تقديم كتاب "ثقافة أوروبا وبربريتها" إدغار موران
فئة : قراءات في كتب
تقديم كتاب
"ثقافة أوروبا وبربريتها" إدغار موران
كتاب "ثقافة أوروبا وبربريتها" إدغار موران، ترجمة محمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2007م.
لا يغطي الكتاب صفحات كثيرة، ولكن يضم أفكارا وطروحات مهمة، تحفر في مفهوم البربرية وعلاقته بالثقافة والحضارة، واللافت للنظر هي تركيز المؤلف عن تقريب الوجه البربري الذي تتميز به أوروبا؛ أي الحضارة الغربية. الكتاب يحتوي على ثلاثة فصول، وهي: الفصل الأول: بربرية أوروبية، والفصل الثاني: الترياقات الأوروبية، الفصل الثالث: التفكير في بربرية القرن العشرين.
بربرية أوروبية
يرتبط مصلح البربرية بالعنف بشتى أنواعه، الجسدي والمعنوي، من أجل إخضاع المعنفين لأمر معين يترتب عنه سلب ممتلكاتهم أو أوطانهم أو حريتهم... فالعنف يُعتبر المركّب الأساسي للبربرية، كونها تمثّل تلك الأعمال التخريبية التي تطال الذوات البشرية. في زمن الاستعمار، عمد المفكرون إلى صياغة خطاب مغلف بغلاف أخلاقي بهدف تبرير الاستعمار وجرائمه مفاده أن الرجل الأبيض يتحمل عبء المسؤولية التاريخية التي تقع على عاتقه لترقية وتحضير البرابرة من سكان الدول التي خضعت للاستعمار الأوروبي، والذين هم بطبيعة الحال ليسوا أوروبيين، فوجه بربرية الدول المستعمرة هنا لا ينحصر في طبيعة أحداث العنف تجاه أهالي الدول المستعمرة، بل يرتبط بالخطاب الثقافي التبريري لأعمال العنف. فذلك الخطاب التبريري بكونه لا يملك أي سند من الصحة والمشروعية قد ينقلب سلبا على أصحابه في لحظة من اللحظات. وكذلك هو الأمر مع "التقنيات التي أنتجها الإنسان، مثلها في ذلك مثل الأفكار [الخطاب] ترتد ضده. وتعرض الأزمنة الحديثة أمامنا تقنية تنفلت من عقالها بتخلصها من الإنسانية المنتجة لها. نتصرف مثل سحرة في طور التدريب، إضافة إلى ذلك، تجلب التقنية نفسها بربريتها الخاصة، بربرية الحساب الخالص، البارد الجليدي الذي يجهل الوقائع العاطفية المميزة للبشر"[1]
والسؤال هنا من أين جاءت أوروبا ببربريتها؟ الجواب يكمن في صناعة إنسان الاستهلاك والمادة؛ ف "الإنسان الاقتصادي الذي يجعل المصلحة الاقتصادية فوق كل اعتبار يميل الى تبني سلوكيات متمركزة حول الأنا، والتي تتجاهل الغير وتنمي انطلاقا من هذه الخاصية بربريتها الخاصة"[2]؛ فالمجتمعات الأولى في كل أنحاء المعمور منذ آلاف السنين لم تواجه هذه المشكلة بكونها مجتمعات صغيرة تشترك في كل شيء، فهي مكتفية بذاتها وليست في حاجة لغزو أراضي مجتمع آخر.
يرى الكاتب أن البربرية هي جزء لا يتجزأ من الحضارة، فأينما حلت الحضارة يصحبها وجه من وجوه البربرية، لماذا؟ لأن الحضارة تجعل من أصحابها متطلعين للتوسع، وبالتالي الغزو وما يصاحبه من عنف... ولهذا كان الرومان أكثر بربرية في العصر القديم[3] ونحن هنا لا نوافق المؤلف في هذا الرأي؛ لأن كل حضارة لها مرجعية تخصها عن غيرها، وبالتالي فالحضارة ليست واحدة، وليست متساوية من جهة أخطائها، فإذا كان الرومان أكثر بربرية فالأوروبيون ورثوا عنهم كل أشكال البربرية والعنف والتسلط على مختلف الشعوب، وهذا ما تميزت به أوروبا منذ خروجها إلى العالم في القرن 15م "في آخر المطاف نلاحظ اندفاعا هائجا لخمسة قرون من البربرية الأوروبية، خمسة قرون من الغزو والاستعباد والاستعمار. [لقد تمت] عولمة هذه البربرية الأوروبية"[4]
يختم المؤلف حديثه حول البربرية الأوروبية بنص متفائل مفاده "أكرر وأقول إن بربرية الغزو الأوروبية لم تعرف نهايتها بعد الحرب العالمية الثانية؛ فبالنسبة إلى فرنسا لم تعرف نهايتها إلا مع حرب الجزائر، وستنتهي فيما بعد بالنسبة إلى البرتغال مع أنغولا والموزمبيق، لقد قطعت أمم أوروبا علاقتها مع الكولونيالية، بل تخلت الأمم الأوروبية شيئا فشيئا –فما يتعلق بالبربرية التطهيرية- وبفضل تشكيل فضاء أوروبي، عن النزعة القومية المرتكزة على الصفاء والطهر الإثني. نحن إذن في عصر تعرف فيه البربرية الأوروبية تراجعا كبيرا، وحيث يمكن للترياق الثقافي الأوروبي الذي لعب دورا في هذا التراجع أن يسمح بتحديد هوية أوروبا".[5]
الغائب في هذا التفاؤل الجميل من لدن المفكر إدغار موران هو أن الحروب التي خاضتها أوروبا من داخلها بسبب الخلاف حول المستعمرات، ونقصد هنا الحرب العالمية الأولى والثانية، كادت أن تفني أوروبا بالكامل، مما جعل هذه الأخيرة تعمل جاهدة على تصدير مختلف الحروب والنزاعات إلى خارج السياق الجغرافي الأوروبي، وقد كان لأوروبا وأمريكا الدور الكبير في مختلف الحروب عبر العالم بعد الحرب العالمية الثانية بكونهم بائعي أسلحة، بهدف الحفاظ على مختلف مصالحهم الاقتصادية من الدول التي سبق لهم استعمارها، فوجه البربرية هنا وجه غربي متخفّ من وراء الأطراف المتقاتلة؛ بمعنى أن أوروبا استبدلت بربريتها ببربرية بالوكالة، في آخر القرن العشرين شهد العالم ذلك في مختلف الحروب في شرق أوروبا في البوسنة والهرسك، وفي الدول الإفريقية جنوب الصحراء، وفي العراق والآن في فلسطين... فالآن وتبعا لما يجري من صراع بين روسيا والغرب ليس هناك ضمانات لما سيحدث.
الترياقات الأوروبية
توقف المؤلف عند موضوع النزعة الإنسانية في الغرب، وسياق النهضة الأوروبية "فالنزعة الإنسانية هي تلك الفلسفة التي تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل شيء. إنها النزعة التي تثق بالإنسان وتتفاءل بإمكانياته، وإنه قادر على صنع التقدم الحضاري. وقد نشأت هذه الحركة الثقافية في إيطاليا أولا في القرن الرابع عشر، ثم انتشرت من هناك إلى بقية أنحاء أوروبا وبلغت ذروتها في القرن السادس عشر: عصر النهضة بامتياز، وهي تعتبر الإنسان أجمل الكائنات وأفضلها وأرقاها وتثق به وبمستقبله كل الثقة".[6]
فالنزعة الإنسانية في الغرب في نظر المؤلف، لها وجهان: أحدهما مسيطر والآخر أخوي، وهذا ما يتسبب في حدوث غموض حول المصطلح بالخصوص في القرن العشرين.
فالوجه الأول الذي يهدف إلى السيطرة: يضع الإنسان مكان الله؛ أي الذات الوحيدة في الكون، ويخصه بمهمة غزو العالم. إنها المهمة التي يسندها ديكارت للعلم: جعل الإنسان سيدا ومالكا للطبيعة، وسوف تستأنف الرسالة الديكارتية [...] من طرف ماركس [...] ندرك منذئذ أن السيطرة على الطبيعة، والتي لا تقبل التحكم تقود إلى تدهور المحيط الحيوي، وإلى تدهور الحياة والمجتمع.
أما الوجه الثاني: الأخوي، فهو يفرض احترام جميع الكائنات الإنسانية كيفما كان جنسها عرقها وثقافتها وأمتها، وفي الواقع إذا كان هذا الوجه مقبولا من لدن جميع الناس، فقد جعله الغرب في الواقع مقتصرا على المنتسبين إليه فقط، معتبرا مختلف الشعوب شعوبا متخلفة تعيش وفق مواصفات يعتبرها بدائية[7]؛ فمعظم الأوروبيين يعتقدون أن العقلانية امتياز يخصهم وأمر يستأثرون به.
يذكر المؤلف بنضال نخبة من المثقفين الغربيين طيلة القرن العشرين الذين انتقدوا المركزية الأوروبية بشكل جزئي أو بشكل كلي، ولكن الموضوع الآني بالنسبة إلى إدغان موران هو ما عبر عنه بحيرته التي لم يجزم فيها بجواب، ومفاد تلك الحيرة "ألا يمكن لأوروبا أن تنتج ترياقات؛ أي مضادات واقية تنبع من ثقافتها، انطلاقا من سياسة الحوار والانسجام، من سياسة للحضارة تنمي وتطور خصال الحياة خصال الحياة دون الاقتصار على ما هو كمي وتضع حدا للسباق نحو الهيمنة؟ ألا يمكنها أن تنهل من النزعة الإنسانية العالمية؟ ألا يمكنها أن تعيد خلق النزعة الإنسانية من جديد؟"[8]
التفكير في بربرية القرن العشرين
خصصه المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لعرض وقائع وتاريخ القرن العشرين في المجال الأوروبي، وما حدث فيه من حروب ونزاعات سواء في روسيا زمن الاتحاد السوفياتي أو في أوروبا مع ظهور النازية، فقد راح ضحية الاشتراكية والشيوعية عدد لا يحصى من الأرواح داخل أوروبا وخارجها؛ فالقرن العشرون يعد ذروة العنف والبربرية الأوروبية في نظر المؤلف.
[1] إدغار موران، "ثقافة أوروبا وبربريتها" ترجمة محمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2007م.ص.6
[2] نفسه، ص.6
[3] نفسه، ص.8
[4] نفسه ص.20
[5] نفسه، ص. 21
[6] هاشم صالح، كيف نشأت النزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي؟ جريدة الشرق الأوسط، 14 ديسمبر 2015 م
[7] نفسه، ص.25
[8] نفسه، ص.46