تُساهم في تفكيك الثقافة التي صنعت موقف الجفاء والقطيعة، كما تُساهم في إزالة الرَّين الذي بقي في النفوس، وتدثَّر بمقولات جاهزة واتِّهامات وسوء ظن، وكلها تُفضي إلى التباغض وابتعاد بعضنا عن بعض، ولكن ومنذ انطلاق مشروع خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله تعالى- للحوار الوطني، وتأسيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أضحت الأصوات المطالبة بالحوار والتواصل وتجاوز الخلافات وبناء مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات عالية. لهذا، فإننا نعتقد أن دائرة الحوار والتواصل والتعايش في داخل المجتمع السعودي بدأت بالاتِّساع، وأضحت هذه الدائرة أو هذا الخيار يمتلك زخماً هائلاً، من جرَّاء اتِّساع دائرة المطالبين بهذه القيم والمبادئ. لهذا، فإنه مهما علت الأصوات المتشدِّدة والنابذة لخيار الحوار والتعايش، فإن حركة الحوار والتعايش أضحت حقيقة قائمة، وأصبح المُعبِّرون عنها من كل الأطراف والأطياف كثراً ومتعدِّدين في مواقعهم وحيثياتهم الاجتماعية والمعرفية والثقافية.

واعتزاز كل طرف أو طيف بذاته وخصوصياته لا يُلغي متطلَّبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية. وقد جاء في الحديث الشريف: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يُعين قومه على الظلم»[9].

وفعالية الحوار في المجتمع وبين جميع الأطياف وعلى مختلف المستويات، تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول، لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب في أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث إنها تُحرِّك الراكد، وتسائل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة وممكنة.

وفي المحصلة النهائية، تكون عملية الحوار فعالية مجتمعية متميِّزة.

وأود هنا أن أُوجِّه حديثي المباشر إلى الأطراف الوطنية من مختلف المواقع التي تؤمن بخيار الحوار والتعايش، وتدافع عنه، وتعمل عبر وسائل الإعلام والثقافة والمبادرات الاجتماعية إلى تعزيز هذا الخيار على المستوى الوطني، وأقول: إن الدرس العميق الذي ينبغي أن نُدركه وبعمق، أن طريق الحوار والتعايش ليس مُعبَّداً بالورود، وإنما هو طريق مليء بالأشواك والصعوبات، وأن ارتفاع صوت التشدُّد والمفاصلة ونكران أهمية الحوار والتعايش ينبغي أَلَّا يدفعنا إلى اليأس أو العودة إلى المربع الأول، حيث الجفاء والمفاصلة الشعورية والعملية.

إننا نعتقد وبعمق أن الحوار والتعايش هما وسيلتنا لصون الحرمات، وحلِّ المشكلات، ومحاصرة نزعات الفتنة والتشدُّد، وإن الهويات الثقافية لدى أيّ جماعة بشرية لا تقوم على المطابقة والتماثلية المميتة، وإنما على التعدُّد والتنوُّع المُفضي إلى إثراء المضمون الإنساني لمفهوم الهوية الثقافية.

ففي فضاء الحوار يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولاً إلى تأسيس دينامية اجتماعية-وطنية جديدة، تتَّجه صوب التعايش على أسس الاحترام المتبادل.

ولنتذكر دائماً وصيَّة الحكيم لقمان لابنه حينما قال: «يا بني، كذب من قال: إن الشر بالشر يُطفأ، فإن كان صادقاً فليُوقد نارين ولينظر، هل تُطفئ إحداهما الأخرى، بل يُطفئ الخير الشر كما يُطفئ الماء النار»[10].

فمهما علت الأصوات النابذة للحوار والمانعة للتعايش، ينبغي أن نتشبَّث بهما.

فالاستقرار الاجتماعي والوطني مرهون بمدى قدرتنا على الحوار والتعايش على أُسس العدالة والمساواة.

وصعوبات الواقع ليست مُبرِّراً للتنازل عن هذا الخيار، بل على العكس من ذلك تماماً، فمهما كانت الصعوبات ينبغي أن نبذل كل الجهود لتذليلها ومعالجتها.

وفي سبيل مواجهة صعوبات الواقع، من الضروري أن يلتفت أهل الحوار والتعايش إلى ضرورة العمل لزيادة وتيرة التعاون والتنسيق بعضهم مع بعض.

فمواجهة الصعوبات تقتضي العمل على بناء كتلة وطنية ممتدَّة على مستوى الوطن كله، تُطالب بالحوار والتعايش، وتعمل معاً من أجل تعزيز فرص نجاح هذا الخيار على الصعيد الوطني.

فالحوار ليس ادِّعاء يُدَّعى، بل هو ممارسة مستديمة وفعالية مجتمعية، تستهدف خلق حقائق ومقتضيات الحوار في الفضاء الاجتماعي والوطني.

والتعايش ليس سكوناً وانزواء، وإنما مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، وتفكيكٌ ومحاصرة لنزعات الغلو والتطرُّف والتشدُّد، وإعلاءٌ لقيم التسامح والاعتراف بالمختلف والمغاير وجوداً ورأياً وحقوقاً.

وكل هذه لا تتأتَّى تلقائيّاً، وإنما بحاجة إلى جهد ومثابرة ومبادرة وتعاون وتعاضد.

من هنا، فإننا نتطلَّع أن تتكاثف الجهود الرسمية والأهلية، من أجل تعزيز خيار الحوار والتعايش في مجتمعنا ووطننا؛ وذلك لأن تعزيز هذا الخيار، في أيِّ فضاء اجتماعي، يتطلَّب الكثير من الجهود والمبادرات وصناعة الحقائق والوقائع، وإن أيَّ تراخٍ عن هذا الطريق سيُفضي إلى ارتفاع صوت التشدُّد ونبذ الحوار والتعايش؛ لهذا فإن الكتلة الوطنية الرافعة لمشروع الحوار والتعايش، والعاملة من أجل تنفيذ بنوده وصنع حقائقه، هي سبيلنا لمحاصرة التطرُّف وتفكيك موجباته ومقتضياته، وهو الخيار الذي يضمن حقوق الجميع، ويحافظ على أمننا الاجتماعي واستقرارنا السياسي.

فآن الأوان بالنسبة إلى المؤمنين بمشروع الحوار والتعايش الوطني، أن يرفعوا صوتهم، ويبشروا ببركات هذا الخيار، ويعملوا من أجل غرس مستلزماته في كل دوائر ومستويات الحياة الاجتماعية والوطنية.

والأوطان لا تُبنى بإيقاظ الفتن وحروب الأوراق الصفراء، وإنما بالإرادات الوطنية الصادقة والمخلصة، التي تسعى لاستيعاب كل التنوُّعات والتعدُّديات، وتعمل لبناء حقائق الألفة والوحدة على أسس الحوار الذي لا يُقصي أحداً، ولا ينبذ مكوِّناً، والتعايش الذي لا يلغي التنافس وسنة التدافع، وإنما يوفر لها الفضاء المدني والسلمي، الذي يفسح المجال للجميع، لكي يمارس حقه وواجبه، في تعزيز أواصر التلاحم الاجتماعي والوطني، ويطرد كل القيم والحقائق المضادة لقيم الحوار والتعايش والوحدة.

معاً من أجل التعايش:

تعاني المنطقة من نزعات طائفية مقيتة، ساهمت في تأجيج الفتن وقتل الأبرياء في مناطق عديدة وعلى رأسها (العراق)، حيث عانى ولا زال يُعاني من عمليات قتل وترويع وتفجير للأبرياء. وأغلب هذه الممارسات تتمُّ في سياق الهجمة الطائفية التي تتعرَّض لها المنطقة. وفي بعض المجتمعات وصلت الحال فيها إلى الحرب المفتوحة التي يستخدم فيها القتل والتفجير، وفي مجتمعات أخرى هي أشبه ما تكون بالحروب الباردة، حيث الشائعات والحروب الكلامية والاتهامات المتبادلة.

إذا كان التناحر والتنازع والتقاتل بين المسلمين من المحرّمات والكبائر، فإن كل ما يقود إلى ذلك من قول أو فعل فهو محرَّم، ويدخل في خانة تهيئة المناخ لاقتتال المسلمين مع بعضهم؛ لهذا فإننا سنة وشيعة يجب أن نرفض كل الممارسات والأقوال التي تقود إلى الفتنة والتقاتل بين المسلمين.

وأمام هذا الواقع، نحن جميعاً أحوج ما نكون إلى مبادرة مؤسسية تعمل على تعزيز خطاب الاعتدال في مجتمعاتنا، وتفكيك كل الحوامل الفكرية والثقافية والاجتماعية المسؤولة عن عمليات القتل والحروب المتنقِّلة التي تجري تحت غطاء طائفي بغيض.

ولا ريب أن الخطوة الأولى في مشروع إنضاج وخلق المبادرة المؤسسية، هو تداول الأمر ومناقشته بصوت مسموع، لعلَّنا نصل مجتمعين إلى مبادرة عامة تُشعل شمعة بدل لعن الظلام.

فالطائفية من الأمراض الخطيرة التي بدأت تستشري في عموم البلدان العربية والإسلامية، ولا شك في أن هذا المرض يُشكِّل خطراً محدقاً بأمن واستقرار كل المجتمعات العربية والإسلامية؛ لذلك فإننا في عموم الدول العربية والإسلامية بحاجة إلى كتلة تاريخية تتشكَّل من كل المعتدلين والوسطيين والنابذين الطائفيةَ بكل عناوينها، للعمل على محاصرة هذا المرض الفتَّاك، والقيام بمبادرات تستهدف رفع الغطاء الديني والاجتماعي والسياسي عن كل الممارسات والخطابات التي تُفرِّق بين الناس وأبناء المجتمع والوطن الواحد لاعتبارات مذهبية وطائفية.

فما يجري في باكستان والعراق وغيرهما ينبغي أن يُدان من الجميع؛ فالقتل اليومي للأبرياء في هذه الدول لا تُقرِّه كل الشرائع السماوية، ولا تقبل به كل المواثيق الدولية.

وصمتُ المسلمين جميعاً عمَّا يجري في هذه الدول والمجتمعات من عمليات التفجير والقتل، يُثير الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة الحائرة التي تبحث عن إجابات حقيقية عن هذا الصمت المريب. إننا نرفض عمليات القتل والتفجير بصرف النظر عن ملابسات الاقتتال في كل هذه البلدان.

ومن الضروري للعلماء والفقهاء والمعاهد والجامعات والحوزات الدينية، أن ترفع الغطاء الديني عن كل هذه العمليات الإرهابية التي تجري باسم الإسلام.

ومن الضروري -أيضاً- أن يُدرك الجميع أن استمرار الفتن الطائفية بمستوياتها المختلفة، يُهدِّد وبشكل عميق استقرار مجتمعاتنا وأوطاننا، كما يُهدِّد الأمن القومي والاستراتيجي لمنطقتنا كلها. لذلك، فإن الوقوف بحزم ضد هذه العمليات الإرهابية ورفع الغطاء الديني والاجتماعي عنها، هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهة الفتنة الطائفية التي بدأت تطلُّ برأسها في العديد من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية.

فالظروف التي تعيشها المنطقة على أكثر من صعيد حسَّاسة ودقيقة. وفي تقديرنا، إن تبرير أو الصمت على الفتن الطائفية أو التحريض عليها بعناوين مواربة يزيد الأوضاع سوءاً وتدهوراً.

وإن المطلوب ليس تبرير عمليات القتل الطائفي أو زيادة وتيرة خطابات التسويغ وبثّ الكراهية والتحريض، وإنما تعزيز خطاب الاعتدال والوسطية، الذي يُجنبِّ الوطن والمنطقة الكثير من التداعيات والمخاطر.

وفي سياق العمل على محاربة الفتن الطائفية التي بدأت بالبروز في أكثر من موقع وبلد عربي وإسلامي، أودُّ التطرُّق إلى النقاط التالية: 1- إذا كان التناحر والتنازع والتقاتل بين المسلمين من المحرّمات والكبائر، فإن كل ما يقود إلى ذلك من قول أو فعل فهو محرَّم، ويدخل في خانة تهيئة المناخ لاقتتال المسلمين مع بعضهم. لهذا، فإننا سنة وشيعة يجب أن نرفض كل الممارسات والأقوال التي تقود إلى الفتنة والتقاتل بين المسلمين.

ووجود وقائع وممارسات طائفية في هذا البلد أو ذاك ينبغي أَلَّا يقودنا إلى تبرير الأقوال والممارسات الطائفية، وإنما يُؤكِّد لنا أهمية العمل على نبذ كل ما يشين، ويُسيء إلى وحدة الأمة وتلاحمها الداخلي.

وأدعو هنا وبكل محبَّة علماء ومشايخ المدرسة السلفية إلى خلق وبلورة وصياغة مقاربة جديدة في التعامل مع حقيقة التعدُّدية المذهبية، نتجاوز من خلالها الكثير من عناصر الضغط في العلاقة مع المدرسة الإمامية.

كما أدعو جميع الأطراف السنية والشيعية من علماء وفقهاء ودُعاة ومفكرين إلى الحفر المعرفي والتاريخي في كل المقولات التي تُغذِّي بشكل مباشر أو غير مباشر حالة العداء والكراهية بين أتباع المذاهب الإسلامية؛ فتعالوا جميعاً نعمل على تنقية فضائنا الوطني والاجتماعي من كل البؤر الطائفية التي تُدمِّر الاستقرار، وتُدخلنا جميعُا في نفق مظلم وخطير.

1- لا ريب في أن العلاقة السنية-الشيعية في كل مناطق المجال الإسلامي تتغذَّى سلبيّاً في علاقاتها وحساسياتها من جرَّاء تباين الرؤية والموقف من التاريخ وأحداثه ورجاله.

ونحن اليوم لا نستطيع أن نُلغي أحداث التاريخ، كما أننا لا يُمكن أن تتطابق وجهات نظرنا في كل أحداث التاريخ ورجالاته؛ لذلك فإن المطلوب على هذا الصعيد هو أن يحترم كل منا قناعات الآخر.

ومن أبرز مصاديق هذا الاحترام عدم الإساءة إلى الرموز التاريخية لبعضنا البعض، نحن مع الحوار وحرية البحث العلمي والتاريخي، ولكننا ضد الإساءة إلى رموز ومقدَّسات الآخرين، ونرفض سرّاً وعلانية نهج السَّبِّ والشتيمة، سواء صدر من طرف شيعي أو سني.

2- إن الأسئلة والتحديات التي تُطلقها النزعات الطائفية، لا يمكن الإجابة عنها إلَّا في سياق إشاعة وتعميم ثقافة التسامح والحوار وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

والمواطنة بمؤسساتها وقيمها وروحها هي القادرة على دمج مختلف التنوُّعات والتعدُّديات في بوتقة واحدة، حيث تتحوَّل التنوُّعات والتعدُّديات من مصدر قلق إلى رافد من روافد الإثراء والتمكين.

وحدها المواطنة -بكل آفاقها ومسؤولياتها- هي القادرة على دمج التعدُّديات في سياق وحدة وطنية واجتماعية قائمة على احترام كل مقتضيات التعدُّد والتنوُّع.

[1] - ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 14

[2] - العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 72، ص 27

[3] - صحيح البخاري، 7376

[4] - أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، 6086

[5] - أخرجه الترمذي، 2013

[6] - الشيخ الكليني، الكافي، الجزء 2، ص 107

[7] - راجع كتاب: جيران في عالم واحد.. نص تقرير لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي، ترجمة مجموعة من المترجمين، مراجعة عبد السلام رضوان، إصدار عالم المعرفة، رقم الإصدار 201، 1995م، ص 34

[8] - عبد علي العروسي الحويزي، تفسير نور الثقلين، الجزء 5، ص 73، الحديث السبعون.

[9] - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الجزء 16، مؤسسة البعثة، 1992م، ص 485

[10] - مهدي غلام علي، حكم لقمان، المجلد الأول، دار الحديث للطباعة والنشر، قم المقدسة، ص 117