ثقافة الإقصاء من منظور قرآني
فئة : مقالات
حينما يمعن الإنسان في التأمل في النسق الفكري الديني، يجد نفسه محاطا بسياجات معرفية وفكرية، أسسها الكهنوت كناطق باسم الله أو موقع عن رب العالمين على حد تعبير ابن قيم الجوزية. هذه السياجات المعرفية ليس الهدف منها فقط هو رسم حدود الطائفة أو المذهب أو الدين. لكن وظيفتها الأساس هي تلقين المتديّن كيف يمارس سلطته على ذاته ثم ّعلى الآخر أيضا، ومن ثمة تبدأ مسيرة الإقصاء بوصفها واحدة من المخاطر التي تتهدّد الأنساق الدينية في شموليتها. لم يكن موضوع الإقصاء موضوعا ثانويا في ذهنية المتديّن، بل كان موضوعا يجد عمقه من خلال البنية والأصول التي ينهل منها كل دين، أو تيار، أو حركة تاريخية استمرت أو عفّى عنها الزمان، فاندثرت بحكم عوامل التاريخ والسياسة.
حينما يسترجع المرء هذا التاريخ، يكتشف عمق الأثر الذي خلفته ثقافة الإقصاء، حيث انقسم المسلمون بعد وفاة النبي، ولم يفوّتوا الفرصة ليحمل كل من حمل الرسالة سيفا يشهره في وجه معارضه، حين تحوّلت الرسالة إلى سلطة بعناوين مختلفة، وصارت الجنة حكرا على طائفة دون أخرى، ومات الإسلام النبوي كما يحلو للبعض أن يسميه في دهاليز السياسة[1]. إن ما نريد الوصول إليه هو ما عبر عنه عبد الرزاق الجبران بـ "دين بلا معبد". فليس المقصود هنا أن يمحي الإنسان أشكال العبادة أو النسك أو القربات، بل عمق الفكرة كما يريدها الجبران إلغاء هذه الأسوار الدينية المعروفة التي تصنف البشر وتمزق الإنسانية إلى مناحي يكفر بعضها بعضا[2] (انقلاب المعبد ص12)؛ فالحقيقة أنه لم يقتل الإسلام إلا الفقه، كما لم يدمر المعبد إلا الكاهن.[3]
نبحث عن عمق ثقافة الإقصاء وجذورها الممتدة في بنيات أفكارنا وأصولنا، بحثا عن الطرح الموضوعي والحياد قدر الإمكان. ونطرح السؤال كيف تعامل القرآن مع منطق الإقصاء؟. والجواب عن ذلك ليس جوابا نهائيا يعيد صياغة الثقافة المنتقَدة من جديد، ولكنه مساهمة منا في بلورة خريطة طريق قد تصلح لمن يرغب في خوض غمار البحث في هذا الموروث الثقافي والديني الكبير. فأياًّ وجد الإنسان كانت الموضوعية هدفا يسعى لتحقيقه هذا الكائن من خلال أبحاثه وجهوده الفكرية. وأياًّ وجد الإنسان صار الحديث عن المثالية أماني نفس يصنعها الخيال خلال مسيرته الحياتية بكلّ جوانبها وتشعباتها المختلفة.
إنّ طبيعة السؤال المطروح للبحث طبيعة مدمّرة، إذا لم نتبين أيضا أبعادها ومآلاتها المستقبلية على الواقع البعيد والقريب. لعل أهم معطى قد يترتّب عليه خطر في حجم ما نحن بصدده، هو علو الإنسان بدعوى الموضوعية والعلمية، وخروجه عن حجم حقيقته المحدودة في الزمان المكان، والمؤطرة سلفا بحجم سقفه المعرفي. وإذا تم العلو فكرا وسياسة واقتصادا واجتماعا، ضاع الإنسان في فلك التجبّر على الآخر، بكلّ ما يحمله هذا الآخر من قيمة مضافة، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا. وبات الإقصاء بكل تجلياته هو السبيل الممكن لتنميط الناس وفق رؤية معينة، وتعليبهم بشكل يفقد الكون تنوعه المبثوث، وفق سنن وقوانين ثابتة لا تحابي في دقتها وعظيم صنعها أحدا.
وستكون مقاربتنا لهذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
-1القرآن ومنطق لست على شيء:
إن الناظر في تاريخ الفكر الإنساني القديم أو المعاصر، وفي تجاربنا وتجارب غيرنا، يرى أن الاختلاف كثيرا ما يدبّر بمنطق لست على شيء؛ بمعنى أنّ المختلف فكريا دائما، يرى في الآخر عدما لا وجود حقيقي له، إلاّ داخل إطار نسقه المعرفي المشبع بالحمولات الثقافية والخلفيات الإيديولوجية، حيث يتمّ التعامل معه وفق شروط التهميش والإقصاء. ولنقف مع القرآن الكريم متحدثا عن هذه الصورة القاتمة من تاريخنا تقول: "و قالت اليهود ليست النصارى على شيء و قالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب"؛ فهذه الآية طبعا وغيرها كثير قد تمّ التعامل معها بشكل مخلّ في ثقافتنا الإسلامية ومنظومتنا التفسيرية. حتى قال البعض لعل أصدق شيء قالته اليهود، هو أنّ النصارى ليست على شيء، وأن أصدق شيء قالته النصارى هو أن اليهود ليست على شيء. وموقف، مثل هذا ينسب للقرآن من خلال هذا البيان في الحقيقة يضع الكل على المحك، وهو موقف مشبع بثقافة الإقصاء للآخر والرمي به خارج؛ أي وجود فكري أو ذاتي بالقول: "لست على شيء". إنها ثقافة حاقدة لا ترى الوجود إلا في ذاتها وما تصنعه أيديها هذا إذا كانت تصنع. وثقافة تسمح لنفسها أن تكون مدعيا وحكما في الوقت نفسه.
فهل فعلا يكرّس القرآن منطق الإقصاء للآخر بهذا الشكل؟ ولماذا يصرّ أن يلبسوه هذا الاتهام إذا لم يكن كذلك؟. إن صنّاع ثقافة الإقصاء قديما وحديثا يبحثون عن الشرعية المفقودة ، ولا زالوا يتوسلون بالوسائل الممكنة والمتاحة بين أيديهم لتبرير أفعالهم. ولعل أهم وسيلة قد يسيطرون ويؤطرون العامة بها وفقا لتأصيلاتهم، هي النص القرآني بآلية القراءة التجزيئية. وهذا ما حدث بالفعل للنص المطروح للنقاش. فالنص أساسا هو عملية نقدية لبنية الفكر الإنساني، سواء مثله اليهود أو النصارى، إذ الاتهام بمنطق لست على شيء، والرمي بالآخر إلى حدود العدم، هو اتهام باطل لا يستند على حقيقة، إلا في أذهان صناع ثقافة الإقصاء. وقراءة الكتاب أيا كان هذا الكتاب، كونا أو واقعا إنسانيا، لا يمكن أن تسمح بمثل هذا التصور لهذا جاء التعقيب: "وهم يتلون الكتاب ؛ فتلاوة الكتاب ليست قراءته، بل في التلاوة معنى التتبع، وهي أكبر من أن تسقط الإنسان في شرك هذا المستنقع الخبيث: "ليسوا سواء".
-2الجهل طريق الاستمرار:
وتستمر الآية في عملها النقدي لطبيعة هذا المنطق، لتقف بنا على معترك حاسم وخطير في الوقت ذاته، فتقول: "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم"؛ فالقول بمنطق لست على شيء، نابع من أرضية عدم العلم بطبيعة الواقع الإنساني ومتجاوز أيضا للحقائق المبثوثة سننا وقوانين في الكتاب. وعلى من يردد نفس القول عاجلا أم آجلا، أن يتبين حقيقة جهله المركب بهذه السنن الإنسانية والنفسية، مهما كان حجمه أو ماهيته، ومهما كان انتسابه الفكري والثقافي. ولكن بالرغم من هذا المنزلق الفكري الخطير الذي قد يعترض طريقنا جميعا في لحظة من اللحظات، لا زال الكثير من الناس يراهنون عليه في إسكات المخالف فكريا أو سياسيا، متناسين هذا المعطى الواقعي الذي أكدنا عليه من خلال الآية نفسها؛ فالقول بمنطق الإقصاء: "لست على شيء"، هو خطوة نحو الجهل بنواميس هذا الكون العجيب، والجهل بهذه النواميس خطوة نحو الإقصاء وإلغاء الآخر فكريا وجسديا، والإقصاء خطوة نحو التردي الحضاري والإنساني بكل مستوياته.
-3الله وحلّ عقدة الخلاف:
في الكثير من الأحيان يظهر للإنسان بسبب قصوره، وعدم قراءته السويّة لطبيعة الاختلاف الكوني نفسه، بأن حل الخلاف بطرق القمع والإقصاء هو السبيل الممكن لضمان سير خطه التحريري أو الفكري. وما على الآخر إلا أن يرضخ للشروط المعرفية والتأصيلات الجاهزة تحت أي مسمى من المسميات. وقراءة مثل هذه في الحقيقة لا تستطيع أن تقنع نفسها، بله أن تطرح نفسها كبديل حضاري يسعى إليه الإنسان لسد ثغرات هذا المنزلق الفكري الخطير، وهي عاجزة أن تصنع إنسانا في بعده الكوني، المنفتح على الآخر والمتسامح مع المختلف، والباسط ليد الرحمة على طريق الخلاص من المنطق الإقصائي.
وقراءة للآية السابقة ترينا بوادر الحل الأمثل لمعالجة قضية لها خطورتها وتبعاتها الفكرية والإنسانية حين ترد الخلاف إلى الله: "فالله يحكم بينهم يوم القيامة في ما كانوا فيه يختلفون"، ومفهوم الله هنا يختلف من توجه إلى توجه، ومن رؤية إلى رؤية. وما على الناس إلا أن يطرحوا أفكارهم دون جبر أو إكراه، ويراعوا مبدأ السلم والتعايش بينهم، ولا يجعلوا من أفكارهم سيوفا تقض مضاجع الناس، أو ترمي بهم خارج الإطار الوجودي المميز لمنطلقاتهم. فالاحتكام إلى الله هو احتكام للقوانين والسنن المضبوطة، وإبعاد للصدام الحتمي حين تكون مرجعياتنا الفكرية والثقافية هي الفيصل في منازعاتنا ومحاكماتنا.
[1]- الإسلام النبوي هو مقابل الإسلام الأموي، وهي التسمية التي اختارها صالح الورداتي، حيث اعتبر بأن الإسلام النبوي يتميز بالاعتماد على القرآن وآل البيت. أما الإسلام الأموي، فيعتمد مصحف عثمان والصحابة والروايات. انظر الورداني، صالح.( 1999). السيف والسياسة في الإسلام الصراع بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي. (ط1). دار الرأي للطباعة والنشر والتوزيع. ص 151
[2]- الجبران، عبد الرزاق. الحل الوجودي للدين انقلاب المعبد. مؤسسة الانتشار العربي.ص: 12
[3]- الجبران، عبدد الرزاق. جمهورية النبي عودة وجودية. ص: 11