توماس هوبز:المجتمع صناعةً
فئة : مقالات
سنقف في هذه الدراسة عند رائد الفلسفة السياسية الحديثة توماس هوبز (1588/1679) في كتابه الشهير" الليفيتان" أو "التنين"، وهو كتاب يشيد نظرة جديدة غير مسبوقة لمفهوم الدولة وطريقة تدبير الحق فيها، وسنعمل على قراءة هذا الفيلسوف، ضمن سياق القرن السابع عشر تحديدًا، وهو عصر العلم الحديث بامتياز، وسنكتشف كم كان للثورة العلمية آنذاك من تأثير على نشوء طرح جديد في الفكر السياسي ما يزال صداه قائمًا إلى حد الساعة؛ فالمنجزات العلمية تلقي بظلها دائمًا على كل المجالات الأخرى، وسنعول على المنهج الذي اشتغل به مؤسس الفيزياء الحديث "غاليليو" (1564/1642)، الذي التقى بهوبز في زيارة يذكرها لنا التاريخ، وهو منهج عزل الظواهر، فهو المنهج نفسه الذي سيشتغل به توماس هوبز، ولم يخرج أبدًا عن النزعة الميكانيكية التي كانت هي السقف النظري للاشتغال آنذاك.
أولاً: الأرضية العلمية لتوماس هوبز
يجسد توماس هوبز الصدى الواضح للطفرة العلمية السائدة في القرن السابع عشر، فهو سيوجه النظرة الفيزيائية الميكانيكية نحو الحياة الاجتماعية، وسيتوج مجهوده بكتاب يعد من الكتب المؤسسة للفلسفة السياسية الحديثة ٳنه كتاب "الليفيتان". فالرجل، كما هو معروف من سيرته، كان كثير السفر، واستطاع أن يراقب ﺫلك الهجوم الضاري على الأرسطية، وكيف أنها تتآكل بطعنات لا تنتهي، بل سيساهم بإنهاء ذلك التصور الأرسطي الذي يرى أن أساس الاجتماع البشري طبيعي نحو تصور آخر يقول إن المجتمع صناعة تعاقدية حرة. ويجب ألّا ننسى الإعجاب الشديد الذي قابل به هوبز كتاب "الأصول" لإقليدس (ولد حوالي 300 قبل الميلاد)،[1] عندما اطلع عليه، إلى درجة انه أخد القرار بأن يطبق منهجه في كل أبحاثه، وﺫلك ما تحقق في كتابه "الليفيتان"، إذ نلحظ تلك الطريق الهندسية في صياغة الأفكار، إلى درجة أنه قيل عنه أنه أراد أن يكون "إقليدس السياسة"،[2] وهي طريقة القرن السابع عشر بامتياز، ويكفي التذكير بأن معاصره ديكارت (1596/1650) استمد منهجه من الرياضيات وكتب اسبينوزا (1632/1677م)، فكتابه علم الأخلاق[3] يتبع أسلوب إقليدس الهندسي نفسه. إضافة إلى هذا، فهوبز التحق بحلقة الراهب مرسن[4] صديق ديكارت الذي نظم بينهما المراسلات، فإحدى أهم الاعتراضات الموجهة لكتاب "تأملات ميتافيزيقية" لديكارت كانت من طرف هوبز، كما تمكن من زيارة العالم غاليليو واللقاء به في فلورنسا سنة 1636.[5]
يبدو واضحًا، مما سبق، أن هوبز قد انخرط كليًا في هموم عصره، فقد تشرب الأفق الذهني لتلك الحقبة؛ أي أفق النظرة الآلية للطبيعة، التي زعزعت كامل النظام المعرفي السائد آنذاك٬ فكانت هي المرجعية النظرية الموجِّهة لكتاباته السياسية. فقد كان طاغيًا في فكر هوبز أن العالم مؤلف من جزئيات مادية تتحرك ميكانيكيًا، وقد كان يوضح منهجه باستخدام مثال الساعة، فيقول: ٳنه عندما نريد فهم كيف تعمل الساعة، نقوم بتفكيكها وندرس مكوناتها المختلفة وخواص هذه المكونات، ثم نجمع أجزاء الساعة، وبجمعنا الأجزاء بشكل يعيد الساعة إلى العمل من جديد نتعلم كيف ترتبط الأجزاء بعضها ببعض٬ وكيف تعمل الساعة. ولقد حاول تطبيق هذا المنهج التحليلي والتركيبي على المجتمع إذ عمل على تقسيمه إلى أجزائه الواضحة، وجزؤه الجوهري، كما سنرى، هو الفرد بأهوائه وأنانيته، ثم إعادة جمع هذه الأجزاء، فنرى روابطها وكيفية عملها، وبفعلنا ذاك نفهم ماهو المجتمع. ولكن هذا التقسيم لن يكون قسمة واقعية بل خياليًا افتراضيًا، وهو ما يجعل هوبز يشتغل بطريقة غاليليو كما سنرى.[6]
- غاليليو: التجارب الذهنية والعزل المنهجي:
لعل أهم ما يمكن اقتناصه من المنهج العلمي في القرن السابع عشر بزعامة غاليليو هو فكرة "العزل المنهجي"، وهو ما تنبه له الفيلسوف كانط في مقدمة كتابه "نقد العقل الخالص"،[7] فعندما أراد غاليليو دراسة سقوط الأجسام قام بتجربة ذهنية لمّا رأى أن دراسة السقوط الحر في الطبيعة صعب المنال، لأن السقوط العمودي الحقيقي لا يمكن ضبطه، والطبيعة لا تقدم لنا الظواهر كما نريدها، وسيضطر غاليليو إلى التدخل والقيام بتجربة مصطنعة مستحدثة،[8] وذلك بعزل الظاهرة وأخذها إلى المختبر، إذ صنع سطحًا مائلاً، وأحضر كرة حديدية وبدأ يسقطها ويقيم المقارنة مابين المسافة وزمن السقوط، فاستنتج غاليليو أن السقوط يتم بشكل منتظم وهو ما يسمح بالتنبؤ. وكان ذلك أول قانون يكتشف في السقوط الحر، وهو القانون الذي لم تبحْ به الطبيعة إلا بعد التدخل المنهجي القائم على التخطيط للتجربة وعزل الظاهرة، وهذا ما يقال في قانونه الآخر القائل إن: الأجسام الساقطة في الفراغ، حيت تنعدم كل مقاومة، تسقط كلها بسرعة واحدة مهما اختلفت أوزانها وطبيعتها. وهو قانون يبرز قوة التجربة الذهنية في المنهج العلمي، وقد قام غاليليو بتجربة في غياب إمكانية الحصول على الفراغ تجريبيًا، ولم يكتشف الفراغ إلا بعد غاليليو مع تورشيلي وباسكال. ولعل ما يزيد من توضيح المنهج العلمي القائم على عزل الظاهرة المدروسة في شروط مثالية، الذي تم تأسيسه مع غاليليو، والذي سيوجه الفكر البشري إلى حد الساعة، هو مبدأ "القصور الذاتي" الفيزيائي، وهو ليس واقعيًا بل افتراضيًا، ينطلق من فكرة مفادها أنه: إذا ما عزلنا جسمًا ماديًا عن كل تأثيرات القوى المسلطة عليه، فماذا سيحدث؟
ثمة إجابتان على هذا السؤال، فإما أن الجسم سيبقى في حالة سكون، أو في حالة حركة مستقيمية منتظمة مادام لا تعترض سبيله أية قوة أخرى. هذه التجربة لا تتحقق واقعيًا، لأنه لا يمكن إيجاد جسم معزول عن القوى الأخرى واقعيًا، ولكن هو افتراض وعزل ذهني ومنهجي من خلاله تم التأسيس لفيزياء كاملة، لأنه سمح لنا بتغيير نظرتنا للمادة فالجسم مع هذا المبدأ ليس حرًا أصلاً، بل خاضع لقوى تتربص به. فإذا كان أرسطو يرى أن الأصل في الجسم هو الثبات والسكون، فإن هذا الأمر، حسب مبدأ القصور الذاتي مع غاليليو، سيتغير ليصبح الأصل في الجسم هو الحركة، فالسكون هو حركة أيضًا، لأن السفينة هي ساكنة بالنسبة للبضائع فوقها ولكن هي متحركة بالنسبة للميناء،[9] فإذا كنت ساكنًا في جهة فأنا متحرك بالنسبة لجهة أخرى.
قدمتُ هذه النماذج من عمل غاليليو لإبراز نوعية المنهج الذي سيرهن الزمن الحديث، بل سيرهن فيلسوفنا توماس هوبز في عمله السياسي كما سنرى، وخلاصة هذا المنهج هو: أن نقوم بعزل الظاهرة في ظروف نموذجية ومثالية كي نحصل على منطلق واضح، وسيسهل بعدها بناء تصورات وأفكار في ضوء هذا المنطلق.
ثانيًا: نحو نظرة ميكانيكية للسياسة ما بين غاليليو وهوبز
- توماس هوبز: العزل المنهجي، بين حالة الطبيعة وحالة التعاقد الاجتماعي
سيطبق توماس هوبز(1588/1679م) المتشبع بالأفق الذهني العلمي للقرن السابع عشر منهج العزل والتصور الميكانيكي في المجال السياسي، ونجده كما هو معروف يقسم المجتمع إلى قسمين꞉ المجتمع في حالة الطبيعة والمجتمع في حالة المدنية، وذلك على النحو التالي:
المجتمع في حالة الطبيعة:
ينطلق هوبز من السؤال الافتراضي التالي: ماذا سيحدث إذا ما عزلنا مجتمعًا معينًا في حالة يغيب فيها القانون وتغيب فيها السلطة السياسية؟ وماهي طريقة الحياة التي ستسود إذا لم تكن هناك قوة عامة تردع الناس؟ تبدو بوضوح هنا ملامح المنهج العلمي، ويجيب بأن الوضعية ستكون هي الفوضى والبطش والسلب والنهب...الخ، فكل فرد سيتجند جراء الخوف للدفاع عن نفسه بنفسه، والعمل على ضمان سلامته بكل القوة والمؤهلات التي بحوزته٬ مما سيدخل المجتمع في "حرب الكل ضد الكل"، على حد تعبير توماس هوبز نفسه، فيبرز الشر والعدوانية في الإنسان، وهو معنى عبارة هوبز المشهورة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان".[10]
إن مما يميز وضعية حالة الطبيعة في مملكة الإنسان عن مملكة الحيوان هو كون الحيوانات تعيش حالة من غياب التساوي في القوة، فالذئب مثلا ينسحب ويستسلم بسهولة أمام قوة الناب والمخلب التي للأس. أما عند الإنسان، فالأمر مختلف تمامًا، فإمكانات القوة عنده أوسع بكثير من إمكانات الحيوان؛ عضلات ومال وحسب ومنصب وذكاء وجمال...الخ٬ فهناك مساواة بين البشر في القدرات مما يهدد باستمرار الصراع، فكل عنف سيولد عنفًا مضادًا بالضرورة، يقول توماس هوبز:" إذا ما نظرت إلى القوة البدنية لوجدت أن الأضعف جسميًا في مقدوره أن يقتل الأقوى، إما باستخدام الحيلة أو بالتحالف مع الآخرين مهددين بنفس الخطر الذي يهدده".
وإذا كانت حالة الطبيعة كما أثبتت الفيزياء الميكانيكية هي حالة حركة غير منقطعة إذ لا وجود للسكون، وما يبدو سكونًا في الأجسام هو في أصله حركة٬ فإن هوبز سيرى بالمثل أن حالة الطبيعة الاجتماعية هي حركة قوة منبعثة من الأفراد غير متوقفة٬ فالمجتمع في أصله عبارة عن ذرات بشرية متنوعة تدور وتتصادم[11] وهو ما سيفضي إلى تطاحنات مخيفة ومرعبة تخلق عالمًا دراميًا مأساويًا، لن يسمح للمرء بالعيش إلى حدود السن المعتاد.
إذن حالة الطبيعة، والتي هي تجربة ذهنية، والتي يعتبرها هوبز هي الوضع الأصلي المفروض في الاجتماع البشري٬ يجسد حالة غير مريحة تهدد المرء في أقدس حق لديه أنه حق البقاء٬ ومادام أن حق الفرد، لن يتوقف إذا غابت الكوابح، وسينطلق دون حدود٬ فلا خيار إلا العمل على صده من الخارج، وذلك بأن نرغمه على التعايش مع حقوق أخرى هي أيضًا تتملك اللامحدودية في الطلبات والرغبات.[12]
تنبني فلسفة توماس هوبز السياسية على أبعاد سيكولوجية واضحة، فهو ينطلق من كون الإنسان يخشى الموت ويبحث عن البقاء بأي ثمن٬ فإذا ما واجهتك بمسدس ولديك المال وهو حقك في الملكية٬ فإنك لا محالة ستتنازل عن مالك من أجل بقائك٬ فالبقاء لا يساوم لأنه أقدس الحقوق على الإطلاق٬ وهو ما سيكون له مستقبلاً الأولوية في المدونات الحقوقية٬ فلا شيء يضاهي حق البقاء٠ ومادام الأمر كذلك فقد وجب الخروج من حالة الطبيعة نحو صناعة الدولة٬ فقد افترض هوبز حالة الطبيعة لتبرير الحاجة إلى نظام سياسي محكم٬ ولقد قدم حكاية طريفة عن بلاد فارس القديمة تقول꞉ إنه٬ كان عندما يموت الملك٬ يترك الناس دون حكم عمدًا لمدة خمسة أيام٬ فيكثر البطش والنهب والاغتصاب...وبعد هذه المدة ينصب الملك الجديد فيسرع الناس الذين بقوا على قيد الحياة نحو هذا الملك لأداء الطاعة والولاء، لأنهم استوعبوا رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع في غياب السلطة السياسية الرادعة٠ وللحفاظ على الحق الأسمى للإنسان وضمان سلامته وأمنه٬ على المجتمع أن ينتقل نحو الحالة المدنية أو حالة التعاقد الاجتماعي، وهو ما سنوضحه الآن.
- الحالة المدنية: حالة التعاقد الاجتماعي المثالي:
بعد الافتراض الذهني لحالة الطبيعة التي أوصَلنا من خلالها هوبز إلى أن أصل الاجتماع البشري مأساوي ومهدد لأثمن حق٬ أي حق البقاء٬ سيقترح حلاً سيكون هو نظريته في السياسية٬ ٳنه حل التعاقد الاجتماعي٬ فما هي ملامح هذه النظرية؟
يرى هوبز أنه لا مخرج من حالة الطبيعة الدرامية إلا بإحداث تفاوض يتنازل فيه أفراد المجتمع عن قوتهم كاملة لصالح حاكم قوي يكون على شاكلة "الليفيتان"، وهو عنوان كتابه ذائع الصيت٬ فتسمية الكتاب بهذا الاسم لم يكن اعتباطًا، فالليفيتان مستوحى من اسم وحش أو تنين بحري ورد الحديث عنه في التوراة،[13] وهي قصة تحكي عن وحش قوي جدًا كان يحكم بقية الوحوش الأخرى٬ لكن ذات يوم قررت هذه الوحوش التمرد عليه والخروج من سيطرته، فتزعزع عرشه وكاد أن يسقط لولا أنه استجمع قواه وكان لهم بالمرصاد وأوقف عصيانهم٠ يرى هوبز أن الحاكم المتعاقد حوله يجب أن يكون شبيهًا بالليفيتان بحيث تكون له كل الصلاحيات التي تسمح بردع كل تمرد محتمل يعيد المجتمع إلى حالة الطبيعة٬ ويكفي إلقاء نظرة حول غلاف كتاب الليفيتان ليبرز لنا أن الحاكم عليه أن يمسك السلطتين المدنية والدينية معًا، بحيث تكون كل مقاليد الحكم بيده، فهو من يسن الشرائع ويضع القوانين، ويشرف على الحقول والصناعة والزراعة والمدن والقرى والكنائس والمجامع والقلاع والحصون والغابات والقصور...الخ، فلا شيء ينفلت من قبضته، وإرادات جميع أفراد الشعب تتحد في إرادة واحدة هي إرادة هذا الحاكم، الذي يسميه هوبز بالإله الفاني، الذي سينعم الكل تحت إمرته بالأمن والسلم.
ويضيف توماس هوبز أن الاجتماع الحيواني مختلف عن الاجتماع الإنساني، فالأول قائم على الغريزة أما الثاني فيرتكز على الاتفاق والتوافق، وهو في هذا يعارض أرسطو، إذ يقول: "إن رضا هذه الكائنات لأمر طبيعي٬ بينما رضا البشر ناتج عن اتفاقية٬ وهو أمر مصطنع꞉ لا عجب بالتالي أن يكون المطلوب شيء آخر [إلى جانب الاتفاقية] بغية جعل رضاهم مستقرًا ومستمرًا꞉ هذا الشيء هو السلطة المشتركة التي تؤمن انضباطهم وتوجههم نحو الخير العام."[14] إن المخرج النهائي، حسب هوبز، من فوضى وغريزية حالة الطبيعة وضمان الأمن والسلام المشترك لن يتأتى إلا "بموجب اتفاقية كل فرد مع كل فرد٬ كما لو كان كل فرد يقول للأخر꞉ إنني أخول هذا الرجل أو هذه المجموعة من الرجال٬ وأتخلى له أو لها عن حقي في أن يحكمني أو تحكمني٬ شرط أن تتخلى له أو لها أنت عن حقك وتجيز أفعاله أو أفعالها بالطريقة عينها".[15]
صناعة المجتمع وعلمنة السياسة:
يعد هوبز من دعاة عدم تفتيت السلطة والعمل بجهد غير منقطع من طرف أفراد المجتمع على تجميعها في قبضة واحدة إلى درجة يصبح معها هذا المجتمع كالساعة، ومن هنا نفهم لماذا يركز هوبز على كون الدولة هي كائن صناعي،[16] ولا تعني كلمة صناعي هنا أنها كذلك بسبب قيام الدولة على العقد الاجتماعي فحسب٬ بل لأنها كذلك تحتاج إلى أن نحافظ على وجودها عمدًا، تمامًا مثل الساعة التي يضطر المرء إلى ملئها لكي تستمر في العمل، أو القطار الذي يحتاج باستمرار إلى تزويده بالوقود لكي يستمر سيره٠ تلك هي حال الدولة، فإذا تركت لذاتها لوقعت فريسة للحرب الأهلية أو الفوضى، وستكف عن أن تكون منظمة بل إنها لن تكون دولة على الإطلاق، ويكون المخرج بالانتقال من الوضع الطبيعي نحو الوضع الصناعي، ومن هنا نصل إلى فكرة جوهرية هي أن الحق ليس جاهزًا، بل يصنع، وإذا ما تركنا أنفسنا مع الجاهز فهذا الحق سيكون منطلقًا دون حدود إلى درجة ضياع هذا الحق.
إن من إضافات توماس هوبز القوية هي: أنه إن كان الإنسان قد خلق وضعًا صناعيًا يؤطر وينظم به نفسه من خلاله، فهو لم يصل إلى الوضع الصناعي العقلاني إلا ابتداء من القرن السابع عشر٬ إضافة إلى أن هوبز قد رفض التراث الأرسطي القائم على أساس أن الدولة طبيعية، والتراث الديني القائم على أساس أن الملك هو ظل الله في الأرض، أي ما سمي بالحق الإلهي، موجهًا السياسة نحو العلمنة، فالشعب هو من يقوم باختيار الحاكم لدواعٍ أرضية خالصة، هي ضمان الأمن والاستقرار، فبناء الدولة يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، أي من أفراد الشعب إلى الحاكم المتكفل لهم بسبل الحياة، وإلا وجب التحرر منه والتخلي عنه.
وقد يسأل متسائل، بعد كل ما سبق: كيف يمكن لرجل كهوبز وهو من المدافعين عن الحكم المطلق٬ أن يكون من واضعي اللبنات الفلسفية المؤسسة للسياسة الحديثة؟ ونحن نعلم أن الحكم المطلق بما فيه من استبداد ضد كرامة الإنسان، وأن حقوق الإنسان مرتبطة بالفردانية وليس الكليانية. يكمن الإجابة بالقول، إن اطلاقية الحكم عند هوبز لا تتنافى والفردانية، فهي ليست مفروضة من فوق، ولكنها اختيارية من أجل المنفعة الفردية الخاصة، وهي ضمان السلم والحياة، فما سيربحه المرء في الحالة المدنية لن يربحه في حالة الطبيعة٠ ومسألة الأمن هي أم الحقوق، وهو ما نجده منصوصًا عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في مادته الثالثة التي تقول: "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه"[17]، ناهيك عن أن فكرة هوبز تعد اللبنة الأولى للفكر الليبرالي، عند البعض، فالتنظير لحفظ الذات مع هوبز مهد الطريق لجون لوك للحديث عن حقوق هذه الذات المنيعة، وبخاصة الحرية والمساواة والملكية التي ستتوج في النهاية بتنظير في اللذة والربح.[18]
خاتمة: ماذا عن عالمنا العربي الإسلامي؟
نختم دراستنا بسؤال قوي طرحه المرحوم عابد الجابري[19] يقول: لماذا أدت فكرة "حالة الطبيعة" وفكرة "التعاقد الاجتماعي" إلى بلورة مفهوم حقوق الإنسان في الفكر الأوروبي، ولم تؤدِّ الأفكار التي توازنها في الثقافات الأخرى مثل فكرة "الطبع " و"الفطرة " و"الميثاق" إلى النتيجة نفسها؟
يكمن الجواب في أن فكرة الطبع مختلفة تمامًا عن فكرة حالة الطبيعة٬ فالطبع ثابت وقار ويجب ألّا يتغير، فهو كجبرية عمياء[20]، وواقع لا يرتفع٬ بل لا يرغب الناس في رفعه وتغييره، وهذا يعني، كما يرى الجابري، أنه لابد من الحفاظ على "تقسيم العمل" السائد، ولا بد من أن يحافظ كلُّ على منزلته الخاصة؛ فالفلاح يجب أن يبقى هو وبنوه في الفلاحة، والصناع يجب أن يبقوا صنّاعًا، والعبيد عبيدًا٬ والجند جندًا والرؤساء رؤساء،[21] فالعدل هو إنزال الناس منازلهم، ومن هنا فما يحكم وضعية الفرد هو "الواجب" وليس "الحق"، وعلى الفرد أن يعمل في مكانه في إطار منزلته، فلا يخرق نظام المجتمع، بل عليه محاكاة نظام الكون ليس فقط في اتساقه وتراتبه بل في ثباته وعدم تغيره.[22]
ويضيف الجابري، رحمه الله، أنه "لم يكن من الممكن للفكر الإنساني التوصل إلى مفهوم "حقوق الإنسان" من هذا المنطلق الذي يكرس بصورة قبلية فكرة التعاون والتضامن واحترام المنازل. المنطلق الذي يكرس فكرة أن "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، فكان لا بد من تشييد منطلق آخر، منطلق أن الواقعة الأولى في الحياة البشرية هي الفوضى والفردية والعدوان."
تكمن قوة توماس هوبز في كونه قلَبَ الأطروحة القديمة رأسًا على عقب، فللدخول إلى عالم الحق وجب افتراض العدوان والاعتداء على الحرية والمساواة، مما سيؤدي إلى التفكير في الطريقة التي نوقف بها هذا العدوان٬ إذ لا حاجة لنا للحق إذا لم أحس أنه قد اعتدي علي، ولكي أعي حقي وجب أن أدرك الظلم الممارس علي. وهذا يفسر سبب مهاجمة هوبز لفكرة أرسطو القائلة، إن "الإنسان مدني بالطبع"، ليعوضها "بأن الإنسان ذئب للإنسان" ولا خيار لتجاوز مضار هذا العدوان إلا بالتعاقد الاجتماعي٬ إذن عملية التأسيس النظري لحقوق الإنسان تطلبت فكرة "الإنسان الذئب".
مسرد الهوامش والإحالات:
- انظر مثلاً: إحسان عبد الهادي النائب، تومايس هوبز وفلسفته السياسية، منشورات مكتب الفكر والتوعية للاتحاد الوطني الكردستاني، ط1، 2012
[1] - المرجع نفسه.
- باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، تر: جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2009
- كان مرسن راهبًا يكبر ديكارت بسبع سنوات، وقد تعلم مثله في مدرسة لافليش ودامت صداقتهما حتى وفاة مرسن في عام 1648.انظر: ديكارت، أعلام الفكر والأدب، ضمن سلسلة: عالم المشاهير، دار الراتب الجامعية، سوفينير، لجورج مدبك، 1992، ص11. كما كان يدعى الموظف الخاص بالسيد ديكارت، فهو بمثابة صندوق بريد ينظم النقاشات بين العلماء والشخصيات، حتى صار مركزًا لنشاط تراسلي برمته حتى مماته. وقد ظل مرسن ينقل لديكارت الاعتراضات والأسئلة، ويتلقى إجاباته لمدة عشرين سنة. انظر الحسين سحبان، مجلة الجدل، ص51، خريف 1985، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء.
- إحسان عبد الهادي النائب، مرجع سابق.
- انظر غنار سكيريك ونلز غيلجي، تاريخ الفكر الغربي، من اليونان القديمة إلى القرن العشرين، تر: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2012، ص393
- إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، تر: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2013
- انظر تفاصيل عن تجارب غاليليو، المتعلقة بالسقوط الحر والسقوط في الفراغ، عند عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم، وهي تجارب توضح قوة النظر وقوة الافتراض الذهني.
- فرانسواز باليبار، أينشتين غاليليو ونيوتن المكان والنسبية، تر: سامي أدهم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والنشر والتوزيع، ط1، 1993
- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق والسياسة، دراسة في فلسفة الحكم، المجلس الأعلى للثقافة، الفصل الثاني المتعلق بتوماس هوبز.
- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق.
- فرانسوا فالانسون، الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان، ضمن كتاب: في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان نصوص مختارة، إعداد محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد الله ومصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013
- إحسان عبد الهادي النائب، تومايس هوبز وفلسفته السياسية، مرجع سابق.
- توماس هوبز، اللفياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، تر: ديانا حرب وبشرى صعب، تقديم: رضوان السيد، ط1، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2011
- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق والسياسة، دراسة في فلسفة الحكم، مرجع سابق.
- انظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ضمن كتاب، في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، نصوص مختارة، إعداد محمد سبيلا٬ عبد السلام بنعبد الله، مصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013
- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق.
- محمد عابد الجابري، الأساس العلمي لعالمية حقوق الإنسان، ضمن سلسلة مواقف، العدد 38، ط1، 2005
[1]- انظر مثلاً: إحسان عبد الهادي النائب "تومايس هوبز وفلسفته السياسية"، منشورات مكتب الفكر والتوعية للاتحاد الوطني الكردستاني، ط1، 2012، ص ص 45- 63
[2]- المرجع نفسه، ص 63
[3]- باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، تر: جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2009
[4]- كان مرسن راهبًا يكبر ديكارت بسبع سنوات، وقد تعلم مثله في مدرسة لافليش ودامت صداقتهما حتى وفاة مرسن في عام 1648
انظر: ديكارت، أعلام الفكر والأدب، ضمن سلسلة: عالم المشاهير، دار الراتب الجامعية، سوفينير، لجورج مدبك، 1992، ص 11. كما كان يدعى الموظف الخاص بالسيد ديكارت، فهو بمثابة صندوق بريد ينظم النقاشات بين العلماء والشخصيات حتى صار مركزًا لنشاط تراسلي برمته حتى مماته. وقد ظل مرسن ينقل لديكارت الاعتراضات والأسئلة ويتلقى إجاباته لمدة عشرين سنة. انظر الحسين سحبان، مجلة الجدل، ص 51، خريف 1985، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء.
[5]- إحسان عبد الهادي النائب، مرجع سابق، ص 52
[6]- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي "تاريخ الفكر الغربي، من اليونان القديمة إلى القرن العشرين" ترجمة د.حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1/2012، ص 393
[7]- إيمانويل كانط "نقد العقل المحض" ترجمة غانم هنا. المنظمة العربية للترجمة، ط1/2013، ص 34
[8]- انظر تفاصيل عن تجارب غاليليو (خاصة المتعلقة بالسقوط الحر والسقوط في الفراغ) عند د.عابد الجابري "مدخل إلى فلسفة العلوم". مرجع سابق من ص 25 الى 44. وهي تجارب توضح قوة النظر وقوة الافتراض الذهني.
[9]- فرانسواز باليبار، اينشتين غاليليو ونيوتن المكان والنسبية، تر: سامي أدهم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1993، ص 16
[10]- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق...والسياسة، دراسة في فلسفة الحكم، المجلس الأعلى للثقافة، الفصل الثاني المتعلق بتوماس هوبز، ص 269
[11]- انظر:غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق، ص 405
[12]- فرانسوا فالانسون "الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان"، ضمن كتاب في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان نصوص مختارة، إعداد محمد سبيلا٬ عبد السلام بنعبد الله٬ مصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013، ص 36
[13]- إحسان عبد الهادي النائب "تومايس هوبز وفلسفته السياسية"، مرجع سابق، ص 11و12
[14]- توماس هوبز "اللفياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة" ترجمة: ديانا حرب وبشرى صعب، تقديم رضوان السيد، ط.1، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة 2011، الفصل 17، ص 179
[15]- المرجع نفسه ص 180
[16]- إمام عبد الفتاح إمام "الأخلاق..والسياسة ﴿دراسة في فلسفة الحكم﴾" مرجع سابق، ص 268
[17]- انظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ضمن كتاب: في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، نصوص مختارة إعداد محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد الله ومصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013، ص 14
[18]- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق، ص 407
[19]- محمد عابد الجابري، الأساس العلمي لعالمية حقوق الإنسان، ضمن سلسلة مواقف، العدد 38، ط1، 2005، المقال 87، ص 15
[20]- المرجع نفسه، ص 17
[21]- المرجع نفسه، ص 18
[22]- المرجع نفسه، ص 18