حسن حنفي وسطيٌّ متطرفٌ في وسطيته


فئة :  مقالات

حسن حنفي وسطيٌّ متطرفٌ في وسطيته

حسن حنفي وسطيٌّ متطرفٌ في وسطيته

حسن حنفي (1935-2021)، مفكرٌ وفيلسوفٌ مصريٌّ، كان يرى نفسه، ويراه كثيرون، فقيهاً من فقهاء الأمة وعالماً من علمائها. اعتبره البعض (أحد) أهم فلاسفة مصر والعالم العربي، في حين رأى آخرون أنه على الرغم من غزارة مؤلفاته، و/ أو بسبب هذه الغزارة، لم يقدم إضافةً حقيقيةً وكبيرةً، ولم يفِ بالوعود الفكرية الكبيرة التي أطلقها، وأعلن عن سعي مشروعه أو مشاريعه الفكرية إلى تحقيقها. كان وسطيّاً، ومتطرفاً في وسطيته. فهو وسطيٌّ، بقدر محاولته اتخاذ مسافةً متوازنةٍ بين طرفين أو أطرافٍ متباعدةٍ، مع محاولة التوفيق بينهما وجمعهما في تركيب جدليٍّ إيجابيٍّ. لكن وسطيته بدت لكثيرين متطرفةً، بقدر سعيه إلى التوسط والتوفيق بين أطرافٍ أو أفكارٍ رأى كثيرون استحالة التوفيق بينها، بسبب تناقضها الضروري، وإقصاء كل طرفٍ منها للطرف الآخر: اليسارية والإسلامية، العلم والأيديولوجيا، العقل والوجدان، التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة أو الحداثة، الوطنية (المصرية) والاتجاهات فوق الوطنية (الإسلاموية والعروبية)... إلخ. ويبدو أن تميُّز فكر حسن حنفي يكمن ويبرز، تحديداً، في ما يمكن اعتباره نقطة قوته وضعفه، في وقتٍ واحدٍ: الوسطية المتطرفة في وسطيتها. والحديث عن تطرف في وسطية حنفي يشير إلى أن توجهه الوسطي تضمَّن -كما سنبيِّن لاحقاً- اتخاذ مواقف متطرفةٍ، في مجالاتٍ وفتراتٍ وأحيانٍ ليست قليلةً.

وٌلِد حسن حنفي في حي باب الشعرية الشعبي في القاهرة، وبقي مقيماً فيه إلى أن سافر إلى فرنسا عام 1956. وقد بدأ مسيرته التعليمية في «الكتَّاب» حين كان في سن الرابعة، حيث كان التدريس يتمحور حول تحفيظ القرآن وبعض قواعد اللغة العربية، لكنه لم يستسغ الأجواء العنيفة والمريبة والمتوترة، فتركه سريعاً، ثم تدرج في تعليمه من المدرسة الأولية إلى المدرسة الابتدائية، حيث كان التلميذ الوحيد الذي رفض تلقي دروساً خصوصيةً. وفي مسابقة المدارس التوجيهية، حصل على الترتيب الأول على القطر في امتحان مادة الفلسفة، وتم تكريمه بحضور عثمان أمين الذي كان هو من وضع سؤال المسابقة المتعلق، آنذاك، بالمقارنة بين الشك عند كلٍّ من ديكارت والغزالي. وقد كان ذلك من العوامل التي شجعته على دخول قسم الفلسفة في جامعة القاهرة عام 1952. وقد دخل الفلسفة رغم تعلقه الشديد بالموسيقى، حيث تعلم العزف ودرس الموسيقى، لكن كان عليه أكثر من مرة أن يختار بين الفلسفة والموسيقى، فاختار الفلسفة، مع بقاء غصةٍ مستمرةٍ في نفسه، في هذا الخصوص.

في قسم الفلسفة، تتلمذ حنفي على يد عثمان أمين (الفلسفة المعاصرة) وتوفيق الطويل ومحمود أمين العالم وزكريا إبراهيم (الفلسفة المعاصرة)، ومصطفى سويف (المنطق)، وأحمد فؤاد الأهواني (الفلسفة الإسلامية، علم الجمال) وآخرين. وأنهى حنفي دراسته، في جامعة القاهرة عام 1956، بالترتيب الأوَّل، ثم سافر إلى فرنسا، من دون أن يكون لديه منحةٌ أو مالٌ، سوى عشرة جنيهاتٍ. وبدأ العدوان الثلاثي على مصر بعد أسبوع من وصوله إلى فرنسا، فعرقل ذلك إمكانية حصوله على منحةٍ فرنسيةٍ. فحصل على بعض الدخل من تدريس اللغة العربية. وكان حينها نحيلاً بسبب سوء التغذية الناتج عن الفقر. وبتوصيةٍ من ماسنيون، حصل على منحةٍ فرنسيةٍ جزئيةٍ عام 1959، ثم كاملةٍ من 1960 حتى عام 1964، ثم منحةٍ مصريةٍ عامي 1965-1966. بعد عودته إلى مصر، رفض فرصة تعيينه في جامعة عين شمس، وأصر على التعيين في جامعة القاهرة التي درس فيها؛ وقد حصل ذلك عام 1967، وبقي في هيئتها التدريسية حتى عام 2018.

على الرغم من أنه صرح أنه يفضِّل ألا يكتب سيرته الذاتية إلا بعد بلوغه الثمانين، وانتهائه من مشروعه الفكري (التراث والتجديد)، لم يقاوم حنفي إغراء نشر سيرتين ذاتيتين له، عامي 1982 (في «الدين والثورة في مصر 1952-1982، ج6 الأصولية الإسلامية») و1987 (في الجزء الثاني من «في هموم الفكر والوطن»)، ثم ختم سيره الذاتية ومؤلفاته عموماً، تقريباً، بسيرته الذاتية الثالثة «ذكريات 1935-2018م». وكان حنفي يحب أن يكتب الآخرون عنه وعن فكره، ويدعوهم إلى ذلك ويشجعهم عليه. وهناك عشرات النصوص أو الكتب، على الأقل، التي تناولت فكر حنفي عرضاً وتحليلاً ونقداً. ويشكل هذا النص استمراراً لمحاولتي المستمرة بتقطعٍ للاستجابة للدعوة المذكورة. وتقتفي تلك المحاولة خطى حنفي الذي لم يسعَ عموماً إلى أن يرسم صورةً مثاليةً لنفسه، لكن من دون أن تأخذ بجديةٍ مبالغته الواضحة في قوله «بي عيوب الناس جميعاً». واستناداً إلى نصوصه، والنصوص المنشورة عنه عموماً، وإلى سيره الذاتية خصوصاً، سأسعى إلى رسم صورةٍ/ بورتريه له، من خلال إبراز بعض الأفكار والمسائل الكاشفة للسمات الأساسية لتلك الشخصية، أو المعبِّرة عنها، جزئيّاً ونسبيّاً، من وجهة نظري.

1. رسالَتا الدكتوراه ومشروعه الطموح: المنهاج الإسلامي العام لتغيير العالم (الإسلامي)

أمضى حنفي عشر سنواتٍ تقريباً (1956-1966) في فرنسا، لإنجاز أطروحتي الدكتوراه. وخلال إقامته في فرنسا، أتقن اللغتين الفرنسية والألمانية، واطَّلع على الكثير من المصادر الفلسفية بهاتين اللغتين، كما التقى ببعض أهم أعلام الفلسفة الغربية والمستشرقين الفرنسيين والألمان في تلك الفترة. فبالإضافة إلى ماسنيون الذي كان مشرفاً على أطروحته، وهنري لاوست وليون برونشفيك وبول ريكور وجان جيتون الذين كانوا أعضاء لجنة مناقشة الرسالتين، التقى حنفي، على سبيل المثال، بغادامر وسارتر وميرلوبونتي ومارسيل وكوربان ورينان وإتيان جيلسون وجان فال وجاك بيرك... إلخ. وقد حصل، بنتيجة المناقشة، على درجة دكتوراه دولة بأعلى تقديرٍ «مشرف جدّاً».

كان حنفي قد أعلن، منذ أن كان طالباً جامعيّاً، عن أمله في أن يسهم في نهضة الإسلام والمسلمين من خلال تقديم صياغةٍ جديدةٍ للإسلام، يكون فيها الإسلام «منهجاً عامّاً وشاملاً في الفكر والحياة للفرد والمجتمع، في آنٍ واحدٍ». وعندما أخبر سيد قطب بذلك، نصحه قطب بقراءة المودودي صاحب محاضرة/ كتيب «منهاج الانقلاب الإسلامي». وانطلاقاً من ذلك، ومن تأثره بالأفغاني، أراد حنفي أن يكون عنوان/ موضوع رسالة الدكتوراه الأساسية هو «المنهاج الإسلامي العام»، لكنه أدرك، بتوجيهٍ من ماسنيون، ضرورة أن يبدأ بالتعرف على مناهج المسلمين والغربيين، وتحليلها ومعرفة ممكناتها وسبل تطويرها ونقدها، قبل تقديم رؤيته الخاصة بذلك المنهاج العام. وعلى هذا الأساس، اختار حنفي أن يبدأ بما بدا لماسينيون وله أنها النقطة الأهم في التراث/ التاريخ الإسلامي، في هذا الخصوص: علم أصول الفقه؛ فعنون رسالة الدكتوراه الأساسية «مناهج التفسير: في علم أصول الفقه». وقد كتب حنفي رسالته، بوصفه امتداداً لمفكري الإصلاح الديني، عموماً، وللأفغاني والمودودي والبنا وقطب، خصوصاً. وكانت تلك الرسالة بمنزلة حجَرَي الأساس والزاوية ونقطة الانطلاق لمشروع حسن حنفي الفكري الذي سعى من خلاله إلى الإسهام في «إيقاظ الأمة من كبوتها». وقد تضمنت الرسالة، التي عرض لمضامينها في نصوصه العربية لاحقاً، محاولةً لإعادة بناء علم أصول الفقه ونظريته عن «الشعور الثلاثي: التاريخي والتأملي والعملي»، وانتقال التركيز من اللاهوت إلى الناسوت. فقد سعى حنفي إلى إحياء التراث، كما فعل هوسرل بإحياء الفلسفة، وإلى إعادة بناء علم أصول الدين، مثل فويرباخ، حيث يكون الإنسان هو المركز. أما الرسالة الثانية للدكتوراه، فحملت عنوان «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل»، ونشرها حنفي بالفرنسية، ومن ثم، لاحقاً، بالعربية.

عَنْوَنَ حنفي مشروعه باسم «التراث والتجديد»، وقد تضمن هذا المشروع عشراتٍ من المؤلفات الموسوعية الضخمة التي تروم، على سبيل المثال، إعادة بناء أصول الدين (من العقيدة إلى الثورة، خمسة أجزاء) وعلوم الحكمة (من النقل إلى الإبداع، تسعة أجزاء)، وعلم أصول الفقه (من النص إلى الواقع، جزءان)، وعلوم التصوف (من الفَناء إلى البَقاء، جزآن). وقد أشار ماسينيون مبكراً إلى ضخامة المشروع، وأدرك حنفي، تدريجيّاً، صعوبة، وربما استحالة، أن ينجز مشروعه الطموح لوحده، وأنه أقرب إلى عمل الفريق والمؤسسات الموازية منه إلى عمل فرد واحدٍ، فحاول، من جهةٍ أولى، تكثيف نصوصه المنشورة، وهو ما أفضى إلى التأثير السلبي في محتوياتها، وسعى، من جهةٍ ثانيةٍ، إلى (إعادة) تأسيس أو تفعيل بعض المؤسسات (الجمعية الفلسفية المصرية)، والمراكز (مركز الدراسات الفلسفية)، والمجلات (مجلة الجمعية الفلسفية المصرية)، وتكوين الباحثين الشباب، وتشجيع العمل الجماعي، عموماً، للإسهام في إنجاز مثل ذلك المشروع.

2. مواجهةٌ ثلاثية الجبهات وفي ثلاثة مستوياتٍ

ولكي ندرك مدى ضخامة مشروع حنفي، ينبغي الإشارة إلى أنه كان يتضمن مواجهةً ثلاثية الأبعاد أو الجبهات: الموقف من التراث (العربي الإسلامي) القديم، الموقف من التراث الغربي، الموقف من الواقع أو نظرية التفسير. أصدر حنفي عشرات النصوص في كل واحدةٍ من هذه الجبهات الثلاث لمشروع «التراث والتجديد»، ضمن ثلاث مستويات مختلفةٍ، رأى ضرورة عدم الخلط فيما بينها: علميٌّ، فلسفيٌّ وثقافيٌّ، وسياسيٌّ شعبيٌّ. فنصوص المستوى العلمي موجهةٌ للخاصة او المختصين، بعيداً عن سياقات الإثارة والمدح والقدح. وبالإضافة إلى النصوص الموسوعية التي ذكرناها آنفاً والتي تنتمي إلى نصوص جبهة الموقف من التراث القديم، تتضمن نصوص هذا المستوى الكتاب التأسيسي المهم «مقدمة إلى علم الاستغراب»، الذي ينتمي إلى نصوص جبهة الموقف من التراث الغربي، وكتاب «من النص إلى الواقع، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم» الذي يندرج في إطار جبهة الموقف من الواقع أو نظرية التفسير. أما نصوص المستوى الفلسفي الثقافي، فهي موجهةٌ إلى الفلسفة والمثقفين، وتهدف إلى «نشر الوعي الفلسفي وبيان أثر المشروع في الثقافة». ويتضمن هذا المستوى نصوص كتاب «قضايا معاصرة» بجزأيه (أحدهما يتناول «فكرنا المعاصر»، والآخر يتناول «الفكر الغربي المعاصر»)، وكتاب «هموم الفكر والوطن (جزآن)»، و«حصار الزمن (ثلاثة أجزاء)» بالإضافة إلى عشرات النصوص المؤلفة أو المترجمة عن أعلام الفلسفة الغربية (فيشته، برغسون، اسبينوزا) والفكر العربي الإسلامي (أبو الحسين البصري، الأفغاني)، و«دراسات فلسفية وإسلامية». أما المستوى الشعبي السياسي، فيهدف إلى تحويل مشروع التراث والتجديد إلى ثقافةٍ شعبيةٍ، ضمن إطار ما أسماه حنفي بــ «اليسار الإسلامي». ومن كتب هذا المستوى: «الدين والثورة في مصر (ثمانية أجزاء)»، و«نظرية الدوائر (جزآن)»، بالإضافة إلى كتبٍ متعددةٍ عن الثورة والواقع في مصر، وعن الواقع العربي المعاصر عموماً.

3. الجمع بين النظري والعملي، بين المعرفي والأيديولوجي، بين الاستراتيجي والراهن

كما هو واضحٌ من مضامين الجبهات والمستويات الثلاثة، لم يكن عمل حنفي الفلسفي مجرد تفكيرٍ نظريٍّ نخبويٍّ، بل كان حريصاً جدّاً على الابتعاد عن الأبراج العاجية، وغير العاجية، للنخبوية، وتنويع مواضيع كتاباته ومستوياتها، لتصل إلى كل الأطراف المعنية. وكان يحاول المزاوجة بين السمة الاستراتيجية لمشروعه الفكري النظري والسمة الراهنة لقضايا الواقع التي تتطلب التفاعل معها. وتقاطعت وتشابكت هذه المزاوجة مع المزاوجة بين النظر والعمل، بين التنظير والممارسة، بين المعرفة والأيديولوجيا في مسيرة حسن حنفي. فمنذ سنواته الجامعية الأولى، كان يقول بضرورة الجمع بين العلم والأيديولوجيا (الإسلامية أو اليسارية) حتى لو اتخذ ذلك الجمع صيغة العمل السياسي. وسعى دائماً إلى ربط الفكر بالواقع، وإقامة جدلٍ إيجابيٍّ بين الطرفين. فعلى سبيل المثال، أوقف حنفي العمل على مشروع التراث والتجديد، بعيد هزيمة 1967، ورأى ضرورة أن يتحوَّل من «باحثٍ فلسفيٍّ» إلى «باحثٍ وطنيٍّ»، وحاول أن يمارس دوراً شبيهاً بدور فيشته، صاحب «خطابات إلى الأمة الألمانية». فبدأ بكتابة مقالات دوريةٍ في عددٍ من المجلات لــ «مساعدة الأمة على عبور الهزيمة». ونُشرت هذه المقالات، لاحقاً، في جزأي «قضايا معاصرة». وتجنباً للتكرار الذي بدأ يظهر في نصوصه، عاد إلى مشروعه النظري الاستراتيجي، بين عامي 1971-1976، ثم عاد، لاحقاً (1976-1981)، إلى كتابة سلسلة طويلة من المقالات عن الأوضاع الراهنة في مصر والعالم العربي، جمعها لاحقاً في أجزاءٍ ثمانيةٍ، تحت عنوان «الدين والثورة في مصر 1952-1981».

وتبدو الصلة بين الاستراتيجي والراهن، بين المعرفي النظري والأيديولوجي السياسي، واضحةً، (حتى) في النصوص التي اختار حنفي ترجمتها إلى اللغة العربية. ويظهر ذلك الوضوح، ظهوراً نموذجيّاً، في ترجمته كتاب اسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة»، حيث رأى في اسبينوزا وكتابه المذكور خير معينٍ على الدعوة إلى إقامة مجتمعاتنا على أسس العقل والعلم، ولإثبات أن حرية الفكر ليست خطراً، لا على التقوى ولا على سلامة الدولة، بل هي ضمانٌ أو سندٌ لكليهما. وعلى الرغم من التداخل والتكامل في نصوص حنفي، بين هموم الفكر وهموم الوطن، ومن كون سيرته الذاتية تتضمن «قصةَ حُب مُفكِّرٍ لا يُفرِّق بين هموم الفكر وهموم الوطن»، وانطلاقاً من اعتقاده بضرورتهما وأهميتهما الكبيرة، تمنى حنفي في مذكراته/ ذكرياته لو أنه كان أكثر نشاطاً في العمل العام، وأكثر فاعليةً في تضحياته.

4. اليسار الإسلامي: بين الإسلام (الإخواني) واليسار (التقدمي)

رأى حنفي أنَّ وعيه الديني قد بدأ على يد الإخوان المسلمين، حين انضم في عام 1952 إلى إحدى أسر الإخوان. وقد كان إخوانيّاً في فترةٍ بدا له، ولكثيرين غيره، أنَّ الإخوان يمثلون المظلة الوحيدة للعمل السياسي. وعلى الرغم من أنه كان يرى الشيوعيين فاسقين لا أخلاقيين، و«خارج تيار الأمة»، فإن (إرهاصات) ميوله اليسارية كانت واضحةً منذ البداية. فقد كان يرى في الإسلام (الإخواني) التراث والمحرك الروحي الذي ينبغي الحفاظ عليه، وفي اليسار الحداثة والتقدم والانحياز إلى قيم العدالة والمساواة والفقراء وغالبية الناس. وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم أنَّ عنوان أول محاضرةٍ، أو تعليقٍ له على محاضرةٍ، في اجتماعاته الإخوانية، كان «الإخوان المسلمين والعصر الحديث». وقد استمع إلى سيد قطب وعلال الفاسي، وغيرهما من أقطاب الإسلاميين، بالإضافة إلى قراءاته لحسن البنا والمودودي وقطب وإقبال وتأثره بهم. فعلى سبيل المثال، تأثر بإقبال من حيث إنَّ فكره يحاول الجمع بين الماضي والحاضر، بين التراث الإسلامي والحداثة المعاصرة، كما تأثر برؤية قطب أن «الإسلام حركة إبداعية شاملة في الفن والحياة» وبحديثه عن «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وقد أبدى تفهماً لكتابه «معالم على الطريق»، على الرغم من أنه لم يوافقه على مضمونه، ورأى أنه كان ليكتب مثله، على الأرجح، لو تعرض لما تعرض له قطب من ملاحقةٍ واعتقالٍ. وعلى خلاف الكثير من الإخوانيين، بقي حنفي يشتغل في العلن، بعيداً عن السرية والعلنية، (حتى) بعد حل جماعة الإخوان عام 1954.

وقد بدأ حنفي بالابتعاد، تدريجيّاً، عن الإخوان، من دون أن يتخلى عنهم أو عن منظريهم الأساسيين (البنا وقطب)، وبقي ارتباطه بالإخوان ارتباطاً فكريّاً أكثر من كونه ارتباطاً تنظيميّاً أو سياسيّاً. ومن تبريرات ابتعاده قوله إنه «لا يريد جماعةً بل يريد الوطن كله». وقد بدأ ابتعاده عن الإخوان، منذ أن انتبه إلى العلاقة بين الإخوان والعنف في خمسينيات القرن العشرين، ومنذ أن رأى فرحهم بسقوط مصدق في إيران، وهو الذي كان يمثل وعياً إسلاميّاً تقدميّاً، من وجهة نظره. وعلى المستوى الرمزي والنظري، أعلن حنفي بوضوحٍ اعتراضه على شعار الإخوان «المصحف والسيفان»، ورأى وجوب أن يكون الشعار «كتاب وقلمان». وقد بدت يساريته واضحةً في تأييده لثورة 1952 وإصلاحاتها، وتحرير الفلاحين، وتمليكهم الأراضي، وأصبح ناصريّاً، منذ إعلان عبد الناصر تأميم القناة، ونسي الخلاف بين الثورة والإخوان. وفي عام 1976، انضم حنفي إلى حزب «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» اليساري، بوصفه منتميّاً إلى «الإسلام المستنير» أحد أطراف ذلك التجمع. لكنه ترك ذلك الحزب بسبب موقفه من الإسلام المستنير، كما ابتعد عن الإسلام الإخواني بسبب موقفه من «اليسار التقدمي».

رأى حنفي أنَّ السؤال الرئيس في اليسار الإسلامي هو كيفية الحفاظ على التراث الإسلامي كثقافةٍ شعبيةٍ، وطاقةٍ روحيةٍ، واستخدامه للدفاع عن مصالح الجماهير وحقوق الفقراء. واعتبر حنفي كتابات اليسار الإسلامي استمراراً لمشروع جمال الدين الأفغاني في مقاومة الاستعمار، ومحاربة التخلف، والدعوة إلى الحريات (الفردية) والعدالة الاجتماعية، وتوحيد المسلمين في العصبة الإسلامية أو الجامعة الشرقية. كان حنفي يجمع بين التوجهين الإسلامي والعروبي و/ أو يتأرجح بينهما. كما ظل فكره يتأرجح بين الإسلامية واليسارية، بين الثورة والعقيدة، بين التراث والحداثة، مع محاولاتٍ للتوفيق بينهما، تنجح تارةً، وتخفق تارةً أخرى. ومن أهم استراتيجيات التوفيق بين الطرفين لديه هي عملية «الأسلمة»، من خلال الحديث عن إسلامية العلمانية أو «العلمانية الإسلامية» وإسلامية الديمقراطية أو «الديمقراطية الإسلامية»... إلخ.

5. بين الثورية أو المبدئية الجذرية والحذر أو تجنب المواجهة:

«أحب محمد عبده ولكن حبي للحق أعظم»

صرح حنفي مراراً أنه، مثل تروتسكي وجيفارا، مع الثورة دائماً، في أي مكانٍ، وفي أي طائفةٍ، وأن حلم حياته أن تقوم ثورةٌ، باسم الإسلام، أو أن ينتشر الإسلام كثورةٍ للمضطهدين. ومنذ خمسينيات القرن الماضي، بدأ يتبلور، لدى حنفي، هدفٌ أساسيٌّ وجّه نحوه كلّ كتاباته لاحقاً، وهو أن يضع «أيديولوجيا للثورة العربية»، غير الأيديولوجيا الإخوانية التي أصبحت عائقاً أمام الثورة، ولا سيما أن عبد الناصر نفسه دعا، في أحد خطاباته، المثقفين إلى المساهمة في الثورة بالفكر، مشدّداً على أنّ معركة الأفكار لا تقلّ قيمةً عن معركة السلاح. وكان حنفي يرى أنَّ اليسار الإسلامي واليسار التقدمي واليسار الثوري أسماء مترادفةٌ، لكنه كان يفضِّل «الإسلام الثوري». وكان ذلك أحد الأسباب لتفضيله الأفغاني الثوري، وإشادته به، والسعي إلى محاكاته، والسير على منواله، وأحد أسباب انتقاده لمحمد عبده ورشيد رضا، حيث أشار إلى أن الأفغاني كان يمسك بتلابيب محمد عبده ويقول له: «والله إنك لمثبِّط».

ظهرت مبدئية حنفي، (الصارمة والجامدة)، عندما رفض مخاطبة عميد كليته، في كتابٍ رسميٍ، بـ «السيد»، وأصر على مخاطبته بـ «الأخ الفاضل»، بحجة المساواة بين الناس وأن «لا سيد إلا الله»، و«لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى»، ولم يدرك إلا لاحقاً أن المسألة تتعلق بمرتبةٍ علميةٍ لا علاقة لها بالدين والإيمان. كما كانت تلك المبدئية المتزمتة أحد العوامل التي حرمته من التعيين معيداً، وحرمته من الإيفاد على حساب الجامعة، واضطرته إلى السفر إلى فرنسا بدون أي سندٍ ماليٍّ. وفي اجتماعٍ مع المشير عبد الحكيم عامر في فرنسا، خطف حنفي الميكرفون وعبر عن شكاوى الطلاب وانتقاداتهم، بالتضاد مع ترتيبات السفير للاجتماع، وتوقعات المشير منه. وعندما كان في المغرب، ألقى محاضرةً عن نظام الحكم في الإسلام، قال فيها إن نظام الحكم ليس إلهيّاً، وإنه لا يجوز تقبيل يد الحاكم، على الرغم من المخاطر المرتبطة بمثل هذا القول، في المغرب.

في مقابل الثورية والمبدئية الجذرية المذكورة، حنى حنفي رأسه، في أحيانٍ ليست قليلةً، عندما واجه بعض الأخطار والعواصف. فعلى سبيل المثال، امتنع حنفي عن القيام بأي نشاطٍ سياسيٍّ من 1954 إلى وقت التخرج 1956، وظل «صامتاً، كاتماً الخوف في قلبه وفي سلوكه»، عندما علم بوجود تهديداتٍ جديةٍ باعتقاله بسبب نشاطه السياسي. وقد ابتعد حنفي، عموماً، عن الصدامية والمواجهات الجبهية، وصرَّح مراراً بأنه يفضل المواجهات بطريقة حرب العصابات، وفق منطق «اضرب واجري». وبدا ذلك واضحاً في موقفه مما حصل مع تلميذه وزميله نصر حامد أبو زيد، وتقويمه الانتقادي لموقف أبي زيد الصدامي، في هذا الخصوص. فقد رأى حنفي أن أبا زيد أخطأ عندما تكلَّم في الإعلام، وصعَّد من خطابه الصدامي، في شأنٍ جامعيٍّ خالصٍ، وشدَّد على أن الوقت والظرف لا يسمحان بمثل هذه المعارك الجبهية الخاسرة عموماً، وأنه من الضروري الانتظار لعدة أجيالٍ من أجل تكوين جبهةٍ قادرةٍ على الانتصار في مثل هذه «المعارك التنويرية». ولهذا، حاول حنفي تمرير الكثير من أفكاره بطرائقٍ لا تثير الانتباه ولا تستثير المخالفين له، واستخدم الترجمات أحياناً ليقول من خلالها، بطريقةٍ غير مباشرةٍ، ما لا يستطيع أو يحبذ قوله، بطريقةٍ مباشرةٍ، بسبب المخاطر المحيطة بذلك القول.

6. علاقاته مع السلطات (السياسية والدينية والأكاديمية): بين التكريم والقمع

انطلاقاً من ميول حنفي ومواقفه الثورية و/ أو الحذرة، تفاوتت مواقف السلطات (السياسية والدينية والأكاديمية) منه، وتراوحت بين القمع والفصل والطرد والتهديد بالاعتقال والسجن والاغتيال من جهةٍ، والتكريم والإشادة ونيل الجوائز والمناصب منها، من جهةٍ أخرى. وإضافةً إلى ما سبق ذكره، سأشير، فيما يلي، إلى بعض المحطات والمواقف المعبرة عن الجهتين المذكورتين.

في عام 1968 رفضت الأجهزة الأمنية سفره لحضور مؤتمر عن التأويل والهيرمينوطيقا، فأرسل حنفي برقيةً إلى الرئيس عبد الناصر الذي رد عليه، سريعاً، بالموافقة على سفره. وفي عام 1971، تلقى حنفي تحذيراً من رئيس الجامعة أنه موضوعٌ تحت المراقبة، وأنه من الأفضل له أن يصمت، أو يخفِض صوته، أو يرحل، مؤقتاً، إلى خارج مصر. وقد سافر، حينها، بالفعل، إلى أمريكا لمدة أربعة أعوامٍ (1971-1975). وفي عام 1981، كان حنفي من بين سبعين أستاذاً جامعيّاً معارضاً قرر نظام السادات إخراجهم من الجامعة، وتحويلهم إلى وظائفَ إداريةٍ في المصالح الحكومية، مع خَصم كل الزيادات الجامعية. ولم تتم إعادة المفصولين إلى الجامعة إلا بعد اغتيال السادات، واستلام مبارك للحكم. وقد كتب بعض المشايخ كتيّباً، وُزِّع في المساجد، تضمن تكفيراً لحسن حنفي، والقول بخروجه عن الإسلام. وقُبض على ثلاثة أشخاصٍ كانوا يحومون حول منزله، وكان هناك حديثٌ عن محاولةٍ لاغتياله. ونتيجةً لذلك، وُضِعت حراسةٌ دائمةٌ على منزله، لمدة تسعة أعوامٍ، ثم أزيلت أو رُفِعت تلك الحراسة مباشرةً، بعد كتابة حنفي مقالاً عن «التوريث في القرآن الكريم». ورأى حنفي أنَّ «ابن حسني مبارك/ وريثه» هو الذي أصدر قرار الإزالة. وفي عام 1981، استدعته المحكمة في قضية كُفرٍ رفعها ضده وزير الأوقاف، آنذاك، محمد متولي الشعراوي، بعد نشره لنصوص «التراث والتجديد» والعدد الأول والوحيد من مجلة «اليسار الإسلامي». وبعد جلسةٍ واحدةٍ، برأته المحكمة، وأفرجت عن الكتاب والمجلة. وتعرض حنفي، لاحقاً، للتكفير مرةً أخرى، وكانت هذه المرة على يد جماعة الإخوان المُسلمِين اليمنيِّين وشيخهم عبد المجيد الزنداني. كما أنه تعرض للقمع والتحقيق والتضييق، ولـــــ(شبه) الطرد من المغرب، بعد محاضرته عن نظام الحكم في الإسلام.

حظي حنفي بالتقدير والتكريم من عددٍ كبيرٍ من الأطراف والمؤسسات الأكاديمية والسياسية والثقافية. وقد أشرت، آنفاً، إلى استجابة عبد الناصر الإيجابية والسريعة لبرقيته التي يشتكي فيها من رفض الأجهزة الأمنية سفره لحضور مؤتمر عن التأويل والهيرمينوطيقا. وسبق لعبد الناصر أن استجاب لطلبه بأن يتم شحن كتبه من فرنسا إلى مصر على حساب الدولة المصرية. وإضافة إلى عمله أستاذاً في قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، لمدة أكثر من خمسين عاماً (1967-2018)، وترؤسه للقسم بين عامي 1988-1995، قام حنفي بالتدريس في عددٍ كبيرٍ من الجامعات المصرية والعربية والعالمية، مثل جامعات عين شمس والإسكندرية وبني سويف وبريمن وصنعاء وفرانكفورت وتمبيريه (فنلندا) وروما وميلانو وصقلية وتيمبل (الولايات المتحدة الأمريكية) وطوكيو وجامعة الأمم المتحدة في اليابان. وكان حنفي نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية والأمين العام للجمعية الفلسفية المصرية. كما حصل على أعلى الجوائز في مصر -جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية 2007، وجائزة النيل الكبرى في 2015- ومن بولندا، حيث تسلَّم جائزة المفكر الحر من الرئيس البولندي، ومن إيران حيث سلَّمه الرئيس محمد خاتمي جائزة شيرازي.

7. في دلالات علاقته مع «الأنثى»

يصعب، وربما يستحيل، فهم شخصية أي إنسانٍ وفكره، من دون فهم رؤيته للمرأة، ولعلاقته معها، بوصفها زوجةً أو حبيبةً أو صديقةً أو أختاً أو زميلةً إلخ. وتبدو علاقة حنفي الجنسية مع «الإناث/ النساء عموماً» مثيرةً للانتباه والتفكير، وذات دلالاتٍ مهمةٍ، ليس لأنها تعبِّر عما هو استثنائيٌّ في هذا الخصوص، وإنما لأنها، عموماً، تعبِّر، تعبيراً قويّاً، ويكاد يكون نموذجيّاً، عن إحدى الصور النمطية عن الرجل الشرقي، ولنظرته للمرأة، وعلاقته بها، عموماً. ليس في مسيرة حياة حسن حنفي، قبل سفره إلى فرنسا، وفي علاقاته مع أمه وأخواته الخمس، الكثير مما يغري بالحديث عنه. وكما هو حال الكثيرين، فقد بدأ بعلاقاتٍ عذريةٍ مع (إحدى) بنات الجيران، لم تفضِ إلى أي ارتباطٍ لاحقٍ. وقد اكتشف حنفي القذف والبلوغ الجنسي مصادفةً، خلال احتكاك قضيبه بفخذيه. واستمر يمارس العادة السرية إلى أن بلغ عمر السادسة والعشرين، حيث أدرك حينها أن «العمل الطبيعي أفضل من العمل الصناعي؛ فالعمل الطبيعي به أنُسٌ وضَحِك وتَعرُّف على الآخر، في حين أن العمل الاصطناعي خوفٌ ووحدةٌ وتأنيبُ ضمير».

قبل سفر حنفي إلى فرنسا، كان متحرراً جزئيّاً ونسبيّاً، مقارنةً مع المنتمين إلى الإخوان عموماً. وظهر تحرره، مثلاً، في أنه لم يكن يجد حرجاً في الجلوس بجانب الطالبات والتحدث معهن. لكنَّ تحرره المذكور لم يكن كافياً ليسمح له بالمبادرة إلى التحدث إلى النساء للتعرف عليهن، عندما كان في بدايات إقامته في فرنسا. وأدرك حنفي ضرورة الخروج مما أسماه بـ «المرحلة الرومانسية» و«ثقافته الإخوانية الأولى»، ودخل تدريجيّاً في «المرحلة الواقعية» وتحول إلى شابٍّ شقيٍّ «يفعل ما يفعله جميع الطلاب»: «العمل الطبيعي». ويبدو أنه فعل الكثير من «العمل الطبيعي خلال إقامته في فرنسا. والطريف والمثير للانتباه هو أنه رأى أنَّ «الارتباط بالعذراء هو من بقايا الرومانسية القديمة». وقد عبَّر حنفي عن حزنه «لِوضعِ الطالبات المصريات وحِصارِهنَّ بين التقاليد القديمة ومُتطلَّبات الحياة العصرية»، وأدرك أنه لم يكن بإمكانهن أن يفعلن، مثلما فعل هو نفسه، أي الانتقال الحر والمتكرر بين الواقعية، والرومانسية، بين الانفتاح على الصداقات والعلاقات العابرة، من جهةٍ، والانغلاق على نهجٍ متزمتٍ محافظٍ لا يعترف بمثل تلك «الصداقات» ولا يقبل، في هذا الخصوص، إلا الزواج الشرعي التقليدي من بتولٍ، من جهةٍ أخرى.

وقد أحس حنفي، مبكراً، بالظلم الاجتماعي الذي يقع على المرأة من حيث تحميلها مسؤولياتٍ في البيت أكبر من طاقتها. وأشاد بوضع المرأة الغربية، في هذا الخصوص، ورأى أنَّ إقامته الباريسية/ الفرنسية قد أسهمت إيجاباً في تخليه عن «الأخلاق الإخوانية المحافظة أو المتزمتة»، فلم يعد يهاب أو يخشى المرأة، وبدأ بالمغامرة معها والتعلم من التجارب معها. وبذلك تحقَّق في شخصيته ما أسماه بـ «التوازن بين الدين والدنيا». وظهر ذلك التوازن، على سبيل المثال، في أنه، بوصفه «قادماً من باريس ولا حرج»، أقنع والده وأخاه بـ «طبيعية» أن ترتدي إحدى أخواته فستاناً عاري الصدر في عرس أختها الأصغر منها، لعل عريساً يأتيها في هذا العرس ويطلب يدها. لكن التوازن، في علاقته بالمرأة، بقي مفقوداً، لدرجةٍ أو لأخرى. فعند اتفاقه على الزواج من زوجته، لاحقاً، فريدة مرعي، قال لها إن وقته كله سيكون للعلم والبحث، لأنه صاحب رسالةٍ ومشروعٍ يهدف إلى إنقاذ الأمة. وأقر، لاحقاً، أنه ظل يشعر بالضعف تجاه النساء، على الرغم من تأكيده أنه يحب زوجته، ويثق بها، وأنها تملأ عليه حياته، وتضحي بنفسها من أجله. وكانت زوجته تغضب من مغازلته للنساء الأخريات، فيتذرع، أو يبرر ذلك، بأنه يفعل ذلك، متأثراً بالطابع الفرنسي اللطيف مع النساء ومغازلة المرأة، من حيث هي امرأةٌ، من دون أي قصدٍ أو هدفٍ.

8. خاتمة

اختصر أو اختزل حنفي مسيرة حياته وحياة جيله بالقول إنه ينتمي «لجيلٍ بدأ حياته بالارتفاع بحركة التحرُّر الوطني في الخمسينيات، ويُنهي حياته الآن بالقهر السياسي، لا اليد تكتب، ولا اللسان يتحدث، ولكن القلب ما زال ينبض». ويبدو مثيراً للانتباه أنه على الرغم من تصاعد القهر السياسي المذكور والإحساس بالعجز الناتج عنه، لم يتراجع حنفي عن الاعتقاد الرغبوي والأيديولوجي أنَّ نهاية الغرب وشيكةٌ، وأنَّ الإسلام يمثِّل المرحلة الناضجة من مسيرة الإنسانية، بعد مرحلتي «طفولتها اليهودية» و«صباها المسيحية». وقد أشار حنفي إلى أنَّ عنوان ومضامين أطروحتي الدكتوراه «مناهج التفسير»، و«من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل»، كان يتضمن «إعلان بداية وعيٍ جديدٍ ونهاية وعي قديمٍ، وإسراراً 'خبيثاً' ب'بداية الشرق ومصر مركزه ونهاية الغرب». ومثْل ذلك الإعلان الصريح أو الإسرار الضمني يعبِّر عن التأثير الفاعل للأيديولوجيا في المعرفة التي قدمها حنفي. ولهذا التأثير إيجابياتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ بالتأكيد، فهو يقدِّم الحافز والبوصلة، ويضبط معياريّاً ما ينبغي أن يكون مضبوطاً معياريّاً. في المقابل، ثمة سلبياتٌ لا تقل كمّاً أو كيفاً لهذا التأثير في نتاج حنفي المعرفي. ولعل ضرورة العمل على تعزيز تلك الإيجابيات، وتجنب تلك السلبيات، قدر المستطاع، هي إحدى أهم العبر التي يمكن استخلاصها من قراءة مسيرة حياة حسن حنفي، ودراسة نتاجه المعرفي الأيديولوجي.