حريّة المعتقد بين النسخ والإحكام
فئة : مقالات
حريّة المعتقد بين النسخ والإحكام*
في البدء كانت الحريّة
تُعدّ الحريّة حقاً إنسانياً وقيمة عليا ومطلباً للأفراد والجماعات وأساساً لكل القيم، بواسطتها يصحّ الاعتقاد ويزدهر الفكر وتستقيم السياسة وتتحقق التنمية، وبدونها لا يمكن تصور باقي القيم الإنسانية. وينفتح التفكير فيها على رهانات نظرية وعملية، وينشأ عن ذلك إشكالات فلسفية ودينية وسياسية، فهي ترتبط بالفكر والإرادة والاعتقاد كما ترتبط بالفعل والسلوك. وقد عرف مفهوم الحريّة مساراً تاريخياً طويلاً تشكلت من خلاله دلالاته الكبرى ومعانيه الأساسية، وعبر هذا التاريخ استعملت الحرية كمفهوم وشعار وتجربة[1].
يستعمل مفهوم الحرية فلسفياً للدلالة على استقلالية الذات فكرياً وسلوكياً وعلى خاصيّة الكائن الذي لا يخضع للإكراه. وتعني بشكل مباشر القدرة على الاختيار الإرادي وغياب الإكراه، وتتحقق من خلال عمل الإنسان ما يقدر على عمله حسب مشيئته لا يصرفه عن عمله أمر غيره[2]. والحرية بهذا المعنى هي حق للبشر على الجملة، لأنّ الله خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل. فالحريّة ترتبط بالإذن التكويني المستقر في الخلقة الإنسانية[3] وهي أمر ناشئ عن الفطرة[4]. إنّ البحث الفلسفي المجرد للحريّة بالنظر إليها كمفهوم وشعار أو طوبى يبقى تافهاً جداً، لأنّه لا يبرهن ولا يمكنه أن يبرهن على الحريّة الواقعية؛ الحريّة كتجربة يعيشها الفرد الاجتماعي تحرراً وانعتاقاً أو خضوعاً وإكراهاً وعبودية[5]. ولعل هذا ما قصده فيلسوف الشخصانية الإسلامية محمد عزيز الحبابي حين أشار إلى أنّ الحريّة لا تتحدد إلا بالإضافة إلى شيء ما، فليست هناك "حريّة"، ولكن حريّة كذا أو كذا، بمعنى أنه إذا لم يرتبط مفهوم "حريّة" بإضافة أو وصف بقيت اللفظة مجردة، صحبتها بلبلة لا يجد معها الفكر "حريّة" مستقيمة في نشاطه. فبقدر ما تضيع صيغتها المطلقة وتتخلى عن اتساعها الكلي المجرد، بقدر ما تكسب معنىً واقعياً[6].
ويتمثل المجال الحقيقي للحريّة في مجال الحياة الواقعية والعلاقات الإنسانية، حيث يتم تحويل القناعات والأفكار والاعتقادات إلى سلوكيات وممارسة، ففي هذا المجال يتمّ الانتقال من الحق في الحريّة إلى الحريّة الفعلية أو من حريّة الفكر والإرادة إلى حريّة الفعل والكلام، من الحريّة كتجربة شعورية وعرفانية إلى ممارسة عملية. وتشكل حريّة المعتقد نموذجاً خاصاً يجسّد هذا التداخل بين ما هو شعوري داخلي وما هو عملي خارجي، لأنّ كل معتقد يتأسس على أفكار وتصورات وقناعات يتوجب تحويلها إلى شعائر وطقوس وعبادات.
حريّة المعتقد
يقسم الطاهر بن عاشور الحريّة إلى أربعة أصناف، هي: حريّة الاعتقاد، وحريّة الفكر، وحريّة الكلام وحريّة الفعل. وأمّا حريّة الاعتقاد فيراد بها حسب تعريفه "الاعتقاد فيما وراء الحس، وهو المعبر عنه في الإسلام بالإيمان بالغيب، ويعبر عنه الفلاسفة بما بعد الطبيعة أو ما وراء الطبيعة أو الإلهيات"[7]. ويعتبر هذا الصنف من الحريّة هو الأوسع والأشمل، لأنّ صاحب الاعتقاد مطلق التفكير فيما يعتقده. وبلغة مقاصدية أمكن القول إنّ الحريّة مناط التكليف بالواجبات الدينية إلى جانب العقل والعلم والاستطاعة، بل هي مُقدّمة على باقي المناطات.
يُقصد بحريّة العقيدة عموماً "حريّة الشخص في أن يعتنق الدين أو المبدأ الذي يريده، وحريته في أن يمارس شعائر ذلك الدين سواء في الخفاء أو علانية، وحريته في ألا يعتقد بأي دين، وحريته في ألا يفرض عليه دين معين أو أن يجبر على مباشرة المظاهر الخارجية أو الاشتراك في الطقوس المختلفة للدين، وحريته في تغيير دينه، وكل ذلك في حدود النظام العام وضمن الآداب"[8]. ويقصد بها "حق الفرد في اختيار عقيدته بعيداً عن كل إكراه. ولقد ضمنت الشريعة للإنسان هذه الحريّة كثمرة لمسؤوليته، فمنعت كل وسائل الإكراه، وفي الوقت نفسه لم تدخر وسعاً في التأكيد على ضرورة إظهار الحق وإقامة البراهين على إقامة العقيدة وتحمل الأفراد والجماعة مسؤولية صيانتها والدفاع عنها ومنع الفتنة عن معتنقيها"[9]. وتتمظهر حرية المعتقد في مظهرين كبيرين هما: حرية الدخول إلى دين ما وقبول الاعتقاد به واختياره والإيمان به وحرية الخروج منه وترك التدين به. فيجب ألا يُجبر الإنسان على الدين ابتداءً أو إبقاءً.
ونلفي في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنصيصاً واضحاً على الحريّة بشكل عام "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء"[10]، وعلى حرية المعتقد بشكل خاص "لكل شخص الحق في حريّة التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حريّة تغيير ديانته أو عقيدته، وحريّة الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة"[11]. وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية توجد العديد من المواد والبنود تؤكد بلغة صريحة وقطعية على حريّة المعتقد. فما دام لكل فرد الحق في أن يُعترف به شخصاً أمام القانون فهو يتحمل مسؤولية اختياراته وقناعاته واعتقاداته، ويستعمل حريته في أن يعتقد أو ألا يعتقد، ولا يجوز اخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يُعطل حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي يختارها. تنص كل الوثائق والتشريعات والعهود والاتفاقيات في مجال حقوق الإنسان على أنّ لكل فرد الحق في حرية الفكر والضمير والديانة. ويشمل هذا الحق حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد باختياره وفي أن يعبّر، منفرداً أو مع آخرين بشكل علني أو غير علني، عن ديانته أو عقيدته سواء كان ذلك عن طريق العبادة أو الممارسة أو التعليم[12]. ووعياً من هذه الوثائق والتشريعات والعهود والاتفاقيات بحساسية حريّة المعتقد وما قد يترتب عنها من نتائج فإنها تسيّجها وتنظمها ببعض الضوابط، بحيث إنها تجعل حريّة الفرد في التعبير عن ديانته أو معتقداته خاضعة فقط للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجب السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية[13]. ويظهر جلياً أنّ البحث في حرية المعتقد أو الحرية الدينية يتعلق أساساً بقبول أو رفض الاعتقاد بالدين أو اختيار معتقد دون معتقد آخر، وهذا ما تكفله الشرائع الوضعية والدينية، وما أقرّه الفلاسفة ودافع عنه السياسيون وناضل من أجله الحقوقيون وأصّل له فقهاء الدين والقانون.
وإذا أردنا تخصيص القول في قضية حرية المعتقد في الفكر الإسلامي فسوف نصادف اختلافاً عميقاً يصل إلى مستوى التناقض الذي لا يرتفع. ويعود هذا التناقض إلى اختلاف المرجعيات وتعدد التأويلات وتنوع المناهج في استخراج الأحكام، التي تتوزع بين أهل النقل وأهل العقل وأهل الذوق، بين الذين يقفون عند ظاهر النصوص وحرفيتها والذين يتطلعون إلى تأويل النصوص والخروج من دلالاتها الظاهرة إلى دلالاتها الخفية. ويكمن أسّ هذا التناقض وأساسه في معضلة تفسير النص الذي يتجاوز أن يكون بنية لغوية متعالية ومعزولة عن الواقع ليكشف عن واقع الإنسان الذي يتفاعل معه في إطار تاريخي وثقافي واجتماعي وسياسي. إنّ معضلة تفسير النص الديني طُرحت بقوة في تراثنا الإسلامي قديماً وحديثاً، وتسببت في شروخ وانقسامات وصراعات، وربما ازدادت حدتها في التاريخ الراهن بفعل تدخل الولاءات السياسية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية.
تتخذ حريّة المعتقد في الفكر الإسلامي وضعاً إشكالياً يدلّ على حساسيتها وخطورتها بالنظر إلى الأحكام والرؤى التي تترتب عن إثباتها أو نفيها. فهي بوصلة تؤطر علاقاتنا مع المغاير دينياً والمخالف عقدياً ومذهبياً، وتحدد مرجع الانتماء إلى أمّة الإسلام. وهذا ما سنحاول بسط القول حوله من خلال استحضار نماذج تنتمي إلى حقول معرفية متعددة كالتفسير والفقه والتفكير الأصولي بغية بناء تصور منسجم مع كليّات الشرع ومستوعب لروح العصر، وتوجهنا في ذلك روح الفكر المقاصدي الذي ينظر في مآلات الأحكام. وإنّ مدار قولنا للنظر في حريّة المعتقد هو آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[14] والتي انقسمت بشأنها أقوال المفسرين والفقهاء إلى موقفين متعارضين؛ أحدهما يعتبرها منسوخة في حين يعتبرها الآخر محكمة، ولكل منهما تبعاته التصورية والعملية.
آلية النسخ
يتخذ النسخ ثلاثة أوجه تبعاً لتعاريفه اللغوية، إذ يدل على النقل والإزالة والإبطال، ويحتفظ المعنى الاصطلاحي بدلالتي الإزالة والإبطال، وممّا يدل عليه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر[15]، وعلى بيان انتهاء عبادة وقبل انقضاء العبادة التي ظاهرها الدوام، وقال بعضهم إنه رفع الحكم بعد ثبوته[16]، وبلغة جامعة يحدد الإمام الجويني النسخ باعتباره الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب آخر، على وجه لولاه لاستمر الحكم المنسوخ. ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق رفع الحكم بعد ثبوته[17]. ويشترط الأصوليون أن يكون الحكم الشرعي المنسوخ والحكم الشرعي الناسخ من الطبيعة نفسها، ويعالجان الموضوع نفسه أو القضية نفسها مع مراعاة الترتيب الزمني لنزول الآيات.
وقد نشأت نظرية النسخ لتواجه الفكرة القائلة بإمكان وقوع التعارض بين نصوص الشارع الحكيم أو التعادل، بحيث لا يمكن أن يرتفع التعارض أو التضاد أو التعادل في ذهن المجتهد بدون التخلص من أحد النصين بالحكم بإبطاله أو إزالته أو رفعه أو بيان انتهاء مدته أو تبديله أو تغييره أو تحويله، والمهم ألا يبقى إلا أحد الدليلين، أي المتأخر منهما، معمولاً به[18]. ولعل من أبرز مخاطر الاعتماد المنهجي للنسخ هو أنّ الفقيه أو المفسر يمنح نفسه سلطة التحكم الذاتي في النصوص، كما ينقل التعارض والتضاد الذي يصيب ذهنه بفعل قصور آلياته المنهجية والمعرفية إلى النصوص ذاتها. وإنّ فهم النسخ بهذا المعنى باعتباره الأداة المنهجية لحل التعارض بين النصوص سيتحول إلى إشكالية كبيرة سوف تنال من سلامة نصوص قطعية ثابتة وتلغي كليات ومقاصد كبرى. وكمثال على هذه الكليّات والمقاصد نستحضر حريّة المعتقد انطلاقاً من الآية الكريمة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ﴾.
نسخ حرية المعتقد
يكاد الإنتاج المعرفي الذي صاغه الفقهاء والمفسرون أن يجمع على اعتبار آية ﴿لا إكراه في الدين﴾ منسوخة بآية القتال أو السيف ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾[19]. فرغم تعدد الأقوال والتأويلات فإنها تنتهي إلى اعتبار آية عدم الإكراه منسوخة ممّا يعني أن حكمها قد بات مرفوعاً ولم يعد فاعلاً، لأنّ النسخ يعني رفع الحكم بعد ثبوته، وبمعنى النفي الكامل لدلالة عدم الإكراه عن الآية[20].
وكمثال على ما تقدم فإنّ الإمام القرطبي أورد ستة أقوال[21] في تفسيره للآية، تتراوح ما بين اعتبارها منسوخة واعتبارها محكمة لكن حكمها مخصوص ومقيد وليس عاما مطلقاً، ممّا ينتهي إلى تثبيت دلالة الإكراه. ومن الأقوال التي أوردها والتي تلقى شهرة بين المفسرين أنّ الآية منسوخة لأنّ النبي قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا بالإسلام. وقد نسختها آية ﴿يَأيّها النَبيُّ جَاهد الكُفَار والمُنَافقين﴾[22]. وهناك من قال إنها ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية، والذين يُكرهون أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام[23]. فالآية حتى وإن كانت محكمة فإنها خاصة بأهل الكتاب، ولا يستشف منها الإقرار بحريّة اختيار المعتقد ابتداءً أو انتهاءً.
أورد البغوي في تفسيره قولاً لقتادة وعطاء مفاده أنّ الآية نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أنّ العرب كانوا أمّة أميّة لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعاً أو كرهاً أنزل الله تعالى ﴿لا إكراه في الدين﴾، فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقرّوا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية لم يُكره على الإسلام، وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف[24].
إنّ حكم عدم الإكراه في الاعتقاد منسوخ بحكم لاحق مداره قتال المخالفين عقيدة وإكراههم على الإسلام. ولعل من أغرب التفاسير التي قدّمت للآية تأكيداً لمنطق الإكراه وشرعنته "لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف: مجبراً مُكرهاً"[25]. ولا ينبغي أن يُفهم من الآية حريّة العقيدة، وإنما اعتبار دين الإسلام في غاية الوضوح فلا يحتاج أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه.
وعلى درب المفسرين سار الفقهاء في القول بنسخ الآية. فقد ذهب ابن حزم إلى إدراجها ضمن منسوخ القرآن لأنها تتعارض مع بعض الأحاديث النبوية. على الرغم من أنّ السنّة ليست ناسخة للقرآن حسب الرؤية الأصولية للشافعي.
تتخذ القراءات التفسيرية للآية ثلاث صور: صورة الإكراه المطلق، وصورة إثبات الحريّة شرط دفع الجزية، وصورة القتال. وتنتهي هذه الصور إلى إلغاء حريّة المعتقد وإلى تأسيس خطاب مغلق للآية يضفي عليها طابعاً إقصائياً لا يقبل التعدد والاختلاف. وإنّ مثل هذا الخطاب كانت له تمظهرات على مستوى الأحكام المؤطرة للمجال الاجتماعي والسياسي، وخاصة تلك الفتاوى الفقهية المتعقلة بحكم الردّة وتغيير الدين بعد الإيمان وإسناد المناصب لغير المسلمين في دولة الفقهاء. يدفع الرافضون لحرية المعتقد والقائلون بنسخ الآية ﴿لا إكراه في الدين﴾ بموقفهم إلى أقصى الحدود مدّعين أنّ الإسلام لم يأتِ بحريّة الرأي والفكر والعقيدة، وكل من قال إنّ الإسلام أعطى للناس الحرية في اختيار معتقداتهم فهم يقولون كفراً لأنهم يخالفون صريح القرآن الذي يدعو إلى قتال الكفار.
وينطلق القائلون بنسخ الآية من خلفية إبستيمولوجية تروم نفي شبهة التعارض بين آيات القرآن الكريم، ففي تصورهم لا يمكن الجمع بين حكم شرعي ينص على حريّة المعتقد وحكم شرعي آخر ينص على وجوب قتال الذين يحملون معتقداً مغايراً. إنّ نفي شبهة التعارض الظاهري بين الحكمين لا تفترض نسخ حريّة المعتقد، بل تفرض إعادة قراءة الآيات وتأويلها وفق سياقات اجتماعية وثقافية وسياسية مغايرة كليّاً للسياقات التي عاش فيها من قالوا بالنسخ. إنّ الشرط الإبستيمولوجي والسياقات التي نحياها على كافة الأصعدة تفترض إثبات حريّة المعتقد والدفاع عنها وحمايتها بالقوانين وكفالتها بالتشريعات.
إحكام حرية المعتقد
تتجه أغلب الاجتهادات المعاصرة إلى إثبات حريّة المعتقد من منطلق اعتبار آية ﴿لا إكراه في الدين﴾ محكمة لا يمكن نسخها. فحريّة الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان. فالذي يسلب إنساناً حريّة الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً، ومع حريّة الاعتقاد حريّة الدعوة للعقيدة والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة[26].
والحــــال أنّ آيـة ﴿لا إكراه في الدين﴾ تعالج قضية وتقرر قيمة مغايرة ومختلفة عن القضية التي تعالجها آية القتال. أضف إلى ذلك أنّ الآية الناسخة يجب أن تكون أفضل من الآية المنسوخة أو مثلها ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾، وتبعاً لهذا الشرط القرآني في وقوع النسخ فلا يمكن الجزم هنا أنّ الآية التي تقرر قيمة الحريّة وتنفي الإكراه وتؤكد حق اختيار المعتقد هي من طبيعة الآية نفسها التي تقرر قيمة القتال، كما لا يمكن الإقرار بأنّ القتال الذي هو كره لمن يُفرض عليهم أفضل من الحريّة حيث السلم والأمان.
ومن منظور أصولي محض يذهب صاحب الموافقات أبو إسحاق الشاطبي إلى التأكيد أنّ "النسخ لا يكون في الكليّات وقوعاً وإن أمكن عقلاً، وأنّ الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والكماليات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء"[27]. وتبعاً لهذه القاعدة فإنّ آية ﴿لا إكراه في الدين﴾ قضية كليّة قاطعة شرعاً وعقلاً، وبلغة أصولية فهي "قضية كليّة محكمة، عامة تامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية على المشرك والكتابي، سارية على الرجال والنساء، سارية على قبل الدخول في الإسلام وبعده، أي سارية في الابتداء وفي الإبقاء. فالدين لا يكون بالإكراه ابتداء كما لا يكون بالإكراه بقاء"[28]. ومن ثمّ فهي لا تقبل النسخ بآية القتال التي تشرع لإجراء احترازي مؤقت ووسيلة قد تُعتمد لضمان حرّية المعتقد، لا أن تُعتمد لإكراه الناس على الاعتقاد فيما لا يختارون بحريّة. إنّ الأصل هو الحريّة والسلم وإشاعة الأمن، في حين أنّ القتال فعل طارئ واضطراري يستخدم لحفظ الضرورات وضمان الكليّات وليس لاغتصابها.
فالراجح إذن أنه لا يمكن إلغاء قاعدة كليّة وقيمة كونية بإجراء احترازي، فالقتال لم يُشرع إلا للدفاع عن المعتقد عندما يكون مهدداً بالإكراه والمنع والقهر والظلم. كما أنّ الاختلاف العقدي لا يُوجب الاقتتال ولا يبيح العدوان ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين﴾[29].
يتبين بوضوح تام أنّ الإكراه والدين على طرفي نقيض وضدان لا يجتمعان، حيثما يُوجد الإكراه يبطل الاعتقاد ويفسد الدين، فالإكراه لا يثمر ديناً أو إيماناً. وإذا ثبت عند الفقهاء والأصوليين أنّ الإكراه باطل في التصرفات والمعاملات والحقوق كالزواج والطلاق والبيع والبيعة فبطلانه بيّن وجلي في مجال الاعتقاد، حيث إنه لا ينشئ ديناً ولا عقيدة، بل قد يؤدي إلى هدم الدين نفسه.
فعندما تفقد العقيدة عنصر الحرية تتحول إلى تصورات وعقائد دوغمائية مغلقة، وتجعل من الأتباع قطيعاً من العدميين يفرون من الحياة إلى الموت، أو يتقنون صناعة الموت ويتفننون في القضاء على المخالف عقيدة قتلاً وذبحاً وحرقاً وتهجيراً.
يؤكد صاحب تفسير المنار أنّ قوله تعالى ﴿لا إكراه في الدين﴾ قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه ولا يسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه[30]. ويعلل دعواه بأنّ الإيمان هو أصل الدين وجوهره عبارة عن إذعان النفس ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالبيان والبرهان[31]. وإنّ المعنى نفسه وبالروح التجديدية ذاتها يظهر عند صاحب تفسير التحرير والتنوير الذي ينزل الآية منزلة "دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين والنظر، وبالاختيار"[32].
يتفرع عن حريّة المعتقد مسألة شائكة ومحرجة للقول الفقهي قديماً وحديثاً تتمثل في "الردّة" أو حريّة تغيير المعتقد الإسلامي ورفضه بعد الإيمان به من قبل. فيكاد يُجمع الفقهاء على وجوب قتل من غيّر معتقده الإسلامي رغم تعارضه مع العديد من الآيات القرآنية التي تمنح الفرد حق ممارسة حريته الدينية. فعلى سبيل المثال فإنّ الطاهر بن عاشور، وعلى أهمية الاجتهاد الذي قام به في كتابيه "مقاصد الشريعة الإسلامية" و"أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" فيما يخص الحريّة معتبراً إياها مقصداً أساسياً من مقاصد الشريعة من منطلق أنّ الحريّة تستند إلى الفطرة وتدخل في تكوين الإنسان، إلا أنه لم يدفع بهذا الموقف إلى المدى المطلوب على مستوى تطبيقاته، ففي الوقت الذي دافع فيه عن حرية المعتقد فإنه دافع عن قتل المرتد. فالتناقض ظاهر في رؤيته التي تجمع بين حريّة المعتقد وقتل من اختار أن يغير معتقده بكل حريّة، فقد ذهب ابن عاشور إلى وجوب قتال المرتد اعتماداً على ما أسماه "إجماع الصحابة"، واعتبر أنّ الداخل في الإسلام بحريّة في اعتقاده يصير غير حر في الخروج منه، وإن اختار الخروج وجب قتله، لأنه إن بقي حيّاً أصبح دليلاً وهمياً على عدم صحة الدين[33].
وتعتبر مسألة الردّة حلقة ضعف داخل الخطاب الإسلامي المعاصر الذي بقي رهيناً للمنظومة الفقهية التقليدية، ولهذا نجد الاجتهادات قليلة في هذا الباب. فبعض هذه الاجتهادات يعتبر مسألة الردّة أو تغيير المعتقد جريمة سياسية تتمثل في الخروج عن نظام الدولة، نافية عنها أن تكون جريمة عقيدية تدخل ضمن جرائم الحدود[34]. فقضية الردّة بدأت سياسية، واستمرت سياسية، وستظل كذلك، والجانب الديني فيها ضئيل لا يثار إلا ليوظف في خدمة السياسي وما يتعلق به[35]. ولكن وعلى أهمية مثل هذا الاجتهاد فإنه قد يفتح الباب أمام التوظيف السياسي لمسألة الردّة لتصفية المعارضين والخصوم السياسيين[36].
ولكن الذي يمكن تقريره عقلاً ونقلاً، أخلاقاً وقانوناً، هو أنّ مسألة الردّة أو حريّة تغيير المعتقد لا يمكن اعتبارها جريمة عقيدية ولا جريمة سياسية، لأنها مسألة شخصية بالدرجة الأولى وتدخل في باب الاستعمال الخاص للحريّة في إطار احترام ضوابط الفضاء العمومي الذي ينتمي إليه الشخص.
وفي الختام تكون الحريّة:
الحريّة قبل الاعتقاد وبعده، فالإنسان يختار معتقده بحريّة ويمارسه بحريّة. وإنّ العقيدة حريّة وشأن إنساني خاص ولا يمكن إخضاعها لسلطة الفقهاء أو السياسيين، فليس لأحد أن يُكره أحداً على اعتقاده أو تغيير اعتقاده تحت أي ظرف من الظروف، وبأي نوع من أنواع الإكراه[37]. فشواهد التاريخ بعد أدلة العقل والنقل متضافرة على أنّ حريّة المعتقد أسبق الحريّات العامة، لأنّها بمثابة القاعدة والأساس[38] الذي تشتق منه كثير من الحقوق والواجبات.
إنّ الدفاع عن حريّة العقيدة من خلال النظر إلى آية ﴿لا إكراه في الدين﴾ كآية محكمة وقضية كليّة لا تقبل النسخ مطلقاً، يستلزم إعادة النظر في حكم الردّة وتكييفه مع مقاصد الشريعة وكلياتها العامة. ومن خلال استقراء النصوص والوقائع المتعلقة بحكم الردّة يتبين أنّ قتل المرتدين أو الذين يغيرون عقيدتهم لا يكون للردّة وحدها، وإنما يكون لأسباب أخرى وليست العقيدة إحداها، كما أنه يتنافى تنافياً واضحاً مع قاعدة ﴿لا إكراه في الدين﴾، ومن ثمّ وجب ردّ حكم الردّة وعدم التسليم به.
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد السابع، 2015، التي تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[1]- العروي، عبد الله، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الرابعة، 2008، ص 9
[2]- الطاهر بن عاشور، محمد، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الشركة التونسية للتوزيع (تونس) والمؤسسة الوطنية للكتاب (الجزائر)، الطبعة الثانية، بدون سنة، ص 160
[3]- المرجع السابق، ص 169
[4]- الطاهر بن عاشور، محمد، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الثانية، 2001، ص 391
[5]- العروي، عبد الله، المرجع السابق، ص 8
[6]- الحبابي، محمد عزيز، من الحريات إلى التحرر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2004، ص 23
[7]- الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، ص 170
[8]- بدوي، ثروت، النظم السياسية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1972 ص ص 422- 423
[9]- الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 1993، ص 44
[10]- المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
[11]- المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
[12]- الفقرة الأولى من المادة الثامنة عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
[13]- الفقرة الثالثة من المادة السابقة.
[14]- البقرة، 256
[15]- الشاطبي، أبو اسحاق، الموافقات، تحقيق أبو عبيدة، ج 3، ص 343
[16]- ابن حزم علي أحمد، الناسخ والمنسوخ في القرآن، تحقيق عبد الغفار سليمان البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1986، ص 7
[17]- الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة، تحقيق محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1950، ص 339
[18]- العلواني، طه جابر، نحو موقف قرآني من النسخ، سلسلة دراسات قرآنية، العدد 5، 2006، ص 22
[19]- الأنفال، 39
[20]- مبروك علي، قول عن النخبة والقرآن والخطاب، في قضايا إسلامية معاصرة، العدد 59-60، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2014، ص 55
[21]- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، الجزء 4، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2006، ص 280-283
[22]- التوبة، 73
[23]- القرطبي، المرجع السابق، 281
[24]- البغوي، معالم التنزيل، الجزء الأول، تحقيق جماعي، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، 1409هـ، ص 314
[25]- المرجع السابق، ص 282
[26]- السيد قطب، في ظلال القرآن، ص 291
[27]- الشاطبي، المرجع السابق، ص 338
[28]- الريسوني، أحمد، الكليّات الأساسية للشريعة الإسلامية، اللجنة العلمية لحركة التوحيد والإصلاح، ص 101
[29]- سورة الممتحنة، الآية 8
[30]- رشيد رضا، محمد، تفسير المنار، الجزء3، دار المنار، مصر الطبعة الثالثة، 1367 هجرية، ص 39
[31]- المرجع السابق، ص 37
[32]- الطاهر بن عاشور، محمد، تفسير التحرير والتنوير، الجزء 3، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ص 26
[33]- همام محمد، نقد مقصد الحرية في فكر محمد الطاهر بن عاشور، ضمن مؤلف جماعي، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وقضايا الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر رؤية منهجية معرفية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2009، ص 306
[34]- الغنوشي، راشد، مرجع سابق، ص 50
[35]- العلواني، طه جابر، لا إكراه في الدين، إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومكتبة الشروق الدولية، الطبعة الثانية، 2006، ص 31
[36]- المرجع السابق، ص 24
[37]- المرجع السابق، ص 23
[38]- الميلي، محسن، العلمانية أو فلسفة موت الإنسان، قرطاج، مطبعة تونس، 1986، ص 38