تفكيك قبليّات مفسّري الوحي: مقاربة الشبستري أنموذجًا
فئة : مقالات
لا يمكن للفكر الجاد أن ينفصل عن الهم المنهجي، وقد صيغت قاعدة في الدراسات الإبستمولوجية تكشف عمق التماهي بين العمل الفكري وضرورة الاختيار المنهجي على النحو التالي "إنّ طبيعة الموضوع تحدد طبيعة المنهج"، وإلا ففي غياب هذا الضبط المنهجي تستحيل الكتابة نوعًا من الاسترسال في التفكير الساهي والسائم، جنسًا من السهو لكنه متلبس بيقظة الرغبة في التدوين. الاختيار المنهجي كبير الفائدة، ما في ذلك شك، لكنه أحيانًا يتحول هو الآخر إلى مخطِّط سياجات، إنّه يرسم النهايات ويحدد النتائج بشكل مسبق، الحقيقة عند مطبّقي هذه المناهج غير مجهولة، بل على العكس من ذلك هي مغلفة في علب مغلقة اعتدنا كشف ما بداخلها، وما على الباحث إلا أن يزيل الغطاء ليعود إلى معانقة حقيقته المألوفة التي لم تكن قد تراءت له في حقل ما، في تاريخ غير مطروق سلفاً، أو في أي حقل معرفي، هنا يوقعنا المنهج في آفات الاجترار والتكرار إلى حدّ الشعور بالتفاهة، إنّه يُفقدنا، ونحن نسلك شعابه، شغفَ الدهشة؛ دهشة الكشوفات المعرفية والفتوحات الثقافية الجديدة، لأنّنا حتماً لن نعثر إلا على ما كنا نعرفه مسبقًا، هذا ما عبر عنه أحد الباحثين العرب المعاصرين من خلال التمييز بين ما سماه "تطبيق المنهج" و"المنهج المطبّق"[1]، في الحالة الأولى يكون المنهج مجرّد أداة والنتيجة شيئًا آخر لا يمكن التكهن بها، أما في الحالة الثانية فالمنهج ذاته لا ينفصل عن الإيديولوجيا، إنّ المنهج يضم لا الأدوات الموظفة لتحليل المادة المعرفية فحسب، بل إنّه يحتوي كذلك آليات إعادة الصياغة، إذ يقدّم الخلاصات والنهايات التي ينبغي بعد ذلك التصرّف في المادة المعرفية الخام لتطاوعها وتتطابق معها، وفي هذا الصدد يقول باحث معاصر "إنّ المنهج لا ينتج في النهاية إلا ما يبحث عنه أو لا يجيب إلا على الأسئلة التي يطرحها. إنّ أيّ منهج يتضمن إجاباته ولا يوصلنا إلى شيء جديد"[2].
وحضور الهاجس المنهجي، على كل حال، ليس حديثًا، بل هو تقليد علمي قديم، وإن لم يكن بمثل الكمّ المعاصر، حيث يخصّص الكُتاب الآن فصولاً كاملة في مؤلفاتهم من أجل التعريف بالمناهج الموظفة في الدراسة، فعلى سبيل المثال كان ابن رشد معتنيًا غاية العناية بالدرس المنهجي، إلى حد أنّ بعض كتاباته يمكن عدها مداخل ذات طابع منهجي، ككتاب "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"[3]، ففي هذا المؤلف يقدم أبو الوليد ابن رشد بديلاً منهجيًّا للرؤى السائدة التي لم يكن يرتضيها، إنّه يحدد الخطوط العريضة لمقاربة المواضيع ذات الصلة بالألوهية والنبوة والمعاد.. إلخ، مع ذكر بعض الإشارات التطبيقية التي يحذو فيها حذو توجيهاته المنهجية. بل إنّه في "فصل المقال"[4] يعزو الاختلاف في الرؤى والتصورات إلى تباين مناهج الاستدلالات، فبين "الشريعة" و"الحكمة" هوّة في نمط الاستدلال، إذ الأولى خطابية والثانية برهانية، وإن لم يكن الاختلاف يمسّ مقاصد كلّ منهما وغاياته؛ فهما معا يقودان إلى الفضيلة.
إنّ هذا الوعي بأهمية المنهج مهمّ من زاويتين، بالنسبة إلينا لأنّه يضفي نظامًا على بنائنا المعرفي، ويجعلنا نمسك في متاهات البحث بخيط ناظم نحوم حوله حتى نتجنب التيه، ومن جهة أخرى فالوعي به بالنسبة إلى الاحتكاك مع نصوص القدامى يرشدنا إلى وجود الرؤية القبلية بشكل عام في فهم قضايا دينية أو فكرية عمومًا، وهذا قد لفت انتباه المفكرين المحدثين إلى ضرورة استحداث منهج يقارب المضامين على ضوء القبليات والمسبقات، وقد رام المفكرون فهمًا أمثل للنصوص التي وصلتنا عن أفق تاريخي مغاير يتجاوز المضمون ويتطلع إلى الحفر في محدداته وأنساقه التي تتنزل منزلة المنبّهات والمحفّزات أو دواعي الاختيارات. وبالتالي الكشف عن أسباب اختلاف الفهوم والتأويلات المتباينة للنص الواحد. إنّ الرغبة في الحفر في الخطاب لاستخلاص دواعيه السيكولوجية أو أنساقه الذهنية الناظمة أو رسم صورة واضحة عن المسرح التاريخي الذي احتضنه ووجهه يعني أنّنا نقتفي أثر هرمس الإله اليوناني الذي يرتحل بين الأبعاد والمستويات الأنطولوجية المختلفة، متنقّلاً من عالم الآلهة حاملاً رسالة بلغتهم الملغزة، قاصدًا عالم الإنسان مترجمًا شفرة الخطاب الإلهي إلى لسانه الذي يفهمه. إنّنا نتحرك على أرض الهيرمينوطيقا.
وقد يبدو واضحًا أنّ الدراسات الهيرمينوطيقية في الفكر العربي المعاصر ضئيلة نوعًا ما، إنّها الآن في مجملها تكاد لا تتجاوز مرحلة نفض الغبار عن مفهوم الهيرمينوطيقا والاستئناس به، أعني تعريف المفهوم فلسفيًّا واستجلاء دلالته في الفكر الغربي الأوربي منذ عصر النهضة، ولا تتجاوز ذلك إلى التطبيق، أي إنزال أدوات الدرس الهيرمينوطيقي على التراث العربي الإسلامي، ومن المؤلفات العربية التي تولت مهمة رفع اللبس والغموض عن المفهوم وتتبع تموجاته الدلالية نذكر "فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا"[5] لعادل مصطفى، و"الهيرمينوطيقا والفلسفة"[6] لعبد الغني بارة، وفصلاً من كتاب نصر حامد أبي زيد "إشكاليات القراءة وآليات التأويل"[7].
أما تطبيق آليات المنهج الهيرمينوطيقي على الفكر الديني عمومًا، خصوصًا مفسري الوحي والمتكلمين والفقهاء، فتظل دراسة محمد مجتهد الشبستري "هيرمينوطيقا القرآن والسنة" من أهم المؤلفات التي حاولت دراسة قبليات مفسري الوحي والفرق الكلامية والشخصيات العلمية ذات التأثير والحضور في الفكر الإسلامي. إنّ الباحث استمد عدّته المنهجية من درس الهيرمينوطيقا المعاصرة، وقرأ على ضوئه تباين التأويلات والتفسيرات التي يستشفها المفسّرون والفقهاء والمتكلّمون وتنوعها، كل من زاوية اختصاصه واهتمامه، لنص ديني واحد، وهذه من غير شك رتبة متقدمة، ذات أفق إبستمولوجي رحب، في فهم هذه الفسيفساء الزاخرة بالتنوع بل وتناقض الرؤى للنص الديني.
غير أنّ الملاحظة التي تفرض نفسها علينا ونحن نطالع الفصل الأول للكتاب الذي خصصه الشبستري لتحديد الخطوط العريضة للمنهج الهيرمينوطيقي هي أنّ الباحث مارس نوعًا من الانتقائية في كشف آليات هذا المنهج. صحيح أنّ ما ذكره هو من صميم الهيرمينوطيقا لكن المفهوم يظل أوسع مما ذكره، من هنا فقد غاب التبرير الفكري لهذه المقتضيات المنهجية التي اختارها وانتقاها. إنّ مفهوم الهيرمينوطيقا متنازعٌ على نحو كبير في تحديد جذوره الإيتيمولوجية، إضافةً إلى أنّ المفهوم كما كان عليه في مرحلة النضج الفلسفي مع الفيلسوف الألماني "شلايرماخر" لم يظل مستقرًّا بل عرف تطورات هامة غفل الشبستري عن الإشارة، ولو باقتضاب، إلى التواءاتها الدلالية والتراكمات المعرفية الهائلة التي شيّدها فلاسفة جاؤوا بعد "شلايرماخر"، بل إنّ الباحث اعتصر ما رآه ناجعًا للتوظيف في البحث، ثم راح يقرأ على ضوء تلك الالتزامات المنهجية فصولاً من التراث الديني.
وكاستطراد على الملاحظات المنهجية، يكاد المفكر الإيراني يختزل النظرية الهيرمينوطيقية في فكرة وجود قبليات ومسبقات وتوقّعات لمفسري النصوص الدينية والفقهاء الذين يبذلون الجهد لاستخلاص الفتاوى والأحكام، إنّه يذكر "الدائرة الهيرمينوطيقية" لكن ذكره جاء عرضًا فقط ومن غير تلمس أوجه توظيف المفهوم في دراسته، فضلاً عن أنّه يشير إلى وحدة التجربة الإنسانية، وهي فكرة يلح عليها فلاسفة الحياة مثل "ديلتاي" الذي يعد كذلك من منظّري الهيرمينوطيقا[8]، لكننا نكاد لا نعثر كذلك على تجسد في كتابه لأنموذج تحضر فيه مقارنة بين الحاضر المعيش والماضي الفائت، وهو ما قد ينم عن استغلال حقيقي لفكرة وحدة التجربة الإنسانية.
والمسألة الأخرى التي تغيب كذلك في الكتاب هي الحس التاريخي. إنّ مقاربة القبليات والتوقعات من غير استحضار للواقع التاريخي يجعل البحث عمومًا ينحو منحًى رومانسيًّا بالمعنى الفلسفي للكلمة، أي أنّه يُقدم كيان الإنسان المبدع لنص ما، قد يكون تفسيرًا أو غيره، كما لو كان متوحّدًا غير عابئ بواقعه التاريخي، ومن الباحثين القلائل الذين ميّزوا بين النزوع الرومانسي والتاريخي في كشف طبيعة المسبقات المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد، داعيًا إلى ضرورة إعادة الاعتبار للتاريخ وتجلياته المختلفة كفضاء ساهم في بلورة شخصية المفسر والمتكلم والفقيه، وبالتالي رسم أفق قبلياتهم ومسبقاتهم، يقول: "إنّ إقامة الهيرمينوطيقا على أساس جدلي إضافة حقيقية ولكنها تحتاج لتأسيس هذا الجدل على أساس مادي"[9]. صحيح أنّ الشبستري يشير أحيانًا إلى تأثير الواقع التاريخي في الأسئلة التي يطرحها المفكر وكذلك توقعاته من النص، كإشاراته العابرة للتفسير العلمي للقرآن وربطه بالتقدم العلمي الهائل الذي عرفته البشرية في القرون المتأخرة، وهو ما لم يكن متاحًا في الماضي، ومنه فلم يكن هذا البعد العلمي حاضرًا بشكل كبير كما هو الحال الآن، لكن تظل إشارات عابرة ووجيزة، وربما كذلك يعوزها العمق الكافي، أما في الماضي فلا يحضر البعد التاريخي نهائيًّا.
لننظر الآن ما معنى أن يقرأ الباحث الأصلين القرآن والسُنّة على ضوء المنهج الهيرمينوطيقي؟
إنّنا حين نعلن وقوفنا على أرضية هيرمينوطيقية، نتنفس برئة مفاهيمها وتنبض كلماتنا بنبض قلبها فإنّنا نبتعد عن إطلاق أي قيمة معيارية، إنّنا نكون بمنأى عن منطق الصواب والخطأ، إذ ليست غاية الباحث المتسلح بنظرة هيرمينوطيقية أن يحدد أي التفسيرات والتأويلات الأصوب، بقدر ما يسعى للفهم والتفهم، إنّها ليست نظرة معيارية تحتكم إلى معيار محدد على ضوئه تصدر حكمًا ما، لكنه حفر إبستمولوجي ينظر في الأسس الذي قامت عليه رؤية ما، سواء كانت رؤية تأويلية أو كلامية أو فقهية. من هنا نستوعب تأكيد الباحث على أهمية القبليات والتوقعات، أي أولوية معرفة ما يتنزل منزلة الدوافع الفكرية والنفسية والتاريخية، يقول الكاتب "هذا الكتاب يهدف إلى بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ المفسّرين للوحي الإسلامي ينطلقون في تفسيرهم للقرآن والسنّة على أساس القبليات والتوقعات والمسبقات الذهنية لهم، ومن هذه الجهة سمينا هذا الكتاب هيرمينوطيقا القرآن والسنة، وليست المسألة في هذا الكتاب أنّ أيّا من المفسرين أو الفقهاء طرح تفسيرًا صحيحًا أو فتوى صحيحة"[10]. ومن غير شك فهذا الطرح ذو نجاعة كبيرة إذ معظم ما بلغنا من الماضي، وهو يشكل أداة للعراك الإيديولوجي في الساحة الثقافية والسياسية، لم يعد له أي تأثير فعلي إيجابي في حاضرنا. قد يفيدنا في إحداث نقلة نوعية وقفزة إلى الأمام، اللهم إن استثنينا النفَس القيمي الممتزج بالإيمان والذي يمكن أن نعدّه كونيًّا وأبديًّا، فأفقنا التاريخي والذهني قد تجاوز أفق أسلافنا، من هنا فالانخراط في الصراع الذي جرى في الماضي وتصويب أحد الأطراف واعتبار الذات امتدادًا لها لا يؤدي إلا إلى أسر الذات أكثر فأكثر في هذا الماضي، والذهول عن شرط اللحظة التاريخية الراهنة. إنّ إعجابنا بتيار ما؛ سواء كان عقلانية المعتزلة أو روحانية الصوفية، يجب أن لا يشدّنا إلى ذلك الماضي، فهؤلاء اجتهدوا في حدود إمكاناتهم التاريخية.
ولهذا فالباحث يرجع سوء فهم جينيالوجيا الاختلاف بين التأويلات والتفسيرات وتباين آراء المذاهب الفقهية والكلامية إلى عدم إيلاء قبليات هؤلاء الأهمية التي تستحقها، وقد بقي هذا العامل خفيًّا نظرًا لاهتمام الباحثين بالمباني والمضامين فقط، يقول الشبستري "إنّ العامل الرئيس لاختلاف الآراء والفتاوى الذي يمتد بجذوره إلى الاختلاف في القبليات والتوقعات بقي خفيًّا عن الأنظار وتم التركيز فقط على العامل من الدرجة الثانية، يعني الاختلاف في البحوث والمباني في علم الأصول"[11].
وفي بسطه لنظرته في تخلل القبليات سيرورة الفهم كعملية ممتدة في الزمن وليست لحظية آنية وفجائية، يقدم الباحث بعض الأمثلة المحسوسة التي يمكن اعتبارها بداهات ومسلمات يقرّها الكاتب المتمرّس ولا يمكن الاعتراض عليها إلا مكابرة، فمثلما هو معلوم لا يمكن أن يبني أي إنسان معرفته من فراغ، وكل تفكير في موضوع ما يقتضي وجود حد أدنى من الإلمام بتفاصيله، وإلا فإنّ المجهول المطلق من اللاّمفكر فيه يوجد خارج إمكانات تفكير الإنسان وأفقه. إنّ أفقه الفكري لا يمكن أن يبلغه أو يحوم حول حماه، لكن الشيء الآخر الأكثر أهمية أنّ هذا الحد الأدنى من المعرفة الذي يجعل الإنسان مؤهلاً وقادرًا على التوغل في أغوار الإشكالات الفكرية يؤثر بشكل كبير في اختياراته، بل يمكن القول إنّ الكثير من الناس يعتبرون أول ما لُقنوا من معارف حقائق مطلقة لا تقبل النقاش، أما المراجعات الفكرية فتتطلب قدرًا من الشجاعة والنزاهة المعرفيتين، وقد صوّر أبو حامد الغزالي هذا التعلق بالقبليات المذهبية تصويرًا جيدًا فكتب يقول: "ولذا تورَد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبت إليه. وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العلماء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقًّا وقواهم على اتباعه"[12].
إنّ الفهم يدور في دائرة مفتوحة تسمى في الهيرمينوطيقا "الدائرة الهيرمينوطيقية"، فالمسبقات والأحكام العقلية، بل والتطلع لمعرفة موضوع ما أو ما يسمى بـ "التوقعات" تدفع الرغبة الإنسانية إلى مزيد من الشغف المعرفي، وتشكّل الدعائم السيكولوجية التي من دونها لن يكون للإنسان أي ميول للاستزادة من العلم، ومن خلال هذا التفاعل بين المسبقات والمُدْخلات الجديدة تتسع هذه الدائرة أكثر، يقول الشبستري "إنّ أي عالم أو مفسر أو كاتب لا يستطيع أن يخلق أفكاره ومعارفه من العدم ويصوغ آراءه ونظرياته من الصفر، فكل شخص إذا أراد الحصول على معرفة أكثر فإنّه يملك مسبقًا معرفة مجملة لهذا الموضوع، فلو لم يكن لديه أي معرفة بموضوع معين فإنّه لا يوجد في نفسه أي علاقة ورغبة في فهم أو تبيين ذلك الموضوع بوصفه عملاً إراديًّا"[13]، إنّ ما ذكره هنا الشبستري يعد من الأمور المألوفة التي جرّبها الإنسان الباحث، وقد عبّر عنه الفينومينولوجيون بعبارة بليغة حيث قالوا "إنّ الوعي هو وعي بشيء ما"، فكل كاتب مرّ بتجربة كتابة في موضوع استفز كيانه الفكري واع أنّ بناء المعرفة وصوغ فهم لإشكال أو ظاهرة ما يتمان عبر مد وجزر، ذهاب وإياب، فبدءًا من رغبة، قد تكون معرفية أو سيكولوجية، تبتدئ سيرورة البحث والتقصي، وانطلاقًا من دائرته المعرفية التي تكون ضيقة في بادئ الأمر، وعلى أساسها، يشيد هرمية بناء معرفي جديد، وهكذا.. ولا تتبدى هذه الحقيقة في شيء كما تتبدى في تجربة الكتابة، فذلك الترنح القلق بين الأفكار والتأرجح المضطرب بين المواقف تجعل بدء المؤلف بكتابة المقدّمة مخاطرة قد تنم عن غرّ الكاتب وعدم استئناسه بالكتابة فنًّا، إنّ المقدّمة هي مرآة الكتاب الشفافة التي تكشف عما وراءها، تكشف المناهج والآليات التي وظّفها الكاتب، وتصف الخطوات التي اتبعها الباحث من مستهل بحثه إلى نهايته، كما تبرز ترتيب الفصول ومضامينها الأساسية، ولا جدال أنّ هذه السيرورة الممتلئة بالمنعطفات غير المحسوبة لا تكون في الغالب محددةً سابقًا وبشكل قاطع وحاسم، بل إنّ قلقًا يداهم الباحث وهو في خضم البحث، ما يستحثه ويغريه على إحداث تغييرات وإدخال تعديلات، ومن هنا تأتي فكرة إرجاء كتابة المقدمة إلى النهاية، أي إلى حين يفرغ من تحرير متن الكتاب.
بل إنّ تغلغل القبليات في العمل الفكري يتجلى سافرًا في التساؤل، ولا يتبدى ذلك من وجه واحد فقط. إنّ طرح السؤال ينم عن اختزان الفكر الإنساني لمعرفة يود تطويرها، وإلا فإنّ الاستشكال عن المجهول ممتنع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنّ السؤال يكون في الغالب إملاءً اجتماعيًّا تاريخيًّا، فاختلاف الأسئلة من عصر إلى آخر يدل على أنّ العمل الفكري لا يتعالى عن واقعه، ما يعني أنّ الفسيفساء الاجتماعي يقدح في داخل المرء أسئلة يبحث لها عن إجابات وافية تشفي حيرته، والوجه الآخر للمسبقات الفكرية بل والتوقعات تسفر عن نفسها عندما نلتفت إلى "المسؤول"، فالجهل بمسألة ما ثم طرح السؤال للمعرفة على مسؤول معين (المسؤول هنا اسم مفعول من سأل: أي الذي يُطرح عليه السؤال) ينم عن تجذر القبليات، يتجلى ذلك في قبلية أنّ ذلك المسؤول يمتلك أجوبة أسئلتنا، وهي فكرة قبلية قد لا يكون المرء، في الغالب، متحققًا منها، يقول الشبستري "إنّ نقطة البداية للمعرفة لا تكمن في السؤال بل في القبليات الذهنية الموجودة عن ذلك السؤال، وهذه القبليات لا تنحصر في السؤال بل في المسؤول أيضًا، فالسائل يجب أن يعلم أنّ الشخص أو النص مورد السؤال يملك أجوبة عن ذلك السؤال، وهذا بذاته يمثل قبلية أخرى"[14]، وبعبارة أخرى إنّ المفسر أو الفقيه لا يتوجه بالسؤال إلا إلى نص يتوقع أن يجد فيه أجوبة أسئلته "وهذا التوقع المعين للمفسر من شأنه أن يرسم مسيرة السؤال بحيث لا يطلب من نص فلسفي جوابًا تاريخيًّا، أو يطلب من نص تاريخي جوابًا فلسفيًّا"[15]. وهذا الجدل عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور من خلال إشارته لتداخل عمليتي الفهم والاعتقاد، فكل منهما يقود إلى الآخر، لكن إذا كان الاعتقاد رهينًا بالفهم، وهو على كل حال غير مستغرب، فإنّ الغرابة التي لا نوليها ما تستحق من الاهتمام هي أن نكون في حاجة للاعتقاد لكي نفهم، يقول بول ريكور "يجب أن نفهم لكي نعتقد، ولكن كذلك يجب أن نعتقد لكي نفهم"[16].
لنعد الآن إلى التفكيك والحفر الذي مارسه الشبستري على تفسيرات الفرق الإسلامية. فابتداءً يقسّم الباحث طبيعة التفسيرات إلى: فهم أهل الحديث والأشاعرة والسلفية، باعتباره فضاءً واحدًا متناغمًا على الرغم من بعض الاختلافات التي لا تمس جوهر القبليات، ثم فهم المعتزلة الذي يتنفس في فضاء التعقل الكلامي، وفهم الفلاسفة الذي تختلف قبلياته العقلية عن قبليات المتكلمين، فقبليات العرفاء.
منطلقًا من بعض الدراسات الغربية حول الظاهرة الدينية والمقدس، يرى الباحث أنّ القبليات التي تتعلق بالسلفيين من أهل الحديث والأشاعرة تتوافق على طول الخط مع كل ظاهرة دينية تحضر فيها المقدسات، فحيث يحضر المقدس تكون هناك حالة جذب وانجذاب تتجسد في مشاعر الاستسلام والتبعية المطلقة، وهذه الحالة نجدها في صدر الإسلام مع حضور النبي عليه السلام، حيث كان الفضاء الذي يتنفس فيه أتباع الإسلام هو فضاء الاتباع والاستجابة لأوامر الرسول من غير استشكال أو اعتراض، وقد تواصل هذا النزوع مع أهل الحديث، يقول الباحث "هذا الفضاء من الاستماع والتسليم استمر بعد رحلة النبي أيضًا لأهل الحديث ومن بعدهم الأشاعرة"[17].
لكن هل هذا التسليم لا يخلو من تعقل؟ يرى الباحث أنّ الأمر ليس كذلك، فهؤلاء السلفيون ينطلقون من مقدمة قبلية فحواها أنّ ما يخبر به النبي يندرج تحت مُسمّى الغيبيات، ومن هنا فإنّ شعاع التفكير العقلاني لا يمكنه أن يبلغ مدارك هذه الغيبيات، وبالتالي فإنّ الموقف العقلي السليم إزاء الظاهرة الدينية هو التسليم والاتباع، وهكذا يمكن أن نلحظ أنّ ثقة السلفيين بموقفهم قد تجسد في الموقف الأشعري، فهذا الأخير يعد مرتبة ناضجة متقدمة من تطور هذا الفكر الاتباعي، إنّه رتبة التنظير لإبعاد العقل نفسه من الحيز الديني باعتباره الموقف العقلي الصحيح، فالباحث يتحفظ مما هو شائع من اتباع أهل الحديث والأشاعرة للنقل فقط، ويعتبر هذا التعبير غير دقيق. إنّ ما يدافع عنه البحث هو أنّ هؤلاء على الرغم من اتباعهم لما في القرآن والسنّة باستسلام تام استجابةً لبعض الآيات القرآنية التي تمدح الطاعة وتذم وتحذر من مغبة مشاققة الرسول عليه السلام، إلا أنّهم يعتبرون أصولهم هذه التي تحيد عن التقعيد العقلي وتنفر منه ممكنة عقلاً، بل إنّ ابن تيمية وهو من أهم مجددي المذهب السلفي القائم على الاقتداء والاتباع يذب باستماتة عن عقلانية أهل الحديث مسفها، في مفارقة غربية، من يرفع شعار العقل سواء من العقلانية الكلامية أو الفلسفية.
في المقابل، يرى التيار الاعتزالي الأولولية في إثبات أصول الدين هي للعقل، والنص عندما يلمح إلى أصل من أصول الدين فإنّما يفعل ذلك من باب التوجيه إلى نهايات مقاصد الشرع، أو بعبارة أخرى يرشد العقل الإنساني إلى الغايات التي يحث عليها الشرع والتي ينبغي بواسطة الاستدلال والنظر التوصل إليها، وإلا فإنّ العقل هو الذي يتولى مهمة تأصيل الأصول والبرهنة عليها، وقد عبر القاضي عبد الجبار عن انفراد العقل بالبرهنة على أصول الدين المختزلة في التوحيد والعدل وعدم إمكانية تأسيسهما على النقل بالعبارة التالية "إنّ كلام الله في مجال العقليات كالتوحيد والعدل لا يدل على شيء" وفي موضع آخر يقول "إنّ الدلالة الابتدائية للقرآن على العقليات محال"، وأقول؛ إنّ العبارة الأخيرة توضح تبادل الأدوار بين العقل والنقل في المرجعيتين السلفية والاعتزالية، إنّهما معاً ينفيان أن يكون ثمة تصادم بين المكونين العقلي والنقلي، الاختلاف يحتدم حول المكون الذي يؤسس الآخر، أي لمن له "الدلالة الابتدائية"، والمعتزلة على عكس النقليين تعتبر النظر أول تكليف.
وتضرب هذه الإشكالية بجذورها في مسألة لسانية كانت لها امتدادات ميتافيزيقية تتعلق بأصل اللغة؛ هل هو التوقيف أم المواضعة؟ إنّ المعتزلة دافعت عن بشرية جينيالوجيا اللغة، فالأسماء وضعها الإنسان للمسميات التي في ذهنه ويعرفها، وليست توقيفًا كما فهم بعض من أوّل قول الله تعالى "وعلم آدم الأسماء"، من هذا المنطلق وكما يقول الشبستري "لو قلنا إنّ الله يتحدث بلغة البشر فينبغي أن تقول إنّ الوحي يقع في دائرة المفاهيم البشرية ويكون محدودًا بمقدار محدودية هذه المفاهيم، وهذا يعني أنّ الوحي لا يستطيع بيان مفاهيم سوى المفاهيم البشرية ولا يملك مضامين سوى ما يحصل عليه الإنسان بعقله"[18]، والقضية الأخرى التي بنى عليها المعتزلة القول بأسبقية العقل هي "القصد"، فهذا التيار الفكري يرى أنّ فهم الكلام الإلهي لا يتوقف على قراءة دلالة الكلام بمعزل عن فهم المتكلم، إذ في الشاهد قد يدل الكلام من غير أن يكون صاحبه قاصدًا إياه، وخشية من الوقوع في المطب ذاته دعا المعتزلة إلى فهم القصد الإلهي، وعلى هذا الأساس يقول القاضي عبد الجبار "من أجل توافر الدلالة يجب تجاوز الكلام إلى المتكلم"[19]، وإذا كنا نصل لفهم القصد الإنساني بالاضطرار كما يقول، أي من خلال الاحتكاك المباشر بالإنسان والتواصل معه وكذلك من خلال السياقات المحايثة لكلامه، فإنّ معرفة الله لا تمكن إلاّ بالعقل.
أما بالنسبة إلى قبليات الفلاسفة، فالباحث يخص أبا الوليد ابن رشد بدراسة خاصة باعتباره ممثل التيار الفلسفي، وإن كان، كما هو معلوم، لم يكن التيار الفلسفي في المغرب يتفق في خطوطه العريضة مع التيار الفلسفي المشرقي، بل إنّ بعض الباحثين يرفعون تلك الهوة التي تشكلت بين المدرستين إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية[20]. من حيث الإشكالية التي شغلت الباحث والقبليات التي تبلورت من داخل اشتغال ابن رشد بها، فالباحث يرى أنّ السؤال الذي أراد ابن رشد الإجابة عليه هو حكم الاشتغال بالمنطق والفلسفة؟ وهل يمكن لهذه الأخيرة أن توظف في الكشف عن الحقائق الدينية؟
فابتداء يرى الشبستري أنّ أبا الوليد يقر بتباين المنظومتين الدينية والفلسفية، فلكل منهما عبارة تخصه، ويسلك في بيان حقائقه سبلاً مختلفةً، فبينما يميل الدين إلى الإقناع بواسطة الخطابة والموعظة والترغيب والترهيب، يسلك الفيلسوف طريق البرهان القائم على القياس والانطلاق من المقدمات اليقينية للوصول إلى حقائق صحيحة، يقول الشبستري "يقبل ابن رشد أنّ الشريعة والحكمة ظاهرتان مختلفتان، فإحداهما تستند إلى الوحي والأخرى إلى التعقل والتفلسف"[21].
ومن خلال تأويل بعض الآيات بنفَس فلسفي يقرأ فيها دعوة إلى النظر والاعتبار مثل قوله تعالى "فاعتبروا يا أولي الألباب" و"يتفكرون في خلق السماوات والأرض"، يصل إلى أنّ الإسلام "يشير إلى وجوب أو استحباب التفكر والنظر والاعتبار فيما يحصل عليه الإنسان من معلومات، وهذا العمل ليس سوى قياس منطقي"[22]، إنّ المنطق بحكم أنّه ينظم التفكير الإنساني كما كان يُعتقد فيما مضى، إلى حد سماه أبو حامد الغزالي "معيار العلم"، لأنّه الميزان الذي يتم بواسطته التمييز بين الصواب والخطأ، فإنّ دراسته مطلوبة يرفعها ابن رشد إلى حكم الواجب، وتفصيل ذلك أنّ تمام المعرفة البرهانية تقتضي إلمامًا كذلك بأركان القياس وشروطه، وعلمًا بالمقدمات وأنواعها من ظنيات ومشهورات ويقينيات، وكذلك اطلاعًا على أنواع القياسات من جدليات ومغالطات.. إلخ، وهكذا فلابد لمن أراد أن يتسلح بمعرفة يقينية في أصول الدين من أن يدرس المنطق، ولا يضر أن يكون هذا العلم من إنشاء أمة لا تشاركنا الملة نفسها، إذ أنّ المنطق بمثابة الآلة التي توظف في الذبح، فكما أنّ الذي يقبل على ذبح أضحيته لا يراعي أن تكون تلك الأداة من صنع مشارك في الدين، فكذلك لا يشترط في مؤسسي هذا العلم أن يكونوا كذلك مسلمين.
غير أنّ ابن رشد لا يصنف ضمن أولئك الباحثين الذين يعتقدون أنّ النص الديني نفسه راعى قواعد المنطق وأدواته في خطابه، إنّ ابن رشد يختلف عن هؤلاء من جهة أنّه يرى أنّ القرآن نبه ودعا إلى الانفتاح على الثقافة الفلسفية من أجل تحصيل معرفة يقينية، يقول الشبستري مميزًا بين الاتجاهين "وكلام ابن رشد هذا، وهو أنّ المنطق والفلسفة أدوات لتحصيل تلك المعرفة التي يريدها الشارع، يختلف عن كلام الأشخاص الذين يقولون إنّ القرآن نفسه يستند إلى مقولات ومفاهيم فلسفية ويتحدث بمنهج الفلسفة"[23]. أما ما قد يعرض على المشتغلين بالفلسفة من ضلال فليس مقترنًا بالضرورة بالمنهج الفلسفي، وإنّما هو شيء عرضي وليس جوهريًّا، بالضبط كما أنّ اتصاف الفقهاء بالشره وحب الدنيا لا يمكن أن يتخذ ذريعة لرفض الفقه نفسه.
وبخصوص قبليات العلاقة المفترضة بين البرهان والشريعة، فابن رشد يرى أنّ الحالة الأولى هي سكوت الشرع عن قضية ما أثبتت بالبرهان، وهذه الحالة لا يمكن اعتبارها تعارضًا بين المحدّدَيْن، إذ أنّ النص الديني أصلاً لم يبتّ في تلك المسائل التي أثبتها الفيلسوف بالبرهان، وأما الافتراض الآخر فهو أن يكون الشرع قد حسم في قضية ما، فإذا كان البرهان يتفق مع ظاهر الشرع فلا يطرح الأمر أي إشكال، أما إذا كان ذلك الظاهر مخالفًا للبرهان فينبغي تأويل ذلك الظاهر ليتوافق مع حكم العقل.
وتختلف تمامًا قبليات الصوفية والعرفاء عن مسبقات الفضاءات التي ذكرناها سالفًا، فالعرفاء يعزفون بوعي تام عن العقل ولا يلزمون أنفسهم بأي مبادئ لسانية أو لغوية، إنّهم يعتمدون مسبقًا ثنائيّة الظاهر والباطن، فالأوّل بمثابة قشور والثاني كاللبّ، ويعتقدون أنّ وراء كل معنى ظاهر تثوي معان باطنية يجدها العارف منقدحة بداخله ويتوصل إليها من غير بذل أي جهد عقلي، وإنّما هي كشوفات يراها بعد أن ترتفع عنه حجب الظواهر، غير أنّ الصوفية مع ذلك يميلون لكتمان هذه الحقائق الباطنية خوفًا من أهل القشور من أهل الظاهر والفقهاء، لذلك فهم لا يسمون تأويلاتهم تفاسير بل يطلقون عليها لفظ "الإشارة".
ويستند الصوفية في تأكيد هذه القبليات وترسيخها إلى الآية الكريمة "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم"، فحسب تأويلهم العرفاني؛ كلّ آية لها وجهان، وجه آفاقي يتبدى في الأفق الكوني الخارجي وآخر داخلي يتجلى في النفس، وواضح أنّ هذه الآية لو طبقنا قواعد اللغة العربية سنجدها بعيدة عن هذا التأويل الباطني، إنّ الواو الفاصلة بين "الآفاق" و"الأنفس" تفيد التغاير، فليس الآفاق والأنفس وجهَيْ عُمْلة الآية كما يستشف الباطنية، بل ما يفهم الآن أنّ الآيات الكونية الدالة على الوجود والقدرة والعلم الإلهي إما أن تكون في داخل الإنسان وهذا مصداق قوله تعالى "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"، أو في الإحكام الذي نصادفه في العالم الخارجي كتعاقب الليل والنهار ونزول المطر وتسخير الرياح والسحاب وتنوع الكائنات الحية.. إلخ.
ومن الأمثلة على هذا الارتحال من الدلالة الظاهرة إلى المعاني الباطنية التي يركب بعضها فوق بعض تفسير العرفاء لقوله تعالى "ولا تشركوا به شيئًا"، إنّ المعنى الظاهر هو التحذير من الشرك والدعوة إلى نبذه، وفي المقابل توحيد الله تعالى وحده، لكن هذا الظاهر له باطن وهو أن لا يخضع الإنسان لأي أحد، بل أن تكون تبعيته لله فقط ودينه، وتحت هذا المعنى الباطن نعثر على الدعوة لتحطيم الهوى الإنساني، فبعد أن استشف العارفون من الآية الكريمة عدم خضوع الإنسان لأيّ قوة خارجية، التفتوا إلى ذواتهم ودعوا إلى منع هواها والإحجام عن إشباع رغباتها، بمعنى آخر أن يتجرد الإنسان لربه، وهذا يقودنا إلى معنى آخر يوجد في أسفل طبقات الباطن وهو ضرورة تجنب الغفلة عن الله.
إنّ دراسة الشبستري على الرغم من خللها المنهجي الذي أشرنا إلى بعض وجوهه، وعلى الرغم من أنّها لم تتوسع في سبر أغوار القبليات، إذ أنّه على سبيل المثال عندما تناول قبليات ابن رشد لم يعقب على اتكاء ابن رشد في تعدد الطرق لبلوغ الحقيقة على الآية الكريمة "وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، فابن رشد أسقط في هذه الآية مباني الفلسفة الأرسطية على القرآن الكريم، وهذا وجه هام وأساسي في حضور القبليات، - على الرغم من هذه الثغرات - إلا أنّها ككل دراسة أوّليّة في حقل ما تظل محاولة رائدة، وتستحق أن تتخذ قاعدة لدراسات أخرى لاحقة، تتعقب الثغرات وتعمد إلى توسيع أفق الاشتغال الهيرمينوطيقي.
لائحة المصادر والمراجع:
ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق: محمد عابد الجابري، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998).
ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق محمد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998)
أبوزيد، نصر حامد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012).
بارة، عبد الغني، الهيرمينوطيقا والفلسفة: نحو مشروع عقل تأويلي، (الجزائر: منشورات الاختلاف، 2008).
الجابري، محمد عابد، نحن والتراث: قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993).
الشبستري، محمد مجتهد، هيرمينوطيقا القرآن والسنة، ترجمة أحمد القبانجي (بيروت: الانتشار العربي، 2013).
الغزالي، أبو حامد، المستصفى من علم الأصول، تحقيق د. محمد تامر، (القاهرة: دار الحديث، 2011)
مصطفى، عادل، فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا (نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر)، القاهرة، دار رؤية، 2007
Paul Ricoeur, Conflit des interprétations: Essais d’herméneutique. Paris. Ed du Seuil. 1969
[1] محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993)، ص 15
[2] نصر حامد أبوزيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص 38
[3] ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق: محمد عابد الجابري. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998).
[4] ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق محمد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998).
[5] عادل مصطفى، فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا (نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر)، القاهرة، دار رؤية، 2007
[6] عبد الغني بارة، الهيرمينوطيقا والفلسفة: نحو مشروع عقل تأويلي، (الجزائر: منشورات الاختلاف، 2008).
[7] يقول نصر حامد مشيرًا إلى فكرة "ديلثي" هذه "إنّ بين المتلقي والنص شيئًا مشتركًا هو تجربة الحياة"، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ص 27
[8] نصر حامد أبو زيد، إشكالات القراءة وآليات التأويل، مرجع سابق.
[9] نفسه، ص 44
[10] محمد مجتهد الشبستري، هيرمينوطيقا القرآن والسنة، ترجمة أحمد القبانجي (بيروت: الانتشار العربي، 2013)، ص 7
[11] نفسه، ص 8
[12] أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تحقيق د. محمد تامر، (القاهرة: دار الحديث، 2011)، ج1، ص 144
[13] الشبستري، هيرمينوطيقا القرآن والسنة.
[14] نفسه، ص ص 18-19
[15] نفسه، ص 24
[16] انظر:
Paul Ricoeur, Le Conflit des interprétations. Essais d’herméneutique. Paris. Ed du Seuil. 1969. p 401
[17] نفسه، ص 26
[18] الشبستري، هيرمينوطيقا القرآن والسنة، ص 130
[19] نفسه، ص 141
[20] انظر: محمد عابد الجابري، نحن والتراث، ص ص 43-44
يقول في هذا الصدد "تاريخ الفلسفة في المجتمع العربي الإسلامي هو تاريخ لحظتين في وعي هذا المجتمع. اللحظة الأولى تأسست إبستيمولوجيًّا على جهاز الميتافيزيقا الفيضيّة، وإيديولوجيًّا على دمج الدين في الفلسفة وطغت عليها نزعة روحانية مثالية جعلت القوى المتجهة إلى المستقبل في المجتمع تعيش في الحلم ما أخفقت في تحقيقه في الواقع. أما اللحظة الثانية فقد تأسست إبستمولوجيًّا من نقدية ابن حزم وابن تومرت وإيديولوجيًّا في الصراع السياسي بين دولة الخلافة الواحدة التي أدمجت الدين في الدنيا والدنيا في الدين، ودولة المغرب والأندلس التي كان وجودها في حد ذاته يؤكد إمكانية التعدد في الدنيا وفي إطار وحدة الدين".
[21] الشبستري، هيرمينوطيقا القرآن والسنة، ص 144
[22] نفسه، ص 145
[23] نفسه، ص 147