تقديم كتاب "الإسلام الآسيوي" لآمال قرامي
فئة : قراءات في كتب
قد يتبادر إلى الذهن أنّ فنّ الرحلة هو جنس من الكتابة قد أضحى رسما بعد عين، وأنّ عصر المعلومات قد حطّم كلّ الحواجز الحقيقية والوهميّة بين الأمم والحضارات، ولكنّك تجد في هذا الكتاب تصوّرا جديدا لفنّ الرحلة الذهنية، يأخذك إلى مجاهل جزر الهند وإيران وباكستان وماليزيا. هناك حيث مضت قرون من الزمن على وصول الإسلام وتوطينه في تلك الأراضي، ولكنك وإن كنت مسلما، فإنك تشعر أنّ كتاب "الإسلام الآسيوي" يلامس منطقة معتّمة من وعيك، حيث تقف مذهولا أمام نقص معرفتك بهذا الإسلام، وقد ساد الاعتقاد في ذاتك بأن الإسلام واحد.
يتبدّد ذلك الوهم، بسلسلة من الكتب تحدّثك عن الإسلام متعدّدا، تحت إشراف صاحب مشروع "الإسلام والحداثة" الأستاذ عبد المجيد الشرفي، تماما كمشروع "هارون ناسوتيون" في ماليزيا، حيث الحلم بإسلام ليبرالي منفتح مهده جامعي وآفاقه فكرية واجتماعية. يطمح إلى تغيير السائد من الإسلام المتحصّن بالحقيقة الواحدة والرؤية الدوغمائية، فإذا بثمار المشروع: إسلام سنّي، وشيعي وخارجي وكلامي وأسود وحركي... والحلقة التي تعنى بها آمال قرامي تتعلّق بأرض مجهولة لم تطأها أقلام الباحثين هي الإسلام الآسيوي، حيث تتنوّع الديانات والأعراق، ويؤرّقك سؤال التعايش السلمي والعنف الديني وإيثار الإسلام على المسيحية والبوذية والكونفوشيوسية بحكم الأغلبية.
العنوان كصاحبته سليل المشرف على السلسلة، هي وكتابها ثمار تجربة "الإسلام والحداثة" ومشروع الجامعة التونسية في تطوير الدراسات الحضارية التي تعنى بالأديان وتستنير في بحوثها بالمناهج الحديثة بحثا عن الحرية الفكرية وحق الإنسان في الاختلاف. وهاجس المشروع ظل حاضرا حتى الصفحات الأخيرة من الكتاب، إذ عرضت صاحبته ثمار إيمانها بالعقل والحرية، وانفتاح إسلامها على أراض خارج أسوار الأورثوذكسية السنّية والممارسات الطقوسية. وتبدأ رحلتها العلمية نقدا للمدونة في أرض معرفية شبه صحراوية، ومسلمين ولّوا وجوههم شطر الشرق الأوسط "وتناسوا أنّ العدد الأكبر من المسلمين موجود في آسيا."[1] وظلّت الدراسات، إمّا مرتبطة بنشأة الإسلام أو غارقة في التعميم والمغالطة تحتاج إلى التمحيص والنقد. وتسترجع الكاتبة قصة البدء، زمن الفتوحات، لتبين كيفية انتشار الإسلام في آسيا بين لغة السيف وسماحة المسلمين الفاتحين بدينهم وتجارتهم وأخلاقهم العربية. لتنتقل إلى رصد أشكال التدين في مجتمعات تفاعل الإسلام فيها مع التراث المحلي وتأثر بالعقائد السائدة قبل الإسلام، فتراوح بين الرؤية السنية المتشددة والرؤية الشعبية التي تحول الأضرحة ومقامات الأولياء الصالحين إلى دُور عبادة يتساهل أصحابها في تطبيق الطقوس التي يعتبرها البعض الآخر مقدّسة لا وجه للإخلال بها كي يستقيم الإسلام. فالظروف الاجتماعية والسياسية قد غيرت من وجه الإسلام حتى صارت ألوانه مختلفة وطقوسه متنوّعة. ولعلّ اتساع الموضوع قد جعل الباحثة تضطرّ في أحيان كثيرة إلى تنويع النماذج المدروسة من الدول الآسيوية بحثا عن تمثيلية أكبر للإسلام الآسيوي ذلك العملاق الجغرافي الذي لا يقهر، ولكنّها كانت تخرج دوما ظافرة بعيّنات دقيقة عن التفاعل بين الإسلام والواقع. فقد تلغى طقوس الصلاة ويقتصر الصوم على يومين ويلغى الحجّ أو تتغير وجهته، ولكن يبقى الإسلام رغم ذلك باديا في الممارسات اليومية كزيارة الأضرحة والتبرّك بالأولياء الصالحين والإيمان بالخرافات والإقبال على الطقوس السحرية والممارسات الصوفية وفي اعتقاد أصحابها أنّهم مسلمون لا ريب؛ فالتفاعل مع البوذية والكونفوشيوسية ولّد إسلاما مرنا تتنوع أشكاله وتختلف مقدّساته.
وقد حاولت آمال قرامي التعمّق في المسألة من خلال تخصيص فصل يبحث عن عوامل التغيير الطارئ على الطقوس، كدور الموروث القديم والعقائد المحلية والأعراف السائدة، وركزت نظرها على الإسلام الصوفي وتأثره بالفلسفات القديمة كالأفلوطينية وما ساد من ديانات، ولهذا تصير الصورة أشبه بقطعة فسيفساء تتداخل فيها العقائد والأديان والمعارف، وممّا لا شك فيه أنّ انتشار التصوّف وتحوّله إلى طرائق أفضى إلى تغيير صورة الإسلام، إذ لم يعد حسب رأي صاحبة الكتاب سوى قشرة رقيقة تخفي العديد من العقائد الوثنية الصرفة، وهي مسألة تحتاج إلى نقاش مادام الإسلام السنّي ذاته، من خلال تركيزه على الطقوس، متّهم من المتصوّفة بأنّه لا يلامس من جوهر الحقيقة الدينية سوى قشرها[2]، فهل تصير هذه التصنيفات ضربا من المركزية الإسلامية التي يمارسها الوعي المركزي مع الأطراف تحت تأثير الاختلاف، وأين هي تلك الصورة الأنموذجية للإسلام التي يمكن القول إنّها اللبّ وأنّ ما سواها قشور؟
لقد ظلّ الإسلام في كثير من الدول الآسيوية حسب رأي الكاتبة مجرّد قشر لجهلهم بجوهر الدين، فقد ظلّ ارتباط الخطاب الديني باللغة العربية عائقا أمام الكثير من الناس من أجل فهم تعاليم الإسلام والتعمّق فيها. وقد وجد الكثير من المسلمين الآسيويين أنفسهم يعيشون داخل أنظمة معادية للإسلام تمنعهم من ممارسة طقوسهم "فقد أجبرت فئات منهم على أن تعيش مغلوبة على أمرها ممنوعة من ممارسة شعائرها ولعلّ النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي هو خير مثال على ذلك. "فالقابض على دينه كالقابض على الجمر"[3] ومع ذلك يظل مسلما في حدود الممكن.
ورغم ذلك الواقع، فإن فريقا آخر من علماء المسلمين قد سلك طريقه في البحث تجديدا "فقد برزت طبقة من المفكرين التجديديين في آسيا حاولوا الجمع بين مقتضيات الحداثة من دون التنكّر لما هو صالح من النظريات والحلول التي فرضتها الممارسة التاريخية للإسلام."[4] فقد صارت مشاريع إحياء الإسلام وتجديده همّ الباحثين الجامعيين في أندونيسيا وإيران وماليزيا وباكستان والهند... وبدأ نجم كثير من المجدّدين يسطع في سماء الشرق والغرب عابرا أسيجة الفكر التقليدي وأسوار الفقه البالي. وظهرت نزعة التسامح عند كثير من الآسيويين وأيقن المفكّرون المعاصرون أنّه لا يمكن الزعم مطلقا بإمكان توّصل الناس في أي عصر من العصور إلى فهم كامل للدين يعجز اللاحقون عن التصرّف فيه أو إضافة أي شيء إلى وضوحه وكماله على حدّ عبارة عبد الكريم سروش. فإذا الانفتاح على الإسلام الآسيوي يأخذك في آخر الرحلة نحو أبواب تنفتح فيها آفاق التأويل على تعدد المعنى وروح الاختلاف... وتعود تماما كالسائح من الأرض الآسيوية الساحرة بصورة عن الإسلام المتعدّد والمتنوّع، كتنوّع المشاهد الطبيعية والديانات السماوية، ترسو بك السفينة أخيرا على شواطئ العلماء استخلاصا للنتائج وتحليلا لطبيعة الرحلة. وتظلّ الحقيبة الحاملة لهدايا الرحلة في ثمار البحث، لتعود بشيء من المعنى وبكثير من لذّة الاكتشاف من أرض يقصدها السيّاح طلبا للمتعة الحسيّة ويقصدها المتلقّي مع آمال قرامي طمعا في المتعة الفكرية والحضارية.
[1]آمال قرامي، الإسلام الآسيوي،ص9
[2] انظر المرجع نفسه،ص121
[3]- حديث نبوي.
[4]- آمال قرامي، الإسلام الآسيوي، ص163