تلاحم القصة مع سورتها في القرآن


فئة :  أبحاث محكمة

تلاحم القصة مع سورتها في القرآن

تلاحم القصة مع سورتها في القرآن[1]

تقديم

لقد بحثنا في الفصل السابق تلاحم البناء اللغوي في القرآن بصورة عامة دون أن نتقيد باستقاء أمثلتنا من موضوع محدد. كنا نستقي أمثلتنا من جميع الأغراض التي يتناولها القرآن: من مشاهد القيامة، والخلق والتكوين، والجدل مع المشركين، ومن سياق إثبات ربانية الوحي، ومن ميدان التشريع، ومن وقائع السيرة النبوية، ومن قصص المرسلين؛ ذلك لأنّ الهدف في ذلك الفصل كان إثبات وجود تلاحم البناء اللغوي بين أجزاء السورة القرآنية بصرف النظر عن الموضوعات التي تعرض لها السورة. أما في هذا الفصل، فنريد أن ننتقل إلى مستوى آخر من إثبات وجود ذلك التلاحم من خلال التركيز على موضوع واحدٍ هو القصة في القرآن. إنّ التركيز على موضوع محدد للبرهنة على قاعدة تلاحم البناء اللغوي في القرآن يمنحنا فرصة جديدة لاختبار ذلك القانون العام، قانون تلاحم البناء اللغوي في القرآن الذي كشفنا عنه في الفصل الأول، في موضوع هو من أبرز الموضوعات القرآنية وهو القصة في القرآن.

لقد اخترنا القصة في القرآن لما تشتمل عليه من خصائص لا تبرز بروزها في غيرها. فمن هذه الخصائص أنَّ القصة في القرآن ذاتُ بنيةٍ سرديَّةٍ متميزةٍ داخل السورة تمنحها قدرًا من الاستقلال. فهي ذاتُ أَعْلامٍ تُنسب إلى أسماء الأبطال الرئيسيّين فيها ونشير إليها بقولنا: قصة آدم، وقصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة موسى، وهكذا، بينما نشير إلى الموضوعات القرآنية الأخرى بأسماء عامة كمشاهد القيامة، والجدل مع المشركين، والخلق والتكوين، وغيرها. كما أنَّ القصة تبدأ بأدوات سردية معينة تُؤْذِنُ ببداية الأحداث، مثل: «وإذْ قال» كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30] في بداية قصة آدم في البقرة، ومثل: «هل أتاك» كما في قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [الذاريات: 24] في بداية قصة إبراهيم، ومثل: «واتْلُ عليهم» كما في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ [المائدة: 27]، وغيرها من الأدوات الاستهلالية التي تبدأ بها سلسلة قصص المرسلين، التي أشرنا إليها في الفصل السابق. وتنتهي غالبًا بتعقيبات وعظية تشير إلى نهايتها، كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾ [هود: 49]، في نهاية قصة نوح في سورة هود. ولكن مع هذا التميز في بنيتها السردية، تظل القصة مرتبطةً بالسورة التي تقع فيها من خلال أواصر لغوية مشتقة من معجم تلك السورة. فهذا المزيج من التميز والارتباط في آنٍ واحدٍ يعطي قانون تلاحم البناء اللغوي برهانًا إضافيًّا على صدقه، وجلاءً أكبر لطريقة عمله في القرآن.

ومن خصائص القصة في القرآن أنها من أحفل الموضوعات القرآنية بالحوار لا يجاريها في ذلك إلا مشاهد القيامة. والحوار من أهم الوسائل التي يتم من خلالها تحريك أحداث القصة إلى غايتها النهائية. ومن أبرز ما يتسم به الحوار في القرآن بصفة عامة، وفي القصة بصفة خاصة، أنَّ أبطال القصص يستعير بعضُهم من بعضٍ ألفاظًا وعباراتٍ يتداولونها بينهم داخل السورة الواحدة، بِصِيَغٍ تدل على ارتباط القصة بأواصر لغوية فريدة في السورة التي تقع فيها. فقد تتمّ عملية الاستعارة هذه في نفس السورة بين قصة وقصة، أو بين قصة وأي جزء آخر من السورة. إنّ هذه الحركة، حركة استعارة الكلمات وتداولها بين أصوات السرد المختلفة في القرآن حركةٌ دائبةٌ، وذاهبةٌ آيبةٌ تنتقل فيها الألفاظ والعبارات بين الأصوات المختلفة، ومنها صوت الوحي الذي في مركز تلك الحركة، ولكنها تكون أظهرَ ما تكون في القصة؛ لأننا نعرف الأبطال الذين تجري الكلمات على ألسنتهم. ولقد مرَّتْ بنا نماذج عديدة من الاستعارة والتداول في الفصل السابق كالذي رأيناه في آيات الاستفزاز الثلاث في سورة الإسراء، وسنرى المزيد منها في هذا الفصل.

ومن خصائص القصة في القرآن أنَّ حلقاتٍ منها تتكرر في سور مختلفة بألفاظ شديدة التقارب وعبارات شديدة التداخل. ولكن مع هذا التقارب الشديد في الألفاظ والتداخل الشديد في العبارات تظل كلُّ حلقةٍ مختلفةً عن الحلقات الأخرى من جهة، وتظل كذلك مرتبطة بالسورة التي ترد فيها برباطٍ لغويٍّ فريدٍ ووثيقٍ من جهة أخرى. والسبب في ذلك، أن النظم القرآني يختار لكل حلقةٍ ألفاظًا وعباراتٍ دقيقةً تشتمل على خصائصَ لغويةٍ تميزها عن غيرها من الحلقات الواردة في السور الأخرى، رغم التشابه الشديد الذي يكاد يبلغ حدَّ التطابق بين تلك الحلقات. وَيَصْدُقُ هذا التميُّزُ في جميع الحلقات، في الحلقات الطويلة والمتوسطة والقصيرة، وحتى في الحلقة التي تتكون من آية واحدة كقصة آدم وإبليس في سورة الكهف [الكهف: 50]، على ما سنرى في هذا الفصل. وهذا برهانٌ آخَرُ على أنَّ التكرار هو أساس الإبداع في القرآن، وهو مدار الإعجاز فيه، وفيه تتجلى عظمة القدرة القادرة التي تصوغ آيات شديدة التشابه ثم تُفرِّقُ بينها بخصائص لغوية دقيقة للغاية لا تظهر للعين إلا بعد الدراسة الفاحصة والتمحيص الدقيق. وقد مرَّتْ بنا أمثلةٌ كثيرةٌ من هذا القبيل في الفصل السابق، وسيأتينا المزيد منها في هذا الفصل. ومن المفارقات الكبرى أن يكون التكرار في القرآن بوجهٍ عامٍّ، وفي القصة بوجهٍ خاصٍّ، تهمةً حاول العلماء تبرئة القرآن منها على مدار القرون بالتماس أعذارٍ بلاغيةٍ مختلفةٍ له؛ ذلك لأنَّ التكرار – حسب فهمهم – مما يعيب الكلام.([2])

إنَّ هذه الخصائص الثلاث هي التي تجعل القصة موضوعًا ملائمًا لدراسة تلاحم البناء اللغوي في القرآن. ولكننا لن ندْرُس كل القصص القرآنية في هذا الفصل، ولا كل حلقات القصة الواحدة، وإنما نكتفي بدراسة قصة آدم وقصة موسى كنموذجين بارزين يدلان على الأنساق اللغوية المتبعة في ربط كل قصة بالسورة التي تقع فيها ربطًا فيه التفرد، وفيه الإحكام، وفيه القصد، وفيه التصميم. نقتصر على هاتين القصَّتَيْنِ لعددٍ من الأسباب. أولها أنّ القصة في القرآن موضوع كبير يشغل نحو ثلث مساحة القرآن، فهو لذلك يستحق كتابًا مفردًا يقع في مجلدات. والثاني أن قصة آدم هي قصة البشرية الأولى، وَعَرْضُ تجربته مع إبليس على بَنِيهِ من أهم أهداف القرآن. والثالث أن قصة موسى هي أشد القصص تكرارًا في القرآن، مما يجعلها عيِّنَةً صالحةً تُغْنِي عن غيرها. والرابع أننا حين نَدْرُس قِصَّتَيْ آدم وموسى، نَعْرِضُ لحلقاتٍ من القصص الأخرى بالضرورة لِمَا بين القِصص القرآنية المختلفة من تداخل في المفردات والعبارات، وتشابك في الأغراض والغايات.

وسنرى في القصة ما رأيناه في نصوص القرآن الأخرى من أنواع التلاحم الثلاثة التي مرّتْ بنا. وسنرى كذلك نوعًا رابعًا أشرنا إليه فيما سبق ولم نعرِّفْه ولم نذكر له أمثلة. فللتذكير، نعيد هنا ذكر الأنواع الثلاثة ونذكر معها النوع الرابع:

النوع الأول: أن تتكرر في السورة كلمة لا نظير لها في سورة أخرى.

النوع الثاني: أن تتكرر في السورة عبارة أو تركيب لغوي لا نظير له في القرآن.

النوع الثالث: إنشاء آياتٍ جديدةٍ باستعمال كلماتٍ وردت في نصٍّ سابق.

النوع الرابع: أن يكثر تكرار عنصر لغوي معين في سورة بعينها أكثر من غيرها.

بعد هذا التقديم الذي نرجو أن يكون قد أبان عن هدف هذا الفصل، ننتقل إلى صلب دراستنا لتلاحم القصة مع سورتها في القرآن. ونبدأ بقصة آدم u.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] - مقتطف من كتاب نَظْمُ القُرْآنِ قراءةٌ جديدةٌ فِي تَجَانُسِ إيقاعِهِ وَتَلَاحُمِ بِنَائِهِ، جوهر محمد داود، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع.

([2]) على سبيل المثال، انظر: أبا سليمان حَمْدَ بنَ محمد بنِ إبراهيم الخطَّابي، بيان إعجاز القرآن، في ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرُّمَّاني والخَطَّابي وعبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام (القاهرة: دار المعارف، 1956)، 52. وبدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 628 وما بعدها. والدكتور فضل حسن عباس، القصص القرآني: إيحاءاته ونفحاته (عمّان: دار الفرقان، 1987)، 13. هذا الكتاب الأخير مخصص كله لنفي التكرار عن القصة في القرآن.