تقديم كتاب "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة"
فئة : قراءات في كتب
من الصعب ترسيخ أسس فكرة ما تؤسّس لمشروع هيمنة، دون قاعدة صلبة من المعارف المستندة لأدلّة علمية؛ فكيف يكون الأمر عندما تؤسس لفكرة اقتلاع شعب من أرضه وتاريخه وثقافته ليحلّ مكانه شعب آخر؟ يحتاج الأمر إلى تضافر عوامل كثيرة. هكذا ولدت دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل". فمن خلال قوّة الاستعمار البريطاني والغربي وإرهاب الجماعات الصهيونية المتسلّلة إلى فلسطين وتزييف مؤرّخيهم للحقائق واختلاقها، وضعف العرب وتنازعهم ونقص فهمهم لطبيعة وأبعاد الصراع على مقدراتهم، ولدت إسرائيل وعاشت عقوداً على وهم الاستقلال وتحقيق الحلم الزائف في العودة إلى أرض الأجداد والدفاع عن النفس ضد العرب الإرهابيّين، وتكوين دولة وظيفيّة تسخّرها القوى الإمبريالية لصالح مآربها الدنيئة في نهب ثروات الشعوب العربية؟
لكن، هل يمكن أن يفلت بعض أبنائها ممّن ولدوا وتربّوا على عقيدتها العدوانية من براثن هويتها القاتلة، ويتخلّص من أقنعتها الزائفة وبهرجها الزائف ويتحدى مقولاتها الرئيسة التي أوجدتها ويسائل فكرة وجودها؟ هذا ما حدث منذ العام 1961م، حيث بذرت بذور تيار المؤرّخين الجدد، والذي بلغ ذروته ونهايته في تسعينيات القرن الماضي.
فأمام وحشية إسرائيل، التي تبدّت لأجيال جديدة من الإسرائيليين؛ خاصة بعد احتلال لبنان والعنف المفرط في التعامل مع الانتفاضة الأولى عام 1987م، برزت تساؤلات كثيرة عن طبيعة وفكرة إسرائيل وأسطورة تأسيسها عام 1948م. وطفق المؤرخون الجدد في إسرائيل (من أبرزهم: بني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه وتوم سيغف وآخرون) يطرحون وجهات نظر جديدة لفكرة إسرائيل مستندة للوقائع والأرشيفات الإسرائيلية لما حدث عام 1948م، وعلاقة إسرائيل بالنازية والفاشية، واستغلال الهولوكوست من النخب السياسية الإسرائيلية، زعزعت الكثير من المسلّمات التاريخية للرواية الصهيونية الإسرائيلية عن تلك المسائل.
في الكتاب الذي بين أيدينا[1]، يطرح أحد أبرز هؤلاء المؤرخين، إيلان بابيه، الأستاذ في جامعة إكستر، فكرة إسرائيل للتساؤل، بهدف التواصل مع الجمهور العربي من أجل التوصل إلى عملية سلام دائمة وعادلة في فلسطين. ومن خلال تمهيد يبيّن أسباب تأليف الكتاب ومنهجيّته، وفصوله الاثني عشر والخاتمة، يقدّم الكتابُ تفاصيلَ مختلفة عن تيار المؤرخين الجدد ومدى تأثيرهم، ولماذا فشلوا ومات نفوذهم بسرعة مع بداية القرن الحالي.
يناقش الفصل الأول، فكرة إسرائيل في الإنتاج الأدبي الصهيوني، وكيف صوّرت أنّها مشروع حداثي ناجح. وفي الفصل الثاني، يبين الموقع الذي يشغله الفلسطينيون في الخطاب الصهيوني. ويتناول الفصل الثالث، حرب 1948 في السينما والأفلام الوثائقية، وكيف ظهر فيها الفلسطيني، بينما خُصّص الفصل الرابع، للتعريف بالآباء الأول من منتقدي الصهيونية الذين أثّروا على حركة ما بعد الصهيونية. ويبحث الفصل الخامس، التطورات السياسية والسوسيو-اقتصادية التي حدثت بعد عام 1967 وعلاقتها بنشوء تيار "المؤرّخين الجدد". ويعرض الفصل السادس، للتطوّرات والتأثيرات النظرية التي ألهمت المؤرخين الجدد. ويبحث الفصل السابع، مسألة الهولوكوست ودورها في خلق فكرة إسرائيل وتسويقها. ويتناول الفصلان الثامن والتاسع، فكرة إسرائيل في عقل الإسرائيليين العرب ووجدانهم. بينما يناقش الفصل العاشر، المسرح والسينما في الحركة ما بعد الصهيونية. ويبيّن الفصلان الحادي عشر والثاني عشر، كيف ماتت حركة المؤرخين الجدد وبرزت النيو-صهيونية. ويختتم الكتاب، بعرض لكيفية إعادة تسويق فكرة إسرائيل في القرن الجديد.
الفكرة الرئيسة للكتاب
يحاول الكتاب، كشف حملات الخداع والتشويه والتلفيق التي جنّدت فيها إسرائيل أكادميّيها وكتّابها وصحفيّيها وصانعي الأفلام فيها للترويج لخرافاتها وبيعها للعالم (ص9)، وذلك من خلال تتبع الرواية الإسرائيلية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإبراز الدور المحوري لعمليات إنتاج المعرفة ودورها في الترويج لفكرة إسرائيل ونقدها والردّ على هذا النقد، حسبما ظهر في الإنتاج المعرفي الأكاديمي بشكل أساسي (ص23)، وبيان كيف صارت الأكاديميا الإسرائيلية أداة أيديولوجية في يد الصهيونية بدلاً من كونها منارة لحرية الفكر والتعبير عن الرأي. (الصفحات 10، 14، 17).
فلسطين أوروبيّة
أولى سرديّات الصهاينة التي أسّست لإسرائيل هي ادعاء الإسرائيليّين أنّ فلسطين جزء من أوروبا، وليس لها تاريخ يتجاوز تاريخها اليهودي (ص9). فالصور والسرديات التي شكّلها قادة الصهيونية والمتحمسون لها في الماضي، والمفكّرون والأكاديميون الإسرائيليون في الحاضر، تقدّم إسرائيل على أنّها التمظهر الحتمي الناجع لتاريخ الأفكار الأوروبي. والذي كانت تمثّل فيه إسرائيل إحدى أفكار هذا التحول، وصار انتقادها يعني انتقاد مجمل السردية القائلة بأنّ الغرب يمثل القوة العالمية الدافعة نحو التنوير والتقدم البشري.
فالصهيونية، هي مشروع من مشاريع التحديث القليلة التي نجح تطبيقها، إن لم تكن المشروع الوحيد، وذلك بالرغم من كثرة القوى المضادّة التي رفضت التنوير ووقفت عائقاً أمام التقدم الإنساني. إنّها فكرة تحققت بنجاح (ص16-17) أي إن كنت صهيونياً، فإنّ هذا يعني بالضرورة إمكانية مشاركتك في أفضل مشروع تحديث في العالم بأسره، وإن كنت تدرس الحداثة، فإنّ الصهيونية هي أفضل حالة لتتناولها بدراستك وبحثك (ص35).
تزييف التاريخ
أولى قادة الحركة الصهيونية اهتماماً كبيراً بالعمل التأريخي الأكاديمي الذي يثبت أنّ لليهود وجوداً في فلسطين منذ العام 70 بعد الميلاد في زمن النفي الروماني وحتى العام 1882 حين وصلت طلائع الصهاينة (ص33). فقد أيقنوا أنّه ليس بالإمكان استعادة الأرض من خلال الأشعار الحماسية أو الرسومات الملهمة وحدها، إذ يلزم استخدام سطوة العلم، ولهذا فقد كان حتماً على الأكاديميا الرسمية أن تسعى إلى وضع تأريخ قديم وحديث للدولة (ص24). ولهذا، كان وضع تاريخ الصهيونية أكاديمياً، ونشره شعبياً أمراً أساسياً لضمان بقائها (ص33). ومن خلال مزج الأيديولوجيا بالحقائق واستغلال ذلك في إنتاج رواية متماثلة بينهما، تم استخدام التاريخ لإضفاء الشرعية على المشروع الأيديولوجي والسياسي.
ولم يجد المؤرخون الأوائل تناقضاً بين المهنية في عملهم وموقفهم الأيديولوجي، وسرى اعتقاد بينهم بأنّ المهنية تقتضي منهم ولاء أيديولوجياً راسخاً، وكان هذا الولاء أساساً لنجاح الحركة القومية اليهودية؛ فقد أدرك هؤلاء المؤرّخون القوة الكامنة في إثبات استمرارية ما بين إسرائيل القديمة والصهيونية الحديثة؛ ذلك أنّ السردية التاريخية التي يضعها الجهاز الأكاديمي تصبح الأداة الأساسية لبناء الذاكرة القومية الجمعية وترسيخها (ص ص 36ـ39)
شيطنة أصحاب الأرض
وحتى تثبت الرواية المزيّفة لتاريخ فكرة إسرائيل، كان بدّ من شيطنة الفلسطينيين والعرب عموماً. ولهذا-كما يقول المؤلّف- دأبت معظم وسائل الإعلام والجهود الأكاديمية الإسرائيلية على وضع حركات المقاومة الفلسطينية كعامل أساسي في التاريخ العالمي للإرهاب. وسعى الأكاديمي الإسرائيلي، إلى إثبات هذه الفكرة بالأبحاث "العلمية" التي توثّق حالات العنف التي يرتكبها الفلسطينيون، وتؤكد مطابقة التعريفات النظرية للإرهاب على هذه الأفعال (ص45-46). وانكب المؤرخون الإسرائيليون، على توثيق جميع أعمال المقاومة التي حدثت منذ بدايات المشروع الصهيوني، ووضعها على خط زمني يظهر تصاعدها وتزايد حدّتها. وزعموا أنّ هذا الإرهاب الفلسطيني ليس بالأمر الطارئ، بل هو مستمر منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين، حتى صار كل فصل في التاريخ الفلسطيني مرتبطاً بالإرهاب. ولم تنجُ من هذا الوصف أية مؤسسة أو شخصية انخرطت في الحركة الوطنية الفلسطينية، وشارك الجميع في بناء هذه الصورة القاتمة عن الفلسطينيين: الحكومة، والأكاديميون، والجيش، ومنظّمات المجتمع المدني (ص53-54)
ولعبت السينما الدور نفسه في شيطنة العرب، حيث ظهر العربي باعتباره الشرّير الأزلي في المخيال الصهيوني، حتى صار يصعب أن نعرف في السينما الصهيونية ما إذا كان هذا العدو فلسطينياً أو سورياً أو مصرياُ، ذلك أنّ الإسرائيليين لم يعترفوا بوجود الفلسطينيين كقومية محددة (ص92)
مساءلة فكرة إسرائيل
كانت التسعينيات من القرن الماضي، هي العقد الذي خضعت فيه فكرة إسرائيل بأكملها للاستجواب، في كافة مجالات العلوم الإنسانية، وظهر وصف "ما بعد الصهيونية" وصار المصطلح يستخدم بشكل عام لوصف أي نقد أكاديمي للصهيونية في إسرائيل اليهودية (ص168-169)، حيث جعلت الأعمال الفظيعة التي ارتكبت باسم الصهيونية، بالإضافة إلى مراجعة المفاهيم والمبادئ الصهيونية وإعادة قراءة الوثائق التاريخية بعيون ومناهج جديدة، الطريق مفتوحا نحو مساءلة فكرة إسرائيل ومحاكمتها أخلاقياً وسياسياً في إسرائيل(ص98)
روّاد ما بعد الصهيونية
يرى المؤلف، أنّ بداية حركة المراجعة التاريخية في إسرائيل كانت في العام 1961م، وكان الأب المؤسس لهذا التاريخ، هو ديفيد بن غورين عندما حفظ تقريراً توصل إلى أنّ الفلسطينيين قد أضحوا لاجئين بسبب سياسة التدمير والسلب التي مارسها القادة الإسرائيليون الميدانيون في العديد من المناطق أثناء الحرب العام 1948(ص144-146)، وهو الأمر الذي تتابعت بعده الكتابات التي تعيد النظر في الرواية الإسرائيلية للحرب.
وكان للروّاد: شابيرا، وكيمرلنج، وشافير أثر عميق على الموجة الجديدة من حركة المراجعة التاريخية في إسرائيل، حيث قدّموا صورة تأريخية طبيعية، ورسموا وجهة جديدة لممارسة النقد الذاتي، وتناولوا المفاصل الأساسية للرواية الفلسطينية المتعلقة بنشأة المشروع الصهيوني في فلسطين. كما لعبت أبحاث إدوارد سعيد ووليد الخالدي والتيار الجديد لدراسة التاريخ في أوروبا وأمريكا دورا رئيسا في توجّهات المؤرخين الجدد ونظرتهم لفكرة إسرائيل وأساطيرها المؤسّسة. (ص97-142).
بالإضافة إلى أنّه خلال السنوات العشرين التي تلت حرب عام 1967، وهي الفترة التي كانت فيها الأفلام الوثائقية ما تزال خاضعة للنظرة الصهيونية الخاصة بفكرة إسرائيل، ظهر بعض الأفراد الذين يتحلّوْن بالجرأة والتميز، وبدأوا يشكون في صحة هذه النسخة من التاريخ وبالأخص ما كان يتعلق بما جرى في العام 1948. وقد مهدت هذه الجهود الطريق لإنتاج أفلام وثائقية أخرى أكثر انفتاحا وأقل صهيونية، بالإضافة إلى أفلام أخرى غير وثائقية حول حرب 1948م (ص94).
من هم المؤرّخون الجدد؟
حين تصاعد تحدّي فكرة إسرائيل من الداخل؛ أي إنّ الأنموذج المثالي للصهيونية قد أعيد النظر فيه وأُخِذ على أنّه أيديولوجيا، وصار من الممكن إخضاعه للتقييم النقدي (ص19) وضعت مجموعة من الإسرائيليين المنطق الأخلاقي لدولتهم محلّ شكّ (ص15). كان هؤلاء هم المؤرخون الإسرائيليون الذين لم يقبلوا الرواية الرسمية لتاريخ حرب عام 1948 (ص146).
سياق حركة المؤرّخين الجدد
يرى المؤلف، أنّ الحرب على لبنان عام 1982م، كانت نقطة تحوّل فاصلة في تاريخ حركة المؤرخين الجدد، إذ فتح الباب لإعادة النظر في حروب إسرائيل التي سبقتها، وازدادت الشكوك، وخاصة بين النخب والمفكّرين، حين اندلعت الانتفاضة الأولى وسحقت بقسوة من قبل الجيش الإسرائيلي عام 1987. وللمرة الأولى تحولت صورة الفلسطينيين من صورة العدو إلى صورة الضحية: الكفة المرجوحة في ميزان القوى (ص152) حيث ربط هؤلاء المؤرخون بين ما حدث عام 1987 وعام 1948، فقد شعروا بعدم القدرة على فهم أهداف وخطط الحرب، رغم أنّهم جميعاً كانوا صهاينة بشكل أو بآخر؛ لكنهم وجدوا أنفسهم عاجزين عن فهم الردّ الإسرائيلي العنيف على الانتفاضة في المناطق المحتلّة في عام 1987. (ص ص152-153)
العوامل التي أسهمت في تطور حركة المؤرّخين الجدد
يؤكّد المؤلف، أنّ هناك بعض أشكال التأثير المهمة قد أسهمت في تطوير تيار المؤرخين الجدد وردت إليهم من العالم الخارجي. فقد تأثّروا بكلّ من إدوارد سعيد وبيري أندرسون. كما كان القرار المتعلق بكيفية إعادة النظر في تاريخ إسرائيل واردا من الغرب ومن الولايات المتحدة على وجه التحديد. وكانت دراسة النوع الاجتماعي والنسوية جزءاً من هذه الحركة (ص179). وفضلا عن تلك المعطيات أسهمت كلّ من التفكيكية التي تقدمها نظريات النقد الأدبي والهرمنوطيقا، ومن النظرية الموقفية التي تعني أن يكون للباحث الحق في اتخاذ موقف من البحث الذي يشتغل به وفق أية هوية يختارها (ص190) في تطوّر تيار المؤرخين الجدد، ومن ثمّ في تمثيل الفلسطينيين في الرواية الوطنية. (ص194)
الهولوكست وفكرة إسرائيل
يؤكد المؤلف أنّ المؤرخين الجدد قد امتلكوا الجرأة على طرح بعض الأسئلة المشروعة حول الهولوكوست في الأكاديميا، مماثلة في فرادتها لتلك الجهود التي بذلت من قبل أولئك الذين انتقدوا الأساطير المؤسسة للرواية التاريخية عن حرب 1948م. وهذه الأعمال ساعدت في فهم الدور المهم الذي يؤديه التمثيل الصهيوني لذكرى الهولوكوست في تسويق فكرة إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكيّة (ص207)، وفي بيان كيفيّة استغلال ذكرى الهولوكوست بطريقة تساعد النخبة السياسية والعسكرية على التأثير في الرأي العام لصالحهم عند اتخاذ قرارات حسّاسة تتعلق بالصراع مع العالم العربي، أو دفع تهديد حقيقي أو مزعوم.
فكرة إسرائيل واليهود العرب
يذهب المؤلف، إلى أنّ المفكرين المزراحيين الإسرائيليين من أصل عربي قد لعبوا دوراً مهماً في مساءلة فكرة إسرائيل، من خلال القيام بتفكيك التوجهات الاستشرافية الإسرائيلية نحو اليهود القادمين من دول عربية، وحاولوا تقديم صورة أخرى عن اليهود العرب قبل مجيئهم إلى إسرائيل، ورفضوا وصف تلك الحياة بأنّها بدائية كما يسود الاعتقاد، وبيّنوا أنّ المدن التي عاشوا فيها وعملوا بها قد تتفوق كثيرا من الناحية الثقافية على ما كان موجودا في القرى اليهودية الصغيرة في أوروبا الشرقية (ص246)، وأنهم مازالوا يشكّلون تحدّياً لفكرة إسرائيل كما تريدها المؤسسة الرسمية ومثلما تدركها الغالبية الساحقة من اليهود في الدولة، وإن خفّت حدّة انتقاداتهم وتغيرت أجندة اهتماماتهم في القرن الجديد.
الإعلام والمؤرخون الجدد
إنّ وسائل الإعلام الإسرائيلية قد قامت بفتح أبوابها أمام الأكاديميين الجدد لفترة قصيرة خلال التسعينيات (ص266). فمع خصخصة الإعلام في التسعينيات وانتشار أفكار أيديولوجية جديدة في المجتمع الإسرائيلي والتغيرات التي أصابت الأكاديميا والنقاشات حول حرب لبنان والانتفاضة الأولى، وفّرت الملاحق الثقافية الصحافية حيّزاً للنقاشات التي خاضها المؤرخون الجدد حتى وصلت لافتتاحيات الصحف، فانتشرت أفكار ما بعد الصهيونية وانتقل النقاش للتلفاز، مما أدى إلى وصول الأفكار إلى جمهور واسع من العامة الذين لا يتابعون المجلات المتخصصة ولا يشاركون في المؤتمرات العلمية.
لكنّ الأمل في إعلام ما بعد صهيوني القائم على افتراض خاطئ أنّ الليبرالية التي اتسمت بها وسائل الإعلام التابعة لليسار الصهيوني خبت، فلم يحتمل الإعلام الإسرائيلي مثل هذه الأفكار لفترة طويلة بعكس صناعة الأفلام والمسرح. فقد كانت تلك الوسائل تلعب دور إعلام الدولة في بيئة غير ديموقراطية، فارضة على نفسها قيوداً بلغت مستوى لا مثيل له في دولة ديموقراطية وقدّمت الاعتبارات الأمنية على الحقّ في المعرفة (ص266).
موت سريع
يذهب المؤلف، إلى أنّ الصهيونية الرسمية عندما رأت أنّ التفسير ما بعد الصهيوني للماضي قد جمع حوله الكثيرين في الجامعات الإسرائيلية ومراكز النشاط الثقافي في إسرائيل في التسعينيات، وحازت شرعية في العالم الغربي، مما قد يعني أنّ قطاعات واسعة من الشعب الإسرائيلي تؤيدها، حتى أن البرلمان ناقش مبادرات قانونية تقترح تحويل إسرائيل من دولة يهودية إلى دولة لجميع المواطنين، قامت بهجمة منظّمة للقضاء على تلك الحركة في إسرائيل (ص325)، فقامت عبر أعمال منظّمة ومؤسّسية بنعت تلك الأعمال بأنها محض سعي أيديولوجي لنزع الصبغة الصهيونية عن إسرائيل، أو مناورة فكرية تقليدية ليهود يبغضون ذواتهم لخدمة العدوّ. ووُصف المؤرخون الجدد بأنّهم أعوان النازيين، وأنهم لا يهاجمون الصهيونية وحسب، وإنّما أعربوا عن عزمهم على تدمير الخطاب الأكاديمي في إسرائيل بأسره، وأنها طريقة نظرية مفسدة، وأنّهم باحثون رديئون، ويهود يعانون من كراهية الذات، يتعاونون بقصد أو بغير قصد مع أعداء السامية. (ص326-327)
وكانت لحظة اغتيال رابين وفشل أوسلو بداية الحرب الحقيقية على المؤرخين الجدد (ص329-330) حتى نهاية التسعينيات؛ حتى إنّه لم يتبقّ منذ العام 2000 فصاعداً أي أثر للحضور المبهر للرؤية ما بعد الصهيونية، إذ حلّ مكانها تفسير جديد للصهيونية وصار محل إجماع الأحزاب وبرزت النيوصهيونية. ومن خلال السيطرة على التشريع والتعليم والتوجّهات السياسية أمكن القضاء تقريبا على حركة المؤرخين الجدد وصعود النيوصهيونية.
الفكرة تعود
حين تكون لفكرة ما القدرة على أن تشملك بخير الدولة أو تحرمك منه، وحين يكون من شأنها أن تحدد موقعك كعدوّ أو صديق، وحين تظهر الفكرة مرة كحقيقة أكاديمية ومرة أخرى كحبكة في فيلم مثير، فإنّه سيكون من الصعوبة بمكان تفادي تأثيرها أو التنصّل منها. ويزداد الأمر صعوبة حين يعرض عليك تولّي دور بارز في الحكاية (ص24).
في نهاية المطاف-كما يقول المؤلف- كانت فكرة إسرائيل أكثر قوة ممّن تحدّوها، ولم تكن تلك القوة نابعة من قسر أو ترهيب بقدر ما اكتسبت شرعيتها بشكل أساسي من القبول بها كأمر واقع. تلك القوة التي بيدها تسيير الحياة اليومية قد تولّدت من وسائل غير ظاهرة للعيان، كان أولئك الذين وقفوا ضدها يسعون إلى الكشف عنها. تلك القبضة المتينة التي تضمن دعماً واسعا لها بين يهود إسرائيل على مستوى العامل في الشارع وصولاً إلى أستاذ الجامعة في برجه العاجي. وهذا ما يجعل هذا الأمر حالة جديرة بالدراسة، إذ تساعدنا إلى جانب أهميتها في تقييم مستقبل إسرائيل على التوصل إلى فهم أفضل لطبيعة العلاقة بين السلطة والمعرفة في مجتمعات تدعي الديمقراطية في مطلع القرن الحادي والعشرين.
أثر التاريخ الجديد
لقد ترتّبت على "التاريخ الجديد" لحرب عام 1948، آثار مهمة في سياق التأريخ الإسرائيلي: فقد أعطى شرعية للرواية التاريخية الفلسطينية من جهة، وقدم فرصة لتطبيع الذاكرة الوطنية الجمعية من جهة أخرى، بالرغم من أنّ هذا التاريخ لا يتبنّى الرواية الفلسطينية بحذافيرها، فهناك فصول في الرواية الإسرائيلية الجديدة ما تزال مرفوضة من قبل المؤرّخين الفلسطينيين كحياد الإنجليز في حرب عام 1948 (ص163-164). كما أنّ أعمال المؤرخين الجدد ساهمت في تسليط الضوء على كيفية كتم الحقائق في الإنتاج الأكاديمي التقليدي ومشاركته في تلفيق الرواية الوطنية حول أحداث عام 1948.
وليس هذا وحسب، فقد مهّدت الأبحاث المتعلقة بالعام 1948، والتي جرت خلال الثمانينيات الطريق لنقد أكثر عمقاً للصهيونية ودورها في الأكاديميا داخل إسرائيل، كما أنّ التغطية الإعلامية لهذه القضية شجّعت الباحثين على تجاوز التركيز على العام 1948، سواء في بحث الموضوعات والقضايا أو السرد التاريخي (ص165).
أفول ما بعد الصهيونية والتوجّهات الفكرية الثقافية في المجتمع الإسرائيلي
يؤكد المؤلف أنّ الحديث عن أفول ما بعد الصهيونية وما زامنه من صعود النيو-صهيونية في ميدان الأبحاث المتعلقة بتاريخ عام 1948، يساعدنا على فهم أمور أخرى، فضلا عن أثر الأيديولوجيا على الأكاديميين في مجتمعات يسودها التوتّر كالمجتمع الإسرائيلي. ومن تلك الأمور:
الأول: هو تقديم مؤشّر على التوجّهات الفكرية والثقافية في المجتمع اليهودي في إسرائيل، وهي جوانب تكون عادة عرضة للإهمال لصالح التركيز شبه الحصري على السياسات الحكومية والاستراتيجيات العسكرية على أنّها المحددات الوحيدة لموقف الدولة حيال وضع ما.
والثاني: هو التأكيد مرة أخرى، أنّ الصراع على الذاكرة سيبقى عاملاً أساسياً في تشكيل واقع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وسيؤثر على أيّة فرص للتسوية قد تسنح في المستقبل.
فكرة إسرائيل في القرن الجديد
يؤكد المؤلف أنّ الإجماع السائد حالياً في إسرائيل وما يقدمه من مسوّغات كثيرة لما حدث في حرب 1948، يحمل الكثير من التبعات السياسية بالغة الأهمية. إنّها حالة تظهر أنّ إسرائيل غير راغبة في التصالح مع الماضي ومع الفلسطينيين، ويكشف صورة لإسرائيل واثقة بأنّ سياسات التطهير العرقي وسلب الآخرين ما يملكون، يمكن تسويغها أخلاقياً والمضيّ بها سياسياً ما دام هنالك في الغرب سياسيون وأكاديميون ينأون عن إخضاع إسرائيل لتلك القيم والأحكام التي يطبّقونها وبوحشية على دول أخرى في العالم العربي والإسلامي (ص378).
ويرسخ هذا التوجّه صورة إسرائيل، باعتبارها دولة كولونالية تنتمي إلى إرث القرن العشرين أكثر وأكثر، وأنها ماتزال قائمة، لأنّها تخدم أغراض الولايات المتحدة، ولأنها تلعب دوراً مهماً في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. ويؤكد المؤلف، أنّه لم يعد هناك أيّ بُعد أخلاقي في الدعم العالمي المقدّم لها، وأنه حين يبدأ الجانب الوظيفي من الدعم بالتراجع، فإنّ الكفة ستميل لتحقق السيناريو الذي رآه كل من مفكري ما بعد الصهيونية ومفكري النيوصهيونية على السواء، والذي يتمثل في دولة منبوذة تقوم على نظام فصل عنصري، وهو ما نراه يحصل فعلاً أمام أعيننا.
ومن خلال تحليل حملة "وسم إسرائيل في القرن الجديد" التي تحاول جعل إسرائيل تبدو للعالم كأنها جنة على الأرض، وكأنّها حلم صار حقيقة، وربط إسرائيل بكل ما هو جميل وممتع ومتقدم تقنياً، يوجد رهان على تغيير التصورات الخاطئة عن إسرائيل كدولة يسودها العنف والحرب وعدم الاستقرار والتأثير على النقاشات العالمية التي تتعلق بإسرائيل. ولكن هذا كله لن ينجح في ظل ترسّخ فكرة إسرائيل وتقويض أيّة محاولات لمساءلتها وتصحيحها (ص385-389).
تقييم نقدي للكتاب
نشير بدءا إلى أنّ ما ذكره المؤلف، من أنّ إسرائيل صاحبة ثاني أكثر الجيوش تطورا على المستوى التقني في العالم، وأنها تمتلك ما يتجاوز 500 مليار دولار أمريكي من احتياطيات النقد الأجنبي (ص18) هي معلومات غير صحيحة. وفضلا عن ذلك، تسرّبت إلى الكتاب بعض أخطاء الطبع.
ولنا أن نقف مع بعض الأفكار الواردة في الكتاب نوجزها في ما يلي:
1- هل صحيح أنّ تردّد العديد من أخيار العالم في الانخراط الجدي في العمل لصالح المعاناة الفلسطينية يعود إلى وجود حملة فعالة من الخداع والتشويه والتلفيق (ص9) أم لأنّ هناك العديد من الأسباب الأخرى تتعلق بالخوف من مطاردة الصهاينة والمستفيدين منهم، وإلاّ لماذا نرى أصواتاً عالية لكل هؤلاء في معظم، إن لم يكن كل القضايا العالمية وحقوق المظلومين، بل حقوق الحيوانات، دون أن يتعرضوا لنفس الخداع والتشويه والتلفيق؟
2- هل فهم القارئ العربي فكرة إسرائيل بشكل أفضل يمكنه أن يساعد على التوصّل إلى عملية سلام دائمة وعادلة في فلسطين، وهل ذلك ممكن في وجود الاحتلال وفي ظل ما اعترف به الكاتب من أنّ فكرة إسرائيل كما رواها المؤرخون الجدد لم تكن مقبولة، بل كانت مرفوضة عند الأغلبية السّاحقة من الإسرائيليين؟
3- هل يمكن أن يقوم سلام عادل ونخبة إسرائيل تأمل وتعمل ليؤول الربيع العربي إلى صحراء إسلامية مهلكة كي تستعيد إسرائيل صورتها التي رسمتها عن واحة الأمان في المنطقة؟
4- لو افترضنا أنّ العرب آمنوا بفكرة إسرائيل كما رواها إيلان بابيه، وعمّ السلام في المنطقة بين الحكومات العربية وإسرائيل، فكيف يكون حال إسرائيل اليهودية الخالصة التي تنكر كل حقوق العرب وغيرهم من الأقليات داخلها؟ وهل يمكن فعلاً لإسرائيل أن تكون جزءاً من منطقتنا العربية لا جزءاً فيها، خاصة أنّ الدعم الغربي السخيّ لها مرتبط بما تقوم به من مهامّ وظيفية لصالحه؟ وهل يمكن لإسرائيل أن تكفّ عن رؤية نفسها أوروبية، وأنها الدولة الغربية في منطقتنا العربية التي تحافظ على القيم والمصالح الغربية، وتمنع موجة الهجرة الهائلة إلى أوروبا، وأنّها تشكل جزءا من الثقافة الأوروبية؟
الخاتمة
قدم إيلان بابيه، في مؤلفه، سردا مجملاً عن حركة المؤرخين الجدد، في نشأتها وتطورها وصعودها السريع وتراجعها، وكيف لعبت الأبحاث الأكاديمية دوراً في التزوير في يد المؤرخين الصهاينة التقليديين، كما كانت أداة ومحاولة للتنوير الجزئي فيما يتعلق بفكرة إسرائيل في يد المؤرخين الجدد.
والكتاب يطرح قضايا عديدة هامة حتّى نفهم المجتمع الإسرائيلي، وكيف نتعامل معه، منها: قضية السلام وما تطرحه من تحديات تؤدي لتناقضات داخله، في حين يتحقق تماسكه في لحظات الانتفاض الفلسطيني، وهل يمكن تحقيق السلام مع مجتمع يتغذى على كراهية كل ما هو عربي، وتقع مؤسساته التعليمية والإعلامية والثقافية تحت هيمنة قوى صهيونية متطرفة؟ وهل يمكن أن يتطور تيار "المؤرخين الجدد" إلى حدود أبعد ممّا وصلوا إليه؟
وهل تستفيد مؤسساتنا البحثية من التطورات الحادثة في المجتمع الإسرائيلي؟ وكيف يمكن التصدي لتيار المتصهينين العرب وإخماد صوته في إعلامنا وجامعاتنا العربية؟ وكيف يمكن للمعرفة المستندة للبعد الأخلاقي المتسلحة بالاعتقاد العروبي الإسلامي في تقديم سردية متكاملة لما يحدث اليوم من تزييف لحقائق الصراع حتى لا تقع أجيالنا الجديدة ضحية لوهم سلام مع عدو لا يشبع من الدماء في زمن التطبيع المجاني؟
وكيف لنا أن نغيّر التصورات الخاطئة عن العرب والفلسطينيين كإرهابيين ودعاة حرب وكراهية وفشل للدخول في الحداثة الغربية؟ وكيف يمكننا أن نؤثّر على النقاشات العالمية التي تتعلق بنا كعرب وفلسطينيين؟ وكيف نناقش ونبرز إنجازات المجتمع العربي والفلسطيني ومميزاته؛ خصوصاً في ظل الاحتلال والتجويع والحصار، مع عدم الجنوح إلى إنكار نقاط الضعف والتقصير؟ وكيف يمكن ربط كل ذلك بكيفية إنتاج معرفة أكاديمية تخدم المجتمع العربي والفلسطيني، وتسهم في بناء حملة ترويجية لوسم العرب من جديد في زمن الزيف والبهتان والتعالي الصهيوني المتدثر بلحظة ضياع عربي لا تخطئها عين ناظر ولا عقل راصد؟
[1]ـ إيلان بابيه، "فكرة إسرائيل: تاريخ المعرفة والسلطة" (446 صفحة)، ترجمة: محمّد زيدان، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 2015