تهافت التفاهة- تهجية نصية/سيميوتفكيكية في كتاب (نظام التفاهة)


فئة :  قراءات في كتب

تهافت التفاهة- تهجية نصية/سيميوتفكيكية في كتاب (نظام التفاهة)

تهافت التفاهة- تهجية نصية/سيميوتفكيكية في كتاب (نظام التفاهة)

صدر الكتاب سنة (2017) لأستاذ الفلسفة والعلوم الإنسانية في جامعة (كيبيك) الكندية، الدكتور ألان دونو (Alain Deneault). وقامت الأكاديمية الكويتية الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري بترجمته سنة (2020) لدار السؤال البيروتية للطباعة والنشر. والكتاب يحتوي على مقدمة ضافية وقيمة للمترجمة، يكاد يكون تلخيصاً كاملاً لمحتوى الكتاب إضافة إلى لمحة عن حياة الكاتب، في حوالي سبع صفحات. بعد ذلك يأتي الكتاب في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. والكتاب كلّه في حوالي (365) صفحة من القطع الصغير (قياس 17×24).

عنوان الكتاب بالفرنسية (la médiocratie)، وهو عادة ما يطلق على متوسطي الذكاء؛ لكنه هنا بمعنى الأنصاف في كل شيء (نصف طبيب، نصف مهندس، نصف فقيه.... إلخ). وهو وصف ازدرائي أقرب إلى الهجاء.

ويمكن للقراءة النقدية أن تستهل بهذه العبارة:

(لا تصدق من يلعن الظلام حتى تعرف من تاجر المصابيح؛ فقد تكون المصابيح لألان دونو......!!!).

وأول ما يلفت الانتباه ذاك التشابه الكبير بين هذا الكتاب وكتاب الفيلسوف الصيني- الأمريكي (فوكو ياما)، على الرغم من تناقضهما سياسياً وفلسفياً، لكنهما متشابهان منطقياً. ولذلك، فالشبه المنطقي فيهما أقوى من التناقض السياسي والفلسفي الذي يكتنف كل من الكتابين والكاتبين.

فمن "نهاية" فوكوياما إلى "نظام" ألان دونو- كم تتشابه المتناقضات...؟!

فقط سأورد بعض صور التشابه.

1- كلا الكتابين متطرفان نقدياً.

2- كلاهما يحتويان على مادة جاذبة ومثيرة.

3- كلاهما يعتمدان على الإقناع الخطابي والأخلاقي، ويهمشان الإقناع العقلاني. علماً أنهما يتكئان اتكاء شعرياً على كلاسيكيات الفلسفة الغربية؛ الأول على أفلاطون، والثاني على تلميذه أرسطو.

أما كتاب نظام التفاهة، فإنه يعلن عن غايته في رفع وتيرة القلق إلى أقصى مداها لدى القارئ، لكنه في الحقيقة- على عكس ما أراد له كاتبه، وربما عن قصده المبطن - سيبعث في نفس قارئه راحة نفسية وسكينة، وكأنه هو العصامي الذي يبحث عنه الكتاب، حتى إذا ما خلص من الكتاب:

رماه بكل ثقة واطمئنان، وطلب من الآخرين قراءته والاستفادة منه، حتى يروا تفاهتهم، ويقارنونها بقيمة المهدي.

والكتاب يصدر عن أيديولوجيا حادة، إبداعاً وترجمة، فهو كتاب يلعن الظلام من دون أن يلتفت إلى هوية تجار المصابيح. لقد أسقط الكاتب غضبه من حكومة كيبيك الكندية على العالم كله.

وهو مليء بالعبارات الجمالية الخادعة، حتى إن المترجمة ذاتها، مثلاً، في تمهيدها الجميل والممتع حقاً، تتحدث عن (اللغة الخشبية) وتورد لغة إخوان الصفا أنموذجاً على تلك اللغة التافهة، ثم بعد صفحات قليلة تتحدث عن نموذج الخبير وتورد نصّاً لإخوان الصفا دليلاً على ذلك الخبير المبتغى.!!

الأهم أن الكتاب يرفض الميوعة الزئبقية، ويدعو إلى تبني الفوضى الخلاقة والقوة في مواجهة هذا النظام التافه.. لذلك، فهو يسعى إلى تقويض الرأسمالية، لكنه يتبنى البديل نفسه الذي تطرحه القوى الرأسمالية ذاتها. وكأنه جاء ليكون ضمن أدواتها وسعياً لإنقاذها واستدامتها.

إذن، هو كتاب يصدر عن عقلية نخبوية متطرفة، ويعالج المواضيع في غير سياقاتها. كالأم التي تقص لابنها، وهو في سريرها قصص الشجعان ليصير مثلهم؛ لكنها قبل نهاية القصة تجده قد نام.

ومع ذلك، فهو كتاب قيم ومثير وغني بالشواهد ويحمل الكثير من الأفكار ويطفح بالعبارات الجديرة بالاقتباس.

فونيم الكتاب يكمن في جملتين:

1- "كلمات (فلان) القذرة تقوي من كرامتنا" (ص254).

2- "ما يتم مهاجمته هنا فعلاً هو ذكاؤنا" (ص292).

فالجملة الأولى تصف الكتاب إلى درجة ما، والثانية توصِّف القارئ.

منهج الكتاب يعتمد على استراتيجية التقويض. وأجمل ما في الكتاب، من وجهة نظري، هو الفصل الرابع الذي اعتمد فيه على آلية النقد الثقافي. (وهذا تناقض مع غايات الكتاب).

والكتاب ينسجم مع الواقع الغربي، لكنه خطر على الواقع العربي الذي لا تستقيم له النظرية النقدية إلا بتبني الوسطية والاعتدال. هذه الوسطية التي هي محط استهجان الكتاب ومرفوضة فيه.

الإرجاء النقدي في الكتاب/المفارقة:

ثمة إرجاء نقدي ينطوي على مفارقة، وهي تبين عن عبقرية صاحب الكتاب وعمق تفكيره أو عن هوسه الفلسفي. لقد انطوى الكتاب على منحى فلسفي متعال؛ ولذلك فإن كل المعجبين بالكتاب يوافقونه التوصيف، ولكنهم إن سئلوا، فهم يرفضون الأساس الفلسفي المبني عليه الكتاب. علماً أن الكاتب لا يعطي التوصيف والتفصيل أكثر من قيمة الشكليات الرأسمالية التي وصفها بالتفاهة. إنما هو يريد الناتج الفلسفي المتحصل من مجموع التفاصيل وتركيب التوصيف. وعليه، فإن قارئ الكتاب والمتفاعل معه كذلك، لا يسلم من دائرة نظام الكاتب.

نظرية الكتاب: تقوم على اعتماد المظلومية الميتافيزيقية التي تستخف بالنهج الإصلاحي، وتتبنى النزوع الاجتثاثي المستند إلى الإملاءات الرغبوية الأبيقورية والوجدانية البرغسونية.

2- تهجية سيميائية في عنوان الكتاب:

فيما سبق، حاولت أن أقارب الكتاب من منظور تفكيكي. وهنا سأقاربه من خلال العنوان سيميولوجياً:

(من نظام التفاهة، إلى تهافت التفاهة، إلى تهافت ما ظنوه).

هذا عنوان سيميائي يجسد رحلة الكتاب، وهو يتكون من ثلاثة عناوين تعاقبية. وفي القلب يأتي العنوان الرئيس للقراءة (تهافت التفاهة). أما الأول الذي على يمين القلب، فهو عنوان الكاتب على الكتاب وتجسيد لرؤيته. وأما الأخير الذي يشكل اليسار من العنوان المترحل، فهو تجسيد لاتجاه القراءة العربية.

تهافت التفاهة: هذا عنوان سيميائي دائري، يأتي وسطاً ووصلاً بين رؤيتي الكاتب اليمينية والعربية اليسارية. وذو معطى سيميائي من جهتين؛ الجهة الأولى أنه يعطي تناصاً سيميائياً مع عنوانين، الأول هو كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة) الذي يمكن أن يكون محاكاة له لو تم النظر إلى موقع صاحب الكتاب في كونه منظراً فلسفياً؛ وعليه فكتابه في التنظير الفلسفي ابتداء. وهنا يتحول التناص من تناص سيميائي إلى تناص مضموني.

وأما العنوان الثاني، فهو كتاب ابن رشد (تهافت التهافت) الذي يمكن، محاكاته لو تم النظر إلى الكتاب في كونه كتاباً في نقد الثقافة التافهة؛ فيصير، أيضا، تناصاً مضمونياً وسيميائياً.

ولكل من التناصين دلالته المختلفة عن الأخرى؛ فالأول يمثل تناصاً مع حالة بدئية؛ أي إن الكتاب يشكل تأسيساً فلسفياً لثقافة جديدة. وأما الثاني، فإنه يمثل حالة نقدية؛ أي إن الكتاب كان رد فعل نقدي على حالة فلسفية مؤسسة قبله. ولكل منها أيضاً تداعياته الدلالية المختلفة.

وأما الجهة الثانية، فإنها تفيد من مفهوم اللعب اللغوي عند فيتغنشتاين. وما يترتب على هذا اللعب من دلالات نقدية جادة؛ فالعنوان يمكن أن يقرأ من الجهتين (اليمين واليسار) ويعطي العنوان ذاته (تهافت التفاهة). واللعب ليس مفهوماً عبثياً في سيمياء النقد، وهو هنا يلخص جهة القراءتين الفكريتين (اليمينية واليسارية) في نقد صاحب الكتاب أولاً، وفي قراءة الكتاب من المنظورين اليميني واليساري ثانياً. فالكتاب تناول اليمين واليسار بالنقد الحاد، ثم إنه لقي تجاوباً فاعلاً نقدياً من اليمين واليسار كذلك. وكما تطابق اللفظ سيميائياً كذلك تطابق التجاوب جهوياً؛ من حيث التفاعل سواء في الكتاب الذي جمع اليمين واليسار في سلة تافهة واحدة. وكذلك في استجابة الطرفين لمضمون الكتاب؛ فهي وإن تفاوتت لكنها اتفقت في جهة التفاعل.

كذلك فإن سيمياء العنوان تجيز قراءته من المنتصف (تهافت التفاهة=التهافت تفاهة [قراءة يسارية تقدمية] / تفاهة التهافت [قراءة يمينية رجعية])، وهو ما ينسجم مع تناول الكتاب للميوعة الوسطية المتقلبة. وكذلك ينسجم على الاتفاق الضمني مع أفكار الكتاب العامة من منظور وسطي معتدل. وأيضاً يأتي تناولاً احترازياً نقدياً على هذه القراءة ذاتها من حيث إنه ينتقد ذاته، كما إن هذا العنوان يحتل موقعا وسطاً بين النزوعين، ويتناولهما معاً، ويأخذ منهما.

وأما العنوان الأول (نظام التفاهة)، فإن دلالته السيميائية في الابتداء من حيث إنه عنوان الكتاب الأصلي، ومن حيث نزوعه اليميني شاء صاحب الكتاب أم أبى.

وأما العنوان اليساري (تهافت ما ظنوه)، فهو يجسد حالة التلقي العربي له من جهتين سيميائيتين: الأولى التلقي اليساري للكتاب؛ إذ إن معظم من تفاعلوا معه كانوا ذوي النزوع اليساري، وهو النزوع العربي المسيطر من حيث الأكثرية الثقافية. وأما الجهة السيميائية الثانية، فهي أنهم تلقوا الكتاب تلقياً يسارياً وقرأوه قراءة معكوسة مضمونياً تحاكي انعكاس العنوان ابتداء (هو نظام التفاهة= تهافت ما ظنوه).

خلاصة القراءة: الكتاب يلعن الظلام الرأسمالي الفاسد في الزمن الذي تحول فيه الرأسمالي من لص ليلي إلى تاجر مصابيح. والكتاب كله صراخ وصياح، لكن عتمة الليل لا تكشف عن هوية أصحاب الأصوات... بعد الانتهاء من الكتاب تنكشف عتمة الليل عن يقظة نهار تفضح النسق الثقافي الرأسمالي المتسرب داخل نص الكتاب خلسة من عين الكاتب. لكن بعد فوات الأوان؛ إذ جرى في الليل ما جرى؛ أي بعد أن يكون محبو الكتاب والمعجبون بالكاتب قد شربوا هذا النسق المتناسخ والمتخفي داخل نسق الجمال الثوري الراديكالي.

مع ذلك، ومرة أخرى، فإن في قراءة الكتاب متعة لا تفوت، ولكن هي نصيحة مع حسن النية.