حرية المرأة وشروط إمكانها: العقبات التي تعوق مشاركة المرأة في الشأن العام


فئة :  مقالات

حرية المرأة وشروط إمكانها: العقبات التي تعوق مشاركة المرأة في الشأن العام

 مقدمة

الرؤية السائدة للعالم والمجتمع والإنسان، حتى يومنا، رؤية ذكورية، تجانسية: عرقية – إثنية – قومية، مؤسسة على أساطير دينية وأوهام نرجسية، أسفرت عن سلسلة طويلة من الحروب النزاعات والكوارث الإنسانية، وعن مزيد من تشيئ الإنسان وتعميق اغترابه عن عالمه وعن ذاته، وتهميش نحو ثمانين بالمئة من البشر وإفقارهم وتقفير حياتهم، لذلك تحتاج البشرية  كلها، لا السوريون وحدهم، إلى رؤية / رؤى نقدية جديدة مؤسسة على واقعية الاختلاف ومعقولية العالم، وجدلية: الفرد – المجتمع - النوع، تسهم النساء في إنتاجها إسهاماً أساسياً، على نحو ما تسهم الأنوثة في إنتاج الحياة.

فقد افترضنا، في مقاربتنا للمجتمع المدني، ومقاربات أخرى[1]، أن الاختلاف هو ما يجعل العقد الاجتماعي ضرورياً، والتشابه هو ما يجعله ممكناً، لأنه ما من اختلاف مطلق، في العالم المعيش، ولا تشابه مطلق، ولا حقيقة مطلقة.

من أبرز مظاهر الاختلاف، في أي مجتمع، وأكثرها قابلية للملاحظة والقياس هو اختلاف النساء عن الرجال، علاوة على اختلاف أية امرأة عن نظيراتها، واختلاف أي رجل عن نظرائه. الاختلاف هو الحقيقة الواقعية الأبرز في العالمين الفيزيقي والأخلاقي (المجتمع والدولة). هو الطبيعي الذي يؤسس الوضعي، والوجودي (الأنطولوجي) الذي يؤسس الأخلاقي، ومن ثم فإن التجانس، وهماً كان، كالتجانس العرقي والإثني والقومي والديني والمذهبي والطائفي والجنسي، أم حقيقة، كأنواع المواد والنبات والحيوان وأجناسها وأصنافها.. تأويل وضعي من عمل الذهن الإنساني، لا من عمل الطبيعة، ولا من عمل أية قوة مفارقة. نحن الذين نسمِّي ونصنِّف، وفقاً لإستراتيجاتنا وسلطاتنا المعرفية والثقافية والأيديولوجية والسياسية.

لذلك تتأسس هذه المقاربة على فرضيتين أساسيتين: أولاهما أن الحرية هي قوام إنسانية الإنسان وعمادها، إذا تجرد منها أو جُرِّد منها، بأي شكل من أشكال التجريد، لا يتبقى منه سوى كائن بيولوجي، "حيوان عاقل"، ولكنه غير أخلاقي؛ والثانية أن الحرية، بوجه عام، والحرية المدنية بوجه خاص، تتعين في الاختلاف، الذي يتأسس عليه استقلال الشخصية وفرادتها. الاختلاف هو ما يضع التشابه، ويحدد معنى المساواة ومضامينها الإنسانية والاجتماعية والثقافية والسياسية والحقوقية والأخلاقية، ومعنى العدالة؛ نحن حرائر وأحرار لأننا مختلفات ومختلفون، والعكس صحيح. (لو كنا متشابهات ومتشابهين في كل شيء، ومتفقات ومتفقين على كل شيء، لما كنا في حاجة لا إلى الحرية ولا إلى المساواة  ولا إلى العدالة، ولا إلى المعرفة والثقافة ربما، ولا إلى دستور وقوانين، لأن معرفة الأخرى المختلفة والآخر المختلف هي السبيل إلى معرفة الذات. "الإنسان مرآة الإنسان").

ليست المسألة في سوريا وغيرها مسألة تساوي النساء والرجال في الحقوق المدنية والسياسية، بل هي مسألة الحرية أولاً وأساساً، إذ ثمة حزمة من القوانين موضوعة على مبدأ المساواة، وإن تكن غير شاملة. لكن العيب في الدساتير السابقة والقوانين السابقة هو فصل المساواة عن الحرية، ولا سيما حرية المرأة واستقلالها الكياني. لا يضير الرجل أن تكون المرأة مساوية له في الحقوق المدنية والسياسية، بل يضيره أن تكون حرة ومستقلة ومكافئة له، وليست "حرمته" وموضوع إرادته ورغبته وسلطته.

محاولة في الوصف

يتفق معظم الباحثين، في هذا المجال، على أن العلاقات والبنى البطركية والبطركية المحدثة وعقائدها المذهبية لا تزال تسيطر على الفضاء العام، وتقتسمه، على نحو يبدد عموميته، ويقيم الحواجز بين أفراده وفئاته المختلفة، تسندها في ذلك ثقافة وقيم بطركية ونماذج من التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل، تعيد إنتاجها، من خلال النظام التربوي – التعليمي، ومؤسسات التلقين الأيديولوجي، والممارسة الاجتماعية، والتنشئة السياسية. هذه العلاقات والبنى والنماذج هي العقبات الرئيسة، التي تحول دون تمكن المرأة السورية من التمتع بالحريات والحقوق، التي أقرتها الدساتير المتعاقبة، والتي تحول، من ثم، دون مشاركتها في الشأن العام، وهي التي تحدد مكانة المرأة في المجتمع، كما تحدد تصور المرأة لنفسها وتصورها للرجل، على نحو يجعلها هي نفسها تضع العقبات في طريق حريتها.

وليس خافياً أن هذه العلاقات والبنى والنماذج  تقوم على الهيمنة الذكورية، وتبعية النساء للرجال، وفقاً للوظائف التي أناطها المجتمع بهن والأعباء التي ألقاها على عواتقهن، على اختلاف ملحوظ بين الأرياف والحواضر والمدن. كما تقوم على ادعاء التجانس، والنفور من الاختلاف، وتذويب الأفراد نساء ورجالاً وذوبانهم في سديم العائلة الممتدة والعشيرة والطائفة والجماعة الإثنية – اللغوية (والحزب العقائدي أيضاً) وهدر إنسانيتهم، أو عدم الاعتراف بها، إلا بقدر انضباطهم الاجتماعي والثقافي والأيديولوجي و"الأخلاقي" انضباطاً كلياً، أو قبولهم غير المشروط بالعادات والتقاليد والأعراف والعقائد، وامتثالهم للسلطات الشخصية المستبدة، المادية والمعنوية، التي تنتج منها.

غير أن العلاقات والبنى البطركية والعقائد الدينية - المذهبية أيضاً ليست عقبات في ذاتها، بل في كونها القواعد المادية والأخلاقية لتشكل السلطة الذكورية والهيمنة الذكورية، فهي حينما تكف عن كونها كذلك تكف عن كونها علاقات عصبوية وبنى عصبوية أو هووية، وتتفسخ من تلقاء ذاتها، بحكم تعمق العلاقات الرأسمالية والثقافة الليبرالية والحريات المدنية، الشخصية والخاصة والعامة، والحقوق المدنية والسياسية، ويكف الانتماء إليها عن كونه انتماء أيديولوجياً وسياسياً. وهذا ما دفعنا إلى وصف "المجتمع الأهلي" بأنه يحمل جنين المجتمع المدني، فهذا الأخير لا يتشكل في الفراغ، ولا يتشكل دفعة واحدة، بقدرة قادر أو سحر ساحر. هذا الافتراض يتصل أوثق اتصال بفكرة العلمانية، بما هي انتظام عقلاني  للمجتمع، وفقاً لعمليات الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي، لا هندسة اجتماعية، وفقاً لإستراتيجيات فئوية أو طبقية أو حزبية ومصالح خاصة عمياء، انتظام يفضي إلى تشكل فضاء عام، لا ينفي الفضاءات الخاصة ولا يلغيها.

هذا الوصف الإجمالي، حتى إذا كان صحيحاً، أو متفقاً عليه، وهو الأرجح، يعيِّن "نموذجاً" صورياً لمجتمع "متخلف" أو "متأخر"، نموذجاً لا يصلح إلا للتذمر والشكوى، ولا يثير في النفوس إلا الحنين (نوستالجيا) وشعوراً بالدونية، إزاء "الآخر" المتقدم، يتخفى في أشكال مَرَضيَّة من "تقدير الذات" وتبخيس الآخر. لذلك نفترض أن هذه العقبات الناتجة من عملية / عمليات التشكل أو التبنين الاجتماعي التاريخية، وعمليات التشكيل القسرية، ترجع إلى ثلاثة مصادر أساسية: أولها الاغتراب (Alienation)، بصفته علَّة التديُّن (التقديس والتأليه)، على نحو ما بسطه لودفيغ فويرباخ [2]، من جهة، وعلَّة الملكية الخاصة، على نحو ما بسطه كارل ماركس [3]من جهة ثانية، وعلة التعصب والعنف الناجمين عن التنكر لإنسانية المرأة وإنسانية الآخر المختلف وجدارتهما واستحقاقهما حرياتٍ متساويةً وحقوقاً متساوية. والثاني هو تقسيم العمل الاجتماعي، على نحو ما بسطه إميل دركهايم، ولا سيما التقسيم الجنسي للعمل. والثالث هو قواعد تشكل السلطة وآليات عملها وأشكال ممارستها، بصفتها قيداً على الحرية، ما لم تكن سلطة القانون العام، بصفته "حرية موضوعية"، حسب هيغل. فالعادات والتقاليد والأعراف والعقائد والعصبيات وأوهام المركزية الذكورية وأشكال الاستعباد والظلم والقهر .. تأتي كلها من هذه المصادر.

لعل أول أشكال الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج كان تملك الأرض والأدوات، وكان حصراً على الرجال دون النساء، وكان الدين تبريره الرئيس، ما يشير إلى التضامن التاريخي بين الدين والملكية الخاصة، على نحو ما نرى في الشرائع الدينية والقوانين الوضعية المحوَّلة عنها، ويشير في الوقت نفسه إلى حرمان النساء من التملك، أي حرمانهن من الحرية، لأن الإرادة لا تكون حرة (بل لا تكون سوى إمكان) إلا إذا تعيَّنت في فعل التملك، والتصرف في ما تملكه. وقد ارتبط تملك الأرض بتملك النساء والعبيد؛ ولا يزال التملك ذا طابع ذكوري غالب إلى يومنا. ومن المسلم به أن تقسيم العمل الاجتماعي نتج نتوجاً ضرورياً من الملكية الخاصة للأرض، ثم لوسائل الإنتاج الأخرى، بعد أن اندرجت ملكية الأرض في النظام الرأسمالي، وتحولت إلى سلعة، زلزلت علاقة الكائن بالمكان والزمان.

لكن تقسيم العمل لا يعني مجرد التخصص المهني، بل يعني العلاقات الاجتماعية والمؤسسات التي تنجم عنه، أي رأس المال الاجتماعي (والثقافي و / أو الرمزي) الملازم لرأس المال المادي وعمليات إنتاجه واستثماره، كالاعتراف والاحترام والثقة والتعاون والشبكات والجمعيات والنوادي والنقابات وجماعات الضغط والأحزاب السياسية، ومن ثم، فإن التقسيم الجنسي للعمل يعني إما حرمان المرأة من الحضور في هذه المجالات، ومن ثم، حرمانها من الحضور في المجال العام، الذي ينتج منها، وإما تقييد حضورها بشروط ذكورية، كما نرى في العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السورية، كالاتحادات والنقابات، بما فيها الاتحاد العام النسائي.

وإذ تعترف القوانين بحق المرأة في التملك والتصرف في ما تملكه بإرادتها الحرة، فإن هذا الاعتراف يظل ناقصاً ومثلوماً ما لم يقترن بحقها في إنتاج رأسمالها الاجتماعي والثقافي والرمزي الخاص، والإسهام في إنتاج رأس المال الاجتماعي والثقافي لمجتمعها الصغير والمجتمع الكلي. وهذا يقتضي حريتها في إقامة شبكة علاقات خاصة بها، قائمة على الثقة والاحترام والتعاون .. ومشاركتها الطوعية في انتظامات المجتمع المدني وتنظيماته وفي مؤسسات الدولة مما يزيد من مردودية رأسمالها المادي.

قواعد تشكل السلطة

تبين لنا فكرة الوازع الخلدونية أن البنى العصبية أو العَصَبَات لا تصير عصبيَّات، ضيقة أو موسَّعة، وأنساقاً لتوليد التعصب والتطرف والعنف إلا بإرادة السلطة أو إرادة السيطرة، التي عبر عنها ابن خلدون بالمدافعة والمطالبة، وأن قوة السلطة ليست شيئاً آخر سوى سلطة القوة، المؤسسة على سلطة الملكية الخاصة، بما هي ملكية السلطة، التي يقوم عليها "حق الأقوى". فلا تتبين الآثار الخطيرة للتعصب إلا في القواعد الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والأخلاقية التي تؤسس السلطة، وتشكل حقل السياسة.

نتبنى في هذا السياق مقاربتين متكاملتين: المقاربة البطركية، التي قال بها هشام شرابي وغيره، ومقاربة الشيخ والمريد، التي قدم فيها عبد الله حمودي إسهاماً مميزاً. يتأتى تكامل هاتين المقاربتين من التضامن التاريخي بين السلطة والعقيدة، دينية كانت العقيدة أم علمانية. ونفترض أن العلاقات البطركية وعلاقة الشيخ والمريد متضامنتين لا تنتج منهما سوى سلطة / سلطات شخصية مطلقة، خشنة وناعمة، وذكورية حصراً، لا تقبل المناقشة والمراجعة والمساءلة وتتطيَّر من النقد.

ومن ثم، فإن مقاومة السلطة البطركية المعززة بسلطة دينية، يفترض أن تتجه إلى تغيير قواعد السلطة والعلاقات التي تؤسسها، وتفكيك المعاني والقيم والرموز والعلامات التي تقنِّعها، أي يفترض أن تذهب بخط مستقيم إلى الحرية، قبل المساواة. لأن المساواة، بلا حرية، شَرَك أو فخ، الرجال (الأقوياء) هم من ينصبونه، والنساء هن من يقعن فيه[4].


[1]- راجع/ي، جاد الكريم الجباعي في "المجتمع المدني هوية الاختلاف"، دار النايا، دمشق، ط2 ، 2011. وفي "محاولة في الحرية، كتابوك للنشر الإلكتروني، باريس، 2016. وفي "مبادئ الحوار وأخلاقياته"، المركز السوري لبحوث السياسات، 2016.

[2]  - لودفيغ فويرباخ، أصل الدين، دراسة وترجمة، أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1991، ص 42 وما بعدها. (بتصرف)

[3] - كارل ماركس، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ، ص 40 وما بعدها.

[4]- جاد الكريم الجباعي، فخ المساواة، لا يزال مخطوطاً.