تونس، من القيادة المستبدّة إلى القيادة الفوضويّة: تمهيد للتدافع الاجتماعي
فئة : مقالات
مقدّمة
خرجت تونس من سلطة الاستعمار لتبدأ في 1956 مرحلة وطنيّة جديدة من خلال القيام بالعديد من الإصلاحات القائمة على فعل تحديث المجتمع التقليدي، من هنا بدأ العمل على هيكلة تونس الحديثة وظهر فعل الحضور الكلّي للدولة وسيطرتها على كلّ الفواعل والأنساق الاجتماعيّة والدفع بالمجموعة الاجتماعيّة لمسار خطّطَه فاعل سياسي برتبة زعيم وطني.
1- من القائد الزعيم (النموذج) إلى القائد الديكتاتور (الاستبدادي)
عندما نتحدّث عن فعل الدولة في مرحلة البناء الأولى لها بُعيد الاستقلال، فنحن نتحدّث عن المسار الإصلاحي والتّحديثي الذي جاء به الفكر البورقيبي من أجل تحديث كلّ المؤسّسات الاجتماعيّة الفاعلة داخل المجتمع، والتي من خلالها يمكن أن يؤسّس لدولة وطنيّة من منظور حداثي أوّلاً، ومن منظور زعاماتي خاصّة، خوّل له شرعيّة التّدخل في مسارات البناء والهيكلة التي شملت مختلف الأبعاد الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة وخاصّة الدّينيّة، والشّروع مباشرة في السير بالفاعلين نحو التّحول من المجتمع التّقليدي إلى المجتمع الحداثي.
كانت الشخصيّة البورقيبيّة حينها تعمل باعتبارها القائد النموذج بالنسبة إلى أعضاء الجماعة، يحثّهم من خلال خطبه على أن يحتذوا حذوه في أيّ نشاط، ويزوّدهم بنموذج حيّ لما ينبغي أن يكونوا عليه ليقف القائد الزعيم كمثال حي ورمز قائم لاستمرار الجماعة في أداء مهمّتها. كانت المجموعة الوطنيّة في تلك الفترة تتشابك ديناميكيتها الاجتماعيّة "تحت نظريّة الرجل العظيم، وتفترض أنّ التغيرات في الحياة الجماعيّة والاجتماعيّة تتحقق عن طريق فرد ذي قدرات ومواهب عظيمة وخصائص عبقريّة تجعل منه قائداً أيّاً كانت المواقف التي يواجهها"[1]، وأيّاً كانت الصراعات التي يخوضها بسبب فكره الحداثي.
لكنّ الفعل الزّعاماتي ضعف، وبدأت ملامح انهياره تظهر على السطح منذ "أحداث الخبز"[2] التي مهّدت لزين العابدين بن علي لينقضّ على دولة ضعفت زعامتها وتآكل نموذجها القيادي، ليستيقظ الشعب التونسي على خطاب للوزير الأوّل الذي أعلن فيه بداية تحوّل وحكم جديد في السابع من نوفمبر سنة 1987. فكانت بداية ملامح القيادة من خلال السيطرة على الحياة السياسيّة كخطوة أولى، لتمتدّ سيطرته بعد ذلك إلى جميع المؤسّسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وذلك بتحديد السياسة التي تسير بموجبها الجماعة "وفق إرادة القائد الاستبدادي الذي يثيب ويحرم ويعاقب كيفما شاء، ويملي بمفرده نشاطات الأعضاء ونمط العلاقات الداخليّة بينهم، ومصير أيّ شخص في جماعته رهن مشيئته وهواه..."[3]، في صلب نظام "مافيوي" كبّل جميع الحريّات بالتواطؤ مع "عصبة الطرابلسيّة" التي رمت بجذور الفساد على جميع مستوياته، فعجلّت بذلك في زعزعة كرسي بن علي والإطاحة بنظامه الاستبدادي.
ما حدث في تونس هو حراك ثوري اجتماعي شارك فيه جميع الأطياف الاجتماعيّة، ونجح في إسقاط قيادة استبداديّة
2ـ من فعل الحراك الثوري إلى القيادة الفوضويّة
إنّ ما حدث في تونس هو حراك ثوري اجتماعي شارك فيه جميع الأطياف الاجتماعيّة، ونجح في إسقاط قيادة استبداديّة. وبرغم عفويّة هذا الحراك الثوري، إلّا أنّه تمكّن في بداياته من توحيد صفوف الفاعلين الاجتماعيين على اختلاف انتماءاتهم، ومن الحصول على مكسب الحريّة والكرامة التي طالبوا بها منذ اندلاع شرارة الاحتجاجات. ولكنّ هذا التضامن النسبي لم ينفِ ظهور مواقع الهشاشة على جميع المستويات، وذلك بسبب ما تعانيه الفئات الاجتماعيّة وخاصّة الشّبابية من إقصاء وبطالة وتهميش. وبدأت تظهر ملامح الرّفض لجميع الحلول التي تحاول أن تقدّمها قيادة ما بعد الثورة حتى تغطّي العجز الإصلاحي الذي يطالب به الفاعلون داخل المجتمع على اختلاف مستوياتهم. كما ظهر نقاش حول دور المجتمع المدني وكيف له أن يلعب دور الوسيط بين المواطن والدّولة من أجل تحقيق مصالحه، وحول نوعيّة الهياكل التي تعمل ضمنه، وحول الأهداف التي تتأسّس من أجلها هذه الشبكة المعقّدة من المؤسّسات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة التي تعمل في ميادينها المختلفة لتحقيق أغراض متعدّدة.
من هنا بدأت مرحلة "افعل ما يحلو لك" بتوجيه من قيادة فوضويّة )منذ زمن الترويكا) التي أتاحت حريّة مطلقة لكلّ فرد أن يتدخل في تنظيم مجرى الأمور دون محاولة لتقييم أو تنظيم الأحداث والوقائع، فبدأت تظهر الآراء المتضاربة والعمل الفردي الذي يغلب عليه المرح وعدم الجديّة وتحوّل النظام إلى فوضى. وفي ظلّ هذا الأسلوب يكثر ضياع الوقت وتبدو آثار التّفكك الداخلي وعدم الاستقرار. فتشكّلت أوساط متعدّدة من الأساليب والأنماط السّلوكيّة المختلفة التي يغلب عليها العنف، ويصعب في أحيان كثيرة أن "نحدّد الأسباب الحقيقيّة وراء بعض مظاهر هذا السلوك لدى الأفراد، أو نضع أيدينا على المحاور الرّئيسة التي قد تتداخل وتتشابك في تشكيل بعض اتجاهاتهم وتعمل على تحديد مطالبهم ودوافعهم".[4] وهذا يحيلنا إلى نظريّة "هاربرت بلومر"[5] الذي بيّن فيها أنّ البشر يتصرّفون حيال الأشياء على أساس ما تعنيه تلك الأشياء، كما أنّ هذه المعاني هي نتاج لتفاعل اجتماعي إنساني، تتحوّل وتتعدّل، ويتمّ تداولها بعد ذلك عبر عمليّة تأويل يستخدمها كلّ فرد على حدة في تعامله مع الآخرين والإشارات التي يواجهها ويعبّر عنها من خلال موقف أو تصوّر أو رأي أو سلوك يتّخذه تجاه مجموعة القواعد والمعايير التي تنظم النّسق الاجتماعي، ومن هنا تظهر لنا قدرات الفاعلين وطرق تعاملهم مع المجتمع أو الفضاء الاجتماعي الذي يوجدون فيه، والذي بداخله تتشكّل الذّوات الفرديّة، باعتبار أنّ كلّ سلوك ينتهجه الفرد يتأثر دائماً بالنسق القيمي أو الاجتماعي الذي يعيش ضمنه "وذاتيّة الفاعل أو الفرد تتكوّن في حدود النسق الذي يعيشه سواء كان ذلك مع الفضاء الاجتماعي بصورة عامّة، أو داخل جملة من العلاقات الشخصيّة أو المهنيّة، بل إنّ هذه الذاتيّة مقيّمة داخل جملة من المركّبات التي تنتمي إلى نسق اجتماعي ما..."[6]، وبالتّالي فإنّ القيادة الفوضويّة أعطت مجالاً واسعاً للفاعلين للتدافع الاجتماعي بملامح عنيفة ومضطربة.
3- الطريق للتدافع الاجتماعي: قاعدة للصراع العنيف
أصبح لمفهوم العنف الاجتماعي حيزاً كبيراً في واقع حياتنا المعاش في المجتمع التونسي، فقد أصبح هذا المفهوم يقتحم مجال تفكيرنا بشكل واسع، وخاصّة أنّه يرتبط بعدّة مجالات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وفي علاقة مباشرة بتفاعلات الأفراد داخل محيطهم الاجتماعي. وممّا لا شكّ فيه أنّ المجتمع التونسي اليوم يشهد، وخاصّة بعد ثورة 14 جانفي 2011، مزيداً من العنف المتعدّد الوجوه والأشكال والمختلف المرامي والأهداف، وقد تنوّعت أسبابه وبواعثه، وكثرت أشكاله ونماذجه، مخلّفاً العديد من الإشكالات حول فاعليّة النظم والهياكل الاجتماعيّة التي يعيش في نطاقها الفاعل الاجتماعي التونسي وكيفيّة تعاملها مع هذه الظاهرة التي تقدّم لمجتمع يعاني انهيارات قيميّة وأخلاقيّة على المستوى الاجتماعي (ارتفاع نسب الجريمة، وحالات العنف المتداولة)، وعلى المستوى السياسي (الاغتيالات السياسيّة، الحكومات المتعاقبة، الفساد السياسي العلني...)، وعلى المستوى الاقتصادي والتربوي أيضاً. والتي تعكس بشكل جلي وواضح المعيش الاجتماعي للأفراد القائم على التدافع الاجتماعي وعلى الصراع العنيف الذي يفرز في الأخير كتلة غالبة، تستطيع أن تفرض منطقها ومشروعها الاجتماعي على المشروع السائد، وذلك في نطاق نخبة سياسيّة وثقافيّة تسعى للتغيير الذي يستهدف كلّ المؤسّسات داخل النسق الاجتماعي الذي لا يمكن أن يقود سوى إلى تقويض الدولة لصالح مجتمع سياسي فوقي على حساب مجتمع سفلي محكوم.
إنّ القيادة الفوضويّة أعطت مجالاً واسعاً للفاعلين للتدافع الاجتماعي بملامح عنيفة ومضطربة
هذا الطريق للتدافع الاجتماعي أصبح معيشاً يوميّاً لحالة من العنف المهيكل، الذي يضرب بمسارات التّحول الديمقراطي المنشود، ويوجّه أنظار الفاعلين الاجتماعيين نحو قيادة سياسيّة بشّرت منذ حلول ركبها بأهميّة تبنّي نظريّة التدافع الاجتماعي من أجل تنفيذ مشروعها الإيديولوجي الخفي بستار المدنيّة المزيّفة، والمقوّضة لحلم الديمقراطيّة التي من أجلها خرج الفاعلون للشارع وأسقطوا نظاماً استبداديّاً مارس العنف والتسلط عليهم عقوداً كثيرة تاركاً وراءه إرثاً من الفساد والزبونيّة السياسيّة التي تماهت مع نمط التدافع الاجتماعي فخلقت تشوّهات اجتماعيّة، ودفعت بالفاعلين لتبنّي سلوكيّات يطغى عليها الانحراف والعنف والصراع.
[1]- Delaire Guy, commander ou motiver ?, Edition d’Organisation, 1984, p. 23.
[2]- انطلقت أحداث انتفاضة الخبز في شكل مظاهرات أدّت إلى المواجهة بين المتظاهرين وقوّات النظام العام. وقد انتشرت الظاهرة متّخذة طابعاً ...، ومع دخول مشروع الزيادة في أسعار العجين ومشتقاته حيز التنفيذ يوم 1 جانفي 1984 شملت الحركة الاحتجاجيّة مناطق الشمال والوسط الغربي، ممّا استدعى دخول الجيش إلى هذه المناطق بعد أن سجّل عجز قوات النظام العام عن الحدّ من توسّع هذه الانتفاضة.
[3]- Rynaud, Jean-Daniel, Les règles du jeu: l’action collective et régulation sociale, Paris, Armand Colin, 1993, p. 33.
[4]- Ibidem, p. 50.
[5]- Blumer Harbret, Symbolic Interctionism: Prespectiv and method, Englewood Cliffs, N.J. Prentice-Hall, 1969.
[6]- Goffman Erving, La présentation de soi, Paris, Minuit, 1973, p. 224.